16-01-25, 02:11 PM | #31 | ||||
| فصل رائع ضحى تصرفها خطأ الله يجيب العوافب سليمة أحس راح تخرب علاقتها بوائل ميرنا شخصية قوية و مجد الغبي مشوش و مشاعره ملخبطة ميرنا راح ترجعها لمسارها الصحيح هههه يوليا و نائل عصافير الحب لو يسمع أبوها راح ينجلط ههه عالعموم شكرا مبدعة دايما ❤️❤️❤️ | ||||
23-01-25, 05:28 PM | #32 | |||||||
| ملاحظة ؛ السلام عليكم و رحمة الله و بركاته غالياتي.. حابة أعتذر منكم بشدة بسبب عدم نزول الفصل في موعده المعتاد (يوم الأربعاء) و ذلكٓ بسبب إنشغالي الشديد..كما أنني كنت أمر بوعكة صحية امتدت لأيام و الحمدلله.. بإذن الله سينزل الفصل اليوم..ربما بعد بضعة ساعات قليلة ❤❤ ثانيًا.. كنت أفكر في تنزيل رواية أخرى لي في المنتدى..رواية مكتملة تمامًا عندي و جاهزة مسبقًا بما معناه أنني لو قمت بننزيلها فعلًا فبإذن الله التنزيل سيكون سريعًا و على فترات مقابلة..ربما فصلين في الأسبوع.. لكنني أريد أن أسمع بعض الآراء أولًا ???????? فقط..أحبكم في الله ❤ | |||||||
23-01-25, 05:33 PM | #33 | ||||||||
| اقتباس:
ميرنا أحبها رغم أن مشاهدها لا تزال تعتبر قليلة حتى الآن.. يوليا و نائل عالم ثاني ❤❤ +شكرًا على ابداء رأيك الجميل حبيبتي..أكثر شيء أحبه في تعاليقك هو المحايدة في إبداء الرأي و اهتمامك بالتفاصيل ❤❤❤ | ||||||||
23-01-25, 11:05 PM | #34 | |||||||
| الفصل التاسع ● الفصل التاسع كانت تشعر بالعجز التام..و كأن هناكٓ مجموعة من الاسلاك الوهمية تقيد أطرافها حائلة بينها و بين إمكانية بلوغها نهاية هذا الطريق الذي من المفترض به أن يكون قصيرًا للغاية.. لكن حتى ذلكٓ الشعور لم ينجح في دفعها للتراجع.. فكانت خطواتها تصبح أسرع..و كأنها امرأة وحيدة تركض في مٓمر خال من البشر آملة أن تعثر على مستقر آمن في النهاية.. تحديدًا منذ أن نظرت في عيني يوليا و همست بكل صدق.. " يوليا أنا...أنا فعلت شيئًا سيئًا جدًا...جدًا ! " و تلقت ردة الفعل الأولى المتوقعة من ابنة خالها..كانت أن استقامت قليلًا ناظرة لها بحاجبين منعقدين قلقًا..قبل أن تفتح فمها لتسأل بدون تردّد..بصوتٍ ثابتٍ جاد ؛ _أخبريني !! حينها تسمرت ضحى تنظر لها بضياع كبير..ضياع مألوف لها حصرًا و غير مألوف لدى يوليا التي استطاعت منذ الوهلة الأولى أن تخمن بأن الموضوع يخصّ......وائل بالطبع ! و ساد صمت طويل..طويل و كئيب من طرفها هي.. صمت انتهى بأنامل يوليا التي امتدت تغطي بها كفها بمساندة..ثم همست تحثها بأكثر نبرة دافئة و متفهمة سمعتها في حياتها ؛ _أخبريني بكل شيءٍ ضحى..أنا أسمعكِ ! و أخبرتها..بعد تردّد قصير إضافي..كانت تفتح فمها أخيرًا لـ...