آخر 10 مشاركات
إمرأة لرجل واحد (2) * مميزة و مكتملة * .. سلسلة عندما تعشق القلوب (الكاتـب : lossil - )           »          بين عينيك ذنبي وتوبتي (3) * مميزة ومكتمله * .. سلسلة مغتربون في الحب (الكاتـب : bambolina - )           »          ❤️‍حديث حب❤️‍ للروح ♥️والعقل♥️والقلب (الكاتـب : اسفة - )           »          جواهــــــــر(1) *مميزة و مكتملة * .. سلسلة البَتلَاتْ الموءوُدة (الكاتـب : البَتلَاتْ الموءوُدة - )           »          لك بكل الحب (5) "رواية شرقية" بقلم: athenadelta *مميزة* ((كاملة)) (الكاتـب : athenadelta - )           »          قطرة مطر - للكاتبة:منى لطفي... قلوب أحلام الزائرة-نوفيلا (كاملة+رابط) (الكاتـب : منى لطفي - )           »          قارئة الفنجان -شرقية زائرة- للكاتبة المبدعة: منى لطفي (احكي ياشهرزاد)*كاملة &الروابط* (الكاتـب : منى لطفي - )           »          في عينيكِ عنواني-نوفيلا شرقي-للمبدعة:احكي ياشهرزاد(منى لطفي)*كاملة& الروابط* (الكاتـب : منى لطفي - )           »          كوني لي - قلوب شرقية زائرة - للكاتبة: احكي ياشهرزاد (منى لطفي) -كاملة& الروابط* (الكاتـب : منى لطفي - )           »          أحكي يا شهرزاد -مجموعة قصصية -للكاتبة المبدعة:منى لطفي(احكي ياشهرزاد)*كاملة& الروابط* (الكاتـب : منى لطفي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم اليوم, 12:34 AM   #1

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 761
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي وتوارى سراب الحنين


اقتباس

أوشكت الشمس على المغيب، فتكاثفت الغيوم لتحجب أشعتها الدافئة على حين غرة، وهذا الجو بالنسبة إليها كإنذار بخطر وشيك، لو كان الأمر بيدها لعادت إلى المنزل على الفور، لكنه من يقود بجانبها دون أن يخبرها بوجهته، ومن جانبها، فقد خجلت من سؤاله، ما زال الخجل يراودها كلما دار بذاكرتها ما حدث بينهما بالأمس. شددت على ربطة الشال حول عنقها لتواري أثر ما، وتصاعدت الدماء إلى وجنتيها حين رمقها بطرف عينه ملاحظًا حركتها.
توقف عند ساحل مألوف، وترجل من السيارة فتبعته متسائلة:
_لِم أتينا إلى هنا؟
لم يلتفت إليها أو يأبه بالإجابة على سؤالها حين قال:
_أتذكرين هذا المكان؟
أومأت بالإيجاب، ثم رفعت رأسها تراقب السماء بتوجس معلقة:
_كأنها ستمطر!
مجددًا تجاهل كلماتها بينما يسيران جنبًا إلى جنب، ليست تلك الخطوات المنسجمة التي عهدها هذا المكان منهما، بل أخرى تجمع بين التوتر من جانبها والتجبر من جانبه.
_مر وقت طويل منذ أن أتينا إلى هنا سويًا.
قالها متأملًا المكان، فاستوقفتها نهاية عبارته لتسأل:
_هل كنت تأتي بمفردك؟
وكأنه أمر بديهي، أجابها ببرود:
_نعم، لِم قد يمنعني عدم وجودك عن الذهاب إلى أماكن أُفضلها؟
رغم علمها بأن غرضه من السؤال كان الاستنكار، إلا أنها أجابت:
_لأن مكان كهذا سيذكرك بي.
باغتته بإشارتها إلى الماضي الذي طالما هربت من ذكره، فأتاها رده جافًا مترفعًا:
_أنتِ تبالغين في تقدير نفسك.
ابتلعت إهانته متمتمة:
_ربما كنت مخطئة.
عادت تراقب السماء التي غربت عنها الشمس لكن غيومها لازالت تسود، فسألت بتردد:
_ماذا عن حالة الطقس؟
أجابها هذه المرة بعينين أرادهما خاليتين:
_لم أتفقدها، قررت أن أكون أنانيًا معكِ هذه المرة، إيثاري من قبل لم يفد بشيء.
ازدردت ريقها مستفسرة:
_ماذا تقصد؟
رد وكأنه ينفض حملًا عن كتفه، وقد بدأت تستشف سبب إحضاره لها لهذا المكان في هذا اليوم تحديدًا:
_قصدت أنني لم أعد أهتم، لا أريد أن أقدم راحتك على راحتي، لن أرضيكِ على حساب نفسي، أردت المجيء إلى هنا لذا أتيت، بهذه البساطة.
لولا الحالة الجوية، لرضخت لرغبته وبقت معه وإن لم ينبس أي منهما بكلمة، لكن قطرة ماء سقطت لتلمس رأسها، لحقت بها أخريات ببطء، فعلت وتيرة أنفاسها قائلة:
_أريد أن أغادر.
شرعت في الابتعاد عنه حين قبض على رسغها مستوقفًا إياها، فالتفتت إليه محاولة السيطرة بينما تقول بنبرة لم تعلُ رغم انفعالها:
_أعدني إلى المنزل الآن.
بدت وكأنها تصارع لتتنفس، عقلها بالكاد يساعدها على الثبات في وقفتها بينما ذهنها ارتحل إلى ما يزيد عن عشرين سنة مضت، كلما اشتدت الأمطار، كلما غاص ذهنها أكثر، فناظرته بالتماس قائلة:
_توقف أرجوك، أعلم أنك تكرهني، وأعلم أنك تريد أن تثأر لكرامتك، لم أعترض على أسلوبك وتصرفاتك معي ولن أفعل، لا أستحق أن تعاملني بلطف وحنان ولا أنتظر ذلك منك على أي حال، افعل بي ما تشاء، لكن ليس بهذه الطريقة، أرجوك.
واصلت الاستجداء محاولة الفكاك من قبضته لتهرب من هذا المكان على الفور:
_أتوسل إليك اتركني.
(...)
لا مفر، لا سبيل لمغادرة الذكرى التي اعتقلتها بشراسة، إنه يعلم جيدًا طبيعة ما يحدث لها، وربما هو من رغب بتعذيبها قليلًا وبدون تدخل مباشر منه ... لكنها عاجزة الآن، تكلبها يده من ناحية، ويكبلها عقلها من ناحية أخرى، وعندما ارتأت أن لا مهرب منه، استعاضت عنه بالهرب إليه، فبدلًا من أن تبتعد، اقتربت، بجسد مرتعش وعقل غائب، أغمضت عينيها مرتكنة برأسها إلى صدره، تختض وتلهث، وتسوقه إلى الجنون. قبض على كفيه حتى كادت عروقه تنفر، داهمته بينما لم يشيد حصونًا جديدة بعد تلك التي أذابتها من قبل، لا عدل في حرب دون عتاد، أو حماية، فهزمته لمرة لا يذكر عددها، وبدلًا من أن يثأر لنفسه، انتهى الأمر به محتضنًا عدوه، جسده متشنج لكن صدره يستقبلها دون ممانعة، فنطق بنبرة خرجت رغم عنه لينة:
_افتحي عينيكِ .. لن يقتلكِ المطر.


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم اليوم, 12:36 AM   #2

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 761
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي

إليكِ السلام..
من رجلٍ تاه في سبيل وصالك
وشرد يتقفى آثارك في صحراء حنينه
طال الجوى وقتله الشوق بسيف الولع
ففقد سراب نبعٍ أمل أن يرويه بعذب اللقاء
أدركتُ كوني نسيت أنني أسيرُ إليكِ
وأنني وإن طالت رحلتي لن ألوم طولَ حصونك
ألهث متعبًا فأقول ذاك حتمًا من لهفتي
يا عدوة المطر، أبيتِ إلا أن أكتوي بلهيب الفراق
وما أسعفني في حبنا شيء، فغرامنا خالٍ من قطرات الندى.


المقدمة
راقب غروب الشمس من نافذة مكتبه، كعادته مؤخرًا لم يغادر عمله مبكرًا، بل جلس يتفحص بعض الملفات تارة، ويشرد ذهنه تارة، ورغم ذلك لم يحبذ الرحيل.
ثلاث طرقات على باب مكتبه جعلته يلتفت إليه ناويًا إخبار العميل المتأخر بانتهاء ساعات العمل، لكنه تفاجأ بتقدمهاتقدمها نحو مكتبه مباشرةً بخطواتها الواثقة، ثم جلوسها على المقعد المقابل دون استئذان واضعة قدمًا فوق الأخرى، ناظرته بعينين خاليتين من التعبير، ودون مقدمات نطقت حروفها الستة بوضوح:
_لننفصل.
لم تبدُ عليه أمارات الصدمة، لكنه صمت قليلًا محللًا كلماته قبل أن يلفظها، ثم رد:
_توقعت ذلك قادمًا، لكن ...
قاطعته باستنكار:
_لكن ماذا؟ هل صدق توقعك مبكرًا عما ظننت؟ أتراني أتعجل الأمور؟
بهدوء يثير حفيظتها أجاب بشبح ابتسامة لم تستشف بواطنها:
_في الواقع لقد تأخرتِ، هذا يعني أنكِ فكرتِ في الأمر طويلًا حتى توصلتِ إلى الحل النهائي بلا ندم.
ربما اشتعلت شرارة الغضب بلهيب حسرة اجتاحت كيان كلًا منهما، فأضرمت النيران تحرق ذكرياتهما معًا، فتحيل كل لحظة جمعتهما رمادًا، وتلك العنقاء الجالسة أمامه بعد أن ذرفت دموعها فوق الرفات، حتمًا وُلدت من جديد، وهذه المرة أبت إلا أن تكون عودتها جحيمًا مستعر سيكون هو ساكنه الأول والأخير.
على عكسه، لم يبدُ أنها تنقي كلماتها من شوائب السخط، فخاضت معه حوارًا مشبع بسلاطة لسانها المعهودة، ورغم رزانته فقد كان الحديث على قدر من التكافؤ صب المزيد من الوقود على شعلة حنقها.
وعلى حين غرة، أسقطت حقيبة الظهر عن كتفيها لتخرج هاتفها المحمول قائلة:
_حسنًا إذًا، لنسأله ونرى.
رد ببرود تمقته:
_لا أظنه سيرحب بما تريدين.
لم ترد، كانت على قدر من الثقة جعلها واثقة تمامًا من حدسها، فضغطت أمر الاتصال مفعلة السماعة الخارجية للهاتف، وانتظرت حتى أتاها صوت محدثتها، فبادرتها قائلة باقتضاب:
_دعيني أتحدث إليه.
ردت الأخرى موافقة، وكادت تتمكن من تنفيذ طلبها حين صدر عنها شهيق فزع، فسألتها بقلق:
_ماذا يحدث عندك؟
أجابت محدثتها بنبرة وجلة:
_اهتز المنزل بعنف للحظة، سقطت من فوق الأريكة!
داهمها القلق فنست ما بادرت بالاتصال لأجله سائلة:
_هل أنتم بخير؟
أجابت الأخرى على عجالة:
_سأهاتفك لاحقًا.
لكنها اعترضت بحزم صائحة:
_لا، ابقي معي، هل تكرر الأمر؟
تسرب توترها إلى الجالس أمامها، فتخلى عن جموده ناهضًا عن جلسته ليقترب منها، بينما أجابت محدثتها لاهثة:
_نعم ولا يهدأ هذه المرة، يصرخون في الخارج ويهرولون إلى الأسفل، المبنى ينهار.
جحظت عيناها بفزع عاجزة عن الرد، ويبدو أن محدثتها شرعت في الركض إلى خارج المنزل لتلوذ بنفسها وبأفراد عائلتها، لا تجيب النداء الذي بح به صوتها عبر الهاتف، وربما غفلت عن المكالمة من الأساس، حتى صدرت عنها صرخة متبوعة بنداء هلع لم تكن هي من نطقت به، وانقطع الاتصال.
ركضت إلى خارج المكتب بقدمين هلاميتين لا تعلم كيف حملتاها حينها، وتبعها هو مسرعًا حتى بلغا سيارته، فركباها منطلقين نحو ذلك المبنى بينما يجري كل منهما اتصال طارئ بيدين تقاومان الارتعاش بصعوبة.

