20-12-24, 12:22 AM | #11 | ||||||||
| اقتباس:
أولًا و كالعادة..أنا من يجب أن أشكركِ على دعمكِ الدائم و تشجيعكِ لي..هذا يعني لي الكثير حقًا.. و ثانيًا..أنتظر رأيكِ بعد قراءة الفصل بشوق كبير ❤❤ | ||||||||
يوم أمس, 08:25 PM | #14 | |||||||
| الفصل الخامس ● الفصل الخامس "قبل القراءة..و بعد الاطمئنان على أحوالكم..حابة أعتذر جدًا لتأخري عن موعدنا المعتاد يومًا واحدًا..ذلكٓ كان بسبب ظرف خاص و مهم منعني من التنزيل يوم أمس.." قراءة ممتعة ❤❤ ___________________________ _يا إلهي كم اشتقت لهذه الأجواء ! كانت هذه أول جملة تنطق منذ وصولهما إلى هذا المكان الذي انتقته يوليا..تلكٓ التي ما إن ترجلت من سيارتها البيضاء الفارهة..بعد أن فاجئته للمرة الثانية اليوم و هي تطلب منه أن يذهبا بسيارتها هي.. و هو لم يكُن يستطيع أن يحدّد إن كان هذا مجرد تصرف بديهي بسبب رغبتها في المجيء إلى هذا المكان..أو أنها كانت لا تزال تشعر بالقلق من الصعود مع رجل غريب في سيارته ! مع العلم أن هذا الرجل الغريب كان هو نفسه من حملها قبل بضعة أيام بين ذراعيه و تفقد جرح خاصرتها بل و قطبه بنفسه ! رآها من مكانه بينما يدور حول مقدمة السيارة بهدوء خادع تمامًا يحتل ملامحه و خطواته و هي تغمض عينيها مستنشِقة هواء البحر المنعش للحظاتٍ من صفاء لا مثيل له.. ذلكٓ الصفاء الذي لم يعد يملكُ ميزة الشعور به للأسف..كما لم تعد رائحة يود البحر تشعره بأيّ شيءٍ ما عدا...الحسرة الشديدة و الحنين ! و رغبة قميئة..غير قميئة بأن يمتلكٓ قدرة ما تخوله نسف الحنين و اعتكاف أنامل كل من فقدهم في حياته..قبل حتى أن يفقد ابنته و زوجته ! _هل نتحرك ؟! سمع هذا الصوت الناعم يسأل من جانبه..فانتفض لوهلة قصيرة مستوعبًا كم أنه كان غارقًا في شرود أكبر حتى من شرودها قبل قليل..قبل أن يحركٓ رأسه ببطءٍ ثم يتقدم خطوة تقدمت هي الأخرى مثلها.. كانا يسيران بهدوء..جنبًا إلى جنب بشكل يدعو للاستغراب فعلًا..يدعوه هو للإستغراب فقط ربما.. فهي قد كانت تبدو هادئة تمامًا كشخصٍ لا يحمل أيّ هموم في هذا العالم.. رغم أنه أكثر من يعلم بأنها ليست شخصًا من هذا النوع ! تلكٓ المرأة التي هرعت إلى منزل يقبع في ضفاف المدينة قبل بضعة أيام..بأثر دموع عالق واضح في عينيها..و جرح في خاصرتها لم تنتبه له حتى بغض النظر عن طبيعة مرضها.. لا يمكنها أن تكون هي نفسها..تلكٓ التي تظهرها تعابيرها المرتاحة الآن ! كان المكان ساحرًا بالفعل..و هو قد عجز عن عدم الاعتراف بهذا رغم الارتعاشة التي لامست عينيه تلقائيًا و ارتجفت بها رموشه بمجرد تقدمهما تلكٓ الخطوات و إلقاءه لأول نظرة حقيقية على...البحر ! كان هناكٓ في كل مكان حولهما..باعة متجولين.. مقاهي و مطاعم فاخرة تطل على هذه الواجهة التي...يعتبرها معظم الناس رائعة ! هناكٓ أشخاص أيضًا يمارسون بعض الهوايات من الركض إلى العزف في أماكن مختلفة..سياح أجانب و أشخاص يتجولون هنا و هناك بدون أيّ هدف سوى الاستمتاع بعيدًا عن ضوضاء الحياة.. كان يدسّ يديه في جيبي بنطاله الجينز الأسود طوال الوقت..ينظر بعيدًا متجولًا بين تلكٓ الأجواء التي أفصحت عن اشتياقها إليها تلقائيًا قبل قليل.. لكنه على عكسها كان لا يزال يرفض رمق البحر بنظرة جديدة بعد الأولى.. فظل يركز نظره أمامه فقط لدقائق لم يهتم بحساب عددها بلا هدف محدّد..هو فقط التزم الصمت و هو يقابل صمتًا مماثلًا من الدكتورة التي تعاني من مرض أغرب من طباعها ! إلّا أنه سمع صوتها يقاطع هذا الصمت مجددًا و يحتل هذا الضجيج غير المزعج من حولهما ؛ _إذًا ؟! طرف نائل برموشه ببطءٍ و هو يلتفت قليلًا برأسه بدون أن يتوقف عن السير و كأنه يحاول أن يتأكد إن كانت قد تحدثت بالفعل..و قد تأكد من هذا من طيف الابتسامة الذي قابلت نظراته المُستفسرة به.. إلّا أنه اضطر لأن يتوقف حينما توقفت يوليا فجأة.. نظرت له بجدية سائلة ؛ _ألا تريد أن تقول أيّ شيء ؟! لفحة من غباء اكتسحت عينيه و هو ينظر لها للحظة بتشوش..ثم لم يشعر بالسؤال الذي خرج من بين شفتيه محملًا بشعوره ؛ _ماذا أقول ؟!! الآن كان دور يوليا لتنظر له ببعض الدهشة..بدت و كأنها تلقي عليه بعينيها سؤالًا وجيهًا..إن كان لا يريد أن يقول أيّ شيء بالفعل ؟! _أقصد...عن الموضوع الذي كنت تتحدث به في المقهى ! سألت بتشوش مماثل نسبيًا لخاصته..إلًا أنه على عكس ما أراد..عجز عن إجابتها فورًا عن هذا..حيال الموضوع الذي تحدثا به في المقهى..ألم يقل كل شيءٍ بالفعل ؟ ماذا سيقول بعد ؟!! وجد نفسه يقول بصوتٍ متحشرج مشوب بأفكاره تلك و بشعوره الغريب ذاك الذي اعتراه في..التحدث أكثر فعلًا ! _أيّ نوع من الأطباء أنتِ فعلًا ؟! دهشة طفيفة احتلت ملامح يوليا بسماع هذا السؤال الغريب..و الذي لا يحمل حتى أيّ منطقية للرد عليه.. ثم سرعان ما كان يحدث آخر شيء توقعه..فقد ارتسمت ابتسامة يائسة قليلًا في عينيها.. ابتسامة سقطت أنظاره عليها الآن فعلًا..حينما همست ترفع حاجبيها ببساطة ؛ _أنت تجعلني أشعر بأنني إنسانة غريبة الأطوار فعلًا بإلقاء أسئلة كهذه! أو لستِ غريبة الأطوار فعلًا ؟ أيّ إنسانة مجنونة تلك قد تؤثر استنزاف وقتها و جهدها في التجول مع رجل مثله ؟!! حسنًا يستطيع أن يختار أبسط الأجوبة و أكثرها منطقية و يقول بأنها لا تزال تشعر بالامتنان لما فعله من أجلها قبل بضعة أيام ! لكن..ألا يكفي مجيئها إلى عتبة بابه بعدها بساعاتٍ بمعلومة صادمة استنكرت عدم معرفته إياها! ألا يكفي فعلًا أنه هو..نائل أحمد..قد وجد بعد كل هذا الوقت شخصًا واحدًا يحكي له عن مأساته بدون أن يشعر بالتردّد أو يشعره هو...بثقل تلكٓ المشاعر التي يصفها ! لقد كان يشعر بنفسه لأول مرة فعلًا بعد كل هذا الوقت..و بعد ماضيه الشنيع و معاناته المريرة راغبًا في..في التحدث ! رغبة لم تلامس قلبه إلّا حينما قابل هذه الإنسانة غريبة الأطوار..و تزداد حدة و إلحاحًا كارثيًا كلما نظر في عينيها ! عيناها ! كيف لم يلاحظ حتى هذه اللحظة بأنها كانت تملكُ عينين زجاجيتين ! كيف لم يلاحظ لونهما الـ... مختلف منذ أول مرة قابلها بها !! أخضر لامع يشبه الزجاج..و كأنه يطفو فوق زجاج حقيقي فعلًا..زجاج لامع إلى درجة أن يلمح انعكاسًا بائسًا له به..و هناكٓ لمعة عسلية تؤطر حوافهما ممّا يجعل انعكاسه بارزًا أكثر.. كيف لم يلاحظ إلّا الآن بأنها كانت تملكُ...غمازتين ! أو ربما فقط تجويفان بارزان قليلًا بجانب شفتيها..و يتعمق ظهورهما أكثر بعد أن تبتسم كالآن تمامًا..لقد كانت تملكُ أيضًا فكّا حادًا و بارزًا قليلًا..و هذا أمر طبيعي بالأخذ بعين الاعتبار كونها امرأة نحيفة ! لم تكن نحيفة بشكل مبالغ به جدًا..لكنها كانت نحيفة بشكل ملحوظ جدًا..امرأة نحيفة و طويلة بعينين و غمازتين و فكّ بارز رغم أنوثته الشديدة..كيف لم يلاحظ هذا رغم أنه نظر لها أكثر من مرة ؟!! مهلًا..ما الذي يهذي به الآن ؟ هل كان عليه أن يلاحظ أساسًا ؟!! تبًا !!! لم يشعر بنفسه و هو يلتفت فجأة مشيحًا بأنظاره عنها كشخصٍ تعرض للصفع ربما..و قد كان قد تعرض للصفع فعلًا..من عقله الأحمق بعد استيعابه لفداحة أفكاره ! نظرت له يوليا باستغراب مبرّر تمامًا..استغراب زادت وطأته و تحول لنظرة مشوبة ببعض...الضيق! حينما دس يده في جيب معطفه و أخرج...علبة سجائر ! ضاقت عيناها قليلًا بشعور مماثل يكتسِحها كلما رأت شخصًا يدخن أمامها..أو حتى يخاطر بإيذاء نفسه و صحته بهذا الشكل الأرعن..إلّا أنها قرّرت أن تتغاظى عن أنامله التي قربت السيجارة من فمه تزامنًا مع الأخرى التي ارتفعت توقد النار بطرفها الحر.. كان نائل قد تحرك فعلًا مستأنفًا السير..فزمت فمها قليلًا بشعور من عدم الارتياح و هي تسايره محاولة بكل طاقة لديها أن تنظر بعيدًا عن هذا المنظر المزعج...جدًا ! إلّا أنه و ما كاد أن يأخذ الرشفة الثانية خالقًا موجة من الدخان أمامهما..حتى كانت ترفع يدها إلى فمها حيث تحرّرت سعلتان متتاليتان لم تملك أمر التحكم بهما مهما حاولت.. لكن ما أرسل شعورًا حقيقيًا من الضيق إليها..كان النظرة التي رمقها بها نائل و هو يتوقف فجأة مسقطًا يده التي تحمل السيجارة جانبًا..دهشة حقيقية نظر لها بها ! دهشة استطاعت يوليا بطريقة ما أن تتكهن بسببها تلقائيًا..فانعقد حاجباها قليلًا بلفحة من استنكار طفيف و هي تتوقف مثله..ثم لم تشعر بنفسها و هي تسأل بهدوء بينما تلوح بيدها في الهواء أمام وجهها ؛ _ماذا ؟!!! شيءٌ يشبه توترًا طفيفًا لامس عيني نائل ؛ _أنتِ...ألم............ لكنه لم يستطع أن ينطق بأيّ كلمة واضحة..و لم تحتج يوليا لسماع سؤاله لكي تفهم مغزى النظرة في عينيه..قالت بنفسِ النبرة الهادئة المشوبة باستنكار ؛ _أنا لا أشعر بالألم..لكنني لست فاقدة للشعور بشكل نهائي ! شعور من الاحراج احتل عيني نائل..و لم يستطع أن يلفظ أيّ حرف للحظاتٍ..إلى أن ابتلع ريقه ببطءٍ..قبل أن يلقي بالسيجارة إلى الأرض و يدهسها تحت قدمه في حركة تتبعتها يوليا بعينيها و هي لا تزال تراقبه بحاجبيها المنعقدين و كأنها تراقب شخصًا غريب الأطوار فعلًا.. هو غريب الأطوار..لا هي ! تلكٓ المرة كان هو من يقاطع الصمت..قال يلفت انتباه عينيها مجددًا آخر شيءٍ توقعت سماعه ؛ _هل يمكنكِ أن تتحدثي عنه أكثر ؟! الآن ازدادت تلكٓ العقدة بين حاجبيها بروزًا..بينما بهتت نظرة عينيها قليلًا و هي تسأله بصوتٍ تحشرج فجأة ؛ _عـن...ماذا ؟!! كانت تعرف الجواب مسبقًا..لكنها بطريقة ما أرادت فقط أن تتأكد من أن هناكٓ شخص ما بالفعل يطلب منها الآن أن تتحدث معه عن...أكبر معضلة تمتلكها في حياتها..عن مرضها ! لقد سمعت هذا السؤال من قبل لمراتٍ لا تعد فعلًا.. سمعته تقريبًا من جميع الأشخاص الذين تعرفت عليهم في حياتها خارج إطار عائلتها..و أسيل التي تعتبرها جزءًا لا يتجزأ من عائلتها.. كل شخص عرفها كان لا بد له من أن يلقي عليها هذا السؤال..لكنها و لأول مرة تشعر بأن هناكٓ شخص ما لا يسألها فقط بدافع الفضول ! لقد ألقى سؤاله بجدية حقيقية فعلًا..و كأن ما يحركه فقط رغبة ربما في... عدم الوقوع في خطأ محرج جديد أمامها ! _مرضكِ ! قال مباشرة يجيب سؤالها بثباتٍ..و لم يكن يحتاج لأكثر من هذا الرد كي يجعل ملامحها تشحب قليلًا.. بشكل ملحوظ رغم ذلك ككُل مرة تأتي فيها أو يأتي أحدهم على سيرة مرضها أمامها.. قبل أن تبتلع ريقها ببطءٍ..ثم قالت تهز رأسها بصوتٍ متحشرج قليلًا يشبه نظرتها في شحوبه ؛ _مـ...ماذا سأقول ؟ غير الذي تعرفه أساسًا ! و جاءها الرد فوريًا بنفس النبرة السابقة التي حملت الآن إصرارًا في المعرفة ؛ _قولي أيّ شيءٍ.. صمت لوهلة واحدة ينظر في عينيها حيث ظهرت نظرة تشبه...العجز عن الفهم ! ثم وجد نفسه يسأل بدون أن يشعر بنبرة تلعثمت بعض الشيء ؛ _هل..إذا رفعت يدي الآن و صفعتكِ..ستشعرين بأيّ شيء ؟! تراجعت يوليا قليلًا برأسها رافعة حاجبًا واحدًا بما يشبه الـ..استنكار ! و عاد طيف الابتسامة الـ...جذاب ليرتسم في عينيها و هي تسأل بغباء ؛ _هل تريد أن تصفعني ؟!! الآن كان وائل من يتراجع قليلًا مجفلًا ؛ _إنه مجرد سؤال فحسب ! غضب طفيف لامس ملامحه بعدها و هو يغلق قبضته المغرقة في جيب معطفه..لكنه رغم ذلكٓ ظل يقف في نفس المكان..بجانبها..أمامها.. ينتظر إجابتها بينما هناكٓ أعداد هائلة من الناس و الأصوات تتجول حولهما..إلى أن قالت يوليا بعد لحظاتٍ طويلة..بنبرة خرجت لأول مرة فارغة لهذا الحد ؛ _لا شيء ! غالبًا...لن أشعر بأيّ شيء ! صوتها أخرجه من شروده..و علم بأن ما قالته الآن كان بمثابة إجابة على سؤاله..هل ستشعر بأيّ شيء إذا صفعها أحدهم ؟! ضغط على فكه قليلًا و كأنه يحاول أن يكتم سؤالًا جديدًا..إلّا أنه عجز في النهاية فلم يشعر للمرة الثانية بالكلمات إلّا و هي تتسرب من بين شفتيه ؛ _هل تقصدين بـلا شيء...لا شيء -حرفيًا- ؟!! كان ينطق كل حرف بتردّد..لا يستبعد أبدًا أن تقرّر فجأة الالتفات عنه و الرحيل..رغم أنها حرفيًا كانت قد عاشت نفس الدور معه..بحيث هي من يلقي الأسئلة و هو يجيب بـشكل غريب ! إلّا أنها عكس ما توقع..بدت متقبلة لأسئلته أكثر من تقبله السابق لأسئلتها ربما..لكن ما لم يستطع أن يجد له تفسيرًا فعلًا..هو شعور الشفقة الغريب الذي احتل قلبه من الفراغ.. و هو يراها تهز رأسها بالنفي بهدوء..قبل أن تهمس بخفوتٍ ؛ _باستثناء أن هناكٓ جسمًا صلبًا قد اصطدم بوجنتي.. فلا شيء...حرفيًا ! أومأ نائل ببطءٍ..قبل أن يلتفت مجددًا يهم بالسير خطوتين جديدتين..إلًا أن يوليا ظلت واقفة مكانها و كأنها كانت تنتظر أن تسمع منه أسئلة أكثر..و هذا ما حدث بالفعل.. فقد عاد يتوقف فجأة ناظرًا أمامه للحظة..مستوعبًا بأنها لم تسايره هذه المرة في المشي..التفت إليها ببطءٍ لينظر في عينيها بعينيه المحملتين بقائمة طويلة عريضة من الأسئلة فعلًا.. أسئلة أجبر نفسه بالكاد على كتمها..و قد كان على وشكِ أن ينجح..لولا أن سمع صوتها الخافت..و الهادئ لأقصى حد..هادئ بطريقة...حزينة ! يهمس محفزًا ؛ _يمكنكٓ أن تسأل ما تريده ! و كأنها قد ألقت جملة عكسية..تفاقم التردًد في نظرات نائل لها..كما تفاقم ذلكٓ الشعور الغريب..شعور إنساني محض بالدهشة و الفضول و...الشفقة نحو إنسانة تعاني من مرض غريب !! فتح فمه و كأنه سيقول شيئًا ما..على الأرجح ينفي عنه تهمة الفضول تلك و يطلب منها الاتمام فقط في السير بلا وجهة..إلًا أنه تراجع في نفس اللحظة..قبل أن يعود نفس الخطوتين اللتين ابتعدهما.. و تراجعت يوليا معه بعينيها فقط..حينما همس و هو ينظر في جوف تلكٓ العينين..يقابل انعكاسه مجددًا..و تلكٓ اللمعة الحزينة..ذات البأس الشديد بهما ! _حسنًا..ماذا عن الطقس ؟ هل تشعرين به ؟!! كان قد رمق المكان حيث يقفان بنظرة عابرة..و كأنه يشير لها إلى برودة الطقس مقارنة مع أنها لا ترتدي أشياء ثقيلة اليوم..لكنه شعر بفداحة سؤاله مجددًا بمجرد أن نطقه.. أيّ إنسان هو ؟! هل يسأل امرأة فاقدة للشعور بالألم إن كانت تستطيع كسائر الناس أن تشعر بالبرد ! إذا كانت هي حصرًا لا تشبه سائر الناس !!! علم بأن كل أفكاره لم تكن في محلها تمامًا و هو يسقط أنظاره..للمرة الثالثة اليوم على...طيف ابتسامة جديد..ألا تتوقف هذه الإنسانة عن الابتسام أبدًا ؟ إن كان ما يراه الآن فعلًا ابتسامة ! فهي كانت تبدو و كأنها مجرد تعبير غريب عن شعور كامن بـ...بالسخرية ! و التفهم في نفسِ الوقت !!! إلى أن همست بنبرة هادئة جدًا..تشبه ابتسامتها إلى أقصى حد ! _أشعر بالغرابة فعلًا للاعتراف بأنني محظوظة كفاية لأحسّ به ! مهلًا..تشعر بالغرابة لأجل ماذا ؟ لأنها تستطيع الشعور بالطقس !!! همس كشخصٍ منوم مغناطيسيًا برغبة واحدة فقط.. أن يسمع عن هذا المرض الغريب أكثر..و هو لا يحبذ حتمًا فكرة البحث عنه في الأنترنت..يريد أن يسمع منها هي حصرًا! _هل تقصِدين بأن هناكٓ أشخاص لا يشعرون به فعلًا ؟! سأل باهتمام و هو يعقد حاجبيه ليس غضبًا هذه المرة بل فقط...حيرة ! إلّا أنه لم يتوقع الجواب الذي جاءه فوري و مباشر ؛ _هل تظن بأنني الإنسانة الوحيدة المُصابة بمرض غريب في العالم ؟! أو بأن مرضًا غريبًا كهذا قد يمتلكُ نفس الخاصّيات و الأعراض عند مجموعة الأشخاص المصابين به و الذين يكاد عددهم أن لا يتجاوز المئة في كل العالم ؟!! حاصرته يوليا بهذا السؤال الذي خرج في نفس اللحظة و بنفسِ طريقته..فتسمر تمامًا غير قادر على السؤال أكثر بعد..حتى أن الأسئلة التي كانت تحتل عقله منذ قليل قد اختفت تمامًا.. و بدلاً عن ذلكٓ وجد نفسه يزفر نفسًا خافتًا كان يكتمه منذ ثوان و هو يرمق المكان الذي بدأ يظلم من حولهما قبيل غروب الشمس..مستوعبًا للتو بأن صدى الخطوات و الضجيج قد بدأ يصبح أقل وقعًا و عددًا مع ازدياد الجو برودة من حولهما.. قبل أن يسمع صوتها تستأنف بجدية..تنقذه من موقفه قبل قليل و تعيد إحياء نفس الأسئلة التي تحتاج إلى أجوبة ملحة في ذهنه..لولا أنها بطريقة غريبة..قرّرت أن تجيب الأسئلة من تلقاء نفسها ! _حينما علمت لأول مرة بأنني مصابة بهذا المرض.. شعرت بالغرابة الشديدة..مثل التي تحتل ملامحكٓ الآن مثلًا !! و مثل التي تحتل ملامح كل شخصٍ يسمع به لأول مرة !! لم يفهم نائل إن كانت نبرتها إليه الآن قد حملت لفحة من الاتهام أو لا..إلًا أنه في جميع الأحوال قرّر أن يبقي على الصمت منتظرًا تتمة كلامها الذي يعلم بأنه لا يزال ناقصًا.. و قد فعلت..أكملت بنبرة هادئة بشكل خادع فقط و هي تقابل عينيه بغير تردّد أو شعور دخيل بالخجل من شيءٍ لا تملكُ أمره بيدها ! _غير أنها كانت أقوى و أشد وطأة و قسوة بكثير ! رمقت المكان حولهما بنظرة خاطفة تشبه نظرته قبل قليل..قبل أن تستأنف بنفسِ النبرة المشوبة فقط بـ... الاقرار ! _لقد كرهت نفسي لوقتٍ طويل..شعرت بأنني مختلفة تمامًا عن كل الناس..لن أبالغ حتى لو أخبرتكٓ بأنني أمضيت كل سنوات طفولتي و أنا أحاول أن أجد إجابة لسؤال واحد..لماذا أنا مختلفة عن الناس إلى هذا الحد ؟! لماذا أنا بالذات ؟!! لقد كنت أحاول باستماتة البحث عن الألم..تظاهرت أحيانًا بالشعور به فعلًا فقط كي لا أبدو أشد غرابة ممّا أنا عليه بالفعل.. لقد وصلت إلى حد حتى أنني أصبحت أشعر بأنني ملعونة ربما بلعنة ما..لعنة غريبة..تمنيت الموت لمراتٍ لا تعد..لكنه دائمًا ظل بعيدًا عن متناول يدي..و هذا ليس بسبب خوفي منه..بل بسبب والداي و حرص والداي الهستيري على حمايتي...لكن احزر ماذا ؟! كانت تتحدث بانطلاق غريب..و كأنها كلمات تنطقها كل يوم..ليس و كأن الرجل الذي يقف أمامها الآن هو شخص غريب فعلًا..غريب حرفيًا..بل و كأنه نفس الرجل الذي حملها بين يديه..اعتنى بإصابتها.. و شعرت بأنه مألوف جدًا من أول نظرة تمنحها له ! ترقب حقيقي ظهر في عيني نائل فقط..بينما ظلت ملامحه ثابثة..صامدة..حادة كما العادة..حينما أكملت يوليا بما بدا و كأنه...سخرية ! _في منتصف ذلكٓ الحرص..و مع كل ذلكٓ الهوس الذي تعودت عليه حينها لحمايتي..تذوقت طعم الموت ذات ليلة...و كدت أن أموت فعلًا ! صمتت أخيرًا تبتلع ريقها حينما قابلت تلكٓ النظرة في عينيه..نظرة شخص كان ينصِت لها بتمعن طيلة الوقت..و ليست هذه هي المفارقة فعلًا..بل كونه لا يزال حتى اللحظة ينتظرها أن تستأنف ! لقد كان ينتظرها أن تستأنف فعلًا شرح قصتها ليس و كأنها قد فعلت للتو معه شيئًا لا تفعله كل يوم ! أن تتحدث بمثل هذه الاستفاضة عن ماضيها..أن تسهب في وصف شعور يخصّها هي فقط..لشخص لم يتوانى و لا يزال لا يتوانى عن الانصات لكلماتها! لكنها شعرت بنفسها و كأنها قد تمادت في التحدث.. فطرفت برموشها ببطءٍ..و استغرقت لحظة واحدة أخرى في النظر له..قبل أن تقرّر الالتفات و إتمام طريقها فقط...ببديهية كاذبة ! لكنه فعل شيئًا لم تتوقعه إطلاقًا..لقد مد يده ليقبض بها على مرفقها فجأة..فتجمدت لوهلة تنظر أمامها بحاجبين منعقدين دهشة ؟ لا..فقط...حيرة حيال إن كان قد فعل تلكٓ الحركة أو لا ! أسقطت أنظارها ببطءٍ لترمق مرفقها المثني بحيث كانت تتمسكُ بأناملها بحزام حقيبتها البيضاء..و قد كانت يده هناك فعلًا..كان يقبض على مرفقها بغير تردّد أو رغبة في إزاحة يده إلّا بعد أن تنظر له ! و هذا ما فعلته..رفعت عينيها ببطءٍ إلى عينيه..لكنه لم يترك مرفقها رغم ذلك..و بدا لها فعلًا و كأنه لا يستوعب جيدًا حركته تلك..حينما قال بجدية و هو ينقل عينيه بين عينيها ؛ _أنتِ لم تكملي كلامكِ بعد ! ماذا حدث في تلكٓ الليلة ؟! لوهلة عجزت يوليا عن فهم مغزى سؤاله أو النظرة في عينيه أو حتى أنامله المُلتفة حول مرفقها بجرأة غريبة بالنسبة إليها فقط لكنها بشكل ما.. تليق بهذا الرجل الذي يبدو و كأنه خارج عن حدود كل القوانين المجتمعية المعهودة ! كرجل عزل نفسه عن الناس و قرّر تكوين عالمه الخاص..بقوانينه و أسُسه الخاصة ! بعيدًا عن الجميع..و هي تقصد بالجميع حتمًا...الجميع حرفيًا! إنها تستبعد حتى أن يكون لديه شخص واحد في هذه الحياة يستطيع أن يمسكٓ بيده و يلقي بهمومه على حجره ! إنها حتى تستبعد أن يكون هناكٓ شخص واحد في هذه الحياة قد زار ذلكٓ المنزل المنفي قبلها ! تنهيدة بلا صوت حرّرتها حرّرتها..ثم سرعان ما كانت ترفع يدها بهدوء لـ...تلمس بها يده ! للمرة الثانية حرفيًا..تلمس يده التي تمنت أن تلمسها حتى قبل دقائق لتخلصها من ارتجافتها تلك..و قد لمستها الآن..لكن ليس بالطريقة التي تمنت إطلاقًا! فقد كانت غايتها الوحيدة الآن أن تحرًر مرفقها منها.. لمست تلكٓ الأنامل المرتعشة بهدوء لتسقطها بنفس الهدوء..قبل أن تهمس بنبرة بدت بعيدة عن أيّ انفعال لكنها رغم ذلكٓ حملت شيئًا يشبه..التحذير ! _هل يمكن أن تكون هذه هي المرة الأخيرة التي تتكرّر فيها مثل هذه الحركة ؟! لمحة من إدراك احتلت عيني نائل..قبل أن يغلق قبضته حول نفسها..ثم قال يشيح بعينيه عنها بنبرة شابها إحراج واضح ؛ _أنا...أعتذر..لقد كانت حركة مندفعة لم أخطّط لها.. لكن و لدهشته الشديدة..فقد قالت يوليا تهز رأسها رأسها بتفهم ؛ _أعلم هذا.. نظر لها نائل بعدم فهم للحظة..قبل أن يرفع رأسه و فعلت يوليا نفس الحركة حينما شعرت بنسمات دافئة تتخلل شعرها من السماء التي بدأ يتحول لونها المشرق إلى بنفسجي تدريجيًا.. نظرت حولها مستوعبة بأن الظلام قد حل فعلًا..و إن كان لا يزال هناكٓ الكثير من الأشخاص يتجولون هنا و هناك أو يجلسون في المقاعد العامة المتاحة على الرصيف الحجري المطل على البحر مباشرة.. قبل أن تنظر له مجددًا مردفة بنبرة أصبحت أكثر هدوءًا الآن ؛ _لكنني لا أريد التحدث عن هذا الموضوع بعد ! شيءٌ من...إحباط غريب ؟ ميزته في عينيه فقط.. لكنه رغم ذلكٓ اكتفى بأن أومأ برأسه بهدوء ؛ _أحترم هذا ! ثم زم فمه بقوة و هو يشيح بعينيه جانبًا كشخص يحاول أن يقمع جملة أو سؤالًا آخر يود التحرر..إلًا أن يوليا لمحت تلكٓ المحاولات..فقالت سائلة بهدوء ؛ _تريد أن تسأل شيئًا ؟!! نظر لها نائل شبه مجفلًا لوهلة..و بان بعض التردّد في عينيه..إلى أن قال في النهاية مستسلمًا بجدية ؛ _أردت أن أسأل...إذا كنت تقصدين بعدم التحدث اليوم فقط أو بشكل عام ؟!! ذهول حقيقي احتل عيني يوليا إزاء هذا السؤال بالذات..لماذا يبدو مهتمًا بسماع تتمة قصتها لهذا الحد ؟!! لماذا أساسًا قرر المجيء إلى ذلكٓ المقهى اليوم بأمل السؤال عنها و لقاءها !!! همست ترسم شبح ابتسامة صغير ما خطر لها فعلًا ؛ _لماذا أنت مهتم بسماع التتمة إلى هذا الحد ؟!! فاجئته تمامًا بهذا السؤال..و ظهر هذا التفاجئ في عينيه اللتين اتسعتا قليلًا بشيءٍ يشبه الاستنكار..ثم قال مباشرة ينفي بسرعة كمن ينفي عن نفسه تهمة شنيعة ؛ _ليس اهتمامًا !!! _ما هو إذن ؟!! داهمته يوليا بهذا السؤال في نفس اللحظة و بنفس السرعة..فتجمد نائل تمامًا فاغر الفاه بشكل كان ليبدو مضحكًا في موقف آخر.. محاولات عديدة للتحدث باءت بالفشل..ثم وجد نفسه في النهاية يزفر نفسًا بائسًا قال بعده و هو يشيح بعينيه عنها ببعض التوتر ؛ _لا شيء..لا شيء على الإطلاق.. نفس الحركة قامت بها يوليا..فقد تحركت شفاهها و كأنها ستلقي عليه سؤالًا جديدًا..أو نفس السؤال..إلّا أنها بدلًا عن ذلكٓ كانت تتراجع في آخر لحظة.. فصمتت قليلًا تراقب الأفق البنفسجي برفقته..قبل أن تهمس مجيبة سؤاله الأول بخفوتٍ ؛ _اليوم فقط بالطبع ! نظر لها نائل بتشوش..فقالت شارحة بخفوتٍ ؛ _لقد كنت أقصد...اليوم فقط..لا أريد التحدث عن الموضوع ! إيماءة أخرى منحها لها نائل..لكن عقله تاه في مجموعة أفكار متضاربة..ماذا تقصد بكونها لا تريد التحدث عن الموضوع اليوم فقط ؟ هل هذا يعني بأنها تخطط فعلًا للقاءات مستقبلية لهما ؟!! لقد بدا الأمر و كأنها تمنحه وعدًا صريحًا بأنها ستخبره في يوم ما..في يوم آخر لكن ليس اليوم !! مهلًا..ما الذي يهذي به مجددًا ؟!! لماذا لا تكون قد تحدثت بعفوية فقط ! رمقها بطرف عينه فوقعت أنظاره مباشرة على تلكٓ النظرة المتلكأة التي كانت تنقلها بينه و بين المنظر أمامهما..