تبدأ في سرد مكنوناتها بصوتٍ شرع يتحشرج أكثر بعد كل كلمة جديدة تلقيها على مسامع يوليا.. إلى أن انتهت بأن أخبرتها عن موقفها الأخير مع ذلكٓ الرجل النذل في منتصف منزلهم ثم موقفها الكارثي بعده في مكتبها ! حينها..كان دور يوليا لأن تتسمر تمامًا فاغرة الشفاه على نظرة فاقت حدود الصدمة..و تخللها غضب واضح..نفسه ذلكٓ الغضب الذي لون صوتها الذي ارتفع هامسة بغير تصديق ؛ _يا إلهي ! و أين هو هذا النذل الآن ؟!! كانت أنظار ضحى مستقرة بعيدًا الآن..عيناها تتأملان الأفق بدموع جافة لم تعد احتمالية توقفها عن ذرفها قائمة بعد..حينما همست تجيب بدون أن تنظر لها بصوتٍ أجش و نبرة استسلام ناقضت تمامًا الطريقة التي كانت يدها تعتصر بها المقود ؛ _طردته ! قابلها صمت جديد من طرف يوليا..فزفرت نفسًا ثقيلًا مرتجفًا..قبل أن تلتفت إليها ببطءٍ..و حينها..و كما توقعت تمامًا فقد قابلتها تلكٓ النظرة البالغة المعنى في عيني يوليا..نظرة شخص ينتظر تتمة كلامها بتأهب..شخص يعرفها حق المعرفة و يعلم بأنها لا تزال لم تنتهي بعد.. و بما أن هذه كانت غايتها من فتح هذا الحوار منذ البداية..فقد همست تزم فمها قليلًا و تهز كتفيها باستسلام أكبر الآن..استسلام حزين..استسلام مؤلم! _ما أردت قوله منذ البداية هو أنني اتخذت قراري..و وضعت الرسائل المتبقية في جعبتي في سيارة وائل...... صمتت فجأة ترى الطريقة التي ارتفع بها حاجبا يوليا ذهولًا..أو جزعًا..ثم أضافت تقاوم رغبة ملحة جديدة في البكاء ألمًا ؛ _ربما يكون قد وجدها بحلول الآن..و ربما يكون قد قرأها...... ! لم تستطع أن تمنع صوتها من أن يختنق في آخر كلمة..و لا تلكٓ الدمعة الجديدة التي انسابت ببطءٍ فوق وجنتها.. و أمامها..عجزت يوليا عن الرد بأيّ كلمة لوقت..فقد ظلت تحدق بها بعينيها المتسِعتين و شفاهها الفاغرة بينما عقلها يرسم آلاف السيناريوهات عن هذا الوضع الجديد.. لو وجد وائل تلكٓ الرسائل..لو كان قد وجدها بحلول الآن..لو كان يقرأها في تلكٓ اللحظة..فسينتهي كل شيء ! ثم ما إن تمكنت من استجماع صوتها..همست تسألها بنبرة تشبه الاستنكار...أو التوسل ! _أنتِ لم تفعلي هذا حتمًا ضحى..أليس كذلك !!! إلّا أن ما منحته لها ضحى..نفس النظرة العاجزة..فعادت يوليا تهتف هذه المرة بصوتٍ خرج واضحًا يتخلله نبرة توبيخ صريحة للغاية ؛ _أليس كذلك...ضحى ؟!!! لم تستطع ضحى في تلكٓ اللحظة أن تقمع تلكٓ الحاجة الداخلية أكثر..فانسابت دموعها أكثر بكل سلاسة و هي تهمس برجاء ؛ _يوليا !!! و قد كانت تلكٓ الهمسة منها و كأنما المحفز الذي جعل يوليا تخرج من صدمتها السابقة..فقالت تهتف في نفس اللحظة و كأنها تخاطب أغبى شخص في العالم ؛ _ما الذي فعلته بحق اللّه ضحى !! هل هذه هي الطريقة الصحيحة للمصارحة !! ألا تعرفين وائل... ؟! ألا تعرفينه أكثر مني !!!!! هتفت ضحى من يين دموعها همسًا في نفس اللحظة و هي تلتفت إليها بالكامل الآن ؛ _أعرفه..