بعد دقائق مرت كالساعات على الجميع، توقفت سيارة أخرى عشوائيًا على قارعة الطريق، وترجل منها رجل شاحب الوجه، ما أن لامست قدماه الأرض حتى شرع ينهب الخطوات بعينين زائغتين وقلب يختض، وتسمر عند المبنى المهدم أمام ناظريه المفجوعان، كان ثابتًا لكن الأرض تميد به بشدة، في حياته كان مستعدًا لسماع أي خبرٍ كان، إلا خبر فقدانها، لن تصدقه أذناه، وربما لا يستوعبه عقله، قد يجن جنونه ويفقد كل شيء إثرها.
***
في ثوب أنيق يليق بحفل لا يضم سوى نخبة المجتمع _كرجال الأعمال وأشهر الأطباء ورجال السياسية على مستوى المحافظة_ وقفت بالقرب من إحدى الطاولات النسائية، لاحظت نظراته التي تراقبها بين الفينة والأخرى، ولسبب لا تعرفه لم تشعر أن تلك النظرات للاطمئنان، شعرت بنفسها كقرد في مختبر علمي ينتظر العالم حدوث أية تغيرات ملحوظة على سلوكه، لكنها ابتلعت إحساسها المُهان دون رغبة منها في الجلوس برفقة بعض النساء الحاضرات، لا تعرف أي منهن، ولا تجيد التكيف السريع مع الأغراب، تحركت ببطء في المكان كي تقتل شعورها بالملل، تمثل كونها مهتمة بفنيات التصميم الداخلي، ورغم اهتمامها الحقيقي بهذا النوع من الفنون، إلا أنها لم تشعر بشغفها يقودها للتفحص هذه المرة، لا تريد التركيز في هذا المكان لأنها لا تنوي أن تتذكره لاحقًا.
لم تمنع أذنيها من استراق السمع لبعض الأحاديث التي تدور بين النساء في المكان، فهي لم تغفل عن نظراتهم المتعجبة نحوها حيث أن هذه هي مرتها الأولى في حضور أي من احتفالاتهم، وكما توقعت، التقطت أذناها بعضهن يتحدثن عنها بصوت منخفض دون أن تلاحظ أي منهن أنها تعبر من خلفهن مباشرةً، ربما تكون قليلة الحليلة أحيانًا، لكنها ليست من معدومي الكرامة الذين يسمعون إهانتهم بآذانهم ومن ثم يصمتون بسلبية، في هذه اللحظة لم تمانع أن تكون ذلك القرد الذي يصدر سلوكًا فوضويًا شاذًا ينذر بفشل التجربة، فتقدمت من طاولتهن بعينين جامدتين، ودون تردد، دفعت بجُل قوتها تلك الطاولة لتنقلب رأسًا على عقب، أما المشروبات التي وُضعت عليها فقد انسكبت فوق ملابسهن الثمينة تزامنًا مع انكسار الأكواب الزجاجية التي تناثرت شظاياها حولهما، ربما أصابت أقدام بعضهن بالجروح.
***
هرولت قدر ما استطاعت في حذائها الفضي ذو الكعب العالي، ترفع فستانها الأبيض قابضه عليه بكفيها المتعرقتين توترًا، قد تندم على هذه اللحظة، لكنها آثرت التمسك بحبال الأمل حتى النهاية، ولو انقطعت أوتار الوصال ستظل تعزف على حبها الضائع.
آلمتها قدماها لكنها لم تأبه، بل واصلت الركض حتى رأته، علمت أنها ستجده هنا، فتوقفت أمامه وقد تبخرت سحابة الجرأة التي حملتها إليه، لا سيما حين استدار إليها مندهشًا، لكنه لم يدرك ما السؤال الذي عليه توجيهه إليها تحديدًا في هذا الموقف؟ فصمت منتظرًا منها توضيح لفعلتها الطائشة وغير المبررة، لكنها لم تفعل، بل وقفت أمامه بثبات تحسد عليه، تشعر أن ما تقدم عليه هو سلاح ذو حدين، كلاهما سيصيبها لا محالة، ذلك الوخز في قلبها قد يهدأ وقد يتضاعف، لكن لا بأس، عليها أن تكمل ما بدأته بمحض إرادتها، فتنفست بعمق أسفل نظراته التي ما زالت تراقبها بترقب، ثم قالت بسرعة كي لا تمهل صوتها فرصة ليرتعش ويتراجع:
_تزوجني.
وساد صمت كاد يذبحها عقرب الثواني خلاله بنصلٍ ثلم، نظراته التي كستها الصدمة، وتباطؤه في الإجابة، أشعلا فتيل الندم الذي أخمدته على الفور بصبر تمنت ألا يكون ما بعده جارحًا لكرامتها.
لن تصدق عينيه، ليس بعدما عيشاها في وهم طويل الأمد، لن تصدقه وإن أقسم لها فيما بعد أن عينيه لم يعنيا ما نطقت به شفتاه في تلك اللحظة محيلًا كل أمانيها إلى سراب كفقاعة هواء وببساطة.. انفجرت!
_لا.


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم اليوم, 12:38 AM   #3

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 761
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الأول
"لحظةٌ فارقة"

نحن الذين في أعمارنا صغارُ
والقهر ينخر في أعماقنا نخرًا
ينسال من صدورنا نزيفٌ حارُ
نكتم الأنين بكمدٍ فنزداد عمرًا