لكنها أشاحت بعينيها نهائيًا ناظرة أمامها ما إن استدار إليها.. _الآن أنتِ من تريدين إلقاء سؤال ما !! هل كان يتوقع منها أن تماطل أو ترفض فقط بتردّد ؟ قالت بعفوية تامة و كأنها كانت تنتظر تلكٓ الإشارة فقط لتتحدث ؛ _هل...تعمل ؟ أو...كنت ؟!!! نطقت آخر كلمة ببعض التوجس..بينما لم يظهر أيّ تعبير جديد على ملامح نائل و هو يجيب بخفوتٍ ؛ _شرطي..لقد كنت أشتغل في الشرطة المركزية.. كلمة واحدة علقت في ذهن يوليا..كانت نفس الكلمة التي نطقتها على شكل سؤال قبل قليل..همست و هي تعكف حاجبيها قليلًا بتوجس ؛ _و الآن ؟!! و على عكس توقعها..فقد أجابها نائل فعلًا بنفس النبرة و هو يعود لينظر أمامه بلا هدف محدّد ؛ _غالبًا...لقد اضطررت لتقديم استقالتي بعد أن ارتكبت خطأ فادحًا في حق زميل لي........ صمت مجددًا ينظر أمامه بشرود..بينما حاولت يوليا أن تكتفي بهذا الرد إلى الآن..لكنها وجدت نفسها بعد أقل من ثانية تسأل فجأة..و قد بدأت تمنحه العذر فعلًا على فضوله قبل قليل! _ماذا فعلت ؟!!! نطقت بهذا السؤال غير متوقعة أن تسمع جوابًا عليه..إلّا أنها اضطرت لأن ترفع أنظارها إلى عيني نائل مجددًا..حينما نظر لها مجيبًا بجفاء ؛ _أطلقت النار عليه بالخطأ في منتصف مهمة ! اتسعت عيناها بما يفوق الصدمة و هي تنقلهما بين خاصتيه و كأنها تطلب منه أن يؤكد مزاحه رغم أنها كانت تعلم منذ البداية بأنه رجل بعيد كل البعد عن المزاح.. إلّا أن نائل أكد بخفوتٍ و هو يحرّر تنهيدة جديدة لا صوت لها.. _لم تكن إصابة بليغة..لقد أصيب في كتفه الأيمن.. بعدها تم إيكالي إلى المحكمة..و تفاجأت بأنه قد تنازل عن تقديم أيّ دعوة ضدي..بل و أدلى بشهادة يؤكد بها أن ما حدث لم يكن سِوى حادثًا غير مقصود من كلانا.. تلكأت يوليا قليلًا حينما قفز سؤال جديد إلى ذهنها.. لكنه ظل صامتًا تمامًا فلم تجد بدا من إلقاءه بتردّد ؛ _في هذه الحالات..أقصد...غالبًا يتم الحكم بالتسريح من العمل لمدة جيدة ثم العودة..لماذا قدمت استقالتكٓ إذن ؟!! نظرة ذات مغزى عميق منحها لها نائل..قال على إثرها بصدق ؛ _شعرت بأنني لم أعد جديرًا بهذا العمل..خفت أن أرتكب نفس الخطأ مجددًا.. التفت إليها بالكامل فعقدت يوليا حاجبيها بما يشبهٍ شعورًا بـ...التعاطف و هي تسمعه يستأنف بصوتٍ شابه بعض الاختناق.. _لقد كنت مجرد رجل محطم بالكامل..خائر القوى و التركيز إلى درجة أنني كدت أن أرتكب أخطاء أسوء قبلها و بعدها..لكن أكبر خطأ كان في اليوم الأخير لي ببدلة الشرطة..لقد كنت أقف في المكان الذي من المفترض أن يتم إلقاء القبض فيه على مشتبه به.. لكن هل تعلمين ماذا حدث ؟ ظهرت طفلة صغيرة أمامي..كانت تختبئ تحت الطاولة بفزع..رأيت قدميها الصغيرتين بمجرد دخولي إلى المنزل المضيء بمصباح خافت..كانت صغيرة جدًا..و كانت خائفة إلى حد لا يصدق..ثم وقعت عيناي بعدها على الرجل الذي كان قد قفز من النافذة الأرضية هاربًا..كان من المفترض بي أن ألحق به مباشرة لكنني وجدت نفسي بدون أن أشعر أتجمد مكاني محدقًا بتلكٓ الطفلة..نفسها التي أطلت بتردّد من تحت الطاولة لـ...تمنحني عينيها البريئتين و المغرقتين بدموع طفولة بائسة..ثم لم أشعر بنفسي إلّا و أنا أقترب منها..إلى أن انخفضت إلى مستواها و رفعت أناملي نحوها أحثها على التمسكِ بها..لولا أنها بدت متردّدة جدًا..و قد تعلقت عيناها في حركة ضربتني في الصميم على المسدس المعلق في خاصرتي..حينها كان دوري أنا لأتجمد للحظة..كان دوري لأتخذ القرار.. بين أن أقفز الآن من النافذة لاحقًا بوالدها و بين أن أمد يدي إلى ذلكٓ المسدس فقط و أنتزعه ملقيًا به بعيدًا... وميض شفاف ظهر في عينيه..وميض يشبه وميض سخرية قاتمة مريرة..حينما همس يضيف بنبرة ذات مغزى ؛ _و لكِ أن تخمني ماذا اخترت ! لم يكُن في حاجة أبدًا للشرح أكثر..بما أنه قد اعترف للتو بأن ذلكٓ كان خطأه الأكبر و الأكثر فداحة..لم تمنحه يوليا أيّ رد..كانت فقط تحدق به بتركيز..نفسه التركيز الذي ظلت تستمع به إلى كلماته التالية التي خرجت تحمل بنفس النبرة.. _في تلكٓ اللحظة بالذات..بينما أتحدث إليها..أحملها بين ذراعاي و أهدهدها في محاولاتٍ واهية لابعاد ذلكٓ الخوف عنها..مسترجعًا في كل لحظة لي معها ذكرى لريم..لابنتي..اتخذ عقلي هذا القرار...... هز رأسه و كأنه ينفي شيئًا ما مردفًا بصوتٍ حاسم ؛ _علمت بأنني لم أعد أصلح بعد لذلكٓ العمل ! صمت تام ساد بعد هذه الكلمات منه..صمت معبر جدًا..حزين جدًا و باعث للتوتر..إلى أن نظر لها مجددًا..نظر في عينيها تمامًا الآن..و فعل شيئًا لم تتوقعه.. رفع يده المُرتجفة أمام وجهها سائلًا بنبرة علمت بأنها لن تنساها ما حيت! _هل تظنين بأن هذه اليد التي لا تنفكّ ترتجف بين كل دقيقة و أخرى قد تكون جديرة بحمل السلاح بعد ؟!! ارتجفت شفاه يوليا و عيناها تتسمران على أنامله المرتجفة للحظاتٍ..و اهتزت عيناها و أناملها مجددًا بنفسِ الرغبة..فأطبقت يدها بقوة.. عالمة بأنها واحدة من تلكٓ اللحظات التي يتكبد فيها الانسان انفعالًا داخليًا قاسيًا جدًا..إلى درجة أن يفقد القدرة حتى على كتمه بداخله إلا و تظهر أماراته في أمارات كهذه.. قالت غير قادرة على التحكم بنفسِها ؛ _ألم تجرب أن تنال أيّ علاج نفسي لها ؟! و قد تفهمت نظرة الاستنكار الطفيف التي ظهرت في عينيه..و صوته الذي خرج بنبرة جادة جدًا ؛ _هل أبدو لكِ كرجل يحتاج إلى علاج نفسي ؟!! ها هو ذا ذلكٓ الجانب الآخر قد بدأ يتلبسه مجددًا ! ذلكٓ الجانب الذي رأته مرة واحدة حينما وقفت أمام منزله قبل أيام تخبره عن حقيقة وفاة ابنته ! تحركت شفاهها و كأنها ستقول شيئًا ما..غالبًا تنفي به نظرة الاتهام شبه الظاهرة في عينيه..إلًا أنها لم تستطع أن تتحدث فورًا و يبدو أن نائل استغل تلكٓ الفرصة في الاستئناف بنبرة استنكار واضح الآن ؛ _أنا لست رجلًا مجنونًا آنسة يوليا......... _نادني يوليا فقط !! _مستحيل !!! لم تشعر يوليا بنفسها و هي تقاطعه في نفس اللحظة..و بنفسِ الطريقة لم يشعر نائل بنفسه و هو يرد في نفس اللحظة بتلكٓ الكلمة..فشحبت نظرة عينيها قليلًا..و ابتلعت ريقها هامسة بخفوتٍ ؛ _كما تريد !! ثم طرفت برموشها و هي تبعد عينيها عن مستوى نظره بغير ارتياح..بينما بدا نائل و كأنه يحاول بشدة أن يكتم سؤالًا جديدًا..ليس سؤالًا بقدر ما هو تعبير شفاف عن شعوره الآن.. _هل تذوقتِ طعم الفقد من قبل حتى ؟ طعم الفقد الحقيقي..أن تستيقظي ذات صباح فتجدي عالمكِ الذي كان ممتلئًا حتى الأمس بالضحكات و قد غرق في صمتٍ قاتم ؟!! و كأنه قد صفعها..بهتت ملامح يوليا أكثر..و عجزت تمامًا عن إجابته بكلمة واحدة..رغم أن الإجابة كانت مألوفة في عقلها.. هل تذوقت طعم الفقد من قبل ؟! هل هناكٓ في العالم بأكمله طعم أشد مرارة على قلب الانسان من طعم فقدان المرء لنفسِه ؟!! لهويته.. لكيانه..أن يقف أمام المرآة و لا يرى انعكاسه !! بينما هز نائل رأسه بما يشبه الـ...أسف ! قبل أن يردف بنبرة طعنتها في الصّميم فقط لأنها لم تتمكن من أن تجيب سؤاله السابق.. _قطعًا لم تتذوقيه قط ! شعر بالندم يجتاحه في نفس اللحظة و هو يرى تلكٓ اللمعة التي احتلت عينيها عميقًا..كيف ابتلعت ريقها ببطءٍ و هي تزم فمها قليلًا كشخصٍ يكابد شعورًا مشابهًا من الندم لأنها سألته.. و ربما لأنها كانت هي من اقترحت عليه التنزه بهذا الشكل ! تراها ندمت فعلًا ! إن كانت أجوبته ستكون بهذا الشكل المؤذي على سؤال عابر طرحته بدافع الانسانية ليس إلًا ! إلّا أنها في النهاية..اكتفت بأن أومأت برأسها ببطء.. على شيءٍ مجهول غالبًا..قبل أن ترغم شفتيها على رسم طيف ابتسامة لم يصل إلى عينيها الزجاجيتن.. الشفافتين بتلكٓ النظرة بهما.. ثم همست بـ...بساطة فقط ! _أنا...غالبًا عليّ الذهاب الآن..إذا كنت تريد أن أقلكٓ معي إلى المكان حيث تركت سيارتك... ! لم تنتظر رده بعدها..تجاوزته متجهة إلى سيارتها بخطواتٍ حازمة..بينما تجمد نائل للحظة ينظر أمامه بملامح غير مفسرة التعابير..قبل أن يلتفت هو الآخر مقتربًا من نفس المكان.. كانت يوليا قد اتخذت مقعدها فعلًا..و قد همّت بتشغيل السيارة حينما فتح هو الباب الآخر مستقلًا مكانه بجانبها..لكنه لم ينظر صوبها و لا هي فعلت.. فقد زم فمه بقوة و هو يراقب حركة الشارع ما إن تحركت السيارة بـ...رغبة غير مطوعة في الاعتذار ! لكنه لم يستطع الاعتذار رغم ذلك..خاصة و قد انتشر صمت تام من طرفها..و في اللحظة التي فتح فمه متخذًا قرار التحدث أخيرًا..قاطعه صوتها الذي خرج بهدوء تزامنًا مع توقف السيارة ؛ _لقد وصلنا.. نظر لها نائل مجفلًا للحظة..إلّا أن يوليا أبقت أنظارها موجهة إلى النافذة الملاصِقة لمقعدها..مد يده إلى المقبض و كأنه سيفتح الباب بصمت..إلّا أنه وجد نفسه في اللحظة التي تسبق فتحه له يتراجع.. _اسمعي ! قال فجأة بما جعل حواسها تتنبه مجددًا..التفتت إليه يوليا لتمنحه نظرة خالية..فقال بتردّد ؛ _أظن بأنها...كانت نزهة جيدة..شكرًا لك.. نظرت له يوليا بعقدة ذهول طفيف بين حاجبيها..إلًا أنه فقط اكتفى بأن منحها نظرة أخرى..ثم التفت يهم بفتح الباب فعلًا..و تلكٓ المرة نجح بفتحه..لكنه لم يستطع النزول فقد أوقفه صوتها ؛ _في الحقيقة أردت أن أسأل......... التفت إليها نائل ناظرًا لها باهتمام..فقالت بتلكئ ؛ _هل...سنلتقي مجددًا ؟!! كانت تعلم بأنه كان يكذب بوصفه السابق.. " نزهة جيدة ! " و الحقيقة أنها كانت نزهة كارثية بكل ما تحمله الكلمة من معنى..كما استطاع أن يعلم بطريقة ما خلفية سؤالها هذا..و الحقيقة أنه لم يكن سؤالًا بقدر ما كان اقتراحًا.. " لنلتقي مجددًا ؟! " قال يجيبها بكل صدق و بما خطر في باله الآن و خطر في باله قبل دقائق في خضام سردها لقصتها الـ...الأشد بؤسًا من خاصته ! _ربما غدًا...في نفس المكان ؟!! لوهلة عجزت يوليا عن تمييز إن كان يقصد المقهى حيث يقفان الآن أمام واجهته أو بجانب البحر..لكن عقلها أرجح الخيار الثاني..و لم تحاول أن تمنع نفسها أبدًا من السؤال مجددًا بخفوتٍ ؛ _هل...لديكٓ رقم هاتف ؟!! حسنًا..لقد كان سؤالًا غير عاديًا حينما تطلبه امرأة من رجل..لكنها لم تستطع أن تكتم رغبتها في طرحه مهما حاولت..كما أنها تجد في نفسها رغبات غريبة و مزعجة لم تختبرها قبل مقابلة هذا الرجل يومًا.. _لا أمتلكُ هاتفًا !!! جاءها الرد حاسمًا و غير صادم..ماذا كانت تتوقع أساسًا من رجل يعيش بشكل دائم في منزل تحفه الجبال و السهوب الخضراء من كل صوب ؟ ماذا كانت تتوقع منه ؟!! اومأت ببطءٍ و كل ما فيها يستنفز هذا الرد..و شعرت..لوهلة شعرت و كأنه سيقول شيئًا جديدًا..إلّا أنه التفت ببساطة ليفتح الباب ثم يترجل من السيارة..و بدون أن يرمقها بنظرة أخرى..كان قد اتجه لسيارته الرمادية الغامقة ليستقلها بسرعة ثم ينطلق في لمح البصر.. ظلت يوليا متسمرة للحظة تنظر في أثره بلا هدف.. لكنها لم تلبث في النهاية أن تنهدت بخفوتٍ و هي تعيد تشغيل السيارة هي الأخرى عائدة إلى منزلها.. بينما الفكرة الوحيدة التي تدور في عقلها..هل كان يقصِد بنفس المكان المقهى أو الساحل ؟ ثم إنه قال حرفيًا...ربما ! و إن كانت هناكٓ كلمة تكرهها فعلًا فقط لكونها لا تحمل أيّ معنى فهي تلكٓ الكلمة !! ___________________________ " مرحبًا مجددًا...جارتي الجديدة! " كانت تشعر بالغضب يتأجج بداخلها بقوة..نفس الغضب الذي تمقته به..كان يتآكل بداخلها رغبة في.. في صفعه مجددًا! كيف يمكنها أن تفكر في هذا مجددًا حتى ؟!!! صمت معبر ساد بعد هذه الجملة منه..صمت مستفز.. مزعج بقدر ابتسامته التي كانت تتمنى لو تستطيع أن تهتف كذبًا بأنها لم تعد تحِبها.. و كيف فاقم من وضعها ؟ بنفسِ الطريقة الرديئة السابقة فقد وضع الهاتف بين يدي عمر الذي كان يلكزه طوال الوقت مطالبًا بحقه في التحدث إليها رغم أنه عمليّا كان ينظر لها..و كان يبعد عنها بأمتار معدودة تخولهما الاثنان التجسّس على البيت فقط لو قرّرت تركٓ النوافذ مفتوحة.. أمسك عمر الهاتف بيده الصغيرة هاتفًا بحماس ؛ _مرحى..لقد أصبح لدينا بيت جديد..و لقد أحببته أكثر من بيتنا القديم أمي..و هناكٓ طعام أيضًا لكنني لن أتناول أيّ شيءٍ حتى تنضمي إلينا....... لم تتغير تعابير أسيل أبدًا..و لم يبدو حتى بأنها تأثرت بكلام عمر..فقد قالت بجدية صارمة ما إن انتهى ؛ _هل يمكنكٓ أن تعيد الهاتف إلى والدكٓ حبيبي ؟!! بعض من خيبة الأمل اكتسح ملامح عمر..لكنه نفذ الأمر في جميع الأحوال..فوضع إياد الهاتف في أذنه سائلًا بنفسِ نبرته المستفزة ؛ _ماذا ؟ هل قرّرتِ الانضمام إلينا يا أمه ؟!! كان إياد ينظر في عينيها الآن..و قد تلاشت ابتسامته قليلًا بتعبير ذكرها لأول مرة بآخر موقف كارثي حدث بينهما.. القبلة التي تشبه إعصارًا فتكٓ بصوابها ثم...الصفعة! _سأكون معتوهة لو فكرت أن أفعل! قالت بغير تساهل أو تسامح..فتلاشت ابتسامة إياد أكثر و ظهر بدلًا عنها الآن تعبير يشبه الاصرار..بينما أضافت أسيل بنفسِ النبرة ؛ _يمكنه أن يمضي معكٓ هذه الليلة..لكنكٓ ستعيده منذ الصباح الباكر.. ثم قبل أن يتسنى له فرصة للرد..كانت تغلق الخط في وجهه مسقطة الهاتف من أذنها..ثم التفتت في نفسِ اللحظة عائدة إلى الغرفة حيث أغلقت الستائر البيضاء في وجههما.. تنهد إياد بقلة حيلة و هو ينزل الهاتف هو الآخر..قبل أن ينظر إلى نسخته الصغيرة..ذلكٓ الذي سأل بإحباط و هو ينزل قدميه من فراغاتِ السور الحديدي التي كان يتعلق بها.. _لقد رفضت أن تأتي..ماذا سنفعل الآن أبي ؟!! ابتسامة مشاكسة منحها له إياد و هو يقول بحماسٍ مفتعل ؛ _سنهرع إلى الحديقة للعب جولة طويلة جدًا من كرة القدم ثم بعدها تمامًا نتناول العشاء سويًا.. كان قد أمسكٓ بيده و هو يقوده نحو الداخل..إلّا أن عمر قال بنفس الإحباط ؛ _لكنني لا أستطيع أن أنام بدون ماما ! نظر له إياد بما يشبه العتاب سائلًا ؛ _ألا تريد أن نلعب كرة القدم بكل حرية أنا و أنت ؟!! و لم يتفاجئ من رد عمر الذي قال بعد لحظة تفكير بنبرة مشابهة ؛ _أريد..لكنني أريد أيضًا أن تكون معنا ماما ! انخفض إياد إلى أن حمله بين ذراعيه تزامنًا مع ارتفاع صوته مردفًا بتفكير مفتعل ؛ _امممم..في هذه الحالة فسآخذك إلى والدتكٓ بعد العشاء مباشرة.. _حقًا ؟! _لكن بشرط واحد ! نظر له عمر بلهفة شديدة و قد بدا مستعدًا بتنفيذ أيّ شرط سيسمعه..فاستأنف إياد مبتسِمًا بنبرة تحد ؛ _يجب عليكٓ أن تفوز في المباراة ! و كما توقع تمامًا فقد هتف ابنه بغرور سعيد ؛ _هذا أسهل شرط سمعته في حياتي.. _هكذا إذن يا سيد عمر ؟! قال يرفع حاجبًا واحدًا بجذل..فهز عمر رأسه مؤكدًا بنفس الغرور الذي هو صفة مورثة منه شخصيًا إلى طفله.. _هكذا ! إلّا أن ابتسامته تداعت قليلًا بعدها و كأنه تذكر شيئًا ما..فعقد إياد حاجبه قليلًا سائلًا باهتمام ؛ _ما الخطب ؟ رفع عمر يده ليضرب بها جبهته في حركة لطيفة جدًا و هو يقول بإحباط ؛ _لقد تركت الكرة في المنزل.. إلّا أن ملامح إياد ظلت على حالها..بل و قال بنبرة رائقة لأقصى حد و هو يضعه أخيرًا في الحديقة و يقترب من جهة معينة ما إن نظر لها عمر حتى برقت عيناه بسعادة لا تضاهى.. _هل تعتبر هذه مشكلة ؟ قال و هو ينحني ليحمل الكرة فعلًا..حينما هتف عمر بحماس ؛ _لا أصدق..هل لديكٓ واحدة إضافية ؟! ضحكة لا صوت لها حرًرها إياد و هو يتمركز أخيرًا في مقابل طفله مجيبًا أثناء ذلكٓ بحُب ؛ _يمكنني أن أشتري لكٓ مئة واحدة إضافية لو أردت.. _الشيء الوحيد الذي أريده الآن هو أن أفوز عليك! _جيد إذن.. قال إياد ببديهية..ثم قبل أن يسمح لطفله بالاستيعاب حتى كان قد ألقى بالكرة إليه فجأة هاتفًا ؛ _أمسك.. و كما توقع تمامًا فقد التقطها طفله الصغير الشقي بمهارة تلائم سنه..قبل أن يلقي بها فوق الأرض ثم تراجع خطوة واحدة و ركلها نحو والده تزامنًا مع انخفاض هذا الأخير قليلًا بجذعه في وضعية تأهب صارمة لالتقاطها.. لكن عقله حتى و هو يستمع إلى صوت ضحكة ابنه السعيدة بعد أن لم ينجح بالتقاط الكرة..أو تظاهر بأنه لم ينجح..كان لا يزال يستعيد نفس الوجه..نفس الصوت..و نفس الحوارات المُدمرة التي حدثت بينهما في آخر فترة.. و بعد دقائق طويلة..دقائق لم يهتم بحِساب عددها.. كان يقف أخيرًا بجانب السرير الأبيض القابع في... نفس الغرفة التي كانت تقف في شرفتها قبل ساعات توبخه على الهاتف قبل أن يفاجئها بحقيقة انتقاله للعيش أمام منزلهما تحديدًا.. كان يحمل الآن بين ذراعيه عمر النائم تمامًا..و قد وعده بأن يعيده إلى حضنها بعد نومه مباشرة.. انخفض بهدوء إلى أن وضعه بجانبها برفق شديد.. لكنه لم يستطع أن يستقيم مجددًا أبدًا..فقد تسمرت عيناه يتأمل تلكٓ الملامح التي اشتاق إليها..بينما عقله بخبثٍ شديد استعاد لحظات نعيمه الخاص و الذي عاشه في هذا المنزل.. تلكٓ القبلة..تلك القبلة التي لم يندم عليها أبدًا..رغم دموعها و رغم صفعتها! و رغم حركتها التي كادت أن تقتل قلبه آنذاك...هو لم يندم عليها قط ! ذلكٓ لأنه كان أكثر شخص يعرفها في الحياة..و يعلم بأنها لطالما تأثرت..و لا تزال تتأثر به بنفسِ الطريقة التي يتأثر هو بها..لا يزال يتذكر أيضًا الطريقة التي أطبقت بها عينيها بمجرد أن اخترق روحها.. كيف ارتفعت يداها تتشبث بكتفيه و هي تمنحه من أنفاسِها بدون أن تشعر ! و كيف بدت عيناها مليئتان بالضياع الشديد ما إن قابلت بهما عينيه مجددًا ! لقد كانت تتظاهر حتمًا..لطالما تظاهرت حبيبته بغير ما تشعر به ! و تلكٓ المرة كان أصل تظاهرها أن تقنعه بأنها قد تجاوزت تأثيره كليًا..بينما هي في الحقيقة لم تتجاوز أيّ شيء ! رأى ذراعها الذي تحرك تلقائيًا تضم به جسد عمر.. فرقت نظره عينيه أكثر و لم يستطع أن يمنع يده من أن تمتد ببطءٍ إلى أن لمس بها خصلاتٍ ناعمة كانت تغطي جزءًا من وجهها الجميل عنه.. أزاحها قليلًا إلى الجانب و هو يميل برأسه متأملًا إياها أكثر..يستعيد عقله ليال طويلة أمضاها برفقة هذه الملامح..يضمها إلى قلبه كما تضم طفلهما الآن.. يتذكر أيام و أشهر و سنواتٍ كانت فيها...ملكه ! يؤمن بأنه لا يزال يملكُ نفس الحق فيها حتى اليوم.. و إن حاولت لألف سنة أخرى أن تجرده من وجودها في حياته الكئيبة بدونها فلن تنجح ! ذلكٓ لأنه هو و هي لطالما كانا متصِلين برباط خفي..متين إلى درجة يصعب معها أن ينفصم من بضعة محاولاتٍ ! طرف برموشه ببطءٍ حينما لامست أنامله برقة جانب وجهها..قبل أن يقرّر أن يخفض عينيه قليلًا ليرمق بها يدها..و هناك...كما اعتاد تمامًا..رأى خاتم زواجهما.. خاتمه يلمع في بنصرها.. شبح ابتسامة ضئيل ظهر في عينيه و هو يتأمله للحظاتٍ بفيض من مشاعر متأجّجة..ثم و بدون أن يشعر..وجد نفسه ينخفض ببطءٍ إلى أن طبع شفتيه مطولًا فوق جبينها.. كانت مجرد قبلة...اشتياق عاصف..قبلة امتنان و كأنه يشكرها بها لأنها لا تزال تحافظ على أمانته العزيزة إلى جانب قلبها ضد كل المشاكل و الادعاءات الكاذبة التي رمتها في وجهه.. قبلة سرعان ما كان يفصِلها بصعوبة..قبل أن يختفي بلمح البصر بعد أن منح تلكٓ الملامح آخر نظرة..و آخر لمسة دافئة.. لكنه لم يعلم..لن يعلم أبدًا..بأن صاحبة تلكٓ الملامح كانت قد استيقظت في منتصف قبلته.. و بأنها..فتحت عينيها بعد رحيله مباشرة لتقابل الجدار الذي يعج بصُور عديدة تحمل ذكريات لذيذة في كل منها لهم هم الثلاثة..لحظات استغرقتها في تأملها بهدوء نادرًا ما عاد يعانق ملامحها بهذا العمق.. لكنها سمحت له بأن يعتكف قلبها الليلة فقط.. إلى أن تسمرت عيناها على صورة معينة..كانت صورة لهما سويًا..هي و زوجها..صورة تخصّ ليلة زفافهما التي لا تزال تتذكر تفاصيلها بعناية شديدة و كأنها مرت في الأمس فقط.. و كأن كل تلكٓ الذكريات هي جزء من روحِها تحملها معها أينما ذهبت يائسة من احتمالية التخلص منها.. مع العلم أن آخر شيءٍ قد تتمناه هو التخلص منها ! لقد دخلا حرفيًا في تلكٓ الليلة الـ-كارثية- إلى المنزل و هما غارقان في نوبة هستيرية من الضحك.. كان إياد يحملها على كتفه..بفستانها الأبيض الذي كان شديد الأناقة لكنه بدأ يفقد هذه الأناقة بعد طريق طويل من أحاديث و ضحكات و أحيانًا...قبلات مسروقة كان يخطفها بكامل رضاها منها.. إلى أن توقفت السيارة أمام البناية الكبيرة و كان أول ما فعله زوجها هو الركض بسرعة إلى جهتها إلى أن فتح الباب ثم انخفض مباشرة ليلفّ ذراعيه من حولها يحملها على كتفه بشكل مقلوب.. و في منتصف صوتِ ضحكاتها التي شاركها بها و تذمرها الكاذب من حركته سار بها نحو البناية يكاد أن يركض ليصلا إلى شقتهما.. لكنه لم ينزلها حتى بعد وصولهما..فقد أغلق الباب بقدمه مترنحًا من بين ضحكاته و هو يكمل طريقه إلى غرفتهما..حينها و ما إن أنزلها على قدميها..كان صوت الضحكات يتلاشى لكن ليس إلّا ليخلف تنهدات ناعمة و ابتسامة خلابة على وجه كل منهما.. حينما فقط قالت أسيل بصوتٍ لم يستعد ثباته بعد -بعد- نوبات الضحك المريع و هي ترفع يديها إلى شعرها المُصفف بعناية تبدأ بإبعاد مجموعة من المشابك التي كانت تثبت خصلات من جانبيه تاركة جزئه الأكبر منسدلًا بحرية.. _أحمق..لا أصدق بأنكٓ اختطفتني حرفيًا من الزفاف.. كيف سيبدو منظرنا الآن أمام الضيوف ؟! إلّا أنه قال ضاحكًا بتسلية و هو يتتبع تحركات أناملها إلى أن قرّر في لحظة خاطفة أن يجذبها إلى صدره مطوقًا بذراعيه القويتين خصرها.. _بل السؤال الصّحيح كيف سيكون منظر الضيوف الآن و هم يتجولون في قاعة زفاف بدون عروسين ؟ كانت أسيل لا تزال تبعد المشابك من شعرها باهتمام لكنها توقفت فجأة تنظر له إزاء كلماته و كأنها تذكرت شيئًا مهمًا..و قالت متأوهة بأسى غير حقيقي تمامًا فهو قد كان لا يزال قادرًا على لمح سعادتها و بريق الابتسامة المتوهج في عينيها.. _لقد فضحتني حرفيًا ! كيف سأقابل أبي لاحقًا !! لم يولي إياد أيّ انتباه لسؤالها..فقد كان منشغلًا في لذته الخاصة في التدقيق بملامحها و احتضانها يحاول أن يقحم للمرة الألف فكرة أن صاحِبة هذه الملامح الجميلة الساحرة هي زوجته الآن !!! لكن الفكرة لوحدها كانت تبدو خلابة إلى درجة يصعب التصديق بها..فشعرت بذراعيه تشتدان على خصرها..بينما مال بوجهه يلامس الخط الدقيق لابتسامتها بشفتيه.. و حينها فقط و هو قريب منها لهذا الحد..همس يجيب آخر جملة نطقتها بنبرة تداعى منها كل المزاح السابق الآن ؛ _لا يوجد أيّ فضيحة في الموضوع..لقد شعرت بأنني مشتاق لزوجتي فقرّرت الهروب بها ليس إلّا ! ليس إلّا ؟ لم يكن ذلكٓ سؤالًا في محله لطرحه في تلكٓ اللحظة بالذات ! فقد همست أسيل بنبرة تشبه نبرته إلى حد ما و هي ترفع ذراعيها تتعلق بعنقه بهما..و تلامس في طريقها خصلاته السوداء القصيرة و الناعمة..لأول مرة تلمِسها بالأحرى! _هل قلت مشتاق لزوجتي حقًا أيها الأحمق ؟! لقد تزوجنا للتو أساسًا !!! إلًا أنه همس و هو يضمها أكثر..يميل عليها أكثر فأطبقت رموشها و هي تستقبل أنفاسه على بشرة عنقها بينما تسمعه يهمس فوق بشرتها.. _و إن يكُن ! لا يهمني متى أو كيف ! المهم بأنكِ زوجتي الآن ؟ و أنا زوجكِ ! هل قلت شيئًا خاطئًا ؟!! شعرت بيديه بعدها تلامسان الزر الأعلى من الثلاثة أزرار المثبثة أعلى فستانها الناعم..فتحه برفق قبل أن تنخفض أنامله إلى الثاني ثم الثالث مداعبًا بشرتها أثناء ذلك..مداعبًا روحها.. و ما كادت أنامله أن تندس من بين الفتحة الصغيرة نسبيًا تداعب بشرتها بشكل مباشر و واضح الآن بينما يميل عليها أكثر كشخصٍ لم يعد يملكُ من أمر نفسه شيئًا.. و لا يملكُ رفاهية الانتظار أو التحمل أكثر حتى.. حتى كانت تقاطعه فجأة و هي تدفعه من صدره برفق إلى أن ابتعد على مضض ناظرًا في عينيها كمن تم انتزاعه من غفوة وهمية جميلة.. إلّا أنها ابتلعت ريقها ببطءٍ و هي تخفض أنظارها إلى يديها التي كانت لا تزال تريحهما فوق صدره..تداعب ياقة قميصه الأبيض..تداعب خفقات قلبه المجنونة تحتها.. ثم لم تلبث أن أعادت أنظارها إليه..و همست بنبرة جادة رغم خفوتها و الحُب الكامن بها ؛ _أعلم بأنها كانت حركة عفوية تمامًا منكٓ الليلة..