أعرفه حق المعرفة و أكثر من الجميع لكنني... سئمت..يوليا..ألا ترين الوضع الذي وصلت إليه !! أنا امرأة متزوجة تتلقى منذ فترة طويلة رسائل غزل و حُب من رجل آخر بدون علم زوجها..أنا امرأة تنظر في عيني زوجها كل يوم و الذي لا يتوقف عن تعداد شعارات الثقة التي يكنها لها و التي هي أبعد من أن تستحقها..أنا امرأة ترتدي وشاح الحُب و الأخلاص في حين أنها لو حاولت مجرد المحاولة أن تشارك تلكٓ الحقيقة مع العالم فسيتهمها الجميع بدون استثناء بالخيـ......... _توقفي ! و توقفت فعلًا..صمتت متماثلة لصوتِ يوليا الذي ارتفع يقاطعها بنبرة صارمة..لكنها لم تستطع التوقف عن ذرف الدموع بمرارة..فأطرقت برأسها قليلًا و أطبقت عينيها فجأة تستقبل حرارتها الحارقة على وجنتيها بكل رحابة.. قبل أن تشعر فجأة..بذراعين حنونتين مألوفتين في دفئهما تطوقانها..فأطبقت عينيها أكثر و عضت على شفتها السفلى تحاول أن تكتم شهقات بكائها عبثًا..فقد كان ذلكٓ الكتف حيث ارتاح جبينها المرهق للحظاتٍ.. أكبر محفز لها على فعل العكس... قبل أن تشعر بيدي يوليا تحرّرانها..لكن لا لشيء إلّا لتطوق وجهها مرغمة إياها على فتح عينيها و النظر لها أخيرًا..ثم همست هذه الأخيرة تنظر في عينيها فعلًا.. همست بتلكٓ النبرة الصارمة التي نادرًا ما تخاطبها بها.. _أولًا..يجب أن تعلمي بأن هذا ليس ذنبكِ ! نظرت لها ضحى باعتراض واضح في عينيها..فاستأنفت يوليا بنبرة أشد صرامة و ثباتًا ؛ _بل هذه هي الحقيقة..ما تعيشينه الآن..كان من الممكن أن يعيشه أيّ شخص في مكانكِ..لهذا نعم...أنتِ لا تملكين أيّ ذنب في هذا الموضوع ضحى..يجب أن تستوعبي هذا..حتى وائل نفسه لا يملكُ حق محاسبتكِ على شيء لم يبذر منكِ أساسًا ! همست ضحى بصوتٍ بالكاد استعاد القليل من قوته ؛ _لكنه يملكُ حق محاسبتي على رد فعلي...ألا يملك !!! و جوابًا على هذا..فقد همست يوليا تميل برأسها قليلًا بصدق..بدون أن تحرّر وجهها أو تتخلى عن تلكٓ الصرامة في عينيها ؛ _للأسف ! بينما أغمضت ضحى عينيها على أنفاس غير متوازنة.. قبل أن تفتح فمها سائلة بصوتها المتحشرج بخفوتٍ ؛ _و ثانيًا... ؟! قالت يوليا تمنحها الرد الذي شعرت به صائبًا بنبرة شديدة الوضوح ؛ _ثانيًا..ستذهبين الآن..و في هذه اللحظة لتستعيدي تلكٓ الرسائل....... رفعت ضحى حاجبيها غباء..فأضافت يوليا بجدية لا تقبل الجدال ؛ _يجب أن تفعلي هذا ضحى..هل تعلمين لماذا ؟ لأن وائل سيكرهكِ..سيكرهكِ بشدة و صدقيني سيصبح الوضع أسوء ممّا هو عليه بالفعل لو حدث حقًا و علم الحقيقة بهذا الشكل ! لقد كانت يوليا محقة في كل كلمة بالفعل..