وكأنها تنجو بحياتها، ركضت الفتاة ذات الاثنى عشر عامًا حاملة أختها الصغرى على كتفها كمن تلوذ من عدو جبار، تتلفت في موقعها بينما الوقت يتسرب من بين يديها، ليس لديها سوى عشر ثوانٍ، فإما الانتصار وإما الهزيمة، وهي لا تقبل أبًدًا بالاقتراح الثاني، نظرت إلى شيء ما على مرمى بصرها وخطرت لها فكرة، حين واصلت أختهما الوسطى:
_ثمانية، تسعة، عشرة، (خلاويص)؟
فتحت يسرا الصغيرة عينيها مستديرة عن الحائط، ربما تفقد الأمل في إيجاد أختها الكبرى نظرًا لمهاراتها في الاختباء، لكن نارين لا تبلغ سوى أربعة أعوام، أين قد تكون اختفت؟
نظرت أسفل الفراشين القابعين في الغرفة، لكن لا أثر لها، وليست أسفل الغطاء كما تفعل دومًا!
خرجت من الغرفة لبعض الوقت باحثة عنهما لكنها لم تجدهما، فعادت إليها قائلة بغيظ:
_حسنًا لقد ربحتما، أين أنتما الآن؟
التفتت شاهقة حين قفزت ذهب بغتة من فوق الخزانة بابتسامة منتصرة، فناظرتها يسرا باندهاش قبل أن تسأل:
_وأين نارين؟
ضربت ذهب رأسها بكفها قائلة وهي تشير إلى الخزانة ذاتها:
_تبًا لقد نسيتها، تفقدي الخزانة بسرعة ربما اختنقت!
أسرعت كل منهما إلى الخزانة، لا أثر لها، فالتفتت يسرا إلى أختها بتعجب، لكن الأخيرة مدت ذراعها لتحرك إحدى العلَّاقات التي تحمل كنزة شتوية واسعة، فظهرت نارين التي ترتدي الكنزة بعلَّاقتها داخل الخزانة ضاحكة باستمتاع.
عقدت يسرا حاجبيها ملتفتة إلى ذهب وهي تتشدق بغضب طفولي:
_هل ساعدتها في الاختباء؟ هذا غش!
ردت ذهب مرتدية نظارتها الطبية بخيلاء:
_كل شيء مباح في الحرب.
صمتت يسرا بغباء، ثم قالت منزعجة:
_لا تتحدثي بهذه الطريقة العجيبة، ماذا تعنين؟
ربتت على رأسها باستفزاز وهي ترد:
_هذه كلمات كبيرة على طفلة في التاسعة مثلك.
ردت يسرا عاقدة ذراعيها باستياء:
_وكبيرة أيضًا عليكِ لكنكِ طفرة في عالم الأطفال.
سارت ذهب نحو مكتبها الذي تقضي عليه معظم ساعات اليوم في الدراسة ثم قالت مديرة دفة الحوار:
_الآن بما أننا انتهينا من هذه اللعبة الحمقاء...
قاطعتها يسرا ضاربة الأرض بقدمها برفض قاطع:
_لا، لن نلعب السودوكو، قلت لكِ إنني لا أفهمها لا أفهمها!!
كادت ذهب ترد حينما قاطع جداهما صوت النارين القادم من الخزانة المفتوحة:
_ألن تنزلاني من هنا؟
انتبهت كلتاهما إليها بتعجب، فتحركت يسرا نحوها لتنزع تلك الكنزة عنها، بينما ضربت ذهب رأسها بكفها مجددًا هامسة إلى نفسها:
_لم أنساها في كل مرة؟
دخل والدهن الغرفة فركضت نحوه الصغيرة صائحة:
_أبي جاء!
قهقه والدهن وهو يحمل ناريه بذراع واحد وباليد الأخرى أخرج مصاصة من جيبه قائلًا:
_ترى لمن أحضرت هذه المصاصة؟
خطفتها نارين من يده صارخة بحماس بكلمة أنا، ثم أنزلها عن ذراعه مخرجًا حلوى أخرى ثم قال:
_وهذه الشوكولاتة بالبندق؟
نهضت ذهب عن مكتبها لتأخذها منه قائلة بغرور:
_إلى ابنتك المفضلة والتي هي أنا.
وقفت يسرا أمامه سائلة بغيرة:
_ماذا عني؟
مسح على رأسها مجيبًا:
_سأشتري لكِ ما تريدين في طريقنا إلى المنزل، هيا بنا.
غادرت الغرفة برفقته بين اعتراضات من ثلاثتهن على رحيلها بهذه السرعة، ثم وقف متبادلًا الوداع بتحفظ مع زوجته السابقة مارية، فقالت الفتاة بوداعة:
_هل يمكنك أن تصنعي لي فطيرة في المرة القادمة؟ أنا حقًا أحب الفطائر الحلوة والحادقة التي تصنعينها.
ابتسمت لها مارية مومئة برأسها وهي تجيب:
_اتفقنا.
ثم غمزت إليها بتواطؤ مرِح، فبادلتها يسرا غمزة أخرى بابتسامة واسعة وغادرت مع والدها، لم يكن الطريق طويلًا بين منزلها الذي تسكنه مع والديها، ومنزل زوجة أبيها الذي تزوره أسبوعيًا لتقضي بعض الوقت برفقة أختيها، لكن في السنوات الأخيرة، وتحديدًا قبل ولادة نارين بشهور أصبحت زياراتها أقصر من المعتاد، ورغم صغر سنها إلا أنها تفهم سبب ذلك، فمنذ عرفت والدتها خبر زواجه من أخرى وهي مريضة، كثيرًا ما تكون طريحة الفراش ولا يحسن من حالتها النفسية إلا وجود ابنتها بجانبها، وكانت ولادة نارين كعلامة لا تُمحى لفعلة والدها التي تركت آثارها الواضحة على حالة أمها الصحية.
أسرعت يسرا نحو أمها الجالسة على فراشها لتعانقها، فمسدت رأسها تسألها بحنان:
_هل استمتعتِ بوقتك هناك؟
أومأت الصغيرة برأسها مؤكدة ثم قالت:
_أحب اللعب مع ذهب ونارين، أنا لا أملك أصدقاء من المدرسة ولم نعد نذهب إلى النادي، لا ألعب إلا معهما.
ضحكت لمعايير ابنتها الطفولية في الصداقة قائلة بتعجب:
_تقدّرين الصداقة باللعب يا يُسر!
أومأت يسرا برأسها مجددًا، فقطبت والدتها جبينها بغيرة وهي تدغدغها متشدقة:
_وأنا ألعب معك منذ وُلدتِ، إذًا أنا صديقتك الأولى.
ضحكت يسرا وهي تقف على ركبتيها فوق الفراش لتعانق والدتها وهي ترد:
_أنتِ صديقتي المفضلة يا أمي.
ابتعدت مبقية على ابتسامتها حين سألتها والدتها مشيرة إلى شيء ما في يديها:
_هل اشترى لك والدك هذه السكاكر؟
أجابت الفتاة:
_نعم، ابتاع لي ما أردته لأنني شعرت بالغيرة مما أحضره لذهب ونارين.
تلاشت ابتسامة والدتها قليلًا، وترددت بعض الشيء قبل أن تسأل:
_هل صعد والدك إلى المنزل هناك في وجود مارية؟
أجابت مؤكدة ظنونها، فشردت بعيدًا بعينين منكسرتين، ملَّت من زيادة مرضها يومًا عن يوم، هل عليها أن تلومه في كل مرة أم تلوم نفسها؟ وهي من تنقِّب عن شيء علمت أن إحداهن سبقتها إليه، قلَّبته بين يديها ثم قررت الإلقاء به بعيدًا، وهي من بحثت عنه بشغف، وأقسمت إن وجدته أن تحفظه كالكنز الثمين، لتدرك آخرًا أن ذلك الكنز لم يبرح صاحبته الأولى، وكأن لعنة قد أصابته ليبقى متعلقًا بها إلى الأبد.

شجار صاخب، تلك التي قلما تركت فراشها تقف بثورة أمامه، تصرخ وتلهث وتشير هنا وهناك، وصغيرتهما تختبئ خلف باب غرفتها مراقبة العواصف التي تلف والديها في الخارج، لا تفهم من كلماتهم إلا القليل، لكنها تفطن لخطورة الموقف، لا سيما حين ارتعشت والدتها بالبكاء وقد أنهكها الجدال مستنكرة بقهر:
_قلت لي إنك تحبني بصدق، قلت إنك تخطيت أمرها منذ زمن، قلت إن كل ذلك كان في الماضي.
يرى الوهن البادي جليًا على وجهها، يشفق عليها منه ومن نفسها، لكنه لا يملك من أمره شيئًا، وهي لن تقتنع مجددًا أبدًا بتلك الكلمات التي كانت سابقًا تطفئ نيرانها وتداوي قلبها العليل، لن تصدق كلمات حبٍ لا يتوانى في إثبات عكسه بأفعاله، فزفر باستسلام، يخشى أن يحرجها لكنه آثر الصدق، فقال بنظرة تحمل أسفًا خالصًا:
_أنا آسف، صدقًا آسف.
تسمرت في وقفتها بترقب، حين أكمل بلا حيلة:
_أنا لم أستطع أن أنساها.
ورغم توقعها، إلا أن كلماته التي قطعت الشك باليقين كان وقعها كطعنة شقت صدرها بلا رحمة، شعرت بقلبها الذي غلفه الأسى يتمدد بفيض الحزن لم يعد يقوى على تحمله حتى انفجر محدثًا دويًا مزلزلًا لكيانها، فسالت عبراتها دون شعور، بينما لسانها يهمس بهذيان:
_كنت تحاول تخطي مشاعرك لها بي! وحين لم أفلح ذهبت لتتزوج من أجنبية أخرى لكنك فشلت معها أيضًا، هل علي أن أكون سعيدة لأن المشكلة ليست بي؟ أم أموت من القهر لأن ليس بي مشكلة ومع ذلك لم تحبني؟
تصمت للحظة ثم تعود لتردد ممسكة بقلبها:
_إذًا لم كذبت؟ لم قلت إنك تحبني؟ لم أعطيتني الأمل؟ لم قلت إنك تحبني؟ لم قلت إنك تحبني؟
لم تعد تتحمل ذلك الألم، فانهارت أرضًا بين صرخة فزعة من ابنتها ونداء هلع من زوجها:
_نبيلة!


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم اليوم, 12:40 AM   #4

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 761
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي

نهض الرجل عن مقعده مطرق الرأس بتقدير لحالة الحزن العامة في هذا المكان، واقترب من شقيق المتوفي الذي يبدو في العقد السادس من عمره قائلًا:
_البقاء لله.
أومأ له ذلك الرجل برأسه دون رد، فاتجه نحو الشاب المجاور له، مراهق لا يتجاوز الستة عشر عامًا، ظلل الجمود وجهه بقسوة وهو يعدم سنواته الباقية في حياة المراهقة قافزًا إلى الرجولة بخطوة واحدة، صافحه الرجل بحزن حقيقي مضيفًا:
_البقاء لله، البركة بك وبأخيك، تحليا بالصبر والجلد.
رد الشاب باحترام لجارهم الذي يكبر والده الراحل بأعوام:
_سبحان من له الدوام.
رحل آخر المُعزِّين عن السرادق، ولم يبق سوى نجل المتوفى وعمه، وسرعان ما لمح الأخير أرملة شقيقه وابنها الأصغر ذا الثلاثة عشر عامًا، فنادى من موقعه:
_إلياس، تعالى إلى هنا.
التفت الصبي وأمه نحوه متجهين إليه بترقب، فقال عند وصولهما:
_انتظروني في منزل العائلة يا أم إسحاق، سأذهب إلى مكان ما ثم أعود إليكم.
تبادل الولدان النظرات مع أمهما قبل أن يتحرك ثلاثتهم نحو منزل عائلة فقيدهم منتظرين شقيقه الذي حضر بعد ما يقارب خمس عشرة دقيقة وجلس أمامهم قائلًا:
_هل أطلتم الانتظار؟ آسف، كنت أحضر هذا.
وضع ظرفًا مغلقًا من النقود على الطاولة الفاصلة بينهما، فاحتدت نظرات إسحاق التي لم تفارق وجه عمه متوقعًا القادم، كوالدته التي سألت باحتقان:
_ما هذا يا حاج سيد؟
اعتدل الحاج سيد البحَّار في جلسته مجيبًا بإطراق:
_هذا نصيبكم في أرباح المرحوم من المتجر، ليس كبير جدًا فأضفت عليه من مالي الخاص كي لا تشقى أسرة أخي رحمه الله في حياتي.
أخذتهم الصدمة من كلماته المجحفة التي زيَّنها بعواطف زائفة، فكان إلياس هو أول من نفض الصدمة عنه معقبًا ببعض الوقاحة:
_نحن لا نريد صدقة منك يا عمي، أبي له نصف المتجر.
رفع عمه رأسه إليه وقد تبدلت نظراته إلى أخرى مهيمنة وهو يرد:
_المتجر بأكمله باسمي، والدك كان يديره لي فقط.
ثم عاد يشمل ثلاثتهم بنظراته مستطردًا:
_هذا مبلغ جيد سيمكنكم من الحصول على سكن جديد.
تبادلوا النظرات المحتقنة قبل أن تعلق والدتهما بسخط:
_هل تطردنا من منزلنا يا حاج سيد؟
رد بلوم:
_كيف تقولين هذا يا أم إسحاق؟ أنتم من تبقيتم من رائحة الغالي، أنا أمهلكم بضعة أيام لتجدوا فيها سكنًا جديدًا لأن هذا المنزل ملك لي.. لا أعرف مقدار ما أخبركم به المرحوم، لكن المنزل باسمي.
نطق إسحاق بازدراء مقهور:
_أخبرنا بكل شيء يا عمي، لا تظن أننا لا نعلم إنك خنت أمانته بعدما قام بعمل توكيل إليك.
احتج الحاج سيد البحَّار باستياء:
_هل تتهم عمك في ذمته يا إسحاق؟ وأنا من قلت إنك ستخلف والدك في عمله وستأتي لمساندتي!
ارتفع صوت إسحاق بغضب فشل في كبحه مستنكرًا:
_لماذا؟ كي تأكل حقي مرتين؟
نهض إلياس عن مقعده مؤازرًا أخيه الأكبر، فقال بعناد:
_لن نرحل من هنا بهذه السهولة، لنا حق في رقبتك وسنأخذه حتى لو على رقبتك، كما أن السيارة من حقنا، وهي باسم إسحاق، أي لا يمكنك نقل ملكيتها إليك.
احتقن وجه عمهما بالحنق فنظر إلى والدتهما قائلًا بتقريع:
_حسبتك استطعتِ تربية ولدَيك جيدًا، هذه الوقاحة لا أقبلها.
لم يأبه إلياس بكلماته المنزعجة، بل أكمل دون اعتبار لكونه كبير العائلة:
_أين مفتاح السيارة؟
رمقه عمه بتبجح مجيبًا إياه بسؤال مقابل:
_أتريد رؤية أوراق هذه السيارة التي تزعم إنها ملككم؟ أم لن تصدق الأوراق الرسمية أيضًا؟ يمكنكم اللجوء إلى القانون إذا أردتم.
تبادل الصبيان نظرة فهمها كل منهما جيدًا، هذا اللص المدعى عمهما لم يكتفِ بما طالته يداه، بل ويطمع في كافة أملاك أخيه المتوفى مستخدمًا كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، فانطلق كلاهما إلى خارج المنزل كالطلقة النارية إلى وجهة لم يستطع عمهما أن يفطن إليها، فيما لحقت بهما والدتهما منادية إياهما بغير استيعاب، فجلس سيد البحار على أريكة منزله بلا اكتراث لغضبهم المبرر، حتى سمع صوتًا قويًا لزجاج يتهشم، فأسرع إلى النافذة ليرى ولدا أخيه يقفان بالأسفل مشمران عن سواعدهما، يحمل إسحاق هراوة معدنية مهشمًا زجاج السيارة الأمامي والخلفي، بينما يمسك إلياس بحجر ضخم محطمًا زجاج الإضاءة ونوافذ المقاعد.
جحظت عينا سيد بهلع صائحًا:
_ماذا تفعلان؟
رد إسحاق بعد أن فقد زمام أعصابه:
_نفعل ما تراه، ماذا يمكنك أنت أن تفعل؟
بينما قال إلياس بوقاحته المعهودة:
_هل ستبلغ الشرطة؟ هيا أبلغها، أخبرها إنها سيارتك وأطلعهم على الوثائق المزورة.
حدجهما بنظرات تكاد تطلق شرارًا، وتحركت والدتهما تحاول جذب أي منهما بقوة ليرحلوا عن هذا الحي بأكمله، إلا أن إسحاق صمد في مكانه دون أن ينزاح إنشًا واحدًا وهو يهتف في عمه الذي يراقبهم من الأعلى:
_لن نتركك حتى في أحلامك، يومًا ما سنحيل حياتك كابوسًا، تذكر هذا جيدًا.

يتبع..


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم اليوم, 12:41 AM   #5

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 761
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي

مرت أيام بعد أن سقطت والدتها مغشيًا عليها في ردهة المنزل، ومنذ حينها شرعت حالتها الصحية في التدهور بصورة ملحوظة دون استجابة للعلاج، والدها لا يبقى كثيرًا في المنزل، وإذا حضر يتجنب والدتها منذ تأكد أنه السبب الأول في مرضها العسِر، حتى ظنت يسرا أن والديها قررا الانفصال سرًا، إلى أن باغتتها أمها ذات يوم بطلبها:
_اتصلي بوالدك، أخبريه أن يأتي الآن.
تقدمت من فراشها بقلق متسائلة:
_هل أنتِ متعبة؟ هل أخبره أن يجلب الطبيب؟
ابتسامة ضعيفة ارتسمت على وجه والدتها وهي تجيب:
_لا، أنا بخير، فقط اطلبي منه ألا يتأخر.
خرجت يسرا من الغرفة قليلًا لتهاتفه، ثم عادت إلى غرفة والدتها لتجلس بجانبها على الفراش بصمت .. وترددت قليلًا قبل أن تناديها على استحياء:
_أمي.
التفتت لها برأسها فواصلت:
_هل يمكنني أن أسألك عن شيء؟
تعجبت أمها من نبرتها القلقة، لكنها أجابت بهدوء:
_بالطبع يا يُسر.
سألت بحيرة:
_لم انزعجتِ لأن أبي قال لكِ "أحبك"؟ إنها كلمة جميلة، تقولينها لي كثيرًا، وأقولها لكِ كثيرًا ولا تنزعجين.
داهمها سؤال ابنتها الذي لم تتوقعه، فصمتت هنيهة محاولة أن تنتقي كلمات تفهمها صغيرتها، ثم أجابت:
_لأن .. لأن هذه الكلمة تحمل الكثير من الوعود، لم يفي والدك بأي منها.
عقدت حاجبيها مفكرة قبل أن ترد:
_ربما لم يكن يعلم بذلك، أنا لم أكن أعلم أيضًا.
ابتسمت لسذاجة صغيرتها وهي توضح:
_كان يعرف، لكنه لم يأبه بالإيفاء بها إلا لشخص واحد فقط.
سألت يسرا مستنكرة:
_من هو؟ أبي لا يكرهك، لم سيتجاهل الإيفاء بوعده لك؟
تجاهلت أمها سؤالها الأول، وشردت مفسرة الأمر بصورته الواضحة بعد أن ابتلعت غصة في حلقها:
_الأمر لا يتعلق بي على وجه التحديد، يمكنك القول إنه لو كان هناك مئة غيري، لن يلحظ إلا ذلك الشخص.. لستُ بطلة قصته، لم أكن شخصًا مميزًا حتى.
_لا أفهم!
قالتها يسرا شاعرة بتشويش في رأسها، فتنهدت نبيلة قائلة وهي تمسد شعر ابنتها بحنان:
_يوزع الله الحب في قلوبنا، وقد وضع حبه في قلبي، لكن حبي لم يكن من نصيبه، إنه القدر، ربما لم أُخلق ليحبني أحد.
ردت بحمائية:
_أنا أحبك يا أمي.
غصت بردها مقاومة عبرات لحوحة، فاقتربت منها يسرا تسأل:
_لم تبكين؟
_لأن قدري مؤلم للغاية.
سالت عبراتها فمدت يسرا كفها الصغير لتمسح وجنتي والدتها الناعمتين، ثم قالت مبهوتة:
_هل حبك لأبي يؤلمك إلى هذا الحد؟ أنا لا أريد أن أحب أحدًا عندما أكبر.
أومأت أمها برأسها نافية بينما تتأمل وجه صغيرتها الرقيق قائلة:
_أتمنى أن يكون قدرك أجمل، وأن تعيشي حياة طويلة، وسعيدة، مع شخص يكون حبك من نصيبه.
أطرقت يسرا برأسها قائلة:
_قلتِ لي إن علينا أن نرضى بالقدر خيره وشره، ونقول الحمد الله.
ابتسامة واهنة شقت وجه والدتها، فدنت منها يسرا لتطبع قبلة حانية على رأسها وهي تقول:
_لا تحزني، حبك كان من نصيبي أنا.
ضغطت على شفتيها كابحة موجة من البكاء، ترسم تفاصيل ابنتها بعينيها بحزن هامسة:
_يحزنني أنكِ .. سينكسر قلبك إذا سافرتُ لمكان بعيد.
اتسعت عيناها بخوف وهي تسأل بعدم فهم:
_إلى أين؟ سآتي معك!
ضمتها والدتها إلى صدرها محررة دموع تأبى أن تنضب، ورغم أنها لم تفهم ما ترمي إليه، إلا أنها شعرت بالاختناق يلفها ملقيًا بغصة في حلقها وهي تسأل بارتعاش:
_ما بكِ يا أمي؟
لم تشعر برغبة قوية في البكاء في أحضان والدتها هذه المرة؟ لم أدمعت عيناها دون شعور بمجرد أن وضعت رأسها على صدرها؟ لم تكن تفهم معنى الوداع، ولم تذقه من قبل، لكن قلبها الصغير انكمش على ذاته مرتعبًا حين قالت والدتها:
_لا تبكي، هذا قدري وأنا راضية به، الحمد لله.
لم تستطع أن تمتثل لطلب والدتها على غير العادة، فقلبها الذي يختض جعلها تنطق باستجداءٍ باكٍ:
_أمي.. لا تتركيني.. أرجوكِ..
شددت أمها على ضمها لجذعها الغض وقد ارتفع نشيجها رغمًا عنها، حين سمعتا صوت الباب معلنًا وصول والدها الذي اتجه مباشرةً إلى هذه الغرفة بتوجس، فابتعدت والدتها عنها مجففة عبراتها بيديها وهي تطلب بلطف:
_أحضري لي كوبًا من الماء.
نهضت يسرا مغادرة الغرفة، فيما نظرت نبيلة إلى زوجها سائلة بهدوء:
_هلا أسندتني لأجلس؟
اقترب عبدالحكيم منها مدعمًا جذعها لتنهض، فتنفست بتعب غير قادرة على تدعيم نفسها، فاستندت برأسها على صدر زوجها متحدثة بخفوت واهن:
_لا تسئ فهمي، لكني أشعر أن أجلي حان.
باغتته كلماتها الثقيلة على روحه، شعر بذلك منذ لحظة دخوله إلى الغرفة، لكنه نهرها باستنكار رغم تأثر صوته:
_ما بك يا نبيلة؟ ستكونين بخير، لا تهذي بهذه الكلمات.
رمشت بأهدابها بأنفاس ضعيفة مطالعة إياه بنظرات أخيرة، فاستطرد مبهوتًا:
_هل كل هذا بسببي؟ أنا لا أستحق منك ذلك، انهضي وكوني قوية.
استجمعت قواها الخائرة لتنطق بعينين دمعتين بحسرة:
_يسرا يا حكيم.
رد بنبرته ذاتها رافضًا التلويح بشارة النهاية:
_يسرا بخير، وستكون بخير، انفضي عنك رداء المرض وشاهديها بينما تكبر.
سقطت عبراتها الحارة على صدره وهو يستمع إلى صوتها الضعيف:
_أوصيك بها، يؤلمني أن أتركها في هذا العمر الصغير، لكنه ليس بيدي.
غلبته الدموع رغم تمسكه بالقشرة الصلبة التي سرعان ما انهارت حين استطردت:
_آسفة لأنني لم أكن الزوجة التي رغبتَ بها.
قاوم ارتعاش صوته لكنه غص بردِّه الذي غلفه الندم قسرًا:
_أنتِ أجمل زوجة في الدنيا.
ضم رأسها إليه ملقنًا إياها الشهادتين بثبات مزعوم، حتى شعر برأسها يثقل فوق صدره، فأطرق برأسه فوق كتفها سامحًا لعبراته أخيرًا بالهطول، بينما سقط كوب الماء متهشمًا من يد حاملته الصغيرة التي راقبت المشهد بعينين جاحظتين.
رفع والدها رأسه بعد دقائق شاهقًا بعمق، قبل أن يريح رأس زوجته فوق الوسادة، ثم وضع الغطاء فوقها حاجبًا وجهها عن ناظري ابنتها التي لم تحرك ساكنًا، فاتجه نحوها قائلًا بحزم بينما يخرج هاتفه من جيبه:
_انزلي وانتظري في الأسفل، ستأتي خالتك مارية لتأخدك بعد قليل.
أرادت الركض لكن قدميها المرتعدتان أعاقاها، غادرت المنزل إلى أسفل البناية، انهارت قواها مع أول قطرة مطر لامست رأسها بالخارج، فجلست بجسد يرتجف بذعر، عقلها ما زال لم يستوعب لكن قلبها يعتصر، وعيناها تذرفان الدموع دون شعور.
اشتدت قوة المطر فوق جسدها، مر بضعة أفراد يصعدون البناية على عجالة لكنها لم ترهم، وكأن العالم من حولها أحيل سوادًا لم يفلح المطر في تنقيته، كل قطرة سقطت فوق رأسها شعرت بها وكأنها تصل إلى صدرها مباشرةً، قلبها يغوض بثقل تفوق حمولته سنوات عمرها، شعور الغرق حاوطها واكتنفها حتى تمكن منها تمامًا، حتى أنها من بين مراقبتها الصماء للأمطار لم تلحظ قصر أنفاسها باختناق كئيب.