و أعلم بأننا تكلمنا في الموضوع مسبقًا..موضوع ذلكٓ الشاب الذي قمت بلكمه لأنه........... _لأنه اقترب منكِ ينوي أن يهنئكِ بقبلة على وجنتكِ حرفيًا ؟!!! شحبت ملامحها حينها قليلًا و هي تثبت عينيها في عينيه للحظة..و قد بدت ملامحه جادة جدًا و هو يضيف بهدوء ؛ _هل كان لينجح في فعل هذا لو لم أتدخل في الوقت المناسب يا ترى ؟!!! حينها فقط..كانت تظهر نظرة من...من ضيق حقيقي على ملامح أسيل..ثم تراجعت خطوة و هي تحاول التملص من يديه لكنه تشبث بذراعها بقوة و هو يديرها إلى أن أصبح ظهرها يلامس صدره الآن.. ثم همس يلامس صدغها النابض بشفتيه و يطوق خصرها النحيل بين ذراعيه مريحًا أصابعه الطويلة الخشنة فوق بطنها ؛ _أعتذر..حبيبتي...لقد تهورت في الكلام مجددًا ! همست أسيل و هي تتوقف عن مقاومته بصوتٍ يحمل نفس الجدية في صوته لكن بالإضافة إليها فقد كانت تلونه لفحة من...انكسار ! _لا تتهور إذن...إياد..لا تتهور ! ألا تعلم بأنكٓ تؤذيني بهذه التعليقات ؟!! حينها..تهيأ لها بأنها قد سمعت صوت تأوه حقيقي منه و كأن مجرد سماعه لتلكٓ الكلمة.. " تؤذيني ! " يؤذيه هو شخصيًا! ثم همس يغرق أنفاسه في خصلاتِ شعرها الثائرة الناعمة بصوتٍ أجش و هو يتمسكُ بها أكثر ؛ _ماذا كنتِ تريدين أن تقولي لو لم أقاطعكِ ؟ أكملي ! تردّد طفيف لامس عينيها في لحظتها..عينيها اللتين لطالما وصفهما بالجوهرتين اللامعتين..فقد كانتا فعلًا تلمعان في الليل كجوهرتين يعجز الانسان عن منحهما لونًا واحدًا محددًا لوصفهما.. قبل أن تقرّر التحرك بهدوء بين يديه إلى أن أصبحت تنظر في عينيه مجددًا..و حينها..ما إن قابلت تلكٓ العينين الرماديتين برموشهما الطويلة التي تشعر أحيانًا بأنها تحسده عليها.. رفعت يديها لتحاوط وجهه الحليق شديد الوسامة بينهما..و همست تخاطب تلكٓ العينين برقة ؛ _أولًا..و ردًا على سؤالك..هو قطعًا لم يكن ليستطيع أن يفعل هذا سواء تدخلت أو لا..و ثانيًا.......... صمتت فجأة..فقال إياد يحثها برفق و هو يحرّر إحدى يديه من خصرها لا لشيءٍ إلّا ليقربها من وجهها الجميل يبعد بها خصلة ناعمة إلى خلف أذنها ؛ _و ثانيًا... ؟! نظر لها رافعًا حاجبًا واحدًا رفيعًا..فتلكأت أسيل قليلًا و كأنها متردّدة من فتح موضوع تعكر به صفو أجمل ليلة في حياتهما..إلّا أنها قالت في النهاية رغم ذلكٓ و هي تشدّد من احتضانها لوجهه بيديها الاثنتين ؛ _لا أريد أن يتكرّر مثل هذا التصرف مجددًا إياد..على الأقل في مناسباتٍ عامة كتلك و لأسباب سخيفة....... _سخيفة ؟!! للمرة الثانية يقاطعها إياد لكن هذه المرة بنبرة أكثر هدوءًا من السابقة..فتنهدت أسيل بقلة حيلة و هي ترد بوضوح ؛ _تصبح الأسباب سخيفة حينما أكون قادرة على التصرف بنفسِي ؟!!! لم تنل أيّ رد من إياد..لكن ملامحه لانت أكثر و هو يتأملها بتمعن..فهمست و هي تحركُ إبهامها برقة فوق وجهه مسقطة عينيها على تلكٓ الحركة ؛ _ألا تثق بي و بأنني قادرة على التصرف بنفسِي ؟!! رفعت عينيها إليه بعدها مباشرة و كأنها تحثه على الرد فورًا..و هو فعل..همس و هو يبعد الآن خصلات شعرها الناعمة من فوق كتفها حيث حلت مكانها شفاهه يلامس بها قماش الفستان الناعم و كأنها حركات عشوائية يقوم بها بدافع إلهاء يده ليس إلّا ؛ _بلى..بالطبع أثق بكِ حبيبتي..كيف طرأ هذا السؤال في عقلكِ حتى ؟!! _ماذا إذن ؟!!! همست فورًا بنبرة شابها بعض الحزن..فصمت إياد للحظة كان قد برز فيها طيف ابتسامة حنونة في عينيه..قبل أن يرفع رأسه إليها مجددًا..ثم همس فجأة ينطق الشيء الوحيد الذي خطر في ذهنه ؛ _ألا يمكن أن يكون فقط بدافع غيرتي و قلقي عليكِ و...حُبي ؟!!!! رغم الأثر الجميل الذي خلفه هذا الرد في قلبها و انعكس بوضوح على ملامحها..إلّا أنها قالت بجدية بدون أن تبعد عينيها عن عينيه ؛ _ألا أحبكٓ أنا أيضًا ؟ بل أحبكٓ بجنون ! لكن هل هذا مبرّر...إياد ؟!!! كانت تحاول بجهد أن يكون صوتها هادئًا مسالمًا لأقصى حد..تكره أن تلقي عليه اللوم لأجل تصرف قام به لأجلها..و في نفسِ الوقت تكره ذلكٓ التصرف المتهور...جدًا ! لكنها طرفت بعينيها ببطءٍ و هي ترى نظرة تشبه... المكر في عينيه ! حينما قال بنبرة ذات مغزى ؛ _دعكِ من هذا ! متأكد من أنكِ كنتِ ستفعلين نفس الشيء لو كنتِ في مكاني ! قالت أسيل فورًا و مباشرة كمن ينفي عن نفسه اتهامًا شديد البشاعة ؛ _لم أكن لأفعل بالطبع ! للمرة الثانية يرفع ذلكٓ الحاجب المستفز..بينما قال و كأنه يساير طفلة بصوتٍ رائق لأقصى حد ؛ _حقًا ؟!! فلم تتردّد من أن تهز رأسها بالايجاب بسرعة مكرّرة ؛ _حقًا ! إلّا أن ذلكٓ الحاجب لم ينخفض..بل ارتفع أكثر و هو يتأملها للحظاتٍ بنظرة من يشكّك في صدقها.. ظلت أسيل تنظر في عينيه عابسة..و حينما شعرت بنفسها غير قادرة على التحمل..هتفت بتخاذل ؛ _لم أكن لأفعل !!!!!! شعرت بالاستفزاز حينما لم يمنحها إياد أيّ رد..لكنها في نفس الوقت شعرت بالراحة لأنها لن تطيل في هذا الحديث أكثر..لهذا فقد سحبت نفسًا طويلًا تستعيد به هدوءها و ثباتها.. لكنها قالت رغم ذلكٓ بنبرة تهديد مفتعلة ؛ _شيءٌ آخر !! نظر لها إياد باهتمام بدون أن يتحدث..فحرّرت فكه من أناملها مخلفة فراغًا ظهر في عينيه اللتين تتبعتا تلكٓ الحركة إلى أن...أمسكت بياقة قميصه..و شدته منها قليلًا تقربه من وجهها إلى أن قالت بشراسة... يمكنها أن تكون كل شيءٍ إلّا حقيقية ! _لا تقاطعني مجددًا !!! شعرت بأنه يكتم ضحكة وشيكة من الطريقة التي انتقلت بها عيناه بين يدها ثم عينيها..و كأنه يراقب طفلته الصغيرة الشقية و يقيم تصرفاتها الجديدة بـ... بفخر !!! ثم رفع يده بهدوء إلى أن أمسكٓ بيدها تلك..و شعرت بذراعه المُلتف حول خصرها يلصِقها أكثر به..حينما قال على بعد إنشٍ واحد من شفتيها ؛ _أنتِ لا تقاطعيني مجددًا !!! و رغم الحرارة التي لفحت روحِها من هذا القرب.. رغم تدافع خفقات قلبها و ارتعاش رموشها و هي تسدلهما إلى شفتيه..فقد همست مستفسرة بعدم فهم..بغير تركيز تام ؛ _أقاطعكٓ عن...ماذا ؟!!! رأت بعينيها شفتيه و هما تتحركان مشكّلتين ردًا مختصرًا سريعًا جدًا ؛ _عن هذا !! لكنها و قبل أن تستطيع الفهم..كان يقطع مسافة الإنش الواحد تلك بينهما..و تلكٓ المرة لم تقاطعه فعلًا..فقد أغمضت عينيها بسلام و هي تضمه بشدة مستجيبة لأنفاسه الدافئة.. و لذراعيه القويتين..الحنونتين..و كأنه يقبض على جوهرة فعلًا يخشى أن يكسرها لو حرّرها..و يخاف عليها من أن تنكسِر بين يديه لو بالغ في التمسكِ.. و لعينيه النافذتين إلى أعماقها..تمنحانها وعودًا ظنت بأنها غير قابلة للزوال ! لكنها للأسف كانت وعودًا بائدة..ماتت و تداعت بمرور الوقت و ما بقي من خلفها إلّا...صدى أصوات ضحكاتهما السعيدة..و أنفاسه و هي تتردّد في أذنيها بأعذب اعترافات الحُب و أروعها !! زفرت تنهيدة طويلة و هي تهز رأسها مجبرة عقلها على الهروب من تلكٓ الذكرى..قبل أن تحركٓ ذراعها الآخر لتضم به طفلها الصغير أيضًا..ثم أغمضت عينيها بسلام و هي تستقبل النوم برحابة غريبة.. لكنها حتى في خضم ذلكٓ السلام كان عقلها يتساءل بغرابة..ألم يكن يفترض بها في جميع الأحوال أن تغضب الآن من لمساته ؟! من قبلته البريئة على جبينها اليوم ؟! حسنًا تلكٓ أول مرة فعليًا منذ وقتٍ طويل لا تغضب ! ____________________________ حينما توقفت بسيارتها ليلًا أمام المنزل..كانت تشعر بإرهاق غير مسيطر عليه يحتل جسدها..لقد أخبرت نائل بأنها تعتبر نفسها محظوظة كفاية لكونها تملكُ ميزة الشعور بالطقس.. لكنها لم تشاركه قط أهم معلومة..بأنها غالبًا..كانت تشعر به أكثر حدة و تأثيرًا من الأشخاص العاديين..و ربما لهذا السبب..أكبر سبب يجعلها تحِب كونها تعيش في مدينة باردة على طول السنة.. سارت في المٓمر الكبير الذي يفصل بين حديقة واسعة مشرقة..مسبح متوسط الحجم و فناء في الجهة الأخرى.. كانت غايتها الصعود إلى غرفتها مباشرة..حتى أنها عزمت على عدم النزول الليلة إلى العشاء..إلّا أنها توقفت في منتصف الطريق حينما وقعت عيناها على...وائل ! لقد كان أخيها يقف بجانب المسبح..يدسّ يديه في جيبي بنطاله بينما عيناه معلقتان بالأفق المظلم بلا هدف واضح..و من طريقة وقوفه..علمت كمّ الشرود الذي كان يكتنفه في تلكٓ اللحظة.. كانت قد تجاوزته بمسافة كافية لأن لا تلمح منه سوى ظهره..لكن ما جعلها تعقد حاجبيها قليلًا بقلق حقيقي فعلًا..هو حقيقة أنه كان يرتدي نفس البدلة التي خرج بها في الصباح.. بسترته الرمادية أيضًا و ربطة عنقه على ما يبدو..ممّا يؤكد أنه لم يصعد إلى غرفته إطلاقًا منذ عودته من العمل..حسنًا ماذا عن ضحى ؟!!! رفعت عينيها ببطءٍ لترمق النافذة الكبيرة التي كانت تطل من غرفتهما على مكان وقوفه الآن..و ما هالها أكثر..ما هالها بشدة و جعل غصّة غريبة تحتل قلبها.. هو رؤيتها لضحى.. لقد كانت ضحى تقف خلف النافذة..تعقد ذراعيها فوق صدرها و في الظلام النسبي الذي يحتل الغرفة.. تراقب زوجها !! و لا داعي حقًا للوقوف أمامها لاستشفاف تعابيرها !! هل ستعترف حقًا بأنها كانت تحِب الطريقة التي تعشق بها ضحى أخيها ؟ كيف تحِبه ؟! كيف تتأمله و كأنه الرجل الوحيد الحي في العالم ! لكنها إلى جانب ذلكٓ الحُب..كان هناكٓ شعور من حزن و شفقة غير مروضين نحوها..نحوهما على الأرجح !! لم تكن ضحى قد انتبهت لها..فتحركت مقتربة منه بهدوء إلى أن وقفت بجانبه تمامًا..لكن وائل لم يلتفت إليها رغم ذلك..فهمست بخفوتٍ عالمة بأنه شعر بوجودها ؛ _إنها تراقبك ! لم يغير وائل من وضعية وقوفه..لكنها لاحظت بأن ظهره تصلب قليلًا..و ارتعش شيءٌ ما في وجهه أو في فكه تحديدًا و هو يشيح بعينيه بعيدًا محدقًا بلا هدف في الأفق.. صمت قصير سمحت له يوليا بالتسيد بينهما..كان الجو باردًا بعض الشيء الآن..فعقدت ذراعيها و هي تنظر أمامها لثوان استعاد فيها عقلها الخائن كما العادة سؤالًا وجيهًا سمعته اليوم.. " ماذا عن الطقس ؟ هل تشعرين به ؟! " لكنها سرعان ما نفضته نهائيًا بهزة من رأسها..ثم عادت ترمق هذا الرجل الواقف بجانبها و الذي يكون أخوها الوحيد و أقرب الناس إليها.. و قالت تقطع الصّمت مجددًا بخفوتٍ ؛ _ألن تخبرني إذن ؟ ماذا يحدث بينكما ؟!! لم يكن غرضها إطلاقًا الاطلاع على أسرارهما..و لم تكُن تنتظر من وائل أن يخبرها بأيّ تفاصيل..إنما ما أرادته فقط أن تضع حدًا لهذا الوضع...أن تعود المياه بينهما إلى مجاريها ! نفس الصمت قابلها من ناحية وائل..و كادت أن تتنهد بيأسٍ مفكرة بأنه لن يجيبها إطلاقًا..لولا أن سمعت صوته الخشن..يهمس بنبرة خالية من التعابير لكنها مشبعة بإرهاق كبير ؛ _سوء تفاهم ! قالها بغير مبالاة فعلًا..بينما رفعت يوليا حاجبيها بدهشة حقيقية أولًا..لكنها سرعان ما عادت تعقدهما قليلًا..قبل أن تقرّر الالتفات إليه بكليتها الآن..و حينها فقط ما إن نجحت بإجباره على النظر لها حتى و إن كانت مجرد نظرة جافة بطرف عينه..قالت بجدية ؛ _حقًا ؟! إذًا هو سوء تفاهم كارثي جدًا إذا كنتما لم تستطيعا تجاوزه أو حله لمدة ثلاث أيام ؟!! الآن فقط كان وائل يلتفت إليها بكامل جسده ناظرًا لها بدهشة مُماثلة..بل دهشة فاقت حدود دهشتها.. أخرج يديه من جيبي بنطاله و هو ينظر لها بتقطيبة و كأنه يطالبها بتفسير.. و هكذا فعلت..همست بغير مواربة ؛ _ماذا ؟ هل كنت تظن بأنني لن ألاحظ ؟!! ابتلع وائل ريقه ببطءٍ و هو يرفع رأسه لينظر مباشرة إلى نافذة غرفتهما الشاهقة متوقعًا رؤيتها هناك..لكنه لم يرها..و لم يستطع حتى أن يخمن حركتها التي سبقت التفاته مباشرة..كانت أن أزاحت نفسها إلى الوراء بسرعة بدون أن تفارق عيناها المُعذبتان بحُبه النافذة التي لطالما كانت رفيقتها في حزنها.. نظرة من إحباط غلفت عينيه و هو يعقد حاجبيه أكثر مستمرًا في نقل عينيه في نفس المكان و كأنه يبحث عنها..قبل أن ينظر إلى يوليا مجددًا..و تلكٓ المرة خرج صوته أكثر وضوحًا حينما سأل ؛ _هل تحدثت معكِ ضحى عنا ؟ هل أخبرتكِ بأيّ شيء ؟!! لم تهتز نظرات يوليا إليه و هي ترد بعد لحظاتٍ ؛ _لا..لكنها أتت إلى غرفتي قبل يومين.. نعم..إنه يتذكر هذا جيدًا..لقد استيقظ في منتصف الليل ليصطدم أول شيءٍ بمنظر السرير الفارغ..في البداية نظر حوله بقلق متوقعًا أن تكون في الحمام.. لكنه حينما تأكد بأنها غير موجودة عاد و تنهد مقتربًا من نفس السرير ذاك.. و من وسادتها و غطاءها ليندسّ تحته و ينام فوق وسادتها مستنشقًا عطرها الأخاذ إلى قلبه..لولا أنه عجز عن النوم لدقائق طويلة..فظل فقط يقابل نفس النافذة المفتوحة بستائرها البيضاء المتناثرة في الظلام بلا أيّ هدف محدّد.. لم يستطع أن يجيب على جملة يوليا..لم يجد ما يرد به رغم رغبة هستيرية بداخله بـ...طرح أسئلة أكثر عنها..عن زوجته التي كانت تراقبه قبل قليل من النافذة قبل أن تهرب بطيفها الساحر منه قبل أن تسمح له حتى بمنحها النظرة الأولى لهذه الليلة.. لولا أن أخته..لم تكُن تنتظر جوابه أساسًا لتتحدث.. فقالت بعد لحظاتٍ باقية على حركتها السابقة..حيث كانت لا تزال تعقد ذراعيها بنفسِ الطريقة فوق صدرها و وشاحها الطويل الأنيق.. قالت بنبرة شابها بعض...القسوة ؟!! هل لمح ذلكٓ حقًا !! _ضحى تعاني بشدة وائل..أنت لم ترى وضعها تلكٓ الليلة بينما تقف أمام غرفتي..لقد كانت في حالة مزرية فعلًا..و أنا في الحقيقة منذ فترة جيدة أشعر بأنها في حالة مزرية..لا أعلم إن كنت قد لاحظت هذا أو لا لكنني بدأت أقلق عليها فعلًا من أن تكون قد بدأت تهمل نفسها..لقد قابلتها في الصباح و كانت ملامحها شاحبة بشدة..حتى أنها لم تتناول لقمة واحدة خلال وجبة الإفطار..و أنت خلال هذه الفترة أصبحت منشغلًا إلى درجة عدم تواجدكٓ معنا في أيّ وجبة.. كان وائل يستمع إليها بهلع داخلي..لكل كلمة جديدة بإنصاتٍ شديد..و قد لاحظت يوليا أثر كل كلمة على حدا يتشكل في عينيه..فتعمدت أن تصمت قليلًا و كأنها تمنحه فرصة استيعاب كل ما قالته.. قبل أن تستأنف ناظرة إلى عينيه المتسعتين قليلًا في الظلام النسبي و الذي لا يبدّده قليلًا إلّا انعكاس السماء فوقهما و الأضواء الصادرة من النوافذ و الشرفات الخاصة بمنزلهم.. _لا أعلم ما الذي حدث بينكما..و أنا في الحقيقة لا أريد أن أعلم رغم أنني داخليًا أشعر بأنني أعرفه..لكن بما أنكٓ وصفته بسوء تفاهم فسأخبركٓ بشيءٍ واحد وائل..لقد بكت ضحى تلكٓ الليلة على صدري طويلًا..و هي مثلكٓ تمامًا لطالما رفضت أن تشارك أيّ منا بأيّ ممّا يحدث بينكما..لكن...أيّ كان سوء التفاهم فأرجوك أن تصلحه الليلة لو استطعت..ضحى...لا تستحق هذا منكٓ وائل..و أنت لا تستحق كل هذا الضياع المرتسم في وجهكٓ الآن.. صمتت قليلًا تراقب تعاقب ملامح أخيها..هل اعترفت قبل قليل بأنها تحِب علاقتهما ؟ حسنًا هي أيضًا كانت تحِب الطريقة التي كانت تتنبه بها ملامحه بجدية صارمة كلما سمع اسمها أمامه...اسم ضحى ! لهذا فقد أطرقت برأسها قليلًا بصمتٍ..قبل أن تمد يدها إلى أن أمسكت بيده المندسّة في جيب بنطاله.. أخرجتها من مخبئها بهدوء قبل أن تتمسكٓ بها بين يديها الاثنتين.. ثم همست بصدق تام بدون أن ترفع رأسها ؛ _كما أنني...أحِبكما سويًا..أحِبكما بشدة..و آخر ما قد أتمناه في هذه الحياة..هو أن أشهد موقفًا جارحًا لكما بحيث كل منكما ينظر في الجهة المعاكسة للآخر.. رفعت عينيها مجددًا لتقابل تلكٓ النظرة الرقيقة بعينيه..و لاحظت..للتو لاحظت بأن هناكٓ شيءٌ يشبه طيف ابتسامة لا تمت للسعادة بصلة احتل عينيه..و قالت تنهي حوارها بنبرة لانت بابتسامة أكثر إشراقة من خاصته ؛ _لهذا..أيّ كان ما حدث بينكما و تسبب بهذا الوضع.. أنا أثق بكٓ أنكٓ كفيل بإصلاحه..لأجل ضحى...لا تسمح لسوء التفاهم هذا بأن يطول أكثر بينكما أخي.. تنهيدة خافتة حرّرتها بعدها و هي تتمسكُ بيده أكثر ناظرة له بأمل..إلّا أن وائل كان قد اختار أن لا يمنحها جوابًا شفهيًا..فاقترب منها فجأة بهدوء إلى أن طوقها بين ذراعيه..و ألصق رأسها بصدره و هو يغمض عينيه بسلام شديد مرتبط بها...بأخته الوحيدة ! حاوطت يوليا جذعه بقوة مماثلة و هي تغمض عينيها بنفسِ طريقته..قبل أن تسمع صوته يهمس في أذنها بابتسامة شعرت بها أخيرًا.. _متأكدة بأنكِ لا تعلمين السبب الحقيقي لسوء التفاهم هذا ؟!! ابتسامة ناعمة تشكلت في عينيها قالت على إثرها برقة و هي تشدّد من احتضانه ؛ _حسنًا..أنا أعلم شيئًا واحدًا فقط..و هو أنني سأكون أسعد و أفضل عمة في العالم ! ابتعد وائل بعدها لكن بدون أن يتركها بالكامل..فقد ظل يقبض على كتفيها برفق بيديه..نظر لها للحظة واحدة بابتسامة بالكاد اكتملت الآن..لكنها كانت تحمل في طياتها شعورًا حقيقيًا بـ...بالفخر ! قبل أن يحرك نفس اليدين إلى أن أصبح يطوق بهما وجهها الآن..ثم اقترب قليلًا إلى أن طبع قبلة طويلة ذات مغزى جميل فوق جبينها..قبلة اعتادت عليها منذ وقتٍ طويل لأنه غالبًا ما كان ينهي بها كل حواراتهما.. لقد كانت حرفيًا..تمتلكُ أفضل أخ في العالم ! و لا تعلم إن كانت تستطيع ضحى أن تقول نفس الشيء عن زوجها لكنها فقط تعلم كم يكِن هذا القلب العنيد حيث ارتاحت يدها الآن تلقائيًا من حب لابنة عمها ! و كم يمكن أيضًا له أن يتمادى في جفاءه و قسوته أحيانًا..كم يمكن لأخيها أن يتحول لإنسان جارح حينما يمُس الأمر مبادئ و معتقداتٍ راسخة في ذهنه..و هي أكثر من كانت تعرفهما.. و تعلم من دون أن يحتاجا للقول كمية الاختلافات و الفروقات في التفكير و التي كانت أول سبب في كل سوء تفاهم يحدث بينهما ! لكنها أيضًا تثق بقدرتهما على تجاوزها و دحضها بعيدًا ! _بالطبع ستكونين.. سمعت صوته يقول مؤكدًا بنبرة حانية جدًا..فنظرت في عينيه مولية انتباهها إليه هامسة ؛ _ماذا الآن ؟! كان واضحًا مغزى سؤالها..إلّا أن وائل اكتفى كرد بأن سمح لابتسامته بأن تتعمق أكثر..ثم قال و هو يمسّد كتفها برقة ؛ _ادخلي أنت أولًا و أنا سألحق بكِ بعد قليل.. لم ترغب يوليا بأن تضغط عليه أكثر..فهزت رأسها موافقة بالايجاب..قبل أن تلتفت هامة بتنفيذ ما طلبه بالفعل..سارت بضعة خطواتٍ هادئة بعيدًا عنه.. إلّا أنها اضطرت للتوقف فجأة بفعل صوته الذي نادى بترقب ؛ _يوليا ! التفتت ببطءٍ لتمنحه مجددًا ابتسامة متساءلة الآن.. ففتح فمه ليلقي بشكل تلقائي السؤال الذي خطر في ذهنه خلال الأيام الماضية عدة مراتٍ ؛ _ذلكٓ الرجل الذي اشترى المنزل الحجري قبل بضعة أشهر..ماذا كان اسمه ؟ حسنًا لم يكُن هذا ما توقعت أن تسمعه منه..ثم هل حقًا سألها عن اسمه ؟! بحق اللّٓه إنهما يمتلكان نفس الإسم تقريبًا! و كأنها كانت ثابثة كفاية لكي يقرّر أخاها فتح هذا الموضوع في ذهنها مجددًا..شعرت بأن موقف اليوم يتردد في ذهنها للمرة الألف..لكنها فقط ابتلعت ريقها ببطءٍ متمسكة بتركيزها.. لكن صوتها ضد محاولاتها لم يخرج ثابتًا تمامًا..بل حمل نبرة من...التساؤل الشديد ! _نائل ؟! ثم أضافت فورًا بترقب مشابه ؛ _لمٓ تسأل عنه ؟!!! فلم يتردّد وائل من إلقاء سؤال جديد اخترق عقلها تلكٓ المرة بتأثير غير مريح ؛ _ألا تزالين تلتقين به ؟! ارتفع حاجبا يوليا بعدم فهم فقال وائل متدراكًا و قد شعر بأنه طرح السؤال الخاطئ ؛ _أقصد..هل التقيت به مجددًا بعد ذلكٓ اليوم ؟! لم تعرف بما عليها أن تجييه ! هل يمكنها حتى أن تطلق على لقاءاتهما الغريبة على مرور الأيام السابقة تلك...لقاءاتٍ فعلية ! الحقيقة أنها هرعت إلى بيته بهدف واحد نبيل و هو أن تطلعه على حقيقة وفاة ابنته فقط..و ما تلاها كانت كلها زيارات جاءت كتوابع لتلكٓ اللحظة ليس إلّا ! ما عدا لقاء اليوم ! لقاء اليوم كان...صدفة ! حسنًا و إن كانت قد قادتها قدماها إلى المقهى اليوم بأمنية في رؤيته مجددًا.. المهم في الأمر هو أنها لم تكُن تخطّط للقاءه و لا تتوقعه حتى ! أليس هذا يجعلها صدفة ؟!! صمت قصير ساد بينهما..صمت أطبق على قدرتها في الرد..بينما انعقد حاجبا وائل قليلًا و هو ينتظرها و قد بدا..ربما بدا فقط و كأن بوادرًا من قلق بدأت تكتسح عينيه.. فتحت فمها أخيرًا تنوي أن تجيب بصدق فقط..ربما تسرد له في وقتٍ لاحق حتى كل ما حدث مع ذلكٓ الرجل خلال الأيام الماضية..إلّا أنها لم تشعر بلسانها و هو يشكل ردًا عكسيًا من حرفين فقط.. _لا........ ! و فقط..كانت تلكٓ العقدة من نصيبها الآن..بينما ارتخت ملامح أخيها و زفر بارتياح جعل من موقفها أمام نفسها يبدو أصعب و أشد وطأة...لماذا زفر بارتياح على أيّة حال ؟!! ما الذي كان سيحدث حتى لو علم بأنها قابلته ؟! ما الذي سيحدث لو علم بأنها لا تزال تنوي مقابلته في المستقبل ! بدون حتى أن تلم بالسبب الحقيقي خلف رغبتها تلك كانت تشعر داخليًا بأن كل خلية بها تتوسّل أن لا يكون أيّ لقاء بينهما هو الأخير ! _جيد ! مجددًا كان صوت أخيها يقاطع أفكارها..لكن تلكٓ المرة فقد حمل رده وقعًا سيئًا على قلبها.. لم تستطع أن تلتفت فورًا..ظلت فقط تقف للحظاتٍ أخرى في نفس المكان تحدق بملامحه التي ارتخت تمامًا بارتياح عجيب..قبل أن تطرف برموشها الكثيفة ببطءٍ..ثم ابتلعت ريقها الذي جف بعد ذلكٓ الرد..و التفتت أخيرًا تستأنف طريقها نحو المنزل الكبير.. بيد أن عقلها الأحمق الخائن..ظل عالقًا يحاول تفسير ردّها..و ردة فعل أخيها الوحيد على ردها! ___________________________ " ضحى تعاني بشدة وائل..أنت لم ترى وضعها تلكٓ الليلة بينما تقف أمام غرفتي..لقد كانت في حالة مزرية فعلًا..و أنا في الحقيقة منذ فترة جيدة أشعر بأنها في حالة مزرية.. " " لا أعلم إن كنت قد لاحظت هذا أو لا لكنني بدأت أقلق عليها فعلًا من أن تكون قد بدأت تهمل نفسها.. لقد قابلتها في الصباح و كانت ملامحها شاحبة بشدة..حتى أنها لم تتناول لقمة واحدة على الفطور.." " لقد بكت ضحى تلكٓ الليلة على صدري طويلًا.. " '' ضحى..لا تستحق هذا منكٓ وائل..و أنت لا تستحق كل هذا الضياع المرتسم في وجهكٓ الآن.. " "لقد بكت ضحى تلك الليلة على صدري طويلًا.. " لقد -بكت- ضحى..بكت !! بكت ألمًا و قهرًا بسببه..لقد وصل بها الحد أن تتسلل في منتصف الليل إلى غرفة أخته لتودعها ألمها و وجعها الذي أخفته عنه ! لقد بكت بسببه..و تلكٓ لم تكُن المرة الأولى التي تفعل ! ليلة الأمس..لم يستطع أبدًا أن يفتح أيّ موضوع معها..أو لنقل..بأنها لم تسمح له..فقد اعتكفت غرفتهما معتذرة عن النزول لتناول العشاء مع أفراد العائلة..و لم يتفاجأ حينما وجدها غارقة في النوم بعد صعوده إلى غرفتهما.. حينها وجد نفسه يتسمر لوهلة خلف الباب الذي أغلقه بهدوء شديد..لقد كان قد اعتاد على هذا المشهد بعد عودته كل يوم من الخارج أو صعوده إلى الغرفة في الأوقات التي تقرّر الصعود بها قبله.. لكنه لم يعتد أن يجدها غارقة في النوم فعلًا كاليوم.. لقد كانت تلكٓ عادتها المفضلة..المؤلمة منذ وقتٍ طويل..التظاهر بالنوم في لحظاتٍ مشابهة..طريقتها في الهروب من حصاره و عينيه و تأثيره المؤذي عليها بعد كل شجار أو سوء تفاهم لهما ! أما اليوم..فقد استطاع بدون أن يحتاج حتى لقطع تلكٓ الخطوات القصيرة الفاصلة بينهما التكهن بكونها نائمة فعلًا..من أنفاسها المنتظمة..من الهدوء الغريب الكئيب المسيطر على الغرفة.. ملامحها الشاحبة كما وصفتها أخته و طريقتها في الاستلقاء باستسلام تام ! باستسلام تام ! مهلًا..هل يعقل أن تكون مريضة ؟! انعقد حاجباه ببطءٍ ما إن مرت تلكٓ الخاطرة المزعجة في عقله..و لم يتردّد أبدًا من ترك المقبض مقتربًا تلكٓ الخطوات بهدوء..بل بتعب حقيقي إلى أن وصل إليها..و جلس في طرف السرير بجانبها تمامًا.. كانت تنام على ظهرها..خصلات شعرها الحالكة تفترش الوسادة البيضاء بنعومة استنفرت كل خلية بداخله لـ...لمسها ! رباه كم اشتاق للمسِها !!! بينما يداها إحداهما ملقاة بإهمال فوق نفس الوسادة بجانب رأسها..و الأخرى فوق معدتها تلامس بأناملها الرفيعة الغطاء الذي يماثلها شحوبًا.. جال بعينيه فوق كل إنشٍ من ملامحها..ثم رمق يديها الاثنتين بنظراتٍ مطولة.. مشتاق إليها ؟ إنه يكاد أن يفقد نفسه من الشوق ! لاحظ بأنها كانت ترتدي ثوبًا حريريًا أبيضًا..بحمالتين رفيعتين على كتفيها تضاعفان من نعومتها و من شوقه.. لقد كانت فساتين نومها تلك و التي قد تبدو لأميرة ما بالغة النعومة..تزيد من رقتها في عينيه و عذاباته بها..كل ليلة...و منها أيضًا التي يقضيها إلى جانبها ! لم يشعر بيده التي امتدت بهدوء إلى أن لمس بها خصلات شعرها التي تغطي كتفها الأيمن..أزاحها إلى الجانب برفق غارقًا في نعومتها..إلّا أنه لم يكد يهنئ بلمسته حتى كان يتجمد حينما تململت حبيبته قليلًا.. تسمرت يده فوق كتفها و هو ينظر إلى ملامحها بترقب خوفًا من استيقاظ مفاجئ..إلّا أنه عاد و تنهد بارتياح حينما عادت الملامح الحبيبة لسكونها..قبل أن ينقل عينيه بين موضع يده ثم وجهها مجددًا.. فلانت نظراته تمامًا..و رقت عيناه بحزن طفيف..لكنه حزن مشوب بحنان لا مثيل له..قبل أن ينخفض ببطءٍ غير قادر بل غير مستعد حتى للتحكم بنفسه إلى أن طبع شفتيه مطولًا فوق بشرة كتفها.. و أغمض عينيه بسلام في محاولة معقدة لاستقطاب كل ذرة تركيز متاحة لديه للاحتفاظ بشعوره هذا..فهو ليس متأكدًا حتى إن كان سيستطيع أن يصلح هذا الوضع فعلًا كما قالت يوليا غدًا.. أو بعد غد..أو عما قريب ! رفع رأسه بعدها ببطءٍ لينظر إلى ملامحها مجددًا..و تلكٓ المرة كانت يده ترتاح فوق جانب وجهها الساكن تمامًا..ربت برفق فوق بشرتها و كأنه تناسى خوفه السابق من استيقاظها المفاجئ.. قلبه يؤلمه بشده..لكن عقله لا يزال حبيس التردّد.. لطالما كان يكره هذا الشعور..أن يقف بين طريقين متضادين..فكرتين متنافرتين عليه أن يختار إحداهما عن الأخرى.. بل هو مجبر فعلًا على الاختيار حتى لا يفقدها ! حتى لا...يؤذيها أكثر ! لكنه أيضًا لا يستطيع أن يخادع نفسه..لقد شعر بالرضا بسماع كلام يوليا..قشرة صلبة قد انزلقت جاعلة من أفكاره تبدو أكثر وضوحًا.. لكنها ليست واضحة بالقدر الكافي ليجعله يحسِم قرارًا مهمًا كهذا ! هو..يريد طفلًا منها حتمًا..كيف لا يريده ؟ لكنه لا يزال يعجز عن تخيل عقبات قرار كهذا على حياته في وضعه الحالي ! بحق اللّٓه هو واقع في ورطة كبيرة..إنه لا يزال حتى اللحظة عالقًا في محاولاتٍ واهية لإيجاد مستثمر جديد ينقذ مشروعه التالي من الانهيار ! لكن أكبر ورطة لديه كانت...هي..حبيبته..عيناها..دم? ?عها ! لقد كان مجرد تخيل بسيط يمر في ذهنه لها بحيث تنأى بنفسِها في مكان منعزل أو تلجأ إلى صدر غير صدره لتبكي جفاءه..يقتله ! و هو لا يمانع حتى أن يموت في حُبها لكنه يخشى أن تموت معه ! أغمض عينيه بإرهاق و هو يترك يده على وجنتها.. يتجول بإبهامه برقة شديدة فوق بشرتها..لقد كانت يوليا محقة تمامًا..كما يعلم بأن ضحى كانت محقة في كل كلمة قالتها مهما بلغت قسوتها ! إنه للأسف..يغدو رجلًا أنانيًا حينما يمُس أيّ أمر في هذا العالم أحلامه..طموحه الأكبر..لقد كان يعلم هذا.. لقد كانت ضحى تعلم هذا أيضًا..لكنه تمنى لو فقط يستطيع أن يخبرها بالمرتبة التي يضعها لها ضمن قائمة أحلامه..المرتبة الأعلى..الأغلى..الأعز !! كما أنه لم يخبرها يومًا عن خوفه الآخر و الذي يزيد من تعزيز ذلكٓ المبدأ..خوفه من أن...يشبه والده! خوفه من أن لا يستطيع تقديم القدر الكافي من الأمان النفسِي و المعنوي إلى أطفاله مستقبلًا..خوفه من أن تقف أحلامه و طموحاته أمام مسؤولياته نحو عائلته ! و أن لا يستطيع أن يكون الأب و رب الأسرة الذي تمنته زوجته دائمًا ! تلكٓ مخاوف كانت تقتله من الأعماق..تلكٓ مخاوف آثر استبعادها و طردها من عقله دائمًا !! تنهيدة طويلة تحرّرت من بين شفتيه..قبل أن يفتح عينيه مجددًا..و ينخفض قليلًا عازمًا على منحها قبلة جديدة..تلكٓ المرة كانت من نصيب جبينها حيث ارتاحت شفاهه لمدة أطول من السابقة.. لكنه هذه المرة لم يبتعد أبدًا..فقد ظل يتأملها عن قرب حتى بعد أن فصل تلكٓ القبلة..يلامس خصلاتها التي يعشق و تفاصيل ملامحها الدقيقة بأنامله..لكن آخر شيءٍ توقعه من نفسه حتى.. هو تلكٓ الحركة التي فعلها بعدها..بأن حركٓ نفس اليد تلكٓ إلى أن بسطها فوق يدها المرتاحة فوق خاصرتها..هناكٓ حيث توسلته دائمًا بعينيها أن يسمح لقطعة جميلة من دمائهما الاثنان بالتشكل.. تنهيدة أخرى حرّرها و هو يهم بتحريرها..إلّا أنه عجز تمامًا..عجز ضد كل محاولاته عن الوقوف..كما عجز عن الابتعاد عنها إنشًا واحدًا حتى..فلم يشعر بنفسه و هو ينخفض أكثر إلى أن أصبح مستلقيًا بجانبها.. و لم يحاول حتى أن يمنع ذراعيه من أن تلتفا من حولها بالكامل ملصقًا إياها بصدره..ضمها بقوة و هو ينام بجانبها على نفس الوسادة..ببدلته الكاملة إلّا من ربطة عنقه.. و بخفقاتِ قلبه المجنونة التي زعزعت سكونها تمامًا.. ففتحت عينيها فجأة لتقابل صدره مباشرة..تسمرت لوهلة واحدة تحاول فيها استيعاب ما يحدث..قبل أن ترفع يديها إلى أن بسطتهما فوق نفس المكان و هي تحاول الابتعاد قليلًا بغاية الفهم ليس إلّا.. إلّا أن ذراعين قويتين ملتفتين من حولها أحكمتا ضمها إلى صدر اقوى..ثم جاءها الصوت الحبيب.. يهمس بحرارة فوق جبهتها ؛ _هششش..اهدئي..سأضمكِ قليلًا فقط ضحى..لن أفعل أيّ شيءٍ أكثر من هذا..أعدك.. تفرقت شفاه ضحى بحيرة و كأنها ستعترض..إلًا أنها عادت تطبقها مبتلعة ريقها ببطءٍ..ثم همست بصوتٍ خرج مختنقًا قليلًا الشيء الوحيد الذي استطاعته في هذا الوضع.. _وائل.............. _رجاءً..ضحى ! مجرد بضع دقائق..أحتاج إلى هذا بشدة.. قاطعها وائل بهذه الكلمات التي خرجت بحرارة و هو يضمها أكثر إليه..فزفرت تنهيدة مختنقة و هي ترخي قبضة أناملها على صدره..لكنها لم تستطع رغم ذلكٓ التخلص من تشنج جسدها للحظاتٍ أخرى.. قبل أن تحرر تنهيدة ثقيلة..ثم تغمض عينيها بسلام ؟ باستسلام فقط !! شعر بها بعدها تستكين تمامًا بين أحضانه عائدة إلى النوم..فعلم بأنها قرّرت التنازل قليلًا الليلة...لبضعة دقائق فقط كما طلب ! أما الآن..فقد كان يجلس خلف مكتبه في العمل.. يراجع بعض الملفات أمامه باهتمام رغم أن جزءًا كبيرًا من عقله كان لا يزال عالقًا عندها..عند حبيبته.. في تفاصيل موقف البارحة و كلمات يوليا المؤلمة.. لقد تعمد صباح اليوم أن يستيقظ قبلها و يغادر الغرفة قبلها فقط كي يجنب نفسه و يجنبها ذلكٓ النوع الغريب من الاحراج الذي كان سيتسيد بينهما ما إن تستيقظ.. لكن آخر ما توقعه..هو صوت بكاء جنين صغير في مكان قريب منه..عقد حاجبيه بشكّ و هو يتسمر لوهلة مرهفًا السمع و كأنه يحاول أن يتأكد إن كان عقله يصنع له مثل هذه التهيآت.. و للمفارقة فقد كان الصوت حقيقيّا فعلًا ! تركٓ القلم من يده و هو يرجع الكرسي إلى الوراء قليلًا إلى أن استطاع الوقوف بهدوء..ثم اقترب من الباب الخشبي الزيتي إلى أن فتحه و سار في المٓمر الضيق الطويل متتبعًا مسار الصوت الـ...مزعج ! حسنًا من يستطيع أن ينكر هذا ! كانت قدماه تقودانه نحو غرفة جانبية استوعب قبل الوصول إليها هوية صاحب الصوت نفسه..فزفر بيأس و هو يدفع الباب أخيرًا بدون أن يحتاج لطلب الإذن كما العادة.. تسمر في حاجز الباب حينما وقعت عيناه على آخر منظر توقع رؤيته...و في مقر عمله ! كان صديقه معاذ يذرع الغرفة الأنيقة ذهابًا و إيابًا.. لكنه لم يكُن يقف بمفرده الآن..فقد كان يحمل بين يديه طفلته الصغيرة حديثة الولادة لمى ! _لا يعقل !!! قال وائل بغير تصديق و هو ينقل عينيه بين ملامح صديقه الشاحبة قليلًا و الغطاء الأبيض الكبير حيث تلتفّ روح صغيرة كان قد ألقى نظرة عابرة على ملامحها الجميلة قبل بضعة أشهر من الآن.. حينما زار منزل صديقه الأحمق هذا بغاية تهنئته هو و زوجته ميساء على مولودهما الحديث ! _كيف تحضرها معكٓ إلى هنا!..هل أنت معتوه ؟!! قال بنفسِ النبرة و هو يترك الباب مقتربًا أكثر..لكن معاذ هتف ببعض الفظاظة و هو لا يزال يحاول تهدئة الطفلة الصغيرة بين أحضانه.. _ميساء لديها اجتماع مهم في العمل اليوم و قد توسلتني أن أهتم بها..ماذا كنت سأفعل ؟!! قال وائل باستنكار أكبر بدون أن يعلو صوته ؛ _لديها اجتماع مهم ! بحق اللّٓه...أو ليس لدينا نحن أيضًا من العمل ما يكفي ! فرد معاذ في نفسِ اللحظة بأسف ؛ _لهذا السبب أساسًا لم أرد أن أتغيب عن العمل ! ثم صمت لوهلة واحدة ينظر إلى ملامح وائل الشاحبة قليلًا منذ أيام و المغلفة بشعوره الداخلي الآن بالضيق من هذا التصرف..و قال يضاعف من شعوره الخانق ذاك برجاء ؛ _لقد كنت أفكر إن كان بإمكانكٓ أن تبقيها معكٓ ريثما أنتهي من الاجتماع الذي لديّ بعد ساعتين......... التفت إليه وائل هاتفًا بنبرة قاطعة ؛ _مستحيل ! إلّا أنه تراجع قليلًا أمام نظرة العتاب في عيني صديقه..ثم ابتلع ريقه و هو يخفض أنظاره قليلًا ليرمق الطفلة الصغيرة بين أحضانه بتردّد..و مجددًا.. للمرة الألف ربما..يتردّد صوتها في ذهنه.. " ماذا لو أخبرتكٓ بأنني أحمل طفلكٓ في بطني الآن وائل ؟ " " أنت رجل أناني إلى درجة أنكٓ لم تمنح الأمر فرصة صغيرة حتى للتفكير به ! " " حسنًا لم أعد أريد..لم أعد أريد وائل ! " " أنت لن تلمسني بعد الآن.......... " أغمض عينيه بقوة في محاولة واهية لطرد صوتها من ذهنه..مؤقتًا فقط ! قبل أن ينظر لصديقه مجددًا.. ذلكٓ الذي كان لا يزال يقف في نفسِ المكان..و قد لاحظ للتو بأن صمتًا أفضل كان قد عمّ أرجاء الغرفة.. فأدركٓ بأن الطفلة الشقية تلك قد نامت ! قال إزاء نظراته تلكٓ و هو يتراجع قليلًا باستنكار ؛ _أنت بالتأكيد تمزح الآن..و إلًا فستكون أكبر معتوه أقابله في حياتي.. _لماذا ؟! هتف وائل بعصبية مبالغ بها حتى و هو لا يزال مصرًا على إبقاء نبرة صوته منخفضة قدر الإمكان ؛ _ربما لأنني لم أحمل طفلًا في حياتي بأكملها..و ربما لأنني مشغول بقدرك و ربما أكثر منكٓ حتى ! _لكنكٓ على عكسي ليس لديكٓ اجتماع ينتظركٓ بعد بضعة دقائق..بل ليس لديكٓ أيّ اجتماعات اليوم ! _هل ستعذبني بهذا طوال اليوم ! قال وائل بنفسِ النبرة و عيناه تتلكآن على الطفلة في يده بنظرة تحمل لفحة من...جزع ! إلّا أن معاذ هتف مشجعًا ؛ _هيا..هل ستتصرف بهذا الشكل أيضًا حينما ترزق بطفل !! شحبت ملامح وائل الآن تمامًا بسماع هذا..و تسمر قليلًا غير مستعد للإجابة عن هذا السؤال.. إلّا أن معاذ لم يكُن ينتظر أو يتوقع حتى رده..فقد استغل لحظة الضياع تلكٓ ليقرب لمى أكثر منه مجبرًا إياه على فتح ذراعيه في لحظة خاطفة لم يكد يستوعبها حتى وجد نفسه يحمل الطفلة فعلًا بين ذراعيه.. و صديقه الأحمق ذاك..قد تجاوزه متجهًا إلى الباب ! نظر له بغباء شديد هاتفًا تزامنًا مع اقتراب الآخر من الباب ؛ _لحظة أيها المعتوه..متى وضعتها بين يدي أساسًا ! التفت إليه معاذ مجيبًا بلطافة مبالغ بها ؛ _أنا لم أضعها..أنت مدٓدت ذراعيكٓ إليها فأعطيتكٓ إياها.. ثم أضاف فورًا بابتسامة متسِعة و هو يشير إلى طفلته الصغيرة بين يدي صديقه ؛ _لقد جعلتها تشرب الحليب و حفاظاتها نظيفة جدًا.. لهذا أنت ملزم بشيءٍ واحد فقط....... فغر وائل فمه قليلًا بغباء..و حاول أن يستجمع أنفاسه للرد..إلّا أن صديقه المزعج ذاك لم يمنحه الفرصة حتى..فقد قال بجدية الآن رغم أن ملامحه كانت أبعد ممّا يمكن وصفها بالجدية ! _اعتني بها جيدًا و حاول أن تتظاهر بأنكٓ أنا في حال استيقظت فجأة لا سمح اللّٓه ! لم يكد يتم كلامه حتى كان يغادر أخيرًا مغلقًا الباب خلفه بهدوء..بينما ظل وائل متسمرًا مكانه لعدة لحظات..قبل أن يهمس عاقدًا حاجبيه بعدم فهم ؛ _لا سمح اللّٓه ؟!!!! هز رأسه بعدها يأسًا و هو يتمتم بين أنفاسه حينما وجد نفسه عالقًا في هذا الوضع ؛ _المعتوه !! انخفضت أنظاره ببطءٍ رامقًا الملامح الناعمة بنظرة كان ينوي أن تكون فقط..خاطفة..إلّا أنه وجد نفسه بدون أن يشعر يعقد حاجبيه ببطءٍ و هو ينقل عينيه بين ملامحها الجميلة بذهن شبه مغيب.. هل حقًا هذه مرته الأولى في حمل طفل صغير ؟!! أو هل حقًا هو كان يفكر ليلة الأمس بعد كلام يوليا في أن يحدّد وقتًا مناسبًا لفتح الموضوع مع ضحى !!! لقد فكر بهذا فعلًا..لكنها كانت مجرد أفكار خشي من أن يذعن لها فتتلاشى لاحقًا و يغرق في الندم ! جالت عيناه ببطءٍ بين كل إنشٍ من ذلكٓ الوجه الصغير..كل شيءٍ ناعم و صغير بشكل مبالغ به حتى.. بدءًا من ثقلها الشبه منعدم لولا إدراكه لكونه يحمل روحًا صغيرة..إلى العينين المنسدلتين بسكون مريح عكس وضعه الآن.. و من العدم..وجدت ابتسامة باهتة قليلًا طريقها إلى عينيه..و تلونتا بلفحة شبه ملحوظة من...الدفء ! رفع رأسه ليرمق المكان حوله فلم يتفاجئ أبدًا حينما وقعت عيناه على العجلة الوردية الخاصة بالأطفال و التي كانت ترتاح في جانب معين من الغرفة.. بالطبع..إن كان صديقه قد اتخذ قرار إحضار طفلته معه إلى العمل فهل سيصعب عليه إحضار أغراضها المهمة كعجلتها مثلًا ! و القنينة ذات المُلصقات اللطيفة التي كانت موضوعة فوق المكتب.. عذرًا..لقد كانت موضوعة فوق مكتب رجل أعمال ! اقترب من العجلة بحذر أن لا يوقظها فجأة..و تنفس الصعداء ما إن مدّدها هناك منخفضًا بطوله الفاره ليضعها بنفسِ الحرص..تنهيدة ارتياح حرّرها و هو يلتفت هامّا بالإنشغال بأيّ شيء..حتى و لو كان دراسة ملفات قديمة أو إنجاز بعض الأعمال المكلف بها صديقه.. إلّا أنه ما كاد أن يصل إلى المكتب متخذًا الكرسي الرئيسي بغير اهتمام..حتى كان يتجمد تمامًا حينما وصله صوت...بكاء ! تبًا..كيف استيقظت بهذه السرعة حتى !!! أجفل بقوة و هو يقترب من نفس السرير لينخفض تلكٓ المرة بسرعة إلى أن حملها..ثم شرع يهدهدها برفق في نفس المكان و هو يتوسل حرفيًا أن تصمت أو ينتهي هذا الكابوس..لكن عبثًا.. قبل أن يقترب من القنينة الطفولية ذات الملصقات.. حملها بسرعة ليغرق المصاصة البلاستيكية الناعمة المثبثة على غطاءها بين شفاه الصغيرة..و يبدو بأن هذا ما كانت تحتاج إليه بالفعل..فقد اختفى صوت بكاءها فجأة و هي تغمض عينيها الصغيرتين مرتشفة من الحليب في سلام لم يستمر سوى ثانيتين.. و كان ينتفض مجددًا بقوة حينما عاد صوت البكاء المزعج ليصُم أذنيه..زم فمه بقوة و هو يبعد المصّاصة التي رفضتها ليعيدها مكانها..ثم نظر لها هامسًا بغيظ ينافي الرفق الذي كان يضمها به و يهزها بين ذراعيه ؛ _ماذا تريدين الآن بحق اللّٓه إن لم تكوني جائعة ؟!!! لكن لا حياة لمن تنادي..فقد ارتفع الصوت أكثر فتنهد وائل بقوة أكبر و هو يشعر بنفسه على وشكِ فقدان صوابه..هل كان عليه أن يغادر مكتبه الهادئ و يتدخل في شؤون غيره ؟!!! تبًا له إذًا !!! توقف لثوان أخرى يحاول تهدئتها و هدهدتها بذراعيه و صوته..لكنها كانت محاولات فاشلة انتهى به الأمر بعدها يلتقط كل لعبة ملقاة في أطراف سريرها يحاول لفت انتباهها بها أو هزها أمام عينيها لعلها تنشغل بها و تصمت.. كان يلتقط لعبة بعد أخرى محاولًا تهدئتها بها لكنه ظل يتلقى نفس ردة الفعل في كل مرة..قبل أن يسمع صوت رنين هاتفه..فأخرجه بصعوبة ليحتجزه بين فكه و كتفه مجيبًا.. لكن آخر ما توقعه..أن الطفلة المزعجة ستصمت فجأة بمجرد رؤيتها للهاتف..بل و أيضًا رفعت يديها الصغيرتين جدًا و كأنها تطالبه بوضعه في يدها و هي تصدر أصواتًا...لم تعد مزعجة للعجب ! و الشيء الثاني الذي لم يتوقعه..صوت ضحى الذي وصله من الجهة الأخرى.. _وائل ؟! نطقت اسمه بنبرة تساؤل حينما استقبلها صمت تام من طرفه..إلّا أن عقله و قلبه علقا تمامًا في تحليل لفحة الـ...التعب التي كانت ظاهرة به ! قال باستغراب لم يتمالك أمر التحكم به متفاجئًا من كونه لم يلاحظ أبدًا في خضم انشغاله بهذه الصغيرة رنة هاتفه التي يضعها لرقم ضحى..و التي كانت مختلفة عن المعتادة.. _ضحى ؟!!! قبل أن يزفر بقوة ثم قال بسرعة و هو يهز الصغيرة بين يديه أكثر مستغلًا هدوءها أخيرًا و محاولاتها البائسة لسرقة هاتفه ؛ _ليس من عادتكِ أن تتصلي بي في هذا الوقت..هل كل شيءٍ على ما يرام ؟! استقبله صمت قصير من الجانب الآخر..ثم جاءه صوتها المرهق تهمس بنفس النبرة ؛ _لا شيء..فقط أردت أن أخبركٓ بأنني سأمضي هذه الليلة في منزل أبي.. تجمد لوهلة ناظرًا أمامه بتعابير مبهمة..و شحبت ملامحه بعض الشيء و عقله العنيد يذكره للمرة الألف بكلمات يوليا..قبل أن يبتلع ريقه سائلًا بنبرة لا تنم عن أيّ شيءٍ محدّد ؛ _لـ...لا أمانع بالطبع لكن...ما السبب ؟ أقصد..هل مجد......... _مجد سيبقى هذه الليلة في المشفى.. قاطعته ضحى بهذه الجملة المختصرة..فشحبت ملامحه أكثر و كأنها صفعته..هل تنوي أن تمضي الليلة بمفردها إذًا ؟ لماذا ؟!! لتبكي مجددًا غالبًا !!! انقبض قلبه بشدة بمجرد مرور خاطرة كهذه في عقله مجددًا..بمجرد تخيل شكلها فعلًا..بينما تستلقي فوق السرير الكبير في منزل عائلتها البارد..تعانق ركبتيها كما تفعل حبيبته في كثير من الأحيان.. تعانق وحدتها أيضًا...و تبكيه !!! فتح فمه و كأنه سيقول شيئًا ما..غالبًا يمنعها..أو لعله يسألها فقط سؤالًا وجيهًا جدًا..هل تظنين بأنني رجل معتوه كي لا أفهم أسبابكِ الحقيقية من هذه الرغبة.. كي...أترككِ تمضين الليلة بمفردكِ في هذا الحزن !! إلّا أنه عجز تمامًا عن تكوين أيّ حرف..و شعر بذراعه الوحيد الذي يحمل به الصغيرة يرتخي قليلًا فشدّد من تمسكه بها و هو ينخفض ببطءٍ إلى أن جلس فوق أريكة سوداء جانبية.. حينما سمع ضحى تضيف بنفس النبرة الخادعة تمامّا..التي قد تخدع الجميع بها ربما إلّا هو !!! _جيد إذًا..لقد اتصلت لأخبركِ فقط كي لا تقلق أو تنتظر عبثًا..سأغلق الخط الآن.. و فقط..لم تسمح له بمهلة استيعاب صغيرة حتى قبل أن تغلق الخط فعلًا...في وجهه !!! أسقط الهاتف بهدوء و هو يركز عينيه الفاقدتين للتركيز الحقيقي أمامه..في تلكٓ النافذة الكبيرة المطلة على جزء كبير من الشارع..و كاد أن يستسلم لشرود جديد طويل لولا يدين صغيرتين انضمتا إلى يده في محاولة ماكرة لسرقة الهاتف.. طرف ببطءٍ و هو يسقط أنظاره مجددًا ليقابل الملامح البريئة الجميلة..قبل أن يقرّر بنفسه أن يضع الهاتف بين يديها..و راقبها بتركيز مفقود و هي تقلبه بين يديها بعد أن سقط فوق صدرها من ثقله.. حركة لطيفة أرسلت شعورًا غير مألوف من دغدغة دافئة إلى قلبه..و كانت حتمًا لتجعله يضحكُ فعلًا في موقف آخر..لكنه الآن اكتفى بابتسامة بدت أقل شحوبًا و أكثر أملًا من السابقة.. ابتسامة مرتجفة قليلًا رسمها و عقله يستعيد صوت صديقه قبل قليل بينما يخبره بأنه لم يستطع أن لا يحضرها معه.. ثم صوت أخته ليلة الأمس... " كل ما أعرفه هو أنني سأكون أفضل عمة في العالم ! " ثم الأهم..كان صوت زوجته..ضحى...... " حسنًا لم أعد أريد..لم أعد أريد وائل....... " " ماذا لو كنت أحمل طفلكٓ في بطني وائل ؟ " " ما كانت ستكون ردة فعلك ؟!! " __________________________ حينما توقف أمام المنزل مساء..أمام منزل عائلة زوجته..كانت أول فكرة طرأت في ذهنه هي أنه سيجده مغلقًا من الداخل..فتلكٓ كانت إحدى عادات مجد و ضحى رغم إدراكهما لكون هناكٓ بضعة أشخاص يمتلكون المفتاح من ضمنهم هو.. رغم أنه عمليًا لم يكن ليكون لديه نسخة لو لم تهتم ضحى بهذا الأمر سابقًا و تمنحه واحدة مع التأكيد على وجوب أن لا يستعمله إلّا لأجل الضرورة فقط..و الحقيقة أنه لا يجد ضرورة أكثر من اليوم ! كان مزاجه يبدو أفضل بكثير عن ما كان عليه في الصباح..و في الأمس و الأيام التي قبله..لا يعلم ما الذي خلفته تلكٓ الدقائق التي بقيها مع تلكٓ الصغيرة في قلبه..لكنه يعلم فقط شيئًا واحدًا..و هو أنه لن يستطيع أن يسمح لهذا الخصام بأن يطول أكثر بعد.. فتح الباب بحذر حريصًا على أن لا يحسّسها بوجوده في حال كانت مستيقظة أو يوقظها في حال كانت قد خلدت للنوم..رغم أنه يستبعد هذه الفكرة تمامًا.. كان يعرف مكان غرفتها هنا بالتحديد..فهو قد زار هذا المنزل برفقتها لمراتٍ لا تعد..كما أمضى عدة ليال بجانبها هنا..لهذا فقد سار بثباتٍ في عدة مٓمرات ذات جدران مطلية بنفس اللون الزيتي.. وصل الى الغرفة المنشودة..و دفع الباب بهدوء غير عابء بفكرة الطرق أولًا..لكن ظلامًا قاتمًا استقبله مع أول خطوة يتقدمها بداخل الغرفة..ظلام و فراغ كبير أكد له بأن الغرفة فعلًا فارغة ! إلّا أنه رغم ذلكٓ مد يده إلى مفتاح الضوء يشعله بهدوء فأنارت الغرفة الأنيقة و التي كانت فارغة فعلًا كما توقع.. إن كانت غرفتهما في منزله و المرآب السفلي القابع في الحديقة و الذي ترتاده زوجته أحيانًا للانفراد بموهبتها رائعًا..فهذه الغرفة تفوق كل غرفة رآها في حياته روعة ! لقد كانت الغرفة أشبه بلوحة فنية حرفيًا..أصناف من العطور مرتبة في كل مكان و فوق كل منضدة هنا.. لوحات زيتية تتألق على الجدران البيضاء..صور لها.. بمفردها..برفقة والدها..برفقة أخيها.. لثلاثتهم و أخرى لوالدتها بمفردها أو معها حينما كانت طفلة لا تبلغ من العمر إلّا بضعة أشهر.. بهو أبيض أنيق يحتل جانبًا معينًا من الغرفة..و طاولة زجاجية دائرية ترتاح فوقها مزهرية صغيرة أنيقة توزعت مثيلاتها في أماكن مختلفة من الغرفة أيضًا..ثم السرير بأغطيته البيضاء الناعمة و التي كانت مبعثرة بشكل طفيف الآن.. و آخر شيءٍ وقعت عيناه عليه..كان النافذة الزجاجية الكبيرة و التي كانت تحتل الجدار بأكمله حاجبة خلفها شرفة واسعة تطل على الحديقة مباشرة.. اقترب بهدوء و حدس بداخله يخبره بأنها هناك..و قبل حتى أن يدفع الباب الزجاجي متأكدًا بأنه مفتوح كان يلمحها..تجلس فوق واحدة من المقاعد الثلاثة التي تحيط بطاولة تشبه القابعة في الغرفة.. استطاع أن يلمح شعرها فقط و الذي كانت تسدله كما العادة بحرية..ثم ثاني شيء قدماها اللتان كانت ترفعهما فوق المقعد..عقد حاجبيه بهدوء و هو يتقدم خطوتين هما الوحيدتين الفاصلتين بينه و بينها.. إلى أن وقف أمامها..و لم يتفاجئ و هو يراها نائمة.. لقد كانت غارقة في النوم بالفعل..رأسها مائل قليلًا على طرف المقعد بوضعية غير مريحة..تضم قدميها العاريتين تحت فستانها الرقيق بذراع وحيد.. بينما يدها الأخرى ملقاة بجانبها و هناكٓ بضع أوراق بيضاء ملقاة فوق الأرض أيضًا..أمال رأسه قليلًا إلى الجانب و هو يتأمل ملامحها بتركيز..ينقل عينيه بين كل إنشٍ من وجهها الجميل...الشاحب! قبل أن تتسمر عيناه قليلًا على كابوسه الأعظم..كان أثر دمعة رآها عالقة تحت رموشها..دمعة تأملها لثوان بانقباض في قلبه..قبل أن يقرّر الانخفاض ببطءٍ إلى أن نسفها بطرف إبهامه.. ثم رفع أصبعه أمام عينيه يتأكد من أماراتِ الألـم الذي زرعه في قلبها بـ...غباءه ؟!! انخفض بعدها جالسًا القرفصاء أمام مقعدها إلى أن حمل كومة الأوراق..ثم عاد يستقيم متفقدًا إياها واحدة تلو الأخرى باهتمام قد يبدو غريبًا عند نسبه لرجل مثله.. لكنه لن يبدو بنفس درجة الغرابة أبدًا لو وضع في الاعتبار حقيقة أن هذا الرجل الذي يبدو صامدًا ظاهريًا..هو واقع بجنون في عشق امرأة مليحة الجمال..واقع في عشقها إلى حد التولع و الموت.. كانت عبارة عن مجموعة عيناتٍ لعطور جديدة.. وصفات و رسوم لأشكال قنينات راقية التصميم.. لقد كانت حبيبته تشاركه ولعه في التصميم لكن بطريقة أخرى..و هو لا يعلم إن كان عليه أن يعتبر هذه نقطة الشبه الوحيدة بين شريكي حياة لا يتشابهان في أيّ شيء سوى ذلكٓ الوله العميق الذي يتملكُ قلبيهما نحو بعضهما البعض.. تفقدها قليلًا قبل أن يضعها فوق الطاولة بهدوء..ثم دار حول نفس الطاولة إلى أن اتخذ المقعد الملاصق لخاصتها..و استند بمرفقه إلى حاجز الأريكة الرمادية و بذقنه إلى يده و هو يميل برأسه قليلًا إلى الجانب متأملًا إياها بتركيز شديد.. لقد كان حرفيًا يستغل لحظات سكونها هذه في إرضاء شوقه الجارف لها منذ أيام..تحديدًا منذ أن أمرته أن لا يلمسها بعد..و اتخذت قرارًا صعبًا بأن لا تنظر في عينيه مجددًا..و أن لا تبتسم مجددًا.. ثم فجأة..بعد ثوان طويلة من تأمل جميل..فتحت عينيها ! و انتفض قلبه بشدة كعينيه حرفيًا و هو يتململ في طريقة جلوسه حينما قابل تلكٓ المُعجزتين الفنيتين.. أسقط مرفقه من على الحاجز و استقام قليلًا في طريقة جلوسه و هو يتنحنح بلا صوتٍ منتظرًا ردة فعلها الأولية.. لكنها لم تمنحه ردة فعل واضحة لثوان..