فوائل سيكرهها في جميع الأحوال..لكن ربما تستطيع معالجة الوضع بأقل الأضرار لو نظرت هي في عينيه و أخبرته الحقيقة ! و هذا ما يجب أن تفعله فعلًا..مهما بلغ خوفها و تردّدها.. مهما بلغت صعوبة الأمر عند تخيلها حتى ! بعد كل تلكٓ الكلمات المعبرة من يوليا..وجدت هي نفسها تلتزم الصمت للحظة ناظرة لها بحيرة تمتزج بألمها..ثم و ما إن همّت فعلًا باتخاذ قرار الانصياع لتلكٓ الكلمات.. وجدت نفسها تتراجع متسائلة السؤال المرعب الذي طرأ في ذهنها فعلًا ؛ _ماذا لو كان قد قرأها بالفعل ؟! ماذا سأفعل حينها ؟!! حينها..تراجعت يوليا قليلًا محرّرة وجهها..قبل أن تزم فمها قليلًا هامسة الشيء الوحيد الذي استطاعت همسه في ذلكٓ الوضع ؛ _نأمل أن لا يحدث هذا ! طرفت ضحى برموشها المبللة و هي تتسمر للحظة إضافية تنظر لها بتردّد..قبل أن تلتفت أخيرًا تهم بقيادة السيارة متجهة إلى المرآب حيث يمكنها أن تجد سيارة وائل فقط في حال لم يخب أمل يوليا و كان قد عاد للمنزل الآن بدون أن يلاحظ تلكٓ الرسائل.. لكنها عادت و نظرت لها مجددًا بتردّد..و همست بنبرة غارقة في الضياع..همست تخاطب تعبير التعاطف و الحزن الجديد الذي ظهر في عيني يوليا ؛ _هل...هناكٓ احتمال أن يسامحني وائل فعلًا لو أخبرته بالحقيقة وجهًا لوجه ! و جاءها الرد..بصوتِ يوليا الدافء الذي تخللته ابتسامة باهتة قليلًا الآن ؛ _احتمال الصفح وارد في جميع الأحوال..هل نسيتِ بأن وائل يحبكِ ؟!!! و كأنما سقطت تلكٓ الكلمات على فؤادها المكلوم كقطرة ماء بدّدت القليل من تلكٓ النيران التي تشعر بها تلسع روحها منذ فترة..و تزداد وطأة كلما تطرق عقلها لهذا الموضوع.. فاهتز جانب شفتيها مشكلة ابتسامة لا تمُت للسعادة بصلة..لكنها حملت بداخلها نوعًا من...الأمل بعد أيام لا تعد من يأسٍ مرير.. و ها هي ذي تقطع تلكٓ الأمتار المعدودة ركضًا متجهة إلى سيارته التي لمحتها عبر الضوء الصادر من المكان بمجرد أن ترجلت من السيارة..إلى أن وصلت إليها..و حمدت اللّه بشدة لأنه تركها مفتوحة كما يفعل في غالب الأحيان.. فدفعت الباب ملقية بنفسِها فوق مقعد السائق..قبل أن تفتح الصندوق الصغير أمامها..و تردّدت لوهلة صغيرة قبل أن تلقي نظرة هناك..و قد كانت لا تزال متواجدة حيث تركتها..تلك الرسائل... نفس طويل حرّرته و هي تشعر بنفسها و كأنها قد تحرّرت من طوق خانق كان ملتفّا حول عنقها منذ الصباح..حتى أنها لم تشعر بنفسها و هي تتراجع قليلًا إلى أن أصبحت تستند إلى طرف المقعد مغمضة عينيها للحظاتٍ سمحت لنفسها خلالها باستيعاب شيء واحد.. و هو أن وائل الذي ستجده ما إن تدخل إلى البيت الآن.. هو نفسه زوجها الجميل..بنسخته الجديدة البالغة الـ... روعة..و تلكٓ الفكرة..