يتبع..


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم اليوم, 12:42 AM   #6

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 761
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي

سار إلياس برفقة شقيقه الأكبر معلقًا بامتعاض على ما قاله الأخير منذ قليل:
_أكره السلبية، لم نترك له كل شيء كما يريد؟ لِم لم نلجأ إلى القانون؟
رد إسحاق بعقلانية متفهمًا جموح أخيه:
_طالما قال "يمكنكم اللجوء إلى القانون" إذًا فهو يعرف موقفه القانوني جيدًا، ويثق أن القضية ستنتهي لصالحه.
التفت إلياس إليه بتساؤل مستنكر:
_ماذا تعني؟ هل يدعم القانون اللصوص؟
مد إسحاق يده أمامه مستقبلًا قطرات المطر بينما يجيب:
_القانون سلاح ذو حدين، يتأرجح بين الظالم والمظلوم، يتوقف اتجاه تصويبه على من يمسك به، إذا أمسك به صالح سيمحق الظالم، وإذا أمسك به طالح سيسحق المظلوم.. ليس القانون من يدعم اللصوص، بل الفاسدون الذي يعملون في مجال القانون.
صمت إلياس هنيهة باقتناع، ثم رد بتفكير شيطاني يليق بموقفهما:
_إذًا علينا اللجوء لفاسد كالذي لجأ إليه، هكذا يتحقق التكافؤ.
توقف إسحاق ليستدير إلى أخيه بكليته وهو يطرح عليه سؤالًا منطقيًا:
_وكيف سنوفر أتعابه؟ بالكاد استطعنا أن نوفر لأنفسنا منزلًا صغيرًا.
أجابه بحماس مغلف بعنفوان مراهقته التي وطأها منذ فترة قريبة:
_علينا أن نعمل، نحن رجلان، يمكننا فعل ذلك.
وكأنه يتوقع أن أي نوع من الأعمال سيغدق عليه مالًا وفيرًا، فقال إسحاق باستنكار:
_وما نوع الوظيفة التي تتوقع الحصول عليها في هذا السن؟ سفير؟
صمت إلياس كارهًا شعور العجز، فأكمل إسحاق بثقة لا مصدر لها سوى نفسه:
_ركز في دراستك الآن واترك هذه الأمور لي ولوالدتك، لا يهم أن نأخذ كافة حقوقنا على الفور، لكني أقسم لك أن تأتي عليه أيام يرتعد فيها من اسم إسحاق البحَّار وإلياس البحَّار.
شجعته كلمات شقيقه الأكبر الواثقة، فلم يُضف شارعًا في مواصلة السير، لكنه توقف مجددًا وهو يقول بتعجب ناظرًا إلى نقطة قريبة:
_لم تجلس هذه الفتاة هكذا؟
رد إسحاق بلا اكتراث:
_وما شأننا؟
جذبه إلياس من رسغه قائلًا بتدقيق:
_ملابسها نظيفة لا تبدو كالمتسولين، ربما تائهة.
اقترب كلاهما من الفتاة الجالسة أمام إحدى البنايات وقد بللها المطر بالكامل، فمال إسحاق إليها قليلًا متسائلًا:
_لم تجلسين هكذا؟
لم تجب، لم يبدُ أنها انتبهت لحضورهما من الأساس، فقال إلياس:
_أيتها الفتاة، ستصابين بنزلة برد!
ما زالت لم تحرك ساكنًا، فعاد يتحدث:
_أين والداك؟
حين عزفت عن الرد للمرة الثالثة، قال إسحاق بنزق:
_على الأقل احتمي بمدخل البناية من المطر.
وللدهشة، فقد ردت بصوتٍ مبحوح دون أن تنظر إلى أي منهما:
_لن يقتلني المطر.
انتبه حينها إلى عينيها الحمراوين ودموعها التي امتزجت بالماء، فصمت لوهلة متبادلًا النظرات المتحيرة مع أخيه، ثم لانت نبرته قليلًا قائلًا:
_قد يقتل جهازك المناعي، ما زلتِ صغيرة.
مد يده إليها عارضًا المساعدة وهو يكمل:
_انهضي وادخلي البناية.
نظرت إلى يده الممتدة إليها، ثم عادت للتحديق في الفراغ دون استجابة، تململ إسحاق من عناد تلك الطفلة، فدار حولها ليقف على بعد بضعة إنشات خلفها، ثم جذبها سريعًا إلى مدخل ال**** قائلًا:
_لن يفيدك هذا العناد حين تصابي بحمى، ابقي هنا.
انتفضت حين أسقطها في المدخل ملتفتة إليه للمرة الأولى بعينين واسعتين، وشرعت تشهق وتزفر بقوة وكأنه أنقذها من الغرق للتو، فتعجب كلاهما من رد فعلها، لكنهما آثرا تركها رغم تساؤلهما الفضولي، هل سيأتي أحد لأجل هذه الطفلة؟
ابتعدا ببطء عن المكان ملتفتان بنظراتهما نحوها كل بضعة خطوات، وقبل أن ينهيا الحي وجدا سيدة تقترب منها منادية:
_يسرا!
توقفت أمامها متفحصة، وعلى ما يبدو أنها صدمت لرؤيتها مبتلة بالكامل، لكنها عانقتها بمجرد رؤيتها، وبدا على الطفلة الاستسلام لعناقها، لكن بعد ذلك حين حاولت جذبها من يدها لترحل معها بدأت الفتاة في المقاومة، تأهب الصبيان بعدم فهم لماهية ما يحدث، لكن ما حدث بعد ذلك فسر لهما كل شي.
نزل بعض الرجال من المبنى حاملين نعشًا، وتبعتهم بعض النساء النائحات، عندها ازدادت مقاومة الفتاة شراسة ترغب في إفلات يد تلك السيد، وارتفعت وتيرة نشيجها ببكاء هيستيري وهي تصرخ محاولة الوصول إلى الراقدة في ذلك النعش:
_لااااا أميييي!!!
تهدل كتفا إسحاق مدركًا سبب حالتها التي عجز سابقًا عن فهمها، يعرف ذلك الشعور جيدًا، لا سيما الآن وقد ودع أباه منذ ما يقل عن شهرين، يألف هذه اللحظة التي يُجبر فيها الإنسان أن يطأ عتبة النضج لمرحلة هو ليس مستعدًا إليها بعد، ومع كل فقد يصعد درجة، يفقد جزءً من قلبه ليضيفه إلى عقله، وكم يخشى تلك اللحظة التي يكون فيها راجح العقل، لكن بلا روح!
يتبع..


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم اليوم, 12:44 AM   #7

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 761
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي

تقوقعت فوق فراش نارين بصمت، توقفت دموعها أخيرًا لكنها لم تنبس ببنت شفه، فاقتربت منها ذهب تمد إليها يدها بشطيرة قائلة:
_يجب أن تأكلي، لم تأكلي شيئًا منذ الأمس!
رفضت يسرا وهي ترمش بجفون ثقيلة:
_لا أريد شيئًا، سأغادر مع أبي بعد قليل.
أعادت ذهب الشطيرة إلى الصحن واضعة إياه جانبًا، لا تجيد التصرف في هذه المواقف، فلم تفهم ما عليها فعله، لذا أجادت فن الصمت.