فقد ظلت فقط تنظر له بنفس وضعيتها عاقدة حاجبيها بغير تركيز..قبل أن تطرف برموشها و تلتفت قليلًا ناظرة حولها عشوائيًا و كأنها تحاول أن تتأكد من مكانها.. و ما إن تأكدت من ذلك..كانت تتحرك ببعض الثقل إلى أن أنزلت قدميها إلى الأرض في حركة تتبعتها عيناه ببطءٍ و استقامت جالسة.. قالت و هي تربت على جانب رقبتها المتشنجة كاتمة تأوهًا يريد التحرّر ؛ _ما الذي تفعله هنا و في هذا الوقت ؟! حسنًا..كان عليه أن يتوقع سؤالًا كهذا..إنها حتى لم تنطق اسمه و لو بشكل عابر ! _أريد التحدث معكِ ! رأى تلكٓ العقدة الطفيفة بين حاجبيها الجميلين و هي تزداد بروزًا ببطءٍ..ثم خرج صوتها المرهق من أثر النعاس لا يحمل أيّ نبرة معينة و هي تسأله ؛ _لا أتذكر بأننا فتحنا أيّ موضوع سابقًا و لم نكمله ! لقد كانت تكذب ! ابتسامة شبه ملحوظة احتلت عيني وائل و لم تصل إلى شفتيه..و بدت..كوميض قادر على أن يدفء أشد جسدًا برودة في العالم..لكن ليس جسدها هي ربما.. فقد رمق..بكل اهتمام يديها اللتين تحركتا لتقبض بهما على طرفي رداءها الحريري الأزرق الداكن..و الذي كانت ترتديه فوق أحد فساتينها الحريرية التي يشكّ بأنها كانت ستبدو بهذه الدرجة من الفتنة على جسد أيّ امرأة غيرها.. شدت طرفيه بقوة قبل أن تغلق الحزام الذي يماثل نعومة كل شيءٍ بها حول خصرها..حينما اقترب منها وائل قليلًا بعينيه فقط سائلًا ؛ _هل حقًا... ؟!! سأل بنبرة دافئة تناقض كل نبرة خاطبها بها خلال فترة جفاءهما..بينما يقابل عينيها حيث لمح بعض الاضطراب يغشيهما كحائل غير مزعج إطلاقًا..ذلكٓ لأنه يعلم جيدًا و يدرك سبب ذلكٓ الاضطراب ! و كما هو متوقع منها فهي لم تستطع أن ترد فورًا..و هو لم يستطع أن يمنع يده من أن تمتد إليها ببطءٍ إلى أن لمس بها فقط...خصلة ! لمس بها خصلة حالكة كانت تلامِس بشرتها الناعمة.. أبعدها قليلًا عن ذلكٓ الفكّ الأنثوي الحاد إلى الجانب.. و كأنها مجرد حركة يمهد بها الطريق لنفسه لأن يتأملها براحة أكبر.. حركة تقبلتها بقلبها..لكن ليس بصوتها الذي خرج باهتًا قليلًا..مبحوحًا..خافتًا إلى درجة تجعل من الصعب على شخص يجلس في المقعد الثالث هنا سماعه.. _لا تفعل...وائل ! و كأنها أمرته بالعكس..اقترب منها أكثر بوجهه..اقترب إلى الحد الذي سمح له بأن يشعر بأنفاسها الدافئة من حيث منبع كل ذلكٓ الاضطراب..و حينها فقط كان يهمس بنفسِ درجة الخفوت ؛ _امنعيني ! همس بهذا و كأنه يغيظها رغم أن نبرته كانت بالغة الجدية تزامنًا مع يده التي تحركت على بشرتها الناعمة إلى أن أصبح يحتوي بها برقة جانب عنقها..و كادت شفتاه أن تلامسان شفتيها.. _اشتقت إليكِ بشدة ! همس بصوتٍ يشبه صوتها قبل قليل في شحوبه.. بأنفاسٍ تتشارك مع أنفاسها نفس الاضطراب..و كانت تلكٓ هي اللحظة التي أغمضت فيها ضحى عينيها بإرهاق.. بينما ارتفع صوتها الخافت جدًا تكرّر للمرة الثانية بـ...ضعف ! أو توسل ؟!! _لا...تفعل..لا تفعل.............. لقد كان يعلم داخليًا..يدرك بأنه في اللحظة التي قد يقرّر فيها قطع تلكٓ المسافة شبه الملحوظة بينهما.. في تلكٓ اللحظة بالذات ستموت همّتها أمامه..و ستسقط حبيبته كل ذروعها مرغمة..كما العادة.. لكنها ستسقطها مستسلمة لا مُسلمة..مسيرة لا مخيرة..كارهة أكثر من كونها راغبة..على عكس العادة ! و هذا تحديدًا ما لا يمكن له أن يتقبل حدوثه أبدًا ! هو لم يكُن ينوي حصرًا قطع المسافة الضئيلة بينهما تلك الآن..لكنه رغم ذلكٓ همس بنفس درجة الخفوت و هو يغمض عينيه مثلها..يحتوي بشرتها الناعمة و يتمنى لو يستطيع أن يحتويها بالكامل ؛ _امنعيني إذن...ضحى...لماذا لا تمنعينني ؟!! شعر بأنه لا على بعد خفقة واحدة من أن يلامس شفتيها..و فقط لكونها تملكُ نفس التأثير عليه..أطبق عينيه أكثر و هو يجاهد نفسه ليحافظ على تلكٓ المسافة الشبه ملحوظة بينهما.. و كأنها كانت تسمع أفكاره عن كثب..شعر بأنامل ناعمة تحط على صدره في نفس اللحظة..غالبًا تلكٓ الأنامل كان هدفها دفعه قليلًا..لكنها و بدلًا عن ذلك.. كانت كيوم قديم لا يزال يتذكره بتفاصيله.. تنغلق على قماش قميصه الأبيض..تتمسكُ به..تدفعه.. أو ربما بها...تقربه أكثر منها ! و للمرة التي لا يذكر كم..يخرج صوتها بنفسِ الهدف ربما..بنبرة تحشرجت على نحو مباغت ؛ _لا تفعل..وائل..أرجوك..لا تفعل............ هل كانت تطلب منه أن لا يفعل أم كانت تتوسله أن يفعل العكس ؟! لأن طريقتها في التمسكِ به و نبرتها كانت و كأنها تكرّر بطريقة أخرى جملته قبل قليل.. " و أنا أيضًا..اشتقت إليك..اشتقت إليكٓ بشدة.. بجنون..لكن مع ذلك..لا تفعل..أرجوك...لا تفعل ! " ارتعشت يده قليلًا فوق بشرتها و هو يشعر بأنه قد سمع تلكٓ الكلمات فعلًا..حتى أنه قطب حاجبيه و هو يتساءل داخليًا إن كان قد سمعها فعلًا !!! و لم يشعر حتى بإبهامه الذي شرع يمسّد فكها برفق.. برقة تناسِب ضياع أنفاسه و أنفاسِها..ألا يمكنه فقط أن يقطع تلكٓ المسافة بينهما ثم يؤجل كل الكلمات التي أتى عازمًا على قولها اليوم إلى وقتٍ لاحق !! ربما بعد دقائق..ربما بعد ساعات..ربما صباح الغد !!! همس بصوتٍ أجش و هو يجبر نفسه بالقوة على الثبات أكثر كي لا يرتكب ما يندم عليه لاحقًا ؛ _هل تحِبينني ضحى ؟! كان سؤالًا مباغتًا جدًا..سؤالًا صادمًا كأقرب وصف.. هذا ما أظهرته ملامحها و عيناها اللتان انفتحتا ببطءٍ تنقلهما بين حدقتيه و كأنها تتأكد ممّا سمعت..و كادت أن تهز رأسها نافية الفكرة حتى من جذورها.. إلّا أن عينيه بنظرتهما الجادة المترقبة لرد كانتا تؤكدان سؤاله..فهمست تبتلع ريقها بنبرة خرجت تحمل ضياعها رغمًا عنها ؛ _هل تحتاج حقًا لسماع الإجابة على هذا ؟!! _بالطبع !! قال فورًا و في نفس اللحظة بجدية أذهلتها..فابتلعت ريقها للمرة الثانية و هي تشعر بغصّة ناتئة تتشكل في حنجرتها..و ظلت تنظر له فقط للحظاتٍ استغلها وائل في إلقاء سؤال جديد يحمل نفس المغزى ؛ _أنتِ..ألم تسأليني قبل بضعة أيام سؤالًا وجيهًا... " ماذا أكون أنا بالنسبة إليك ! " صمت للحظة واحدة فقط يتأمل ملامحها التي شحبت أكثر قبل أن يستأنف بنبرة ذات مغزى ؛ _الآن أنا أسألكِ..ماذا أكون أنا بالنسبة إليكِ ضحى ؟! تسمرت ضحى تمامًا تنظر له بصعوبة في الاستيعاب.. لكن نظراتها تلكٓ لم تدم سوى ثوانٍ قليلة..و ما فعلته كان أن أشاحت بوجهها قليلًا عنه مجبرة أنامله على مفارقة بشرتها مؤقتًا فقط.. _لا أظن بأن هناك أيّ جدوى من التحدث بنفس المواضيع مرارًا !! لقد كانت تقصد حرفيًا حوارهما في ذلكٓ اليوم..و لا.. ليس الحوار نفسه..بل موضوع زواجهما الذي أصبح يقف بدون اتزان على سطح شفرة حادة قد يتمزق بها كلاهما لو لم يبادر اليوم.. و في هذه اللحظة..في إنقاذ نفسه و إنقاذها من مصير أسود يعتكف كل منهما الوحدة في نهايته..رغم أن وصف "نهايته" كان آخر وصف قد يسمح لعقله بانتقاءه حتى.. ذلكٓ لأنه في اللحظة التي نظر في عينيها و قرر بأنه سيلتزم بهذا الزواج فعلًا..سيكون زوجها..سيجعلها زوجته..كان قد وعد نفسه بالأبدية معها..إلى جوارها! _بل هناكٓ جدوى ! قال معترضًا بنفس النبرة الجادة..قبل أن يمد نفس اليد إلى أن قبض بها برفق على ذقنها مجبرًا إياها على النظر في عينيه..لكنها لم تنظر فورًا..فقد ظلت تسدل رموشها الطويلة مخفية عنه نظرات جافة تحتل عينيها الدافئتين بالفطرة.. إلى أن قرّرت أخيرًا أن ترحمه بمجرد نظرة..و حينها فقط قال يحدق في أعماق عينيها ببطءٍ ؛ _الآن أخبريني بينما تنظرين في عيناي ضحى..هل... تحِبينني ؟!! للحظاتٍ لم يشعر بأن سؤاله قد وصلها..فقد ظلت تعابيرها كما هي..باردة..فارغة...متألمة قليلًا..لكن ارتعاشة طفيفة مرت بعينيها لمحها..حينما فتحت فمها أخيرًا لتهمس بصوتٍ أجش.. مختنق قليلًا..بآخر شيءٍ توقع سماعه ! _ليتني لا أفعل ! هل كانت تظن ربما بأن هذا الرد قد يحزنه ؟ على العكس تمامًا فقد عاد طيف الابتسامة السابق ليحتل عينيه..لكن تلكٓ المرة بدون أدنى سعادة..فقط..ببعض الرهبة التي غزت نظراته.. و صوته من بعدها الذي خرج بنفسِ النبرة السابقة ؛ _ليتني نظرت في عينيكِ منذ أول يوم بهذا الشكل..و أخبرتكِ بكل صدق بأنني............. كانت تلكٓ اللحظة حرفيًا الأولى الليلة التي ينال فيها ردة فعل واضحة من عينيها..كانت نظرة مترقبة ظهرت بهما قسرًا عن إرادتها..نظرة لم تستطع قمعها أو احتوائها مهما حاولت إضفاء الثبات إلى ملامحها.. بينما تحركت أنامله برفق تربت على وجنتها..و سمح لصمتٍ طويل بأن يسود بينهما..قبل أن يقرّر أن يقطعه بنفسه بصوته الذي خرج مختنقًا قليلًا ؛ _أحبكِ..بشدة..بجنون..منذ وقتٍ طويل................ كان يتحدث بصدق..ينطق كل حرفٍ على حدا و كأنه يتذوق اعترافه الأول بالحُب ببطءٍ..لكنه لم يتوقع أبدًا ذلكٓ الانهيار الذي حدث أمامه..انهيار تشكل في عينيها فقط..في نظرات عينيها.. و في تلكٓ الشهقة الثقيلة جدًا التي هربت من بين شفتيها الفاغرتين و هي تعقد حاجبيها بشدة ناظرة له كشخص يعجز فعلًا عن تصديق أو فهم ما سمعه ! و حينما عجزت تمامًا عن احتواء ما أظهرته تعابيرها تلك..عادت تطبق رموشها بقوة هامسة من تحتها بأنفاسٍ لاهثة ؛ _يا إلهي...... !!!!! فلانت نظرة عينيه تمامًا و هو يشعر بذلكٓ الانقباض المرتبط بها يزداد في قلبه..كيف كان يحرمها و يحرم نفسه طوال هذه السنوات من تهجئة هذا الإعتراف ؟ أربعة أحرف..أربعة أحرف فقط استغرقه الأمر خمس سنوات لتجميعها و نطقها !!!! أيّ زوج هو !!! صمت طويل خنق الأجواء بينهما..صمت محمل بثقل أنفاسه و بنظراته المترقبة لصوتها..لكنها لم تتحدث أبدًا..فقال يحثها برقة ؛ _ألن تقولي أيّ شيء ؟!! أطبقت ضحى عينيها للحظة أخيرة بقوة..قبل أن تسحب نفسًا عميقًا ثم تفتحها ببطءٍ..لكنها لم تنظر له رغم ذلك..فقد ظلت تشيح بأنظارها بعيدًا متجنبة عينيه..حينما همست بما تلقاه قلبه كرصاصة نافذة ؛ _ألا تظن بأن الوقت قد تأخر قليلًا على قول مثل هذه الكلمات !!! ربما لأنه هو ذاتًا تأخر طويلًا في استيعابها و فهمها رغم إيمانه التام بها منذ وقتٍ طويل !! قال بلطفٍ و كأنه يخاطب طفلة صغيرة ؛ _لا..لا أظن حبيبتي............ إلّا أنها تلكٓ المرة لم تسمح له بالإتمام..فقد التفتت إليه أخيرًا لتمنحه عينيها تزامنًا مع صوتها الذي ارتفع مقاطعًا ؛ _لا تناديني بهذه الكلمة !! فتراجع قليلًا برأسه ناظرًا لها بدهشة..لكنها كانت دهشة لحظية استطاع نسفها بسهولة..و قال بدلًا عن ذلكٓ يسألها بغباء ؛ _أيّ كلمة ؟!! استنكار واضح ظهر في عيني ضحى اللتين بدأتا تتشحان بغضب داخلي نادرًا ما يراه ملتحمًا بهما..إلّا أنه أبقى على موقفه..و ظل فقط ينظر لها بتمعن و كأنه ينتظر إجابة يعرفها باهتمام.. لولا أنها لم تمنحه أيّ رد..فقد طرفت برموشها و هي تعود لتشيح بعينيها عنه..همست بصوتٍ عاد ليخفت بضعفٍ يناقض جدية نبرتها ؛ _قبل كل شيء..عليكٓ أن تعلم بأن كل ما قلته الآن..أو تنوي قوله..لن يجدي نفعًا وائل..الحقيقة أنني...سئمت من عيش نفس الموقف مرارًا و تكرارًا............ خفت صوتها أكثر و هي تهمس كشخصٍ يخاطب نفسه فقط ؛ _لقد سئمت فعلًا............. استطاع وائل أن يستشعر الغصّة التي احتقن بها صوتها في آخر كلمة..إلّا أنه رغم ذلكٓ وجد نفسه يقول بدون أن يشعر بنبرة خرجت جادة تحمل بعض العتاب ؛ _هل تظنين بأنني أقول كل هذا بغاية التأثير عليكِ و استعادتكِ فقط ؟ هل تظنين بأنني أتيت إلى هنا اليوم بعد كل هذه الأيام التي بقيت فيها بعيدًا عنكِ وحيدًا كناسك كفرت كل طائفته بمبادئه..فقط لكي أضعف موقفكِ السابق و................... صمت فجأة غير قادر على تكوين حروف مناسبة لوصف ما أشعرته به كلماتها..إلّا أن ضحى لم تكن في حاجة ربما لسماع التتمة..فقد رأى بعينيه الطريقة التي تعقدت بها ملامحها.. كيف احتد فكها..كيف انعقد حاجباها أكثر..كيف زمت فمها و كيف شابكت بين أناملها المتشنجة كشخص يجاهد نفسه لاحتواء جملة ما..إلّا أن كل محاولاتها ضاعت عبثًا على ما يبدو.. فقد تفاجأ بها ترفع رأسها فجأة إليه..فسقطت عيناه مباشرة على غلالة الدموع التي أغشت عينيها من الفراغ..و ظهر أثرها في صوتها الذي ارتفع بنبرة تشبه...اللوم !!! _و إلّا ما فائدة الحُب إن لم يكن قادرًا على تغيير أيّ شيءٍ بيننا وائل ؟ ما فائدة النظر في عيناي و قول كل تلكٓ الكلمات بينما أنت لا تزال حتى اليوم..بل في كل يوم..تذكرني بحقيقة هذه الزواج..حقيقة أنني وافقت عليكٓ ضد إرادتك..و أنكٓ أنت..ما كنت لتوافق أبدًا على هذا الارتباط لو كان الخيار قد وضع في يدكٓ منذ البداية !!!! هل كانت الصدمة كلمة كافية لوصف ما يعتريه الآن ؟ لقد كانت هذه أول مرة حرفيًا تتحدث معه ضحى بهذه الصراحة !! كانت أول مرة حرفيًا تنظر في عينيه..تعاتبه على كلمات لم يملك يومًا أمر التحكم بنفسِه لقمعها عن الخروج..تعترف له بالحُب حتى و إن لم يكُن بطريقة مباشرة..و تطعن في حبه الصامت...الضعيف !!!! إن كان ما ارتسم على ملامحه قبل دقائق و هو يستعيد صوت أخته و يقابل دموعها ألمًا..فما كان يشعر به الآن يفوق الألم..ظل ينظر لها لوقتٍ طويل.. في عينيها..في أعماق عينيها الباكيتين بصمت.. و قد كان يتوقع..بل تأمل أن يكون عتابها قد انتهى.. لكن كل توقعاته بشأنها اليوم خابت..فقد سمع صوتها يتردّد في أذنيه مجددًا بنبرة أكثر اختناقًا من أيّ نبرة سمعها تتحدث بها يومًا.. _ما فائدة الحُب..إن لم يكن قادرًا على تغيير بعض الأشياء ؟!! أنت لم تكُن تريدني منذ اليوم الأول وائل..كنت أعلم هذا..و لا أزال أعلمه..لكنني فقط كامرأة حمقاء واقعة في الحُب بيأس..اخترت اعتكاف الكثير من الأمل الذي منحته لي عيناكٓ منذ أول مرة نظرت فيها لعيناي و شاركتني رغبتكٓ في إنجاح هذا الزواج..منذ أول قبلة لنا وائل..و حتى على الرغم من كل تلكٓ الكلمات الجارحة التي سمعتها منكٓ صباح تلكٓ الليلة..اخترتكٓ أنت وائل..اخترت الايمان بما أوحته لي تلكٓ النظرات ليلتها على الاستسلام............. كانت دموعها تنساب تباعًا..تتضاعف وتيرة سقوطها مع كل كلمة..كما يتضاعف تعبير الألم في عينيه..لا يصدق أنه يعيش لحظة كهذه..موقفًا كهذا بحيث يجد نفسه يستمع إلى حقائق عنه من زوجته.. يحدق بها عاجزًا عن مقاطعتها أو حتى عن مشاركتها البكاء..هكذا فقط..بدون سبب..بينما أمامه..فتحت ضحى ذراعيها في وضعية الاستسلام فعلًا هامسة بصوتٍ تحشرج بدموعها ؛ _لكن أيّ شيء لا يتغير وائل..لا شيء يتغير بيننا مهما تأملت..مهما انتظرت..إننا حرفيًا..أنا و أنت..نقف في نفس المكان منذ خمس سنوات....... !! زمت فمها قليلًا تتأمله بقهر..قبل أن تهمس مخاطبة عينيه بصوتٍ اختنق أكثر ؛ _هل تستوعب هذا حتى..وائل...... ؟!! ابتلع وائل ريقه ببطءٍ و هو يشعر بأن كل ردود الفعل التي أتى محملًا بها معه إلى هنا قد اختفت..و لم يكن يدرك حتى إلّا بعد أن سمع صوتها يرتفع مجددًا..بأنها لم تكن تنتظر جوابه أساسًا.. لم يكن يدرك إلى أيّ حد قد يكون صمته الجديد اليوم قد آلمها..حتى و لو كان صمتًا مدته بضع ثوانٍ.. لم يكُن يدرك أو يتوقع إلى أيُ حد قد تكون أفكارها قد هربت ! إلّا حينما همست تهز رأسها مؤكدة شيئًا مجهولًا ؛ _ربما كنت محقًا منذ البداية وائل..ربما أنا المذنبة في كل هذا..ربما أكون أنا المذنبة فعلًا..لكن هل تعلم ما هو أكبر ذنب لي ؟!!!! تقطيبة صغيرة ظهرت بين حاجبيه و هو ينتظر سماع تتمة ما ستقوله..و قد شعر..قبل حتى أن تستأنف بأن ما ستقوله لن يعجبه تمامًا..و هذا ما حدث بالفعل..أو كاد أن يحدث ! _لقد كان أكبر ذنب لي هو أنني أحببتكٓ بشدة وائل.. كان ذنبي أنني أردت أن أكون معكٓ فعلًا..إلى جانبك.. كان أكبر ذنب لي هو أنني نظرت إلى هذه العلاقة منذ اليوم الأول بجدية كاملة..لقد منحتها كل ذرة مشاعر موجودة بداخلي..أنا حتى لم أمنح نفسي مهلة صغيرة أتساءل فيها إن كنت تنظر لها بنفس طريقتي..إن كنت تراني أنا..بنفس الطريقة التي أراكٓ بها..إن كنت ترى هذا الزواج..كزواج حقيقي فعلًا أو فقط نزوة عابـ......... كاد أن يحدث..كادت حبيبته اليوم أن تطعنه بسيف الكلمات لولا أن قرّر مقاطعتها في اللحظة الأخيرة.. قاطعها بشفتيه اللتين أطبقتا على شفتيها يكتم أنفاسها المضطربة المختنقة به في صدره.. يعانق دموعها الغالية بأنامله التي عادت ترتاح فوق بشرتها..و ينسف قدرتها على إتمام تلكٓ الكلمة القبيحة التي كانت سترديه بها..كانت ستردي بها قلبه المسكين الجائع إليها ضد كل صموده الكاذب.. شعر بارتعاشتها واضحة بشدة..ارتعاشة شفتيها من المفاجأة..ارتعاشة يديها اللتين ارتاحتا فوق صدره تلاحقان تلكٓ الخفقات عفويًا..لكنه فقط أغمض عينيه و هو يتحسّس سيل دموعها الغالية تحت يده..بينما تحركت الأخرى يحاوط جسدها الرقيق بها بقوة و كأنه يحاول أن يمتزج بها و يمزجها به.. لكن حتى ارتعاشتها تلك لم تكن كافية ربما لتفقدها تركيزها لأكثر من ثوان قصيرة..و كان يشعر بيديها اللتين على صدره تتحركان الآن بوعي لـ...دفعه ! لقد كانت تحاول دفعه بالفعل !! هذا الإدراك لوحده جعله يفتح عينيه فجأة..حينما عصفت جملة في ذهنه و ذهنها معًا مرسلة إلى قلبه شعورًا غير معهود بالـ..اشمئزاز من نفسه !! " أنت لن..تلمسني بعد الآن وائل ! " فتح عينيه فجأة على وسعهما محرّرًا إياها من سطوة أنفاسه فقط..فقد ظلت يده ترتاح فوق وجنتها حتى بعد أن ابتعد القدر الكافي للسماح لها بالتنفس..و انضمت الأخرى لتفعل نفس الحركة مطوقًا وجهها بالكامل الآن بين يديه.. أغمض عينيه بقوة و هو يستند بجبينه إلى خاصتها.. يستمع إلى صوت أنفاسها المتدهورة كأنفاسه..و يشعر بيديها اللتين على صدره..تلكٓ اليدان اللتان كانتا تحاولان دفعه قبل لحظة..قد تمسكتا بقماش سترته الرمادية تعتصرانها بقوة.. همس يشاركها ارتعاشتها بصوتٍ أجش ؛ _إياكِ أن تكمليها ضحى..إياكِ..تلكٓ الكلمة القبيحة التي كنت ستقولينها...إياك أن تفكري بها بعد الآن حتى..إياكِ........... خاطبها بحرارة..و قد توقع أن تقول أيّ شيء..إلّا تلكٓ الكلمات التي خرجت بنبرة مرتعشة..لكنها حازمة و مصمّمة على شيءٍ مجهول في نفسِ الوقت ؛ _لا يمكنكٓ أن تفعل هذا بي مجددًا وائل..هذه المرة لن يجدي أبدًا..لن يجدي...لا يمكنكٓ أن تفعل هذا بي مجددًا..لا يمكنكٓ..أن.............. صمتت فجأة و شعر باختناقها من أنفاسها التي تدهورت أكثر في مقابل أنفاسه..فشدّد من تمسكه بها عبر يديه المطوقتين لوجهها..و همس يسايرها و كأنه يخاطب طفلة صغيرة ؛ _لا يمكنني أن أفعل بكِ...ماذا ؟!!!! صمت جديد ساد من طرفها..صمت مكلل بأنفاسها و دموعها..ثم سمع صوتها المهتز يهمس بخفوتٍ و أناملها تعتصر سترته للمرة الأخيرة قبل أن تتركه نهائيًا و تفصل جبينها عن جبينه مبتعدة ؛ _لن يحدث أيّ شيءٍ بيننا هذه الليلة وائل..و لن يحدث غدًا أو الذي بعده..لن يحدث أبدًا..لن يحدث...... كانت تتحدث بهستيريا رغم أن صوتها لم يعلو عن الهمس..و رغم أنها كانت حرفيًا تنظر في عينيه من مسافة قريبة جدًا ليسمع حتى صوت أنفاسها بوضوح.. و بدت إليه في لحظة ما..و كأنها تخاطب نفسها فقط..و كأن تلكٓ الكلمات الصارمة هي موجهة لها قبل أن تكون موجهة له..فابتسم.. ابتسم ابتسامة حنونة لا تمُت للسعادة بصلة..ابتسم و هو يتأمل ضياعها بقلب ينبض بنفس الهستيريا التي كانت تتحدث بها..و للمرة الثانية يقرّر مسايرتها عبر سؤال خرج بصوتٍ مسالم ؛ _لماذا ؟!! و للمرة الثانية أيضًا..لا يتوقع ردها..فقد عادت تنظر في أعماق عينيه مجيبة فورًا بصوتٍ ارتفع قليلًا ليس إلًا...قهرًا !! _لأنكٓ تقتلني وائل..أنت تقتلني في كل مرة تذكرني فيها بأن هذا الزواج حدث رغمًا عن إرادتك..في كل مرة تنظر في عيناي ملقيًا بهذا الذنب الهائل على كتفاي..في كل مرة تكرّر تلكٓ الجملة على مسامعي.. تصِف علاقتنا..زواجنا...بتلكٓ الكلمة البشعة...تتهمني بأشياء لم يكُن لي أيّ ذنب فيها بقدرك..تذكرني بقساوة في كل مرة أحاول التغاظي قليلًا بأنكٓ تزوجتني بالإجبار.............. زمت فمها تحاول أن تكتم سيل دموع جديد من التي لم تتوقف عن النزيف من عينيها..ثم هزت رأسها يأسًا و هي تضيف بحرارة ؛ _هل تدرك في أيّ موقف تضعني في كل مرة ؟ كيف يمكنني أن أثق بعد الآن في رجل لا ينفكٌ عن ضربي بتلكٓ الكلمة في كل فرصة..كيف أسلم نفسي بعد الآن بجوارح تقسم على صدق تلكٓ المشاعر في عينيكٓ لرجل يرى زواجنا على أنه...ورطة !!!! أسدلت جفونها المبللة على عبراتٍ ترفض التوقف.. و انخفضت قليلًا تغرق يديها في خصلات شعرها الفاحمة و هي تقابل الأرض..ترى كل الصور مشوشة من بين غمامة دموعها.. بينما كل ما أصبح يصله..ذلكٓ الرجل الجالس بجانبها على كرسي منفصل يستمع إليها منذ ثوان أو دقائق لا يهم..هو صوت شهقاتها الناعمة..ثم صوتها بعدها الذي خرج متحشرجًا بشدة..أكثر من أيّ مرة سمعه بها.. _لقد سئمت..وائل..لقد تعبت جدًا إلى درجة أصبحت أشعر معها بأن هذه نهاية المطاف..أحاول أن أطرد تلكٓ الأفكار القبيحة من ذهني..أحاول أن أتمسكٓ في كل تلابيب الأمل المتبقية لدي..أحاول أن أقنع نفسي بأنها هفوات غير مقصودة و ستمر لكن لا جدوى..لم أعد أجد أيّ جدوى من المحاولة بعد..لقد تعبت جدًا وائل تعبت............. ارتفع صوت شهقاتها أكثر بعد نهاية كلماتها..بينما ظل وائل يراقب رأسها المطرق للحظاتٍ لم تنفكّ فيها عيناه عن مشاركتها دموعها.. رمق أناملها التي كانت تغرقها بين خصلات شعرها.. كيف كانت تقبض عليها بعنفٍ تكاد أن تمزقها..حتى أن مفاصلها ابيضت و تشنجت أناملها الرفيعة أكثر مصرة على النظر إلى الأسفل لوقتٍ طويل.. همس بعد وقتٍ طويل كشخص منوم مغناطيسيًا بصوتٍ مبحوح ؛ _كل هذه الأفكار تدور في عقلكِ طوال هذا الوقت ! و لم تفكري حتى في مشاركتها معي من قبل ؟!!! لثوان طويلة ظن بأنها لن تجيبه إطلاقًا..إلّا أنها قالت في النهاية بدون أن ترفع رأسها أو تغير من وضعيتها العصيبة..قالت بدون حتى أن يرتفع صوتها المبحوح حاله كحال صوته ؛ _كيف كنت سأشارككٓ إياها ؟!! إلّا أنه كرّر بنفسِ النبرة بإصرار ؛ _لماذا لم تخبريني ضحى ؟ لماذا لم تخطر في ذهنكِ فكرة أن تشاركيني مشاعركِ الحقيقية خلف واجهتكِ الهادئة ؟!! لماذا بقيتِ مصرة إلى آخر لحظة على الحفاظ على تلكٓ الواجهة الزائفة........... لقد استفزها..و هذا ما كان يريده !! علم بأنه استفزها بشدة حينما رفعت رأسها فجأة لتقاطع كلماته بألم ؛ _ربما لأنكٓ كنت أنت من تسبب بها منذ البداية !!! ألا يبدو لكٓ هذا كسبب كافٍ لكي لا أشارككٓ بها !!!! _بل أكثر من كاف !! قال بنفسِ طريقتها و نبرتها..فتراجعت ضحى قليلًا تنظر له من بين دموعها و كأنها تنظر لشخص معتوه.. إلّا أنه و بكل بساطة..رفع يده ببطء إليها إلى أن كرّر نفس حركته السابقة.. احتوى وجنتها المبللة بها..لكنه تلكٓ لم المرة لم يكتفي باحتواءها..فقد تحرك إبهامه بنعومة يرسم خطوطًا عشوائية فوق بشرتها هدفها الوحيد مسح اليسير من دموعها.. اقترب منها أكثر إلى أن لامست ركبتاه ركبتيها..و قال بصوتٍ حاول ما أمكن أن يخرج قويًا ثابتًا..و يحاول في نفس الوقت التغاظى عن الرعشة التي سرت بكل ملامحها إزاء لمسته تلك..رعشة يعرفها جيدًا و منذ وقتٍ طويل.. _لقد سألتني ذلكٓ اليوم سؤالًا وجيهًا..قلتِ لي..ماذا ستكون ردة فعلكٓ لو أخبرتكٓ الآن بأنني أحمل طفلكٓ في أحشائي ؟! لكنني لم أستطع الإجابة عليه بوضوح يومها ! لم يظهر أيّ تعبير للاهتمام في عينيها الحمراوين..و هذا إدراك كان ليؤلمه بشدة لو لم يكن مصرًّا على إتمام كلامه حتى النهاية..همس و هو يحدق في أعماق تلكٓ العينين ؛ _لكنني اليوم...أصبحت أستطيع الإجابة ضحى ! هنا فقط..كان يظهر تعبير جديد..عبارة عن ترقب طفيف لامس عينيها فقط كطيفٍ عابر..تلكٓ العينين اللتين تحركتا ببطءٍ تنتقلان بين خاصتيه بضياع كان ليؤلمه بنفس القدر.. إلى أن همس بعد صمتٍ طويل بعض الشيء و هو يمد يده الأخرى ليحتوي بها يدها برقة..همس يوجه الكلام لعينيها مجددًا..و لقلبها..بينما أنظارها..تعلقت كطفل يتعلق بقشة الأمل الأخير في شبح الابتسامة التي داعبت شفتيه خلسة.. لكنها اضطرت لأن تبتلع ريقها معيدة تركيزها إلى عينيه و صوته حينما قال ؛ _لقد أخبرتكِ بأنني كنت سأتقبله..و أنا كنت سأتقبله فعلًا..لكنني أيضًا...كنت سأفرح به بشدة!.. لم يستغرب نظرة الغباء الطفيف التي ظهرت في عينيها..فقد قال يستأنف مؤكدًا بحرارة و صدق ؛ _نعم..ربما أعاند في البداية..ربما أقلق كثيرًا..لكنني ما إن أحمله بين يداي حتى تتلاشى كل تلكٓ المشاعر و كأنها لم تكُن..ما إن أحمله بين يداي و أنظر في عينيه..كنت حينها سأتحول من هذه النسخة التي لا تحبينها إلى أكثر أب سعيد في العالم بأبوته..لقد أصبحت أدرك هذا جيدًا ضحى..هل تعلمين لم ؟!! ارتجفت ابتسامته قليلًا على مرأى من عينيها الحزينتين و هو يستطرد بنبرة مميزة ؛ _لأنني عشت اليوم جزءًا من ذلكٓ الشعور بدون أن أخطط لذلكٓ حتى أو أتوقعه ! صمت لوهلة صغيرة..ثم عاد يستأنف بنفسِ الابتسامة المرتجفة قليلًا و النظرات التي زاغت قليلًا و عقله يستعيد صورًا في ذهنه لكل ما يقوله.. _لقد تركٓ عماد ابنته حديثة الولادة معي..لمى..لقد سبق و أخبرتكِ عنها من قبل!..طلب مني أن أهتم بها قليلًا ريثما ينتهي من اجتماع مهم و أنا في البداية استنكرت الأمر جدًا كما هو متوقع مني..لكن هل تعلمين ماذا حبيبتي ؟! لم يستغرق الأمر بضع دقائق حتى وجدت نفسي أتأقلم معها و كأنني متعود على حمل الاطفال و الاهتمام بهم منذ الأزل..مشاعر غير مألوفة انتابتني و أنا أحملها بين يداي..أنظر لعينيها و براءتها..أحاول تهدئتها..لقد أحببتها بشدة ضحى رغم أنها ليست ابنتي..و لقد قفز إلى عقلي سؤال غريب حينذاك..إذا كنت كنت قد أحببت ابنة الناس بهذا الشكل في غضون دقائق..فماذا عن أطفالي مستقبلًا ضحى ؟ ماذا عن أطفالنا ؟!! ماذا عن روح صغيرة مشكلة من دمائي و دمائكِ ؟!! كان يتحدث بحماس بدا غريبًا جدًا على طبيعته التي تعرفها..حماس شعرت به بطريقة ما..حقيقيًا! و دمعت عيناها أكثر بدون أن تدرك حتى إزاء تلكٓ الأفكار التي قفزت إلى ذهنها..لقد كانت تود الانصياع لذلكٓ الحماس..تود التصديق به و التسليم للمرة الألف.. لكنها للأسف لا تشعر بأنها تستطيع بعد بكل هذه السهولة..لقد...سئمت !!! بينما استأنف وائل و هو يتمسكُ بيدها أكثر بدون لحظة انقطاع واحدة بنفس الحرارة الغريبة ؛ _و حينها أدركت شيئًا مهمًا جدًا..بأنني أريد هذا معكِ ضحى..أريد أن أعيش هذه التجربة برفقتكِ و لا تهمني النتائج لاحقًا..لماذا عليّ أن أخاف من الندم بينما أشعر بنفسي في حاجة ماسّة لاعتكاف شعور كهذا ؟!! لأن يكون لي أنا أيضًا طفلة صغيرة جميلة كطفلة معاذ..بل لماذا لم يتردّد معاذ من الإنجاب مثلي ؟! إذا كان هو قد استطاع أن يتخذ هذا القرار بدون أن يخشى أن يتأثر عملنا و مستقبلنا به فلماذا لن أستطيع أنا أيضًا !! أليس هناكٓ خط وسط حيث أكون الرجل الناجح الذي تمنيت أن أكونه دائمًا و في نفس الوقت الوالد المحِب الذي يسرع في العمل كل ليلة للعودة إلى عائلته الدافئة المُكونة من زوجة جميلة و طفل صغير يكاد أن يماثلها جمالًا !!!! نفس طويل زفره بعدها قبل أن يسود صمت معبر محمل بنظراته الدافئة إليها..و التي كانت لتنصهر بها تمامًا في وقتٍ آخر..فقط لو كان معاذ قد قرر أن يترك ابنته معه قبل بضعة أيام..فقط لو كان قد قال نفس هذه الكلمات قبل بضعة أيام !!! قالت تسحب نفسًا عميقًا بصوتٍ جاد ؛ _هل تظن بأن شعور الاهتمام بطفل صغير غريب لمدة دقائق يعادل أن يكون لديكٓ طفل حقيقي من صلبكٓ أنت مضطر ليس على حُبه فقط..بل على تحمل مسؤوليته الكاملة طوال العمر ؟!! تعمدت أن تستعمل كلمة "مضطر"..ذلكٓ لأنها كانت أكثر كلمة لطالما وصفت وضعه و وجهة نظرة لفكرة الإنجاب ككُل..و كم كانت تطعنها تلكٓ الفكرة و تشعر بعمق الطعنة حينما يردّد عقلها سؤالًا مخيفًا.. هل لو كان يحِبها بحق..كان ليرفض بكل هذا الإلحاح و الذعر فكرة الإنجاب حتى بعد كل هذه السنوات من زواجهما ؟! هل لو كان قد تزوج بها عن حُب كان ليتخذ نفس القرار هذا ؟! كان ليقول هذا في وجهها في صباح أول ليلة لهما !!! و أكثر سؤال مخيف..هل لو كان قد تزوج بامرأة أخرى غيرها..بظروف أخرى..كان ليتخذ نفس القرار أيضًا ؟!! أسئلة كثيرة معقدة و مؤذية حين التفكير فيها فقط أكثر من كلماته ! أسئلة كانت تكره و لا تزال السماح لها باقتحام ذهنها..فكانت تهرع إليه لينفيها..ليطردها على الأقل بعينيه شر طرد..لكنه للأسف لم يكن يفعل أيّ شيء أكثر من أن يزيد الطين بلة بـ...تأكيدها في كثير من الأحيان !! و كأنه كان يشاركها تلكٓ الأفكار..و كأنه كان يسمعها.. سمعت صوته يرد بعد أقل من ثانية بجدية.. _لا أظن هذا..لكنني أشارككِ فقط شعورًا انتابني ضحى..شعورًا صادقًا إلى حد الإفصاح عنه من طرف شخص مثلي كان حتى قبل أيام معدودة يخاف أن ينطق أمامه كلمة أطفال بالصدفة حتى !!! حينها..نظرت له ضحى بعمق..للصدق المنبعث من عينيه..إلى أن قالت غير قادرة على كبح سؤال جديد قفز إلى عقلها و اقتحم قائمة تلكٓ الأسئلة المجنونة التي لا تحبها ؛ _ألا يمكنه أن يكون مجرد حماس مؤقت سيختفي بعد يومين ؟! شعرت ببعض الندم و هي ترى الطريقة التي تراجع بها وائل ناظرًا لها بـ...بحيرة ؟! هل نظر لها بحيرة حقًا فقط لأنها نطقت سؤالًا وجيهًا و منطقيًا !! لكنها لم تكن تعلم حتى..بأنها كانت تهين نفسها من وجهة نظره بأسئلة كهذه..و هو أكثر ما يكرهه..كان تلكٓ اللحظات التي يسمعها تتحدث نيابة عنه عن نفسها فتلفظ كلمات ما كان ليفكر بها عنها و لو بعد ألف سنة انفصال !!! و للمرة الثانية..تفهم صمته و شحوبه النسبي بطريقتها..فقد قالت بعد لحظاتٍ بنبرة حاولت أن تخرج مسالمة لأقصى حد..لكنها خرجت متهدجة قليلًا رغم ثبات ملامحها الظاهري ؛ _أنظر...وائل..أنت لست مضطرًا للتنازل عن أيً شيء من أجلي..أساسًا أنا و........... _أنا لا...أتنازل ضحى !! تلكٓ المرة لم يستطع أن يمنع نفسه من أن يقاطعها بنبرة مشتدة حادة قليلًا..فتسمرت ضحى بينما أكمل هو بجدية بعيدة عن تأثره السابق بما كان يقوله ؛ _هل تظنين بأنني لو أردت التنازل ما كنت فعلتها قبل هذا بكثير ؟ ألا ألاحظ ألمكِ في كل مرة تتوقفين في منتصف الغرفة حاملة في يدكِ حبة الدواء من جهة و في اليد الأخرى كأس الماء ؟ ألا ألاحظ...ضحى ؟!!ضياعكِ و تردّدكِ قبل ابتلاعها كل ليلة ؟!!! لكنني فقط كنت غارقًا في جب من الظلمات التي تغشي بصيرتي عن تمييز بعض الأشياء............. صمت لوهلة واحدة ينظر في عينيها بجدية..عيناها اللتان لانت نظرتهما بعض الشيء و تلاشت سحب اليأس قليلًا تاركة الفرصة لبعض الأمل أن يطفو بخجل.. ثم قال يكرّر بنفس النبرة المشوبة ببعض الانفعال ؛ _أنا...لا أتنازل ضحى..أنا أخبركِ عن مشاعري كما هي فقط..و أنتِ تملكين حرية الإيمان بها أو لا !! طرفت ضحى برموشها بإرهاق و هي تشعر بثقل قوي لا يزال يرزح فوق صدرها..يثقلها بالهموم و يضاعف من تعبها السابق..إلى أن قالت ببديهية ما جاء في ذهنها فقط ؛ _هل أنا أملكُ هذه الحرية فعلًا !!! فرد وائل بحرارة و هو يقترب منها قليلًا مخاطبًا عينيها فقط ؛ _أنتِ تملكين كل شيءٍ فيّ ضحى!..حتى لو عجزت عن التعبير عن هذا في كثير من الأحيان..حتى و لو اضطررت أحيانًا على تقمص دور لا أجيده أمامكِ.. فأريدكِ أن تعرفي بأن هذه هي الحقيقة المطلقة..أنتِ تملكين كل ذرة خافقة موجودة بداخلي ضحى..أنتِ تملكينني........... ارتفع صوته أكثر في آخر كلمة..و اشتدت حروفه و هو ينظر في أعماق عينيها بتمعن..قبل أن يعقد حاجبيه ببطءٍ حينما رأى تلكٓ الدمعة الجديدة و التي بدت و كأنها الأخيرة الليلة التي تسللت من تحت جفنها الأيمن ببطءٍ.. دمعة هادئة جدًا..لكنها أيضًا مستفزة القدر الذي جعل أنامله تتحرك مجددًا ممارسة وظيفتها الأسمى..مسح تلكٓ الدمعة و نسفها إلى الأبد..حينما سمعه صوتها تهمس باستسلام بدون أن تعقب على حركته تلك.. _غالبًا..أنت تقول هذا بصدق الآن..لكنكٓ ما إن تقع في مشكلة ما مستقبلًا حتى تعود لتلقي بكل اللوم علي.. ستتهمني بأنني كنت أضغط عليك..و بأنكٓ لولاي لما خطرت لكٓ الفكرة من الأساس وائل..ستغرق في الندم و سأكون أنا الوعاء الذي تفرغ فيه كل مشاعركٓ السلبية مجددًا..و مجددًا..و مجددًا...كما العادة !!! ربما كان مخطئاً في تقديره لدموعها..فقد رأى بتمعن دمعة أخرى و هي تنساب من عينها الأخرى بنفس البطء..قبل أن تغمض عينيها قليلًا بإرهاق.. لكنها عادت و اضطرت لفتحها و هي تسمع صوته يهمس بنفس الصدق الذي قرر التمسكٓ به اليوم ضد كل التردد الذي كان يمنعه سابقًا من تحرير مشاعره الحقيقية ؛ _الشيء الوحيد الذي قد أندم عليه لاحقًا هو دموعكِ هذه..هو احتمالية خسارتكِ..هو خسارتكِ أنتِ ضحى.. زم فمه بقوة..ثم أضاف بنبرة بطيئة و هو يرفع اليد الأخرى أيضًا ليحتوي بها وجهها بالكامل ؛ _أنا لا أستطيع أن أخسركِ ضحى..لا أريد أن أخسركِ ! أطبقت ضحى عينيها للمرة الثانية مستسلمة لأنامله التي شرعت تداعب بشرتها و دموعها كعادته..لكنه لم يتوقف رغم ذلك..فقد اقترب منها قليلًا بعد ليضيف بنبرة خافتة جدًا..بإصرار شديد ؛ _أحبكِ بشدة ضحى..لقد أقسمت على نفسي بأنني سألقي بهذه الكلمة على مسامعكِ..ثم لن أتوقف عن ترديدها بعدها إلى أن يصل بكِ الحال أن تتوسليني التوقف بدون جدوى......... هنا فقط..كان يرى بلهفة شديدة الابتسامة التي ارتفع بها جانبا شفتيها..ابتسامة حزينة جلبت معها عبرات جديدة..لكنها ابتسامة حقيقية بقدر حزنها..ابتسامة استسلام..و قلة حيلة !! قبل أن تفتح عينيها ببطءٍ..و قد لاحظ بأن بعض السكون قد اكتسحهما حديثًا..القليل منه فقط..حينما همست بنبرة تشبه نبرته في خفوتها ؛ _على الرغم من كل هذا..أنت لا تزال تحتاج إلى مهلة قصيرة للتفكير.. فهمس في نفس اللحظة و هو يتتبع طيف ابتسامتها بلهفة خوفًا من أن يختفي في أيّ لحظة غادرة ؛ _الشيء الوحيد الذي أحتاج إليه الآن هو أنتِ ! و حدث ما كان يخاف منه..اختفى طيف ابتسامتها ! لكن نظراتها ظلت محافظة على هدوءها..و تحرك بؤبؤ عينيه يبحث عن ابتسامة جديدة بالكاد ظهر طيفها في صوتها المرهق الذي خرج بنبرة جادة ؛ _أنا بجانبك..لكن أيّ شيء لن يحدث بيننا هذه الليلة وائل..أنا مصرة ! هذه المرة كان دوره هو ليبتسم بارتياح..ابتسامة لا تتعلق بما قالته تاليًا..بقدر ما تتعلق بجملتها القصيرة الأولى..و بصوتها الحبيب الذي استعاد هدوءه أخيرًا.. ثم قال و هو يطبع قبلة طويلة على جبينها..ثم يسقط جبينه على نفس المكان مغمضًا عينيه مثلها ؛ _لن يحدث أيّ شيء..لا داعي لأن يحدث الليلة أساسًا..دعيني أضمكِ فقط ! _فقط ؟!! همست ببديهية لم يستغربها..فقد قال يجيبها بجدية تدعو لـ...للابتسام فعلًا ! _فقط !! هل هناكٓ شعور أجمل من أن ننام و نحن متعانقين ؟!! و قد خالفت توقعاته بقولها فورًا ؛ _يوجد ! فأطبق جفونه أكثر سائلًا بحرارة ؛ _أخبريني بسرعة ! لكنها ردت فورًا و بنفس النبرة التي بدت الآن و كأنها لشخص قرّر بكامل إرادته التغاظي مؤقتًا عن كل شيءٍ آخر عدا هذه اللحظة.. _أن أسمعكٓ تردّد تلكٓ الكلمة مجددًا ! فلم يبخل عليها من همسة حارة تسللت إلى أذنيها كمضاد فعال لكل ألمها السابق.. _أحبكِ ! صمت قصير ساد بعد هذا الرد..و قد شعر بأنفاسها التي عادت تستعيد انتظامها و هدوءها..قبل أن يصله صوتها مجددًا..قالت تجيب كلمات قالها قبل ثوان عديدة و كان لينساها لاحقًا لو لم تقرّر التعقيب عليها! _لكن أبدًا لن يأتي يوم أتوسلكٓ فيه بأن تتوقف عن ترديدها.. _لا أستطيع أن أؤكد هذا ! همس بابتسامة لم تنفكّ أن اتسعت أكثر حتى كادت أن تشمل كل وجهه..قبل أن يبتعد ببطءٍ محررًا وجهها و جبينها..فنظرت له ضحى بدهشة لم تستغرق سوى لحظة واحدة.. لأنه مد ذراعه بكل بساطة إلى أن أحاط خصرها ثم... ثم جذبها في لمح البصر و ببساطة تدعو للذهول إلى أن أصبحت...تجلس على ركبتيه !!! طرفت ضحى برموشها بغباء شديد و هي ترمق نفسها ثم ترمقه باستنكار..إلّا أنه قال ببراءة شديدة و هو يجذبها أكثر إلى حضنه إلى أن أصبح رأسها يرتاح على صدره ؛ _لقد أخبرتكِ بأن لا شيء سيحدث هذه الليلة..لكن رجاءً..أنتِ لم تكوني تنتظرين مني أن أضمكِ بينما كل منا يجلس في مقعد منفصل !! كانت ذراعاه قد التفتا من حولها يضمها بقوة إلى صدره أثناء قوله لكل هذا..قبل أن تتحرك يده ببطءٍ مربتًا بها على شعرها الناعم و الذي غاصت فيه أنفاسه بغير إرادة منه.. حينما سمعها تقول بصوتٍ لم يستعد تركيزه من حركته المباغتة بعد.. _كان يمكنكٓ أن تطلب مني الجلوس بجانبكٓ بكل بساطة أو تجلس بجانبي !! فعقد حاجبيه قليلًا و هو يقول محتفظًا بابتسامته.. غارقًا في نعيمه الخاص و الذي اشتاق اليه بشدة.. نعيمة المتمثل في شعوره بجسدها الرقيق بين أحضانه مجددًا..و استنشاق عبق شعرها الأخاذ حيث أغرق أنفاسه كرجل لا يشبع من الثمالة في عطرها.. _تجلسِين بجانبي فقط !! مُحال !!! _لكن.......... لكنه قاطعها و هو يشدّد من تمسكه بها حينما شعر بتململها قليلًا رغم أنه أكثر شخص يعرفها في العالم و يعلم بقدر اشتياقها إليه و الذي يكاد أن يفوق درجة اشتياقه لها حتى !! _رجاءً..ضحى..ألا أضمكِ الآن فقط كما وعدتكِ ؟!! الآن كانت تلكٓ العقدة تتشكل بين حاجبيها هي..و رمقت ببعض التوجس ذراعيه المطبقتين على جسدها و كأنه يخشى هروبها المباغت..لكنها تنهدت على أيّ حال هامسة بخفوتٍ ؛ _همممممم ! و لم تستغرب أبدًا و هي تسمع صوته يهمس برضا تام و هو يشدّد من عناقه لها ؛ _جيد إذن.. لحظة..ما هو الجيد ؟!! فتحت فمها و كأنها ستعلق بكلمة مجددًا..لكنها شعرت بأن مخزونها من الكلمات قد نفذ لهذه الليلة..و بالتالي فقد اكتفت بتنهيدة أخيرة..قبل أن تقرّر بكامل إرادتها الآن أن تغمض عينيها مستسلمة إلى رغبة قوية اكتسحتها بالنوم فقط.. لكن سؤالًا جديدًا طرأ في ذهنها عكر سكونها للحظة.. ماذا لو كان هذا محض حلم أو توهماتٍ من ذهنها ؟ لو كانت كل تلكٓ الكلمات التي قالها هي أوهام من نسيج عقلها ؟! حسنًا حينها سيكون حلمًا قصير الأمد لكنه جميل إلى الدرجة الكافية التي تجعلها تنام مرتاحة لليلة واحدة بعد عدة ليال من ألم و أرق مرهق.. و بما أنها لن تستطيع التأكد الآن من مصداقيته..و ستموت لو فتحت عينيها و اكتشفت بأن هذا الدفء الذي يلفها منبعه أفكارها فقط و ليس حضنه.. فلما لا تنام قريرة هذه الليلة فقط مؤجلة التحقق من مصداقية حُلمها إلى الغد ؟!!! ____________________________ حينما فتحت عينيها صباحًا..كان أول شيء تقع عيناها عليه هو ملامحه..ثم ذراعاه المطوقتين لجسدها بشدة حيث كان مستلقية بجانبه على السرير.. على سريرها هي الخاص بغرفتها في منزلها !!! طرفت برموشها السوداء الكثيفة ببطءٍ و هي تتسمر لوهلة واحدة محدقة بملامحه الساكنة..و قد تأكدت حقيقة ما كانت تخشى من أن يكون محض وهم ليلة الأمس.. لقد نامت على صدره في الشرفة..و لقد...حملها إلى السرير بنفسه و هي غارقة في النوم !! كيف سمح لنفسه ؟!! طرأ هذا السؤال التهكمي في ذهنها تزامنًا مع العقدة الطفيفة التي ظهرت بين حاجبيها..لكن صوتًا مشاغبًا هتف يجيب سؤالها بسخرية..هل حقًا تجرؤين على التساؤل بعد أن استسلمت للنوم بين أحضانه كحمل وديع صغير !!! فتنهدت بقلة حيلة و هي تعود لترخي رأسها على كتفه بتعب للحظة..قبل أن تقرّر التحرك بهدوء متحرّرة من ذراعيه و منسحبة من بين أحضانه بصعوبة إلى أن وقفت.. كانت لا تزال ترتدي رداءها..و قد لاحظت بأن الحزام الناعم في منتصف كان لا يزال معقودًا بإحكام كما تركته ليلة الأمس..فتسمرت لوهلة تنظر له..ثم رمقت صاحب الملامح النائمة براحة بالغة هناك.. رمقته بنظرة كانت تخطط لأن تكون عابرة فقط..إلّا أنها رغمًا عنها وجدت نفسها تميل قليلًا برأسها ناظرة له لثوان بتركيز غريب.. قبل أن يرتسم شبح ابتسامة على شفتيها فقط حينما لمحت ذراعه الذي تحرك يبحث عنها تلقائيًا بجانبه.. لكنه لم يجدها أبدًا فانعقد حاجباه قليلًا و عبست ملامحه بعض الشيء بدون أن يستيقظ من النوم.. قبل أن تلتفت بعدها هامّة بالاتجاه إلى الحمام..لكن صوت رنين هاتفها القريب أوقفها..فرمقت باب الشرفة الموارب حيث كانت قد تركته ليلة الأمس و يبدو بأن وائل لم يلاحظه فظل هناك.. قبل أن تقترب بسرعة إلى أن حملته من فوق الأريكة التي شهدت كل دموعها و كلماته ليلة الأمس..كان اتصالًا من يوليا..فاقتربت من الحاجز الخشبي الأبيض إلى أن وقفت خلفه تستند بذراعيها إليه.. تقابل منظرًا صباحيًا خلابًا لحديقة منزلها.. و همست تلقائيًا و هي تضع الهاتف فوق أذنها ؛ _يوليا ؟!! جاءها صوت يوليا من الجهة الأخرى في أقصى درجات الروقان ؛ _صباح الفل أيتها الزوجة الهاربة..كيف حالكِ اليوم ؟! لم تعلق ضحى على لقبها اللطيف..فقد همست ترد بابتسامة كاملة تشكلت بشكل عفوي على ملامحها ؛ _صباح الورد..أنا بأفضل حال..و أنتِ ؟!! ارتفعت أنظارها بعدها تراقب السماء المُشمسة فوقها بملامح لامسها بعض الانشراح بعد أيام عديدة..بينما وصلها صوت يوليا يحمل بعض القلق الآن ؛ _أنا جيدة..امممم..في الحقيقة أردت أن أسألكِ أيضًا عن وائل..لقد لاحظ أبي بأنه لم ينم في المنزل هذه الليلة فاضطررت لإخباره بأنه متواجد معكِ في منزل العائلة لكنني لسـ............ صمتت فجأة كشخص يحاول إيجاد الكلمة الصحيحة ليقوم بصياغتها..بينما تاهت ابتسامة ضحى قليلًا..و لم تشعر بنفسها و هي تلتفت قليلًا برأسها لترمق من خلف الواجهة الزجاجية التي تحجب الغرفة ذلكٓ الرجل الغارق في النوم.. حينما وصلها صوت يوليا تسأل بتردّد ؛ _هل هو...معكِ ؟!! فتنهدت بلا صوتٍ و هي تعيد أنظارها إلى الحديقة.. قبل أن تسدل جفونها قليلًا هامسة ببعض الإحراج الغريب الذي قفز إلى صوتها قسرًا عن إرادتها ؛ _إنه هنا ! و آخر ما توقعته..كان ذلكٓ الحماس الذي ملأ صوت يوليا بينما تسأل بلهفة ؛ _حقًا ؟ هل هذا يعني بأنكما قد تصالحتما أخيرًا.. أقصد...إنه في غرفتكِ الآن أليس كذلك ؟ لحظة..هل هو معكِ فعلًا منذ الأمس ممّا يعني بأنكما.......... _قبل أن يهرب عقلكِ إلى أيّ فكرة..لقد جاء للتحدث و النوم فقط بكل أدب ! صمت تام ساد من طرف ابنة خالها من الجهة الأخرى..ثم سألت بتوجس و نبرتها تتلون ببعض الإحباط غير المبرّر ؛ _بكل أدب ؟!! فقالت ضحى بحرارة شخص يحاول أن ينفي عنه تهمة بشعة جدًا ؛ _بكل أدب بالطبع !! لكنها عادت و استوعبت موقفها فقالت بغير تصديق ؛ _لحظة..ما الذي تسألينني عنه بالضبط الآن !! يا إلهي !!!!! همست آخر كلمة و هي ترفع يدها إلى جبهتها..لكن صوت ضحكة خافتة وصلها من طرف يوليا جعل ملامحها تستعيد استرخاءها السابق تدريجيًا..قبل أن تقول يوليا متنهدة بـ...ارتياح ! _لا شيء..أنا فقط...سعيدة جدًا لأنكما تصالحتما !! فقالت ضحى تقطب حاجبيها بحذر ؛ _كيف تعلمين بأننا كنا متخاصمين أساسًا ؟ أنا لم أخبركِ بأيّ شيء ! و قد جاءها الجواب مقنعًا..جدًا ! _هل تظنين بأنني لن ألاحظ ! فتنهدت بخفوتٍ..بينما قالت يوليا بابتسامة واضحة في صوتها ؛ _عمومًا أنا سأغلق الخط الآن لكن........ صمتت فجأة فترقبت ملامح ضحى قليلًا بحذر.. حينما استأنفت يوليا ببعض الشقاوة التي اشتاقت إليها ضحى فعلًا رغم انزعاجها منها في كثير من الأحيان.. _في حالة قرّرتما تمضية ليلة أخرى أو ليلتين حتى في غرفتكِ بمنزل العائلة..أقصد..داخل نطاق الأدب المرتبطة بمنازل "العائلة"...فلا تنسي أن تخبريني.. في النهاية هناكٓ أبي و لا بد لنا أن نختلق له عذرًا جيدًا لـ........... _كفى...يوليا ! قالت بهدوء و هي تقاوم ابتسامة تود التشكل فوق شفتيها بصعوبة..بينما افتعلت يوليا الاستسلام هامسة ؛ _حسنًا حسنًا استسلمت..لكن لا تنسي أن تخبريني.. أساسًا بتواجد مجد في نفس المنزل لا يمكن لكما إلّا أن تلتزما بحدود الـ......... _يوليا !!! قاطعتها للمرة الثانية و هذه المرة كانت ابتسامتها ظاهرة رغم نبرتها الحازمة..و شعرت بابتسامة يوليا أيضًا المحملة بشعور واضح من الرضا..و التي لونت صوتها الجميل المتأمل اليوم ؛ _سأتصل بكِ في المساء على أيّة حال لأعلم إن كنتما ستعودان للمنزل أم......... للمرة الثالثة تقاطعها ضحى..هذه المرة بجدية قاطعة جدًا ؛ _سنعود بالطبع.. ثم أضافت متنهدة بقلة حيلة ؛ _و إلّا فلن أستطيع تحمل دقيقة واحدة أبقى فيها في منزل واحد برفقة وائل و مجد ! لم تكد تنطق آخر اسم..حتى كانت تتحفز ملامحها قليلًا و تحركت تستقيم في طريقة وقوفها حينما لمحت من مكانها البعيد سيارة مجد تعبر الباب الإضافي في هذا البيت و الخاص بالحديقة.. فزمت فمها قليلًا و هي تهمس بينها و بين نفسها بغيظ تزامنًا مع صوت يوليا الذي فقد ابتسامته فجأة متشحًا ببعض الأسف ؛ _للأسف أوافقكِ الرأي! " هذا ما كان ينقصني الآن ! " _هل قلتِ شيئًا ؟ تلقت هذا السؤال من يوليا التي بالكاد سمعت جملتها الموجهة لنفسها..فهزت رأسها لعدة مراتٍ بغير تركيز قبل أن تقول بسرعة ؛ _لا..لا شيء..أقصد..دعينا نتحدث في المساء في المنزل....... جاءها صوت يوليا يمزج ما بين لطف و استغراب ؛ _حسنًا إذن...أحبكِ.. همست بابتسامة ضئيلة متجاوبة مع الكلمة الأخيرة ؛ _و أنا أيضًا.. أنزلت الهاتف بعدها و هي تقابل عيني مجد الذي توقف للحظة في منتصف طريقه نحو الباب الداخلي الرئيسي..نظر لها من على بعد ثلاثة أمتار تقريبًا ببعض الحذر سائلًا إزاء الانفعال الذي كان يغزو ملامحها بشكل ملفت ؛ _ظننت بأنني سأجدكِ قد ذهبت إلى العمل بحلول الآن ! ألم تقولي ليلة أمس بأنكِ ستذهبين في وقتٍ أبكر اليوم !! توتر جلي ظهر في ملامح ضحى..و علمت بأن مجد قد لاحظه من الطريقة التي ضاقت عيناه عليها..قبل أن تفتح فمها تهم بإخباره بأن وائل موجود في الداخل الآن و ليحدث ما يحدث.. لكن وائل نفسه قاطعها حينما سمعت صوت خطواته تقترب بهدوء من الشرفة..فالتفتت بسرعة تنظر له بينما يقترب منها بشبح ابتسامة في عينيه و أنامله تعمل بحرص على ترتيب شكله المهمل تمامًا.. لكنه توقف فجأة و تسمر للحظة حينما وقعت أنظاره على مجد..ذلكٓ الذي قال ببغض واضح في نبرته و هو ينقل عينيه إليها و كأنه يطرح عليها سؤالًا مشفرًا يستدعي الرد عليه بأقصى سرعة ؛ _أنت !!! ثم نقل عينيه إليها كليا الآن سائلًا قبل أن يستطيع وائل الرد ؛ _ألم تخبريني بأنه لن يأتي ؟!! فاحتدت نظرة وائل عليه قليلًا..بينما احتقنت وجنتا ضحى ببعض الاحراج و حركت رأسها باستسلام هامسة ؛ _لكنه أتى !! لم تكد تنطق آخر حرف..حتى كان صوت وائل يرتفع مردفًا بسخرية غير مرحة إطلاقًا و الكره ينبعث من عينيه كشراراتِ لا تنطفئ نحو من يفترض به أن يكون ابن عمته !! _حقًا !! لم أكن أعلم بأنني أحتاج لطلب الإذن منكٓ كي أستطيع زيارة زوجتي في منزل عائلتها !! _وائل !!! همست ضحى بلا صوتٍ تقريبًا و هي تنظر له برجاء جاد أن لا يزيد الوضع سوءًا أكثر ممّا هو سيء بالفعل..بينما لم يستطع مجد أن يعقب بكلمة الآن و قد بدا موقفه ضعيفًا لأول مرة.. أو حرفيًا..في كل مرة يزور فيها وائل منزل العائلة هذا فيجد نفسه عاجزًا عن طرده أو التعقيب على مجيئه !!! فقط لأن أخته الساذجة هذه...اختارته زوجًا ذات يوم !!! فهو لم يعد يهتم للرابط الدموي الذي يجمعه به منذ وقتٍ طويل !!! و تفاقم الوضع فداحة بعد فعلة يوليا الأخيرة به و مؤازرته لها !! ابتسامة مستقيمة قاسية رسمها على شفتيه و هو يجيب بسخرية مشابهة خالية من المرح ؛ _أنت محق بالطبع ! ما رأيكٓ أن تعطيني خبرًا في المرة القادمة لكي أخلي المنزل لكما ؟!! بما أنني لم أعد أمتلكُ فيه أيّ حقوق تخولني التحكم بمن يدخل أو يخرج إليه ؟!! للمرة الثانية يرتفع صوت ضحى..همست بإرهاق شديد هذه المرة تخاطب مجد ؛ _رجاءً!..مجد..هل يمكنكٓ أن تدخل فقط ؟!! إلّا أن مجد قال محتفظًا بنفسِ ابتسامته و قد بدا و كأنه يتعمد تعذيبها فقط ؛ _و أتناول طعام الإفطار مع هذا الرجل حول طاولة واحدة ؟ مُحال !!! احتدت ملامح وائل قليلًا و قد بدا و كأنه يكتم رغبة قوية الآن في الانقضاض عليه فقط و لكمه مجددًا..و قد لمح مجد رغبته تلك..فزم فمه قليلًا حيث اختفى أثر الابتسامة نهائيًا ناظرًا له للحظاتٍ بغضب مكتوم.. قبل أن يجذبه صوت ضحى مجددًا التي كرّرت برجاء حقيقي الآن ؛ _ادخل رجاءّ مجد..لا بد أن يكون هناكٓ حد فاصل لأيّ شيء..في النهاية لا يمكن لكما أن تتجنبا بعضكما طوال العمر !! شعرت و كأنها تخاطب زوجًا من الحمقى و هي ترى التعابير الباردة المرتسِمة على ملامح كل منهما..حينما قال مجد منهيًا هذا الحوار الكارثي القصير..يوجه حديثه لها بينما نظراته منصبة نحو وائل الواقف بجانبها بتخفز ؛ _لا أعلم عن طوال العمر..لكنني الآن و في هذه اللحظة..لا أشعر بأنني أستطيع تحمل النظر إلى وجهه لثانية إضافية بعد.. تأجّجت ملامح وائل بالغضب عند هذه اللحظة..و تحركٓ و كأنه سيغادر الشرفة و غالبًا وجهته التالية ستكون الحديقة ليلقنه درسًا إن لم يقرّر في لحظة مجنونة أن يقفز الحاجز القصير الخاص بالشرفة الأرضية و ينقض عليه بالضرب.. فهذا الرجل لا يزال حتى اليوم يملكُ الجرأة للنظر في عينيه و التحدث بمثل هذه الصفاقة بعد كل أفعاله القذرة بحق أخته الوحيدة !! إلّا أن أنامل رقيقة التفت حول معصمه منعته..فالتفت قليلًا بغضب ليقابل ملامح ضحى..تلكٓ التي همست تميل برأسها قليلًا ضاغطة على حروفها برجاء ؛ _ليس الآن وائل..أرجوك..أنا مرهقة....... ! و فقط..كانت كلماتها هذه كافية لتردعه..بالذات الكلمة الأخيرة..لكن مؤقتًا فقط..فقد عاد يقابل ملامح مجد المستفزة بكمية البرود و الغضب الذي تحمله تلكٓ العينين..ثم و في بادرة لا تحدث دائمًا..ابتسم ! ابتسم فقط ابتسامة باردة ساخرة..مستفزة..جدًا..قبل أن يرمق ضحى بنظرة أخيرة انحنى لها حاجباها بأسى..ثم التفت مقتربًا من سيارته الفارهة بخطواتٍ ثابثة إلى أن فتح الباب و صعد بها مجددًا منطلقًا إلى وجهة لا يعرفها أحدهما.. راقبت ضحى ابتعاده بأسى إلى أن تخطت سيارته البوابة الكبيرة..و عادت تنغلق بأنامل الحارس هناك.. قبل أن تتنهد بيأس و هي تغمض عينيها قليلًا شاعرة بذلكٓ الإرهاق الذي أخبرت عنه وائل يتضاعف.. ارتفعت يدها بإعياء إلى أن لمست بها المنطقة بين حاجبيها مخفضة رأسها..حينما شعرت بتلكٓ اليد التي تمسكت بها قبل قليل تتوسل صاحِبها أن يتغاظى اليوم فقط عن الشجار..تجذبها برفق إلى صدر واسع حنون.. و التف ذراعه الآخر أيضًا من حولها باحتواء هو أكثر ما تحتاجه الآن رغم كل شيء..قبل أن تسمع الصوت الخشن يهمس بخفوتٍ شديد فوق جبهتها ؛ _لا بأس..لا بأس..أنا آسف...آسف بشدة....... !! أطبقت ضحى رموشها أكثر للحظة أخيرة..قبل أن تقرر الابتعاد ببطءٍ..رمقته بنظرة مهتزة قليلًا من عينيها الزائغتين..قبل أن تلتفت بهدوء مغادرة الشرفة.. ظل وائل يقف مكانه للحظاتٍ طويلة بعدها..يراقب الأفق بعينين لا تنمان عن أيّ شيءٍ محدّد..و قد انتقل شرودها ذاك إليه الآن بطريقة ما.. شرود منبعه القرارات التي اتخذها حديثًا..و التي عليه أن يتخذها في الأيام القادمة في طريق استعادة توازن حياته السابقة إلى جانب زوجته.. و هو سيستعيد ذلك حتمًا..سيستعيدهما..توازن حياته السابق...و زوجته ! ____________________________ قبيل الخامسة مساء بعد الزوال..سارت يوليا في المٓمر الطويل المؤدي لمكتبها..كانت تسير بخطواتٍ مستعجلة قليلًا رغم أناقتها..ترمق الساعة الفارهة الملتفة حول معصمها باهتمام.. بينما عقلها يستعيد بإصرار لم تعد تستطيع استنكاره حتى جملة مميزة.. " ربما غدًا..في نفس المكان ! " فتزيد من سرعتها بإصرار أكبر على الوصول في الوقت المحدّد لعلها تقابله اليوم أيضًا..رغم أنه حرفيًا لم يحدد أيّ وقت للقاء..لكن الساعة الآن قد قاربت على الخامسة مساء و هي نفس الساعة التي توقفا فيها في الأمس أمام ساحل البحر.. لهذا فقد توقعت تلقائيًا بأنه غالبًا سيكون قد استند على هذا المعيار و غالبًا أيضًا..سيكون في انتظارها الآن !!! وصلت إلى مكتبها أخيرًا و تقدمت عدة خطوات بداخل الغرفة الأنيقة بينما تتحرك يدها تلقائيًا ممسكة بطرفي رداءها الأبيض تهم بخلعه باقية ببدلتها العملية الأنيقة المتكونة من قميص صوفي أصفر و بنطال حريري أسود يتسع قليلًا بعد الركبتين مباشرة إلى أن يلامس في نهايته حذاء أنيقًا في نفس اللون.. إلّا أن صوت طرقات سريعة فوق الباب ثم اندفاعه فجأة جعلها تتسمر ناظرة إلى المُمرضة التي تقدمت خطوة واحدة بالداخل ناظرة لها من بين أنفاس لاهثة ببعض التردّد.. عقدت يوليا حاجبيها ببعض القلق و هي تنتظرها أن تقول أيّ شيء..إلّا أنها بقت صامتة للحظات..ففتحت فمها لتسأل نيابة عنها بجدية ؛ _ما الخطب ؟!! حينها فقط كانت تقترب الممرضة الشابة منها بضعة خطواتٍ أخرى..إلى أن وقفت أمام المكتب تمامًا و قالت تجيب نظرة القلق على وجه يوليا ؛ _الدكتور بلال.. _ما به ؟! سألت يوليا مباشرة بجدية..فقالت الأخرى فورًا و بنفس النبرة المتردّدة قليلًا ؛ _لقد اتصل قبل قليل معتذرًا عن المجيء اليوم بسبب تعرض ابنه لحادث في المدرسة.. لم تستطع يوليا أن تفهم فورًا المغزى من هذه الكلمات إن كانت تريد أن تخبرها فقط بهذه المعلومة على الرغم من أن علاقتها مع هذا الشخص الذي ذكرته متباعدة جدًا و تكاد أن تكون منعدمة.. لكنها أرجحت الأمر إلى احتمال أن يكون حادث ابنه خطيرًا بشكل ما فتفاقم شعورها بالقلق..و سألت تعقد حاجبيها أكثر ؛ _هل هو بخير الآن ؟! أقصد......ابنه ؟! لكن تلكٓ الواقفة أمامها تلكأت قليلًا قبل أن تهمس نافية بنفس التردّد ؛ _في الحقيقة ليست هذه هي المشكلة ! نظرت لها يوليا باهتمام أكبر..فاستأنفت هذه الأخيرة بحذر ؛ _هل تتذكرين ذلكٓ الطفل الصغير..نادر ؟ ضيقت يوليا عينيها قليلًا و هي تحاول أن تتذكر هذا الطفل فعلًا..حينما همست الفتاة أمامها شارحة ؛ _إنه يعاني من مشكلة تخصّ انسداد الأمعاء..لقد كان الدكتور بلال هو المكلف بتقييم وضعه........ الآن ظهر بعض الإدراك في ملامح يوليا..لكنه لم يكتمل تمامًا فقد أضافت تلكٓ الواقفة أمامها بنبرة تشبه الاسف أو الاعتذار ؛ _لقد كانت عمليته اليوم..إنها بعد نصف ساعة ! ارتفع حاجبا يوليا بما يشبه الاستيعاب..و غالبًا..قبل حتى أن تكمل الشابة أمامها كان عقلها قد وضع عدة توقعات لما ستقوله..إلى أن قالت بالفعل ؛ _لقد اعتذر الدكتور بلال عن المجيء لكنه أكد في المقابل على رغبته في أن تأخذي أنتِ بالتحديد مكانه و تقومي باجراء هذه العملية..حسنًا اقتراح اسمكِ شيئًا ليس غريبًا لكنني على الرغم من هذا حاولت إقتراح بضعة أسماء أخرى و أخبرته بأن مناوبتكِ قد انتهت لليوم لكنه أصر على أن أقترح الأمر عليكِ أنتِ بالذات............ كانت يوليا تستمع إليها باهتمام..و قد ظهر في منتصف كلامها تعبير من إحباط أو رفض واضح في ملامحها..ثم قالت تسألها بترقب حينما صمتت ؛ _لا بد أنه وضع احتمال رفضي في الاعتبار..أليس كذلك ؟!! فقالت الأخرى تهز كتفيها بقلة حيلة ؛ _ربما ! و هذا يحق لكِ بالطبع..لكن يجدر بي القول بأنه في هذه الحالة سأضطر لتوجيه الأمر إلى الإدارة و غالبًا سيتم تعيين طبيب غيركِ لكن في المقابل ستتم معاقبة الدكتور بلال على هذا الـ.......... قبل أن تكمل قاطعتها يوليا ببعض التشوش ؛ _لحظة لحظة..أنتِ تقصِدين بالإدارة الدكتور سعد و الذي يكون أبي ؟!! ظهر بعض الاحراج على ملامح الفتاة الجميلة و هي تكتفي بالصمت..بينما تنهدت يوليا و هي تزم فمها قليلًا رافعة يدها إلى جبينها هامسة ببعض الاستياء ؛ _هذا حتمًا لم يكن طلبًا إنما فخ واضح لوضعي قيد الأمر الواقع بما أن معظمكم تعلمون بأنني سأفعل أيّ شيءٍ مقابل أن لا يتم نقل الأمر إلى الإدارة ! كانت تنظر حولها في المكان باستياء حقيقي..ثم التفتت إلى الفتاة المبتسِمة بأسف و هي تسمعها تهمس بخفوتٍ مطرقة رأسها قليلًا ؛ _آسفة ! نظرت لها يوليا نظرة مفادها.." هل أنتِ الآسفة حقًا ؟ " لقد تم توريطها فعلًا الآن !!!! صمتت قليلاً تنظر جانبًا بملامح غير مفسرة..تلامس بيدها سطح المكتب حيث تجمدت نظراتها..و للمرة الثانية على التوالي خلال دقائق قليلة يتدخل عقلها الـ..غير مخطأ للأسف! " ربما غدًا..في نفس المكان ! " تبًا !!! _دكتورة ؟!! سمعت هذا الصوت يناديها منبهًا مجددًا..فزفرت نفسًا يائسًا..قبل أن تسلم نفسها للأمر الواقع فعلًا..فنظرت لها مردفة بقلة حيلة.. _حسنًا.. رفعت الفتاة حاجبًا واحدًا بلهفة و هي تسأل بتردّد ؛ _هل هذا يعني بأنكِ موافقة ؟!! فنظرت لها يوليا بقنوط مجيبة ؛ _باللّٓه عليكِ لا تتظاهري بأنكِ متفاجئة..لقد كنتِ تتوقعين هذا قبل مجيئكِ حتى ! شعرت ببعض الندم على نبرتها و هي ترى ذلكٓ الاحراج يزداد في ملامح الأخرى..لكنها رغم ذلكٓ أضافت تحاول أن تضفي أكبر قدر من الهدوء إلى ملامحها ؛ _أحضري لي الملف الخاص به و كل المعلومات التي أحتاجها..و جهزوا كل شيء لإجراء العملية.. أومأت الفتاة بلهفة..قبل أن تلتفت بسرعة لتفتح الباب مغادرة..بينما سقطت يوليا على الكرسي خلف مكتبها ناظرة أمامها بإرهاق..و حملت هاتفها القابع فوق المكتب لترمقه بنظرة غير عابرة إطلاقًا.. قبل أن تتنهد باستياء..هل هناكٓ شخص في العالم لا يزال لا يمتلكُ هاتفًا بحلول الآن ؟! كيف ستعلم بأنه ينتظرها بحلول الآن ؟ كيف ستعتذر له حتى على تأخيرها لو تأكد بأنه ينتظرها فعلًا !!! ___________________________ بعدها بدقائق كانت تسير في نفس الرواق الذي غادرت منه سابقًا نحو مكتبها.. لكن هذه المرة بشكل مختلف..فقد كانت ترتدي البدلة الزرقاء الخاصة بمهنتها و التي تتكون من بنطال واسع قليلًا و قميص..طاقية في نفس اللون غطت شعرها الناعم المرفوع و قناع الوجه الذي كان منخفضًا الآن عن أنفها.. ثم آخر شيء كان القفازات التي كانت تحملها في يدها بينما تسير بخطواتٍ مسرعة نسبيًا..توقفت أخيراً أمام الغرفة المنشودة فلم تتفاجئ و هي ترى السيدة التي كانت متوقفة هناك.. سيدة أنيقة تبدو في بداية الثلاثينات..تذرع الممر جيئة و ذهابًا بقلق بالغ..لكنها توقفت أخيرًا بمجرد وصولها..ثم ظهرت أمارات من لهفة مبرّرة في عينيها و هي تقترب خطوة حينما توقفت يوليا.. لكنها لم تقل كلمة..فقد جالت بأعينها حول ملامح يوليا و كأنها..و كأنها تحاول التعرف على وجه رأته من قبل ؟ أو ربما فقط تلقت عنه وصفًا دقيقًا !!! _مرحبًا ؟! همست يوليا مبتسمة ببعض التوجس إزاء نظراتها الغريبة..إلى أن فتحت السيدة أمامها فمها سائلة بنفس اللهفة التي لم تنتبه لها يوليا الآن..فقد انتبهت فقط إلى سؤالها الذي للأسف سبق و أن سمعته من قبل لمراتٍ لا تعد و في مواقف معظمها غير جميلة.. _هل أنتِ الدكتورة يوليا سعد الراجحي ؟!! شعور من عدم الارتياح لامس قلب يوليا و ملامحها أيضًا..لكنها رغم ذلكٓ اكتفت بهز رأسها بالموافقة و هي لا تزال تنظر لها بتوجس.. _و أنتِ والدة المريض الصغير على ما يبدو ! همست ببطءٍ..ثم أجلت صوتها و هي تحاول التحدث مجددًا غالبًا بغاية إراحتها ببضع كلماتٍ لطيفة بأنها ستبذل كل مجهودها بأمانة و ستهتم بطفلها..إلّا أن هذه الأخيرة قاطعتها بجملة مذهولة ؛ _لم أتوقع هذا !! هنا فقط..كانت الابتسامة اللطيفة المزيفة تسقط عن ملامح يوليا..ثم بهتت عيناها قليلًا..و قالت تخاطبها بجدية بالغة ؛ _غالبًا أستطيع أن أخمن السبب ! لكن رجاء لو كنت الآن تلمحين إلى الاشاعات المنتشرة و التي هي حقيقية تمامًا عن كوني مصابة بـ............ لكنها لم تستطع أن تكمل..تفاجأت باليد التي امتدت فجأة تقبض على يدها بقوة..قبل أن تقع عيناها على تلكٓ الابتسامة التي انتشرت في كل ملامح السيدة أمامها..تلكٓ التي قالت بحرارة و هي تشدّد من تمسكها بيدها ؛ _لقد سمعت عنكِ الكثير من الإشاعات بالفعل..و هل تعلمين ؟ لقد كانت أكبر أمنية لديّ و أنا أختار هذا المشفى تحديدًا أن تكوني الطبيبة المسؤولة عن طفلي..لكنني لم أستطع أن أكون محظوظة كفاية...... لم تشعر يوليا أبدًا بذلكٓ البريق الذي كان قد اكتسح عينيها من بين الدهشة التي تلونهما..لم تشعر حتى بطيف الابتسامة الذي لفح ملامحها الجميلة و ضاعف من جمالها.. كل ما كانت تشعر به..أنامل السيدة الودودة القابضة على يدها..و صوتها الذي ارتفع مجددًا هامسة بما يفوق السعادة و الامتنان لشيء لا تعلمه يوليا ؛ _و الآن بينما كنت أنتظر مجيء الدكتور بلال أتفاجئ بأنكِ أنت من ستقومين بالعملية لنادر.. تلكأت شفتاها المُبتسمتين قليلًا و هي تضيف بحرارة جعلت من بريق عيني يوليا يصبح بارزًا بوضوح و ربما..ربما لو استمرت تلكٓ المرأة أمامها في الكلام أكثر بهذه الحرارة و السعادة فقد...تبكي ! و هذا بالطبع آخر ما تتمناه حاليًا ! _لا أعلم كيف حدث هذا لكنني فقط...سعيدة جدًا جدًا.. فغرت يوليا فمها عاجزة تمامًا عن الرد للحظات أمام هذا الكم الهائل من الكلمات الـ...جميلة ! بينما برقت عينا السيدة أمامها أكثر و ابتسامتها تتسع..إلى أن استطاعت تمالك نفسها قليلًا..فهمست تبلل شفتيها الجافتين قليلًا بلسانها ؛ _كيف تتحدثين بمثل هذه الثقة من مجرد إشاعات قرأتها عني ؟ أنتِ لا تعرفينني حتى ! لم تستطع أبدًا أن تكبح هذه الأسئلة..فتحررت بصوتها المشوش قليلًا كعينيها تلقائيًا..بينما قالت السيدة الأنيقة أمامها مبتسِمة بمودة ؛ _لديّ صديقة مقربة..نزلت في هذا المشفى قبل بضعة أشهر و هي من نصحتني بكِ منذ البداية..لقد تعرضت لحادث سير و كنتِ أنتِ من أجرى لها العملية الجراحية و اعتنى بها حتى النهاية..لولا أنني كنت خائفة على صحة ابني و تم إعلامي بأنكِ في إجازة لمدة يومين حينما أحضرته لأصريت أكثر عليكِ.. تداعت ابتسامتها قليلًا لكن ليس حزنًا إنما فقط امتنانًا و هي تهمس بنبرة أم تضع صحة و سلامة ابنها في قائمة أهم الأولويات.. _لكن ها أنتِ ذا..و أنا أشعر بأنني مرتاحة أكثر ! حسنًا..لا بد أن تكبح تلكٓ الدمعة التي تود الفرار من عينها اليمني..ستكبحها بشدة و صعوبة لكنها أبدًا لن تكبح الابتسامة التي منحتها لهذه السيدة اللطيفة التي جعلت قلبها يرفرف بهجة غريبة بعد عدة أيام هادئة أمضتها.. ثم همست و هي تزم فمها قليلًا بامتنان فاق ما قدمته لها هذه السيدة و هي تشدّد على أناملها بيدها الوحيدة الحرة ؛ _لا تقلقي عليه إطلاقًا..إنه في أيد أمينة ! أومأت لها السيدة البشوشة الملامح بامتنان أكبر.. فاتسعت ابتسامة يوليا قليلًا و هي تبادلها الإيماءة.. قبل أن تحرّر يدها ببطءٍ ثم التفتت تهم بدفع الباب و الدخول إلى الغرفة.. لكنها عادت و نظرت لها..و قالت بلطفٍ بالغ ؛ _رغم هذا..أشكركِ على كلماتكِ الجميلة سيدتي.. التفتت بعدها لتفتح الباب..قبل أن تأخذ نفسًا عميقًا و تتقدم بخطواتٍ ثابتة تزامنًا مع صوتها الذي ارتفع مخاطبة ممرضًا كان يقف بجانب سرير الصغير يثبت السائل الدوائي في الحامل الخاص به.. _لحظة..أحتاج للتحدث مع الصغير أولًا.. التفت الشاب مجفلًا قليلًا فعلمت بأنه لم يلاحظ دخولها..قبل أن يزيح نفسه قليلًا مستمرًا فيما يفعله.. بينما تقدمت يوليا خطوة أخرى و هي تثبت القفاز الثاني في يدها اليسرى.. كان هناكٓ طفل صغير ممدد فوق السرير الطبي..بشعر أسود ناعم و عينين بنيتين جميلتين عند النظر لهما.. لكنهما باعثتين للحزن حين تذكر سبب الخوف الطفيف الذي كان يحتلهما.. أرغمت يوليا نفسها على رسم ابتسامة كبيرة..ابتسامة رسمتها بصعوبة بداية لكنها تحولت إلى حقيقية بعد أقل من لحظة واحدة و هي تهمس بلطفٍ ؛ _مرحبًا ! بدا الطفل مندهشًا قليلًا من هذه الكلمة و كأنه قد سمع أغرب شيءٍ يمكن لإنسان سماعه في حياته من دكتورة ! فأمالت يوليا رأسها قليلًا بعطفٍ متساءلة إن كان يمتلكُ تخفظًا قديمًا من الدكاترة ! إلّا أنه أجاب في النهاية بتردّد و هو يدقق النظر في ملامحها و في ابتسامتها بالذات ؛ _مرحبًا ؟ فهمست يوليا باقية على ابتسامتها الجميلة ؛ _أنا اسمي يوليا..و أنت ؟!! تضاعف التوجس في عيني الصغير..لكنه رغم ذلكٓ أجاب بخفوتٍ ؛ _نادر.. قبل أن يضيف سائلًا بترقب و هو يدقق النظر بها و كلما فعل أكثر اتسعت ابتسامتها أكثر ؛ _هل أنتِ من ستقومين لي بالعملية ؟!! الآن انخفض حاجبا يوليا حنانًا..و تمنت لو تستطيع الآن و في هذه اللحظة أن تضمه إلى صدرها..لكنها قرّرت تأجيل هذا إلى ما بعد الإنتهاء من هذه العملية التي لا تعد خطيرة لكنها تبدو مقلقة نوعًا حينما يكون المعني بالأمر طفل صغير.. قبل أن تمد يدها إلى المُمرضة بجانبها فوضعت الأخرى الإبرة في يدها..رفعتها يوليا قليلًا إلى أن نقل الطفل الجميل عينيه إليها..فهمست بلطف ؛ _هل تعلم ما هذه ؟! نظر لها نادر ببراءة بالغة..لكنه لم يرد..فقد اكتفى بنظرته المتساءلة..فاستأنفت يوليا برقة..غير منتبهة أو ربما فقط غير مهتمة بنظرات المُمرضين الذين كانوا يراقبونها بابتسامة على وجوه جميعهم ؛ _هذه إبرة سحرية..ما إن يتم حقنها في جسم أيّ طفل في العالم..خاصة الوسيمين منهم..مثلكٓ مثلًا.. تجعلهم يرون كل الأحلام الجميلة التي يتمنونها في نومهم.. شعرت بانشراح جميل و هي ترى كيف تجاوبت عيناه مع كلماتها..لكنه سأل رغم ذلكٓ بترقب ؛ _هل يجب أن أنام حتمًا لأراها ؟!! فأومأت برفق و ابتسامتها تتعمق إلى شيءٍ أجمل.. قبل أن تمد يدها برفق إلى أن لمست معصمه و سألت بنفسِ اللطف البالغ ؛ _هل تسمح لي إذن بحقنها لكٓ هنا ؟!! بدا بعض التردّد في ملامح نادر..فرفعت يوليا حاجبها و كأنها تحثه و تشجعه في نفس الوقت على الرد.. فقال بتردّد شخص يعلم كل مخططاتها مسبقًا ؛ _لكن...ألن تكون مؤلمة ؟!! لم تمنحه يوليا أيّ رد على هذا السؤال..فقد شردت ابتسامتها قليلًا و هي تتأمله للحظات..قبل أن تهمس بخفوتٍ ؛ _إذا حقنتها لكٓ أنا ؟ غالبًا لا ! لم يمنحها الطفل أيّ رد..فاتسعت ابتسامتها قليلًا و هي تسأل مجددًا برفق ؛ _هل أحقنها إذن ؟!! بدا على ملامح الطفل أمارات التفكير..لكنه لم ينفكّ في النهاية أن هز رأسه بتردّد..فاتسعت ابتسامة يوليا أكثر..و قالت بعذوبة كل غايتها أن تبعد ذهنه عن وخزة الألم الطفيف التي سيشعر بها بعد لحظة.. _هل تريد أن تسألني أيّ شيءٍ ؟! تأوه صغير غادر شفاه الصغير..بينما رفعت يوليا الإبرة مجددًا لتعيدها إلى الممرض بجانبها..حينما جاءها صوت نادر يسألها بنبرة متأملة ؛ _عندما كنتِ طفلة في عمري..هل كان حلمكِ أن تصبحي طبيبة عندما تكبرين ؟! و فقط..بهتت ابتسامتها قليلًا و هي تقع في شرود هو آخر ما كانت تريد أن تقع فيه الآن..لا..لم يكُن حلمها أن تكون طبيبة حتمًا..لكنها لا تعلم أيضًا ما الذي كانت ستكونه لو لم تكُن طبيبة !! لقد عاشت طوال حياتها حرفيًا..نمت على هذه الفكرة و نمت الفكرة معها حتى أصبحت تجري في دماءها و أصبح هدفها الوحيد تحقيقها فعلًا و كأنها مجرد آلة صنعت بهدف معين !!! ابتلعت ريقها ببطءٍ و هي تجاهد نفسها إلى أن عادت تتألق نفس الابتسامة على وجهها..إلى أن فتحت فمها مجيبة بسؤال جديد ؛ _امممم..أخبرني أنت..ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر ؟!! لاحظت بأن مفعول الدواء بدأ يظهر من عينيه التي بدأت تتثاقل..إلّا أنه رغم ذلكٓ أجاب بإصرار و هو يبتسم أخيرًا ابتسامة أنعشت قلبها ؛ _أفضل لاعب كرة سلة في العالم.. ثم صمت للحظة قصيرة..و عاد يسأل بصوتٍ بدأ يتثاقل كعينيه و كأنه قد تذكر للتو بأنه لم يسمع ردها ؛ _لكنكِ لم...تخبريني...بعد..هل كنتِ تحلمين أن... تصبحي طبيبة............ كان صوته يتلاشى ببطءٍ شديد إلى أن اختفى تمامًا و انغلقت عيناه كليًا..بينما ظلت يوليا شاردة للحظات أخرى تحاول أن تجد إجابة لسؤاله..و إلّا هل يعقل أن يولد الإنسان فاقدًا للقدرة على الحلم ؟!!! هل يعقل أن يكون لديه أحلام..لكنه لا يعرفها رغم ذلك !!! هل يعقل أن يعمل و يكد بجهد طوال حياته لتحقيق حلم شخص آخر !! لكنه في نفس الوقت يحاول التشبث بما حققه و إقناع نفسه بأنه كان جزءًا من هذا الحلم !!!! _دكتورة ! تنبهت على صوت المُمرضة بجانبها و التي كانت هي نفسها من اقتحمت مكتبها قبل دقائق..فطرفت برموشها ببطءٍ لتستعيد تركيزها..ثم قالت توجه أمرها بحزم للجميع ؛ _دعونا نبدأ.. رمقت الصحن الحديدي المحفوظ فوق منضدة قريبة منها حيث كانت هناك مجموعة من الأدوات الطبية.. قبل أن تمتد يدها ببطءٍ لتحمل المشرط..و لأول مرة حرفيًا في حياتها كدكتورة.. تتردّد أناملها قليلًا و ترتعش للحظة حينما استعاد عقلها صورة ذلكٓ الرجل..و اعترضها صوته للمرة التي لم تعد تهتم حتى بعدها.. " ربما غدًا...في نفس المكان ! " لكنها عادت و استجمعت نفسًا هادئًا زفرته بثبات..قبل أن تقرب يدها أكثر بالمشرط محدثة شقًا عرضيًا في جسم الصغير..ثم تشرع في القيام بخطواتٍ و مراحل تحفظها عن ظهر قلب.. و قد تراءى لها حلمه الجميل بين عينيها..فارتفع طرف شفتيها في ابتسامة جانبية شبه ملحوظة و هي تستأنف عملها بأمانة تامة.. إلى أن انتهى بها المطاف بعد وقتٍ طويل..ما يتعدى الساعة و النصف..تقف أمام الغرفة التي أغلقت بابها للتو..نظرت لها تلكٓ السيدة التي كانت تذرع المكان بقلق بلهفة..فتعمدت أن لا تطيل انتظارها أكثر..و رسمت ابتسامة لطيفة أنهت بها قلق الأخرى بصوتها اللطيف ؛ _سيكون بخير ! إلّا أن حتى هذا الرد لم يكن كافيًا كليًا لينسِف قلقها الأمومي..فقد قالت بلهفة و هي تشابكُ أناملها ببعض التوتر ؛ _هل تقصدين بأن العملية نجحت ؟!! أومأت يوليا بلطفٍ و ابتسامتها تتسع أكثر ناظرة لها بتعاطف إنساني..إلّا أنها لم تتوقع أبدًا..تلكٓ الحركة التي بذرت من الأخرى..فقد اقتربت منها لـ..تضمها ! لقد ضمتها فعلًا محاوطة إياها بين ذراعيها..و وجدت يوليا نفسها تفغر فمها ببعض الدهشة المبرّرة أمام كمية اللطف و الامتنان الذي أظهرته لها هذه المرأة.. قبل أن تحرك يديها ببطءٍ إلى أن بادلتها هذا العناق مربتة على ظهرها برفق.. لكن حتى حركتها هذه جاءت مرفقة بتنهيدة احتوت قلقًا ليس طبيعيًا..هو حتمًا لم يعد طبيعيًا..تمامًا كذلكٓ السؤال الذي خطر في ذهنها للتو..و تكرّر لعدة مراتٍ بإلحاح حتى وجدت نفسها تتنهد للمرة الثانية بإحباط.. هي في جميع الأحوال تنوي الذهاب إلى هناك حتى و لو بعد ما يقارب الساعتين من التأخير..لكن هل سيكون هو متواجدًا هناكٓ فعلًا لأجلها ؟! هل ستراه اليوم حتى ؟!! بل هل يعقل أن يكون لا يزال بانتظارها حتى الآن بما أنه لم يحدد وقتًا و لا ساعة محددة للقاء !! ربما تجده بانتظارها فعلًا..و ربما أيضًا تتنهد على مقربة منه و هي تفكر بأن حتى هذه اللقاءات التي بدأت تزداد و تتعمق بينهما...غير بديهية !! ___________________________ كانت تقود بسرعة أكبر من المعتاد..ليست سرعة شديدة لكنها أكثر من المعتاد بقليل..لا تتذكر آخر مرة قادت بها بهذا الشكل لكنها اليوم فقط تشعر بأنها... تملكُ عذرًا ! مهما بدا غريبًا و بعيدًا عن المنطقية !!! إلى أن توقفت أخيرًا بعد وصولها إلى وجهتها.. ففتحت الباب لتنزل قدميها إلى الأرض إلى أن وقفت تنقل عينيها حولها عشوائيًا للمكان الذي لا يزال مكتظًا بالناس.. لم تكن هناكٓ إمكانية و لو واحد في المئة أن تلمحه من هذا المكان..فتنهدت ببعض القنوط و هي تنخفض مجددًا رافعة حقيبتها الأنيقة التي علقتها فوق كتفها و هي تسير بخطواتٍ جسدت ذلكٓ القلق المزعج الذي ظهر في عينيها و كان يزداد كلما تعمقت أكثر مقتربة من الساحل بدون أن تلمح له أثرًا.. استغرق سيرها و بحثها بضعة ثوان..و كادت أن تتنهد مستسلمة و هي تقف أخيرًا بين المارة هنا و هناك..إلّا أنها مع أول التفاتة جديدة التفتتها و كانت تخطط لأن تكون الأخيرة...لمحته ! لقد لمحته فعلًا !! كان يقف فوق الرصيف الحجري الطويل على الطرف المقابل لها..وحيدًا بينما رأسه منخفض قليلًا إلى الأسفل و نظراته مستقرة تتأمل حركة البحر الهادئ اليوم بملامح لم تستطع تبينها.. لكنها استطاعت تبين شيءٍ واحد..