في الخارج وقف عبد الحكيم أمام مارية التي تنهدت بثقل قبل أن تقول:
_سأعتني بها جيدًا كابنتي.
أشاح بناظريه بخجل من نفسه قائلًا:
_أعلم أنكِ ستفعلين.
حدجته بجمود وهي ترد:
_كما كنت أعلم أنك ستتخلى عنها أيضًا.
وكأنه يبني سورًا بينهما يزيد من ارتفاعه بمرور الوقت رغم رغبته اليائسة في هدمه، فزفر بتشتت قائلًا:
_أرجو أن تتفهمي، أنا لن أستطيع أن أتحمل مسؤوليتها بمفردي.
_لن تحاول.
ردت بثقة، تعرفه أكثر من نفسه، وتفهمه وإن لم ينطق، تصرفاته، إيماءاته، خلجاته، كل شيء فيه يبدو أمامها كالكتاب المفتوح، لكنه رفض الاعتراف بذلك فرد بإنهاك:
_سأعود لأجلها عندما أستطيع، إنها وصية والدتها، يجب أن أبقيها في أمان.
أطرقت برأسها للحظة، ثم عادت تواجهه قائلة:
_هل أطلب منك طلبًا وتنفذه لأجلي يا حكيم؟
أسرع مجيبًا بلا تردد
_بعد كل ما فعلتِه لأجلي، يمكنني أن أنفذ أي شيء تطلبينه.
توقع أي شيء إلا مطلبها الذي ألقته في وجهه كالقنبلة التي انتظرت طويلًا كي تسنح لها الفرصة بانتزاع فتيلها:
_لا تعُد.
استكملت حديثها أمام صدمته:
_سأنفذ أنا وصية والدتها.. وسأكمل دوري كأم لنارين عوضًا عن تلك التي تركتها بعد ولادتها مباشرةً، لذا غادر رجاءً ولا تأتي ثانيةً، لن أدعك تأخذ مني الفتيات بعد أن أربيهن بمفردي كبناتي.. لن أستطيع أن أتخلى عنهن كما فعلت أنت.
اعترض بلكن، ثم صمت تحت تأثير صدمته الذي لم يتلاشَ بعد، ثم عاد ليستكمل:
_نارين ستنساني، بالكاد تعرفَت على أبيها!
ردت بهدوء لا يلائم كلماتها القاسية التي جعلته يدرك أنه خسر من ملك قلبها ومن ملكت قلبه في يوم واحد:
_كلنا سننساك، هذا هو الأفضل لنا بعد ما فعلته بنا، كف عن أنانيتك وفارقنا.

دقائق مرت قبل أن تسمع يسرا صوت باب المنزل يغلق من جديد، فاعتدلت في جلستها على الفراش بتأهب، وقد عادت ذهب لتضع صحن الطعام أمامها بصمت، لم تستطع أن تخبرها إن والدها الذي ترفض الطعام حتى يأتي ويأخذها غادر بدونها، ولن يعود.
***
لم تستجب لأي طعام قُدم إليها، لم تثر وتصرخ حتى حين علمت بمغادرة والدها، ظلت يسرا على حالها حتى غلبها النعاس متحضنة نارين التي جاورتها في نومها، فأغلقت ذهب ضوء الغرفة وأخذت كتبها لتدرس في الردهة، لم يقاطعها سوى صوت والدتها القادم من المطبخ:
_ذهب، أوقظي يسرا، صنعت الفطائر التي تحبها.
أغلقت ذهب كتابها، ونزعت نظارتها الطبية قائلة بينما تتحاشى النظر نحو والدتها:
_لم لا توقظينها بنفسك؟
قطبت مارية جبينها باستياء، فتوجهت نحو ابنتها معلقة بصرامة:
_ما هذا الأسلوب؟
لاحظت تهربها من لقاء عينيها فاقتربت لتجلس بجانبها وهي تسأل بنبرة شابها بعض القلق:
_ما بك؟
لم تكن ترغب في مناقشة هذا الأمر، تعلم أن والدتها لا تتخذ قرارًا دون تفكير طويل ودراسة كافة الجوانب، لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من أن ترمق والدتها بنظرات لائمة وهي تسألها بصوت مختنق:
_لم جعلتِه يغادر؟
طالعتها مارية بمفاجأة فاسترسلت ابنتها:
_سمعتكما.. في البداية كان هنا دائمًا، ثم تكيفت على وجوده مرة كل فترة، والآن علي أن أتكيف على عدم وجوده.
صمتت مارية هنيهة مناظرة ابنتها بثبات قبل أن ترد بقوة:
_هل أنتِ مقتنعة بما تقولين؟ هل هناك أب يترك بناته لأن زوجته السابقة أخبرته بذلك؟ لو كان يريد البقاء لما تأثر بكلماتي، ولو كان يفهم مقصدي لما فرط فيكن أبدًا.
أشاحت ذهب بوجهها ممسكة على عبراتها بحاجبين معقودين، فاستطردت أمها:
_أنا لا أقول لك اكرهيه، إنه والدك، لكن هكذا يكون والدك، يدلل ولا يربي، ينفق ولا يتحمل المسؤولية.. يحب ولا يضحي، جدار هش لا يمكن لأي منا أن تستند عليه.
التفتت ذهب نحوها مجددًا متسائلة:
_ماذا إن تغير ذات يوم ولم يعد كي يحافظ على وعده لك؟
أجابت والدتها وهي تقترب لتربت على كتفها بمؤازرة متفهمة مشاعرها:
_إذا تغير سيفهم ما كنت أعنيه، وسيعود بمفرده دون إذن مني.
أومأت برأسها لوالدتها بثبات انفعالي تحسد عليه، ثم دخلت إلى الغرفة لتوقظ يسرا، سمعت نهنهات تصدرها أثناء النوم فخمنت أنها ترى كابوسًا بعد ما عايشته في الساعات السابقة، اقتربت منها وأوشكت أن توقظها حين التقطت أذناها ما تهمس به أثناء نومها بتقطُّع.
_أمي .. أبي .. خذني معك .. لا تتركني أنت أيضًا.
فجلست ذهب على طرف الفراش، ثم دفنت وجهها بين كفيها باكية.

يتبع..


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم اليوم, 12:46 AM   #8

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 761
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي

للتو أنهت واحدًا من أفلام الرعب التي يحذرها منها والديها على الدوام، لا تستطيع قراءة الترجمة جيدًا بعد لكنها تراقب المشاهد بانبهار لا يناسب سنواتها السبع، لا سيما حين دفن أحدهما جثة شخص آخر في حديقة واسعة كحديقة هذا المنزل الذي انتقلت مع والديها إليه حديثًا، استغلت نومهما لتغادر المنزل مستكشفة ما حوله، وبخاصة الحديقة المشتركة مع المنزل المجاور، وقد وجدت مبتغاها!
طفل يكبرها بثلاث أعوام على الأكثر لكن قامته طويلة بعض الشيء، يحفر بقدمه مساحة صغيرة يبدو أنه سيدفن فيها شيء ما، فاقتربت منه منبهة:
_المكان مكشوف هنا!
تلفت حوله بعدم استيعاب قبل أن يرد ببديهية:
_لأنها حديقة!
قالت باستياء كخبيرة جرائم سابقة:
_اختيار غير موفق منك لموقع الدفن.
عقد حاجبيه مفكرًا بغباء:
_هل ساندي ستتذمر لأنني دفنتها هنا؟
ضيقت عينيها بخطورة مندمجة في دورها وهي تسأل:
_هل هي فتاة؟
نظر لها بتعجب من رأسها حتى أخمص قدميها، حيث ارتدت فستانًا ورديًا مطعم بالفراشات الرقيقة، لكنها تربط وشاح والدتها الأسود كالعصابة على عينها اليسرى!
_من أنتِ؟
سأل مندهشًا من عدم رؤيته لها من قبل، لكنها تجاهلت سؤاله مواصلة تساؤلاتها السينمائية:
_هل هذه هي مرتك الأولى؟
ببساطة شديدة أجابها:
_لا، دفنت ثلاث قبلها.
شهقت بقوة فارتد إلى الخلف متوجسًا من أفعالها المبالغ بها، قبل أن تعلق على إجابته:
_أنت خبير إذًا!
امتعض وجهه إثر جملتها فأجابها بانزعاج:
_أحب هذا النوع لكنه يموت سريعًا، هل تسخرين مني؟
شهقت مجددًا هذه المرة لكن الخوف اعتراها بينما تستفسر:
_هل الفتيات تموت سريعًا؟
_أمثالك؟ نعم بالطبع.
تجاهلته مجددًا لتقول مقيمة الوضع حولهما:
_أنصحك ألا تدفنها هنا.
نفذ صبره سريعًا من أسألتها العجيبة، ذلك الطبع الذكوري الذي يولدون به دفعه لأن ينهي الحوار سريعًا قائلًا:
_لا شأن لك.
عقدت حاجبيها باستياء وهي تنهره:
_يا لك من وقح، أنا أحاول أن أساعدك!
رد بنزق:
_تساعديني في ماذا؟ ماذا تعرفين عن الأمر؟ أنا دفنتهم جميعًا هنا يجب أن أدفنها بجانب أخواتها.
اندهشت من جديد لتسأل بانبهار غير مبرر:
_هل قتلت العائلة كلها!
امتعض ثانيةً من تلميحاتها بتسببه في موتهم السريع، فقال بغضب طفولي سريع:
_أنتِ تستفزينني مجددًا، ماذا تريدين؟
أشارت برأسها للحفرة التي صنعها بقدمه ببساطة قائلة بحنكة:
_لكن هذه الحفرة صغيرة جدًا.
أجابها بينما يرفع كيسًا يحمل سمكة صغيرة ميتة:
_بالكاد تكفي ساندي.
سقط فكها بصدمة، ثم قالت مشيرة إليها باستنكار:
_هل هذه هي ساندي؟
أجابها باقتضاب:
_نعم.
عادت تسأل وكأن كافة آمالها قد خابت:
_ألستَ قاتلًا متسلسلًا؟
قطب جبينه باستغراب فكان دوره ليمطرها بأسئلته قائلًا:
_هل ظننتِني هكذا؟
أومأت برأسها مؤكدة، فواصل مستنكرًا:
_وكنتِ تحاولين مساعدتي؟
أومأت برأسها مجددًا.
_وكنتِ مقتنعة أن طفلًا في العاشرة قد يقتل عائلة كاملة؟
أومأت برأسها للمرة الثالثة على التوالي.
_هل أنتِ مختلة؟
هنا توقفت مفكرة قليلًا في معنى تلك الكلمة الجديدة على مسامعها، ثم قالت في أول لمحة تليق بعمرها:
_هل هذا شيء جيد أم سيء؟
تعرف مفاهيم الإجرام ومبادئ دفن الضحايا لكنها لا تفهم صفة كتلك، فأجاب باستهجان:
_جيد، إنه مدح.
أعادت خصلة من شعرها خلف أذنها شاعرة بالإطراء لترد:
_أشكرك.
ظنها اكتفت من الحديث وستعود من حيث أتت، لكن لسوء حظه عادت لأسئلتها المريبة مجددًا:
_ألا تشاهد أفلام الرعب؟
شرع يضبط الحفرة ليدفن بها سمكته بينما يرد بلا اكتراث:
_لا أحبها، هلا غادرتِ الآن؟
رمقته بازدراء وهي تتحدث عن نوع أفلامها المفضل بشغف:
_أنت جبان إذًا، إنها مجرد أفلام، لقد انتقلت لتوي لهذا المنزل وأراه شبيه لتلك المنازل في أفلام الرعب، كما أن الحديقة واسعة وتسمح بحدوث الجرائم.
تلفت حوله بخوف ظاهر بينما قالت هي بعد أن دبت الرعب في أوصاله:
_ظننت لديك شيء مثير، كنت مخطئة، سأتركك إذًا.
كادت قدمها تزل في الحفرة حين فرد ذراعه ليصدها إلى الخلف، فوضعت يدها فوق صدرها قائلة بمبالغة مسرحية:
_أنقذتَ حياتي!
لم يعد يندهش، فقرر ألا يرد حتى تشعر بالملل وتغادر، لكنها أكملت بود:
_يجب أن أشكرك على ما فعلت، سأدعوك للحضور إلى منزلي لنشاهد فيلمًا سويًا.
كل ما تأكد منه أن هذه الفتاة لا تنهض من أمام شاشة التلفاز أبدًا، فرد بامتعاض:
_لا أريد، فقط ارحلي من هنا.
لم تأبه لرفضه، مدت كفها إليه لتصافحه معرفة بنفسها:
_هدى ميمون.
مد كفه معقبًا بغباء:
_منمون؟
ضربت كفه بسخط وهي ترد:
_منمون ماذا؟ قلت ميمون.
ثم سألت دون أن تعير اهتمامًا للانزعاج البادي على وجهه:
_ما اسمك؟
عزف عن الإجابة قائلًا بغيظ:
_لا أريد أن أخبرك به.
_أنت حقًا سمج.
رأت رجلًا ناضجًا يقترب منهما، فالتفتت إليه فورًا وهي تنزع الوشاح عن عينها سائلة بوداعة:
_هل أنت والده يا عمو؟ ما اسمه؟
ابتسم الرجل مقتربًا من ابنه الذي احتقن وجهه غضبًا منها وهو يجيب:
_نعم أنا والده، إنه داوود.
قالت بابتسامة بريئة:
_أنا هدى جارتكم من السكان الجدد للمنزل المجاور، هل تسمح لداوود أن يأتي معي لنشاهد فيلمًا كارتونيًا معًا؟
وافق والده دون ممانعة فثار حنق صغيره الذي نظر له بعدم رضا، فمال إليه قليلًا هامسًا:
_إنها مفوهة، من الأفضل أن ترافق هذا النوع من الأطفال بدلًا من صديقك الأحمق.
ثم تركه معها وعاد إلى المنزل، فجلست بجانبه إلى أن انتهى من دفن السمكة، ثم جذبته معها من ذراعه قسرًا ليذهب معها بينما تقول:
_هل تعرف ما كان سيحدث لي إذا وقعت في تلك الحفرة؟
أجاب بمنطقية رافضًا تضخيم الأمور:
_ستلتوي قدمك؟
نظرت مباشرةً إلى عينيه بعينين واسعتين مصححة له:
_كنت سأموت!
غمغم وهو يسير بجانبها مستسلمًا.
_يا لك من مختلة.
_أشكرك.
لم يعلم أي منهما أن ذلك الموقف كان بداية لصداقة طويلة الأمد، وربما لو عرف داوود لحظتها أنها ستكون صديقته لقرر أن يدفن نفسه بجوار السمكة، لكن ذلك التناقض الجلي في شخصياتهما نجم عنه تجاذب غير متوقع بعد تنافرهما الأولي، وفي اللقاء الأول عبرة، لمن سارا في مساحات واسعة، مزدحمة كانت أو فارغة، لكنهما لم يصادفا سوى بعضهما البعض.. هنا كانت نقطة البداية، ترى أين ستكون نقطة النهاية؟
يتبع..


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم اليوم, 12:48 AM   #9

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 761
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي

الزيارة الأولى له منذ سنوات طوال، لعل رجال عائلته لا يتذكرون منه إلا اسمه الآن، وحينما فعلها أخيرًا وقرر زيارة بلده في صعيد مصر في إحدى المناسبات كانت التعليقات تتراوح بين "كبرت وأصبحت تشبه أباك" و"عاش من رآك." التي تُقال بنبرة تقريع، وبعض السُباب والتوبيخ من كبار العائلة.
اليوم زفاف إحدى أحفاد عائلة عوَّاد، والتي تسكن القرية منذ الصغر مع والديها،ومع أنه من العائلة ذاتها، فهو لا يظن أنه رآها من قبل، كان طفلًا حين كانت هي في عمره هذا، لكن تحتم عليه الحضور كفرد من البالغين في العائلة الآن رغم كونه وطأ المرحلة الثانوية للتو، ترك والده برفقه بعض أقاربه وانطلق مستكشفًا المكان، لم يكن هناك ما يدفع للانبهار، لكن الأجواء كانت تحفز الشعور بالراحة والدفء في نفس الزائرين، العديد من الأشجار مختلفة الثمار والأوراق، لكنه توقف أمام شجرة الياسمين، إنها من أبسط أنواع الورود، أوراق نقية وواضحة دون مجهود، صغيرة وعطِرة، زهرة هادئة في هيئتها وفي رائحتها.
التفت عند إحساسه بنكزات في قدمه، فرأى فتاة صغيرة لا تتجاوز السبعة أعوام على الأكثر، ترتدي كنزة مزركشة وتنورة قصيرة، خصلاتها بنية مموجة تصل بالكاد إلى رقبتها، تمسك بقطعة قماش من بنطاله بيدها الصغيرة بينما تنقر فوق عضلة سمانته لينتبه إليها، فجلس القرفصاء أمامها قائلًا بابتسامة صغيرة:
_أهلًا يا كتكوتة، أين أبواكِ؟
رفعت كتفيها بإشارة لعدم معرفتها، فقال بإدراك:
_هل أضعتِ عائلتك؟
أومأت برأسها بنعم، ثم نطقت بقلق:
_هل سأدخل النار الآن؟
ذهل من سؤالها غير المنطقي فعقب:
_ماذا؟
أجابته شارحة وهي تلتفت حولها محاولة البحث عن أي من عائلتها:
_أمي قالت إنني إذا ابتعدت عنها كثيرًا وضعت منها سأغضبها فسأغضب الله مني فأدخل النار، وأنا أضعتها، هل سأدخل النار؟
ولأن تفسير الأمر بهذا الرابط العجيب كان أكثر غرابة من إلقاء السؤال بعشوائية، فقد أجاب بتهكم رغمًا عنه:
_لم قد تدخلين النار هل أضعتِ القِبلة؟
لم تفطن كليًا لمغزى كلماته لكنه نجح في جذب انتباهها بعيدًا عن مخاوفها العبثية، فقال مطمئنًا إياها:
_لنرى، الجميع يعرف بعضه هنا، ما اسمك؟
أجابت بنموذجية لعله يعرف أي من أقاربها:
_عالية محمود حسين عواد.
ابتسم عندها قائلًا:
_نحن قريبان إذًا! هل أنتِ أخت عمر؟
لو كان فقط لأخيها هاتف محمول خاصًا لانتهى الأمر دون تدخل من والديها المشغولين حتمًا الآن في شؤون الزفاف، أومأت برأسها بتأكيد مجيبة:
_هل تعرفه؟ من أنت؟
سألته وكأنها تعرف أفراد العائلة جميعًا، فلملم ابتسامته الملحة لجديتها وهو يجيب:
_أنا يحيى عواد.
أضاءت عيناها الجميلتان قائلة وكأنها أدركت ماهيته للتو:
_ابن العم عادل الذي عاد من السفر حديثًا؟
صدقًا فاجأته بردها، فربت على رأسها قائلًا بابتسامة ودودة:
_أنتِ ذكية.
أخرج هاتفه المحمول من جيب سرواله قائلًا:
_سأطلب من أبي أن يتواصل مع والدك الآن، لا تخافي.
أنهى مكالمته مع والده، لكنها ما زالت قلقة، تركتها أمها برفقة بعض أطفال القرية لتلعب معهم، لكن تبين أن جميعهم أصدقاء ولم يقبل معظمهم أن تنضم إليهم في اللعب ولو لبعض الوقت، فابتعدت تتلمس طريقها للعودة إلى والدتها لكنها لم تجدها، حتى شقيقها لا تعلم أين ذهب في هذه القرية التي تشبه المتاهة، يدخلون من باب ويخرجون من باب آخر، يعيشون في منزل ويضيفون الزائرين في مكان آخر مخصص لتلك الأمور، قد يمر بها أحدهم ويختفي عن أنظارها في اتجاه ما ثم يعود ليمر بجانبها مجددًا من الاتجاه الأول وكأنهم في حلقة دائرية!
استشعر التوتر في صمتها، فسأل على حين غرة:
_هل تحبين الياسمين؟
نظرت له دون استيعاب متسائلة:
_عم تتحدث؟
فأجاب موضحًا:
_إنه من أنواع الزهور.
نفت برأسها بإجابة متأخرة لسؤاله:
_لا أعرف أي من أنواع الزهور.
سار بضعة خطوات نحو تلك الشجرة ليقطف زهرة منها، ثم أعطاها إليها قائلًا:
_رائحتها تساعد على الاسترخاء.
أمسكت بها بحرص مقربة إياها من أنفها لتستنشق عبيرها باستحسان، فرافقها إلى مكان ظاهر أكثر ليراها من سيأتي من أهلها ليأخذها، فتوقفت في منتصف الطريق مشيرة إلى شيء ما على عربة صغيرة تعرض بعض الاكسسوارات الأنثوية، كانت تشير إلى سلسال به دلَّاية على هيئة زهرة الياسمين قائلة هي ترفع يدها الأخرى بالزهرة:
_هذه مثل هذه!
ضحك لتعبيرها البريء، ثم سأل ملاحظًا اهتمامها الحقيقي بالزهرة:
_هل تعجبك؟
أومأت له برأسها بعينين متلألئتين انبهارًا، فابتاع لها ذلك السلسال الصغير، بدا محبًا للأطفال تختبئ في عينيه لمحة مشاغبة رغم ابتسامته الحنونة، لم تسمح لها عيناها الطفوليتين برؤية انكسار طفيف يسكن نظراته منذ عاد إلى هذا المكان، ربما حضورها إليه تحديدًا في هذا الوقت انتشله من شروده الكئيب، فانشغل عن أفكاره بالحديث معها، صعد ليجلس فوق مصطبة في مكان ظاهر، ثم ساعدها لتجلس بجواره، أردات أن تفتح غلاف السلسال بحماس لكن يدها الأخرى التي تحمل الزهرة لم تساعدها، جلست تنظر ليديها بحيرة كمن تحاول حل معادلة معقدة، فزفر يحيى بيأس من ضيق عقل الأطفال، ثم أخذ زهرة الياسمين من يدها بهدوء، ففتحت الغلاف، وألبست السلسال لنفسها، ثم ولدهشته أخرجت من حقيبتها الصغيرة مرآة دائرية وردية اللون كتلك التي تأتي مع دمية باربي، ونظرت إلى نفسها بابتسامة عريضة، فأشاح يحيى بوجهه كاتمًا نوبة ضحك داهمته إثر اندهاشه، حين استطاع السيطرة عليها عاد ليلتفت إليها واضعًا زهرة الياسمين في خصلات شعرها فوق أذنها في لفتة مدللة لطيفة زادت هالتها الطفولية إشراقًا، حينها رأت والدتها قادمة نحوها، فالتفتت إليه شاكرة إياه بتهذيب، وأهدته عناقًا قصيرًا بامتنان، ثم قفزت عن المَصطبة راكضة نحو والدتها، رآها تستقبلها بقسوة خبا إثره حماسها الذي اتقد بصحبته منذ قليل، وبختها ثم جذبتها من يدها بعنف لتسير خلفها مطرقة برأسها، فشرع ينهض عن جلسته عندما لاحظ خاتمًا صغيرًا تطابق هيئته ذلك السلسال، يبدو أنها لم تلحظ سقوطه عند فتحها للغلاف، فالتقطه بلا اهتمام واضعًا إياه في جيبه، ومن ثم استكمل استكشافه المنفرد في أنحاء القرية.
لقاء عابر في حياته قد لا يذكره لاحقًا، ليس كالحال بالنسبة إليها، قد كان لها محطة لطيفة فاصلة بين النبذ والخذلان، تلك اللحظة العادية التي يُحتمل أن تكون مملة للبعض يكسوها الحرمان بثوب التميز.
***
خرجت من غرفتها حين استيقظت من نومها في منتصف الليل، والدتها تعمل في مناوبة مسائية بالمشفى، ووالدها يغيب كثيرًا ويعود بجسده فقط، في بعض الأحيان يطلب منها الذهاب إلى جارتهم لأن ضيفًا مهمًا سيأتي إليه على حد قوله، وفي أحيان أخرى ينام طويلًا ولا يفعل شيئًا سوى الاستلقاء هنا وهناك، أما شقيقها فهو يغادر المنزل دومًا للعب كرة القدم مع زملائه من الحي.
تقدمت عالية في ردهة المنزل بخطوات ناعسة، حين فوجئت بصوت والدها الذي قال دون مقدمات:
_اصعدي إلى الطابق العلوي الآن.
انتبهت الصغيرة إلى المرأة التي تقف خلفه في ثوب أسود قصير، لكنها أشاحت بوجهها عن الطفلة إلى الاتجاه المعاكس، فقالت عالية بخفوت:
_لكن جارتنا أم صلاح تنام مبكرًا يا أبي.
_انتظري على الدرج إذًا.
قالها بلا اكتراث لابنته التي ظلت واقفة أمامه قائلة بالتماس: _الجو بارد.
نظر لها بعينين ضيقتين، ثم مال قليلًا إليها بترنح هامسًا بتهديد:
_هل تعرفين ماذا سأفعل بكِ إذا أخبرتِ أمك بما رأيتِه الآن؟ أنتِ لم ترِ شيئًا.
لا تفطن إلى المشكلة ذاتها، لكنها استنبطت أنه في غير وعيه تقريبًا، فتراجعت بخطواتها لا تعلم إلى أين عليها أن تذهب الآن، لكنها أومأت برأسها نافية بخوف:
_لن أخبرها، لن أفتن.
قبل أن يرد والدها فتح عمر باب المنزل عائدًا من الخارج، فرأى ذلك المشهد الصادم، والده برفقة امراة أخرى، وأخته ترتد إلى الخلف مرتعبة منه، لم يتأثر برؤية والده في هذا الوضع، كان ناضجًا بما يكفي في سنواته الثلاث عشرة ليفهم ما يجري مع والده منذ زمن، لكن مظهر أخته المرتعد هو ما جعل شرارات الغضب تتقافز في مقلتيه، إلا إنه تقبض على يده متماسكًا، ثم نهب الخطوات إلى غرفة عالية ليأخذ معطفًا من خزانتها ثم خرج مجددًا جاذبًا إياها من كفها ليغادرا المنزل برمته.
وقف يلبسها ذلك المعطف قبل أن يصحبها إلى منزل جدهما، رن عمر الجرس بوجه محتقن، ففتح طارق الباب بعد قليل نافضًا آثار النوم عنه وهو يسأل بتعجب:
_ماذا حدث؟
دلف عمر دون رد ممسكًا بيد أخته التي شرعت أعصابها في الاسترخاء من جديد، فقال لها بهدوء:
_اذهبي للنوم بجانب جدتك.
تحركت عالية صاغرة نحو غرفة جدتها، بينما رافق عمر طارق إلى غرفة الأخير الذي بادر بسؤال يفهم الآخر مغزاه:
_هل فعل والدك شيئًا؟
أومأ عمر برأسه مؤكدًا، فلم يضف أي منهما كلمة، واكتفيا بالاستلقاء على الفراش بتعب، وكذلك فعلت عالية بغرفة جدتها، لعل النوم يساعدهم على الهروب من واقعهم التعس، أو لا يحالفهم الحظ فلا يقرب النوم جفونهم طوال الليل.. ومن يمكنه قراءة عقولهم والتعرف على همومهم، لن يصدق أبدًا أن هؤلاء في عُرف الدنيا أطفال!