تلكٓ الابتسامة التي شقت شفاهها ببطءٍ و استشعرت أثرها بدون أن تحاول قمعها أو صد نفسها عن التقدم أكثر مقتربة منه بخطواتٍ استعادت كامل هدوءها الآن للعجب.. توقفت للحظة أخرى على بعد خطوة منه..قبل أن تسحب نفسًا عميقًا تخفي به ابتسامتها تاركة فقط أثرًا جميلًا لها يزين ملامحها..إلى أن وقفت بجانبه تمامًا.. تنظر إلى حيث ينظر بدون أن تحاول رمق وجهه بنظرة عابرة حتى..فقد شعرت..بطريقة ما بأنها ليست في حاجة أبدًا لتلكٓ النظرة الآن لكي تتعرف عليه أو تتأكد من أنه هو فعلًا.. نفس الشخص الذي جاءت اليوم إلى هذا المكان من أجله ! و للمفارقة فقد قابلها هو بنفسِ ردة الفعل..ظل فقط ينظر أمامه بدون أن يلتفت إليها..حينما خرج صوته الأجش يسأل بنبرة غير مقروءة ؛ _لقد جئتِ إذًا ؟! راقبت يوليا بعينين لا تزالان تحملان أثر البسمة حركة البحر للحظاتٍ بشرود..قبل أن تجيب بنبرة تشابهت مع نبرته جدًا و تلكٓ النظرة في عينيها تزداد شرودًا ؛ _لقد جئت..لكنني تأخرت قليلًا......... تنهدت مطولا قبل أن تلتفت إليه أخيرًا مضيفة بنبرة بدأت تستعيد تركيزها نسبيًا ؛ _لقد طرأ لي عمل مفاجئ منعني من المجيء باكرًا.. عملية لطفل صغير يعاني من انسداد في الأمعاء..لم أستطع أن أتجاهله و أرحل رغم أنه لم يكن من ضمن مخطّطاتي......أعتذر ! صمت قصير ساد من جهته..ظلت فيه ملامح نائل ساكنة على نفس النظرة التي يصعب قراءتها..إلى أن رمش بهدوء ملتفتًا صوبها..و حينها..ما إن التقت عيناه مباشرة بعينيها من على مسافة بضعة إنشات حتى كانت يوليا تفغر فمها قليلًا على نفس لاهث لم تشعر بتحرّره و لم تخطط له أساسًا.. إلا أنه همس فقط بخفوتٍ و هي ينقل عينيه بهدوء بين عينيها المتسِعتين قليلًا ؛ _لا بأس ! نحن لم نحدّد أيّ وقتٍ أساسًا ! عادت الابتسامة لتلون عيني يوليا..ثم همست تحاول أن تلطف الأجواء قليلًا بينهما ؛ _هل تقصد أن تقول بأنني أستطيع أن آتي في الوقت الذي أريد ؟!! و ما لم تتوقعه فعلًا..هو تلكٓ الايماءة التي منحها لها نائل..ايماءة جادة تمامًا ! فلم تتمالك نفسها من الهمس مجددًا باهتمام ؛ _و كيف سأعرف بأنكٓ ستكون متواجدًا عندما أصل... دائمًا ؟!! لم يصلها أيّ رد من نائل..فقالت تكرّر بنبرة مميزة ؛ _هل ستكون متواجدًا ؟!! حينها فقط..كان نائل يفتح فمه ليهمس ناظرًا في أعماق عينيها بغير كوابح أو حذر ؛ _غالبًا ! ارتفع حاجبا يوليا بدهشة حقيقية الآن..لكنه لم يمنحها فرصة إلقاء الاسئلة أكثر أو حتى استيعاب هذا الرد و هذا الحوار الغريب..فقد زفر و هو يعيد أنظاره أمامه مجددًا.. و هذه المرة..لم تكن غايته تأمل البحر..فقد ضاقت عيناه قليلًا و هو يحدق أمامه فقط إلى الفراغ بلا تعابير..بينما تسمرت يوليا تتأمل جانب وجهه بتشوش.. و قد تذكرت الآن مجددًا..أول انطباع قفز إلى عقلها حياله..رجل وسيم جدًا لكنه يملكُ هالة مخيفة تجعل أيً من يقف أمامه يرتجف خلسة رهبة أو....... رغبة في سبر أغوار عينيه و اكتشاف ما خلف هذه الهالة من أسرار حزينة ! ابتلعت ريقها ببطءٍ و هي ترمش بعينيها مجبرة نفسها على النظر بعيدًا هي الأخرى..و ساد صمت غريب لم ينفكّ فيه كلاهما عن تأمل الفراغ أمامهما.. إلى أن قطعه هذه المرة نائل..قال فجأة بما جعل يوليا تطرف مجددًا ناظرة له بعدم فهم ؛ _ألن تكملي ؟!! ضيقت يوليا عينيها و هي تحاول فهم هذا السؤال..إلّا أنها لم تستطع..فانتظرت إلى أن التفت إليها نائل مجددًا ليخلد سؤاله بنظرة جادة تنتظر منها...التتمة بالفعل !! ماذا يقصد بالتتمة بالضبط ؟ لا يعقل أن يكون الشيء الذي طرأ في ذهنها !! _ماذا أكمل ؟!! قالت بتشوش بدون أن تفارق عينيه..فلم يتردّد هذا الأخير من الرد بجدية ؛ _كنا نتحدث عن موضوع ما البارحة....... لفحة من تردّد ظهرت في عينيه..إلى أن قال مضيفًا بخفوتٍ ؛ _عنكِ !!! رفعت يوليا حاجبيها بما يفوق الدهشة الآن..و لم تستطع أن تجيب لعدة لحظاتٍ ظلت فقط تنظر له خلالها..إلى عينيه تمامًا و كأنها أصبحت عادة لديها تتفنن بل و تستمتع بالقيام.. لكنها سرعان ما هزت رأسها قليلًا مجلية تفكيرها..ثم رفعت ذراعيها تعقدهما فوق صدرها و هي تميل إلى الجانب قليلًا برأسها سائلة باستغراب جاد ؛ _صدقًا..ما الذي يجعلكٓ مهتمّا إلى هذا الحد بسماع قصتي ؟!! لم تظهر أيّ أمارات للتردّد أو التوتر في عيني نائل.. بل قال يجيبها بنفسِ النبرة السابقة ؛ _تتمة ! تقصِدين !! تتمة قصتكِ..لقد تحدثتِ مطولًا البارحة و قلتِ الكثير.......... صمت جديد ساد في الأجواء..صمت كان من طرفها هي فقط..فقد كانت تشعر الآن بدرجة استغرابها تتضاعف بشكل غير طبيعي..فهذا رجل..لا يبدو عليه أبدًا و كأنه يحتاج إلى إلهاء مثل هذا.. كأن يسمع قصة امرأة غريبة فقط بدافع الاستماع !!! لم تعلم بماذا عليها أن تجيب..فقالت بصوتٍ لم يهتز الشيء الذي خطر في ذهنها ؛ _ما رأيكٓ بأن تستأنف أنت سرد قصتكٓ لي ؟ ثم بعدها يحين دوري أنا ؟!! إلّا أن نائل قال ببساطة بدون أن يتغير في تعابيره أيّ شيء ؛ _ماذا أستأنف ؟ لقد أخبرتكِ بكل شيء بالفعل ! هنا فقط..كان يظهر بعض التوتر على ملامح يوليا..و تراجعت قليلًا برأسها في حركة غير مرئية..قبل أن تهمس بحذر ؛ _و هل المطلوب مني الآن أن أرد لكٓ بالمثل ؟!! لثوان طويلة لم تحصل على أيّ رد منه..و بدا و كأن عقله تائه في أمكنة و عوالم أخرى..حتى أنها عقدت حاجبيها قليلًا متسائلة إذا كان قد سمع سؤالها أو لا.. قبل أن تنزلق أنظاره في حركة تتبعتها بعينيها ببعض التوجس إلى...إلى عنقها ! رمق ياقة قميصها الصوفي الأخضر المرتفعة إلى درجة ملامسة ذقنها..قبل أن ينظر في عينيها مجددًا سائلًا بنبرة شعرت بها هادئة...فقط ! _لاحظت بأنكِ لا تكشفين عن عنقكِ أبدًا...لم ؟!! و كأنه قد ألقى عليها سؤالًا محظورًا..فقد شحبت ملامحها تمامًا..و تسمرت قليلًا عاجزة عن الرد..إلّا أنه لم ينتبه لكل تلكٓ التفاصيل..فقد ظهر بعض التردّد في عينيه لم يستغرق سوى ثانية واحدة..و كان صوته يعود ليرتفع سائلًا بخفوتٍ ؛ _هل الأمر يتعلق بماضيكِ ؟! بذلكٓ الحادث ؟!!! و فقط..ابتلعت يوليا غصة شديدة المرارة و هي تطرف برموشها ببطءٍ مبعدة عينيها عنه..و ظلت ساكنة فقط للحظاتٍ تراقب الأفق بلا هدف.. إلّا أن نائل الذي ظل يراقبها منتظرًا سماع الرد بترقب..عجز عن منع نفسه من التكرار بخفوتٍ و هو يشعر بنفسه عاجزًا تمامًا عن نسف تلكٓ الرغبة غير المروضة في سماع الرد ؛ _آنسة يوليا ؟!! التفتت يوليا صوبه فجأة هاتفة بنبرة أظهرت عصبية مبالغ بها ؛ _ألا يمكنكٓ فقط أن تناديني باسمي كما هو ؟!!! الآن كان دوره هو ليتراجع قليلًا ببعض الدهشة..بينما زفرت يوليا و هي تحاول التحكم في أعصابها التي أثيرت بدون مبرّر..حينما قال نائل بجدية ؛ _اعذريني..لكنني لا أشعر بأنه من اللائق أنا أناديكِ باسمكِ المجرد و قد تعرفنا قبل بضعة أيام فقط ! نظرت له يوليا الآن بما يفوق الذهول..إلّا أن نائل بدا متشبثًا في كلامه..فقالت ترفع حاجبيها بجذل بدون أن تشعر ؛ _هكذا إذن !! و هل من اللائق أن تسألني مرارًا عن أشياء تخصّني أنا فقط و تنتظر مني الرد ؟!!! لم يستطع نائل أن يجيبها الآن..فقد بدت و كأنها قد حاصرته تمامًا في زاوية مغلقة..و لأول مرة يظهر شعاع من مكر غريب في عينيها فقط..فقد خرج صوتها في غاية الجدية ؛ _نادني باسمي المُجرد و سأمنحكٓ الرد على سؤالكٓ قبل قليل ! تفاجئت قليلًا من الجدية التي نظر لها بها آنذاك..قبل أن يسحب نفسًا هادئًا إلى صدره..ثم قال بصوته الخشن الذي لا يتماشى أبدًا مع التردّد الذي ظهر في نبرته ؛ _حسنًا إذًا......يوليا ؟! نطق اسمها بعد صمت قصير بتردّد..فلمعت عيناها قليلًا بشبح ابتسامة..بينما اختلج شيء خفي بداخلها..شيء...جميل ؟ ليس و كأنها تسمع اسمها كل يوم ينادى بأصواتٍ لا تحصى !!! بدت نظرته بعدها و كأنها تطالبها بأن تفي بجزئيتها من هذا الاتفاق..أو التهديد ! فحرّرت يوليا تنهيدة طويلة تداعت معها ابتسامتها.. لكنها قالت رغم ذلكٓ بنبرة لا تنم عن أيّ شيءٍ محدّد ؛ _نعم..إنه مرتبط بالحادث.. صمتت فجأة..فرفع نائل حاجبًا واحدًا و كأنه يسألها باستنكار..هل هذا هو الرد الذي هدّدتني بتهجئة اسمكِ المجرد لأسمعه ؟!! فزمت فمها قليلًا تنظر له بنظرة قانطة بعض الشيء.. لكنها لم تلبث أن فردت ذراعها مشيرة إلى جهة معينة بينما تقول ببساطة ؛ _حسنًا..دعنا نتمشى قليلًا و سأخبركٓ أثناء ذلك ! ظل نائل يقف في نفس المكان..فضاقت عينا يوليا قليلًا عليه و على هيئته الأنيقة رغم هالته الباعثة للرهبة و التي من المُستبعد تمامًا أن لا ترافقه لأيّ مكان.. فقد كان يرتدي اليوم بنطالًا من الجينز الأزرق..تحت معطف صوفي قصير يغلق بأزرار كبيرة و قد كانت جميعها مغلقة الآن حتى آخر زر ينتهي عند حدود عظمة الترقوة لينتهي بياقة مائلة بإهمال.. _لقد قلت بأنني سأخبرك ! ألا تصدقني ؟!! قالت تلقائيًا و هي تنظر له بعدم فهم..إلّا أنه قال بنبرة ثابثة جدًا بما ضاعف من دهشتها ؛ _إذا كنت سأناديكِ باسمكِ المجرد فأنتِ أيضًا مطالبة بفعل المثل بعد الآن ! حسنًا..هل يظن بأن هذا أمر قد تستنكره أو ترفضه ؟! كم هو رجل معتوه إذن ! قالت تعيد رسم ابتسامتها بـ...بلطف ! _و هذا ما كنت سأفعله بالضبط..لكن لم تتح لي أيّ فرصة حتى الآن لمناداتكٓ باسمك ! و قد جاءها الرد سريعًا و مختصرًا بنبرة لا تمُت للترحيب بأيّ صلة ! _هذه هي الفرصة إذن ! حينها تسمرت للحظاتٍ تتأمله مضيفة عينيها باهتمام..قبل أن تهز رأسها ببطءٍ و تهمس كمن يساير طفلًا صغيرًا ؛ _حسنًا إذًا..دعني أصيغ السؤال مرة أخرى.. أشارت بيدها إلى المكان الفسيح حولهما سائلة بكل لطف ؛ _هل يمكننا أن نتمشى قليلًا بينما نتحدث يا...نائل ! شعور غريب اكتسحها عندما نطقت الاسم..ذلكٓ الاسم الذي شعرت به يشبه اسم أخيها في أول مرة سمعته..لكنها الآن بطريقة ما بدأت تشعر به مميزًا و متفردًا.. و بدا..ربما هذا ما بدا فقط..بأن نفس الشعور الغريب اكتسحه هو الآخر و كأنها المرة الأولى في حياته التي يسمع فيها اسمه ينطق بحروفه المجردة و بتلكٓ السلاسة الشديدة.. لكن هذا لم يمنعه أبدًا من أن يهز رأسه بهدوء..ثم تقدم خطوة بدت كرد على سؤالها الذي لا يصنف كأنه سؤال أساسًا..فتنهدت يوليا بلا صوتٍ و هي تتقدم هي الأخرى لتسير في محاذاته.. تعمدت أن تبقي على بعض الصّمت و كأنها محاولة ما لاستشفاف رد فعل جديد منه..و هذا ما حدث بالفعل.. فقد ارتفع صوته بعد لحظاتٍ سائلًا بجدية ؛ _هل ستتحدثين إذن ؟!! فتداعت ابتسامتها قليلًا و هي تلتفت برأسها لترمق امتداد البحر الشاسع إلى ما لا نهاية..و لم تتردّد كثيرًا بعدها من أن تفتح فمها شارعة في السرد فعلًا..قالت بعد تنهيدة طويلة ؛ _حسنًا..أول شيءٍ يجب أن أقوله هو أنني كنت أملكُ عادة ما..أو بالأحرى هوس غريب...بالشموع......... صمتت فجأة..فالتقط نائل آخر كلمة و رفع أحد حاجبيها باهتمام مكرّرًا ؛ _الشموع ؟!! همست يوليا بدون أن تتوقف عن السير و هي تميل إلى الجانب قليلًا برأسها متأملة إياه بتمعن ؛ _نعم..كنت أحِب تجميعها بأصناف عديدة و مختلفة في غرفتي.. رمقت نفس الحاجب ذاك و هو يرتفع أكثر..و للمرة الثانية في نفس الدقيقة تنال منه ردة فعل حقيقية تمثلت في تعبير جديد ارتسم في عينيه و هو يقول ببعض التردّد الأقرب إلى الحذر ؛ _هل كان هذا الهوس أحد أسباب الحادث ؟!! فتشكلت على أطراف شفاهها ابتسامة شاردة قليلًا و هي تجيب بشفافية ؛ _بل كان هو أهم سبب ! حينها..تهيأ لها بأن نائل قد تسمر لأقل من ثانية واحدة في مكانه..بينما ظهر في عينيه وميض من... صدمة ؟! قبل أن يبتلع ريقه مستعيدًا ثبات ملامحه المذهل..و تتنهد هي في محاولة بدت و كأنها ناجحة نسبيًا في استمالة الكثير من الهدوء إلى صوتها.. و ما حدث بعدها..أنها ادخرت دقائق طويلة من حياتها في السير برفقة رجل غريب تعرفت عليه قبل بضعة أيام فقط..و الذي سرد لها قصته بطريقة ما فقرّرت هي الأخرى أن تسقط البعض من حذرها و مقابلته بالمثل ! مع العلم أنها عادة لم تكن تتصِف بها غالبًا مع أيّ أحد !! إذا كان مجرد استعادة ذلكٓ الحدث بتفاصيله المؤلمة يجعل أنفاسها تختنق في صدرها..إذا كان ذلكٓ الحدث نفسه لا يزال يملكُ تأثيرًا بارزًا عليها إلى درجة أن تراه في كوابيسها فتستيقظ مفزوعة بين كل فترة و أخرى ! إذا كانت هي الدكتورة يوليا سعد الراجحي..بطيف الابتسامة الجميل المرتسم بإتقان على شفتيها..و بمهارتها المتفانية في إنقاذ الناس و زرع بعض الأمل في قلوبهم.. لا تزال تشعر بأنها تقف في منتصف الطريق للتعافي من أضرار حياتها حتى اليوم..عاجزة عن مجرد تجاوز تأثير الماضي أو فقط...التمسكِ بتلابيبه أكثر ! لأنها تعلم بأنها في جميع الحالات...سينتهي مآلها إما بالموت قهرًا أو...العيش بفراغ !!! ___________________________ لا يصدق بأنه تخلص من ذلكٓ الرجل أخيرًا..لقد شعر براحة لا مثيل لها و هو يتلقى من أخته الوحيدة رسالة نصية مختصرة تخبره فيها بأنها و وائل عادا إلى منزل العائلة.. و حينها فقط كان يتنهد و هو يدير سيارته حيث كان يتجول بها بين شوارع المدينة الكبيرة بلا هدف معين..فهو على هذه الحال منذ بضعة أيام فعلًا مهما حاول ادعاء العكس حتى أمام نفسه.. إلّا أنه بطريقة ما..كان لا يزال يفتقد يوليا ! لا يزال عالقًا في تلكٓ اللحظة و مشهد هتافها أمام الجميع بالرفض أمام موظف عقد القران..لكنه يعلم أيضًا بأنها مشاعر مؤقتة..عليه أن يتجاوزها و سيفعل حتمًا..في أقرب وقت.. و حينما تحين تلكٓ اللحظة..التي تقرّر فيها الخضوع مجددًا لإرادة والدها..و هي ستفعل حتمًا في نهاية المطاف مهما تظاهرت بالمقاومة..سيكون قد حان دوره في نيل شرف معاقبتها على كل هذه اللحظات البائسة من حياته.. كان يمسكُ فعلًا بخاتم خطوبتهما الذي ألقته في وجهه يومها في يده الحرة بينما الأخرى تقبض على المقود..يقلبه بين أنامله في حركاتٍ عشوائية.. إلى أن وصل إلى وجهته..و حينها فقط كان يزفر نفسًا طويلًا بعض الشيء..ثم رمق الخاتم بين إبهامه و سبابته للحظة بنظرة فارغة..قبل أن يعيده إلى مكانه في صندوق السيارة..أعاده مؤقتًا فقط.. و حينما دخل إلى منزله الفارغ مشغلًا الأضواء ليتأكد من كونه فارغ بالفعل..تنهد براحة شديدة مستقبلًا ذلكٓ السلام النفسي الذي اجتاحه..قبل أن تقوده قدماه إلى غرفته ثم إلى السرير الوثير حيث ألقى بنفسه بكامل ثيابه اليوم و قد قرّر الاستسلام هذه الليلة فقط لذلكٓ الإرهاق الذي كان يستوطن جسده.. و في منزل آخر..كانت هناكٓ فتاة جميلة تجلس حول طاولة كبيرة برفقة فردين من عائلتها..كانت أمها التي جلست في مقابلها منكبة على صحنها تتناول منه بشهية مغلقة..و...والدها ! ذلكٓ الذي كان يجلس الآن في نهاية الطاولة كما اعتاد دائمًا..لكنه اليوم..على عكس تلكٓ الليلة..بدا أكثر ثباتًا و اتزانًا.. لم يكن هناك أيّ إشارات تثبت أن هؤلاء الثلاثة الذين يجلسون حول هذه الطاولة الآن هم عائلة... أم و أب و ابنتهما ! مجرد صمت كئيب مغلف بذبذباتٍ من إرهاق من طرف ميرنا..و من توتر من طرف والدها..إنها لا تزال تتذكر حتى الآن حوارهما الذي حدث صباح هذا اليوم..لقد سمحت له بصعوبة بأن يعود إلى المنزل.. و قد قرّرت -بشرط واحد ثابت أملته عليه- أن تؤمن بالوعود التي قطعها عليها..للمرة الألف ربما.. بأنه لن يقرب الخمر مجددًا..ستكون تلكٓ آخر مرة يرفع فيها يده على أمها و آخر مرة له في اختلاس أيّ شيء من المنزل ! لقد كانت تعلم بأن هذا الإيمان المتخاذل الجديد سيتداعى بعد بضعة أيام فقط..حينما تشتد الحاجة في جسد والدها فيهرع عائدًا إلى إدمانه مجددًا بإرادة خائرة.. و بما أنها لم تكُن واثقة من قدرتها على التحمل لو كانت هناكٓ مرة قادمة..فقد كانت ملزمة و عازمة على تنفيذ الأمر بطريقتها هذه المرة.. من الصعب جدًا على الإنسان أن يتحمل مسؤولية نفسه حينما لا يكون لديه منحنى رفاهية ثابت..لكن الأصعب منه أن يجد نفسه في موقف حيث هو مجبر على تحمل مسؤولية شخصين آخرين.. شخصان من المفترض أن يكون وجودهما بجانبها ملاذًا لها و سندًا ضد رتابة حياتها..لكنها تجد نفسها اليوم تتخذ دور أم مقهورة عاجزة في تطويع طباع أطفالها.. رغم أن المعنيين بالأمر في هذا الوضع كان والدها و والدتها ! من يفترض بهما أن يحملا همّ طباعها هي و أن يساعدانها إلى أن تلامس بر الأمان !!! " مرة أخيرة بعد..ميرنا..أرجوك..أعطني فرصة..أقسم باللّٓه سأثبت لكِ بأنني جدير بها.. " كانت هذه هي كلمات والدها لها صباح اليوم بينما يجلس أمامها في أقرب مقهى من منزلهم..إلّا أنها لم تكن كافية مبدئيًا لها لتتراجع..فقالت بنبرة مزجت ما بين عتاب و شعور قوي بالقهر.. " لقد رفعت يدكٓ على أمي ! و سرقت آخر شيءٍ كانت تمتلكه لنفسها في هذه الحياة !!! " كانت تستطيع أن تلمح أطياف الندم في عينيه..لم يكن والدها رجلًا متجبرًا بالفطرة..لكنه دائمًا ما امتلكٓ صفات من التجبر المؤذي..تلكٓ الصفات التي لا تزال حتى اليوم تحمل آثار منها في روحها ترافقها لكل مكان.. لم يكُن والدها رجلًا قاسيًا..لكنها رغم ذلكٓ لا تزال تتذكر لحظات قميئة من قسوة عاملها بها خاصة أثناء طفولتها..حتى و إن كان يعود لاحقًا معتذرًا لها على كل شيءٍ فالإعتذار وحده لا يكون دائمًا كافيًا.. حينها جاءها صوته يقول بنبرة مُمزقة.. " لقد كانت غلطة غير محسوبة...التقيت بصديق لي من الأيام القديمة و لم أفكر..لقد كانت حركة متهورة لكنني لم أكن أقصد هذا ميرنا..صدقيني ! " تراجعت ميرنا قليلًا في مقعدها تنظر لها بأسى..فرمق يدها المرتاحة فوق الطاولة لوهلة..قبل أن يمد يده ببطءٍ إلى أن احتواها..ثم قال بنبرة بدت و كأنها تحمل صدق العالم و هو ينظر في عينيها.. في أعماق عيني ابنته الكبرى و التي تمثل لهذه العائلة العمود الوحيد الذي يستند عليه جميعهم! " أعدكِ بأنها ستكون آخر مرة..هل تظنين بأن هذا الوضع يروق لي ؟ لقد انجرفت..ميرنا..لكنني لن أعيد الكرة مجددًا ابنتي صدقيني..هل تتذكرين تلكٓ الليلة.. و إغلاقكِ الباب في وجهي ؟ لقد قرّرت في تلكٓ اللحظة بالذات..أقسمت على نفسي بأنني سأحاول من جديد..سأبدأ صفحة جديدة و لن أقرب الخمر بعد... " كان صوته مختنقًا..و قد أقسمت بداخلها بأن والدها كان صادقًا..لكن ماذا سيفيد صدقه الآن إن كان سيعود إلى تخاذله المعتاد لاحقًا ؟!! لقد حاولت من قبل مساعدته بكل طريقة مُمكنة.. حتى أنها عرضت عليه أن تقوم بتسجيله في مركز علاجي لمحاربة هذا الإدمان المريع لكنه رفض بشكل قاطع و بدلًا عن ذلكٓ فقد منحها وعودًا جديدة نابعة عن شعور حقيقي صادق.. لكنها وعود فارغة إلى درجة أن مدة الايفاء بها محدودة إلى بضعة أيام فقط !! " أخشى أنكٓ لن تستطيع الوفاء بوعودكٓ مجددًا.. أبي ! " قالت أخيرًا بصوتٍ أجش و هي تنظر في عينيه بألم.. و قد لاحظ..و لاحظت أيضًا..بأنها لم تستطع أن تتمسكٓ بيده مهما حاولت و كأن عقلها لا يزال يرفض بضراوة التصديق بتلكٓ الوعود !! إلّا أنه قال بحرارة و هو يتمسكُ بيدها أكثر ؛ " بل سأفي بها..أو...سأحاول بجهد..أقسم لكِ ! " لقد كانت تلكٓ هي فرصتها الوحيدة..فرصتها الأولى و التي كان يجدر بها استغلالها..فزمت فمها قليلًا و هي تنظر له للحظاتٍ بوجوم..إلى أن قالت في النهاية بحزم قاطع ؛ " ستذهب إلى المٓركز العلاجي ! " و كما هو متوقع تمامًا..فقد شحبت ملامحه تمامًا و هو يتراجع قليلًا برأسه مبهوتًا..بينما أضافت ميرنا بحزم أكبر ؛ " هذا هو شرطي الوحيد ! " ارتجفت شفاه والدها أمامها و كأنه سيقول شيئًا..إلًا أنه و عاد و زمها بقوة..قبل أن يقول بصوتٍ تحشرج بشكل مفاجئ ؛ " و إلّا ؟! " و قد منحته الرد الوحيد الذي استطاعته.. " لم أعد استطيع أن استأمن على والدتي و هي معك ! " تلكٓ الجملة منها ضربته في الصميم..رأت أمارات هذا مرتسمة على وجهه بشكل واضح جدًا..إلا أنها لم تكن لتتوقف تحت أيً ظرف.. فاقتربت قليلًا منه عبر الطاولة بينهما..و همست بينما تستند إلى سطحها بمرفقيها متجاهلة كل ذرة من ألم كانت تجتاح عقلها بضراوة.. " ألا ترى بأنكٓ تؤذينا...أبي ؟ إنكٓ تؤذينا بشدة !! " رمقت يدها المختفية تحت يده لوهلة..قبل أن تحرك أناملها إلى أن أصبحت تتشبث بيده هي الأخرى..و قالت فورًا بحرارة و هي ترى نفس انطباع الألم في عينيها ينعكس في ملامح والدها.. " أعلم بأن هذا الوضع لا يروق لكٓ أيضًا..ألا أرى كل محاولاتكٓ في التغير و التحسن منذ وقتٍ طويل ؟ لكنكٓ لا تنجح أبي..لا تنجح بأيّ طريقة..إنكٓ فقط.. تستمر في أذيتنا و أذية نفسك..ألا ترى هذا أبي ؟!! " كان الجواب الوحيد الذي نالته الآن هو نظرة العجز المرير التي احتلت عينيه و جعلت من قلبها ينقبض قليلًا حزنًا..لكنها فقط استرسلت بجدية و بدون أيّ لحظة توقف.. " كما أن المركز العلاجي ليس مكانًا سيئًا..إنها فرصة ثمينة يتمناها كل شخصٍ في مكانك..إنه مكان جيد حيث سيتم تقديم كل العون و المساعدة لكٓ لتجاوز هذا..يجب أن تفهم بأنني لا أفعل كل هذا إلّا لأجلك.. لأراكٓ سالمًا معافى على الأقل كما كنت في الماضي.. إنها فرصتكٓ الوحيدة و الأخيرة أبي !!! " كان صوتها قد ارتفع في آخر جملة..ثم أمالت رأسها إلى الجانب قليلًا سائلة بصوتٍ أجش حزين.. " ألا تستغلها لأجلي على الأقل ؟ ألا تستغلها لأجل آدم و لأجل أمي ؟!!! " صمت طويل بعد هذا السؤال الوجيه من طرف والدها..صمت لم تظن بأنه سينقطع بعد..إلى أن سمعت صوت والدها يسأل بصوتٍ باهت.. " ماذا لو لم أوافق ؟!! " " عليكٓ أن توافق !! " هتفت بحرارة و هي تنظر في جوف عينيه و تتمسكُ بيده أكثر..و قد تراجع هذا الأخير قليلًا إزاء ردها... اكتفى بالصمت مجددًا و هو ينظر لها بنظرة مزجت ما بين حيرة و ضياع و...نفس العجز ! و حينما تأكدت من أنه لن يضيف أيّ شيءٍ على كلامها..تنهدت و هي تتراجع أخيرًا هامسة بنبرة هادئة رغم الإرهاق الذي يكتسحها.. " على أيّ حال..سأمنحكٓ مهلة للتفكير.. " حررت يده بعد بهدوء و هي تضيف بدون أن تنتظر منه أيّ رد بنظرة ذات مغزى.. " يمكنكٓ أن تعود إلى المنزل اليوم ! " قبل أن تقرر الوقوف بهدوء..حملت نظاراتها الشمسية ثم حقيبتها الأنيقة تثبتها فوق كتفها..و غادرت المقهى عائدة الى المشفى حيث كانت مناوبتها ستبدأ بعد نصف ساعة.. و قد تأملت..من أعماق قلبها أن يثمر مجهودها نتيجة فعالة هذه المرة على الأقل ! و ها هي ذي تجلس برفقته حول نفس الطاولة..لا تزال تشعر بنفس الثقل الذي يجثم فوق صدرها و المرتبط به تمامّا و حصرًا يقيدها عن فعل الكثير.. إلى أن قالت فجأة و هي تضع الملعقة فوق الصحن بهدوء و تقف ؛ _أنا...سأذهب إلى غرفتي ! تصبحان على خير ! التفتت بعدها مغادرة بهدوء..بينما ظل والدها و والدتها جالسان في نفس المكان للحظاتٍ..إلى أن قالت هذه الأخيرة تسأله فجأة بقلق ؛ _ماذا حدث ؟ هل سمحت لكٓ بالعودة ؟!! بدا على ملامح زوجها القلق جليًا..حينما قال و عيناه تشردان في الفراغ العميق أمامه ؛ _تريدني أن أذهب للمركز العلاجي ! شهقة خافتة حرّرتها زوجته و هي تغطي فمها بيدها.. قبل أن تهمس من تحتها بغير تصديق ؛ _لا يعقل ؟!! إلّا أن زوجها ظل مركزًا أنظاره أمامه شاردًا بنفس الطريقة..إلى أن طرف ببطءٍ..ثم نظر لها مجدداً مردفًا بما جعل من دهشتها تلكٓ تتضاعف ؛ _و هي غالبًا...محقة فيما تريده !! و كانت هذه الجملة بمثابة إعلان غير مباشر على استسلامه لقرار ابنته !!! حتى و إن كان هذا يحمل نفس المعنى..كونه سيضطر للبقاء في مكان آخر بعيدًا عن هذا المنزل لفترة جيدة !!! ___________________________ مساء الورد ???????? آرائكم و توقعاتكم تهمني جدًا.. #شيماء_أمارة | |||||||
يوم أمس, 08:29 PM | #15 | ||||||||
| اقتباس:
أما بالنسبة لموعد تنزيل الفصول فهو يوم الأربعاء من كل أسبوع لكن بسبب ظرف طارئ فقد تأخر تنزيله ليوم الخميس هذا الأسبوع..و قد تم تنزيله بالفعل قبل قليل..قراءة ممتعة ❤❤❤ | ||||||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|