صباحًا، عاد كل شيء إلى ما كان عليه، عادا إلى المنزل مع موعد نهاية مناوبة والدتهما، والدهما ظل نائمًا طوال النهار حتى بعد عودتهما من المدرسة، إلى أن حان موعد عمل والدتهما من جديد، فتجهزت الأخيرة في زي التمريض الموحد مستعدة للرحيل حين استيقظ والدهما، جسده يتحرك لكن عقله في مكان بعيد بعد أن بلغ منه المخدر مبلغه، لكن عالية التي استعادت خوف البارحة عند رؤيته اقتربت قليلًا منه لتسأل:
_أبي، قلت لي ألا أخبر أمي، لكن ماذا لو سألتني؟ قالت أمي إن الكذب حرام.
لو كان في وعيه لرد بمنطقية أن والدتها لن تسألها عن شيء إن لم تعلم عنه شيئًا، لكنه ظل صامتًامتًا يحاول فك شفرات حروفها، وما لم تحسب له الصغيرة أن تسمع والدتها كلماتها، فقد وقفت الأخيرة عند نهاية الردهة قائلة بحدة:
_لا تريدين إخباري بماذا؟ ماذا حدث؟
بدلت عالية نظراتها بين والديها بتوجس شديد، فهدرت بها والدتها مكررة:
_سألتك سؤالًا، قفي هنا أمامي وأخبريني ماذا تخفين عني؟
خرج عمر من غرفته إثر صيحة والدته متسائلًا عما يدور، وقبل أن يستفهم عن ماهية الحوار نطقت عالية بفعل رعبها من والدتها معترفة بما رأته مساء الليلة الماضية، فاهتزت عينا والدتها للحظات، ذلك ما لم تتوقع أن تسمعه، أو بالأحرى لم ترغب في سماعه.
شب شجار مشتعل في ردهة المنزل رغم عدم استعادة والدهما لوعيه بعد، شجار أفضى لمغادرة والدهما للمنزل من جديد بسخط إلى أجل غير مسمى.. لم تكن عالية في سن يسمح لعقلها بفهم الصورة الصحيحة لدائرة الأحداث، لكن شقيقها الذي وقف متابعًا للأمر منذ بدايته كان يفهم والدته جيدًا، يفهم كونها تعلم بكل شيء وتتغافل متظاهرة بالسذاجة كي لا تخرب بيتها بنفسها كما يصب الجميع كلماتهم في عقلها، يفهم أن غضبها الحالي ليس لأنها اكتشفت سرًا خطيرًا غفلت عنه، بل لأن الإفصاح بأمر كهذا أمامه أجبرها على مواجهته، فعوضًا عن النيل ممن صنع منها مغفلة سلبية، صبت جم غضبها على من جعلتها تواجه في لحظة لم تستعد لها.
وهو ما أثبتته أمه بالفعل أمام عينيه حين وصلها خبر طلاقها بعد ذلك الشجار بيومين لا أكثر، فكانت كمن انهارت حياته فوق رأسه بغتة، لم تستطع التفكير وأعماها الحنق، لم تتمكن من النيل من المجرم الحقيقي فاتجهت إلى كبش الفداء، فعادت يومها إلى المنزل بعينين يتراقص بهما لهيب الغضب، وعقب أن تنفس عمر الصعداء برحيل والده عن المنزل بعد سنوات من العذاب النفسي الذي تخيل به كل يوم أبشع السيناريوهات التي يتصدرها بطل غير واعي قد يرتكب أي فعل شنيع بلا اكتراث لهوية الضحية، أدرك أن مصدر الرعب لا يمكن في والده فقط.
حينها كانت عالية جالسة بهدوء أمام التلفاز، فسحبتها أمها من رسغها بقوة لتقف أمامها وكأنها ندًا لها، وليس وكأنها هي من أجبرتها على التحدث، باشرت في توجيه الضربات القاسية إليها، بين كل ضربة وأخرى تصرخ "أنتِ السبب." بينما طفلتها تبكي وتستجديها أن تتركها، لا تفهم فيم أخطأت، لكنها تعتذر بذعر، وتصرخ بألم فاق تحمل جسدها الصغير، تدخل عمر صائحًا فيها لتتركها، محاولًا جذبها بعيدًا عنها لكنه لم يفلح، لم تعِ ما فعلت، ولم تنقشع تلك الغمامة عن عينيها إلا حين انقطع صراخ ابنتها أسفل يديها، وتوقفت مقاومتها الهشة ممددة أرضًا دون حراك.

نهاية الفصل الأول.
قراءة ممتعة


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:34 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.