مجرد فكرة أنها لا تزال تمتلكُ بعض الوقت..أنها لا تزال تمتلكُ إمكانية أن تنام فوق صدره الليلة..متنعمة بدفء ذراعيه و همساته و عينيه بدون أيّ حاجز يحول بينهما..جعلتها تبتسم.. ابتسامة ليست سعيدة بقدر ما هي حزينة..لكنها تظل ابتسامة..تظل ابتسامة إقرار و استقرار..هي..هي ستأخذ برأي يوليا..و ستخبره بنفسها..تلكٓ المرة و هي تنظر في عينيه بينما تتوسله أن لا يسمح لها...بفقدانه !! ____________________________ ثم بعد ما يقارب الدقيقتين..كانت تقف برفقة يوليا أمام الباب الكبير لمنزلهم..حينما مالت عليها هذه الأخيرة هامسة بجدية ؛ _لقد أرسلت رسالة لوائل قبل قليل أخبرته فيها بأن سيارتي قد تعطلت في الطريق فأجبرت على الاتصال بكِ لاصطحابي.. أومأت لها ضحى راسمة ابتسامة امتنان باهتة..قبل أن تدس يدها في حقيبتها مخرجة المفتاح..ذلكٓ الذي دسته في مكانه المحدد قبل أن تدفع الباب لكنهما ما كادتا أن تتقدما خطوة واحدة نحو الداخل حتى كان يعترضهما وائل الذي يبدو و كأنه كان ينتظر وصولهما فقط.. راقبته ضحى ببعض التوتر و هو يقترب منهما إلى أن وقف أمامهما..لكن غايته في تلكٓ اللحظة لم تكن هي..بل يوليا..فقد وقف أمامها لترتفع يداه تطوقان وجهها سائلًا باهتمام لطالما كان صفته الأساسية و الأجمل حينما يتعلق الأمر بيوليا خاصة...و بها هي ! _هل كل شيءٍ على ما يرام ؟! أومأت لو يوليا و هي ترد مطمئنة بصوتٍ دافء ؛ _بالطبع وائل..هل يمكنني أن أطلب منكٓ عدم القلق ؟! لكن ملامح وائل لم تتغير..فقد التفت قليلًا ليرمقها هي الآن بنظرة مطولة بعض الشيء..و جالت عيناه متأملًا ذلكٓ التوتر الذي كان يحتل ملامحها خلسة..توتر بدأ يعتاد عليه فعلًا و هو كالعادة لا يحِب الالتفات إليه.. لهذا..فقد التفت مجددًا ينظر ليوليا التي كانت تراقب الوضع بينهما بحذر..ثم قال يسألها بجدية ؛ _أين السيارة الآن ؟ هل أرسلتِ أحدًا ليأخذها ؟! أين السيارة الآن ! شعور طفيف من الغيظ استوطنها و هي تتذكر الآن فقط مكان سيارتها..لقد تركتها أمام منزل نائل !!! لكنها لم تنفكّ أن هزت رأسها بلا فائدة مجيبة بهدوء ؛ _لقد تصرفت..وائل..توقف عن إلقاء الأسئلة أكثر رجاءً.. حينها فقط..كان وائل يتراجع قليلًا محرّرًا وجهها..ثم و للمرة الثانية في نفس الدقيقة..كانت عيناه تتسمران على ضحى للحظة..قبل أن يفسِح الطريق مشيرًا نحو الداخل ؛ _حسنًا حسنًا..ادخلا الآن..لقد تم تقديم طعام العشاء منذ دقائق أساسًا و الجميع في انتظاركما.. تقدمت يوليا فورًا..إلّا أن ضحى ظلت واقفة مكانها ممّا جعل يوليا تتوقف مجددًا ناظرة لها بتساؤل..لكن عينيها هي ظلتا مشغولتان بالنظر صوب وائل..الذي لم يزح أنظاره عنها للحظة واحدة هو الآخر.. ثم قالت تحاول بشتى الطرق إخفاء ذلكٓ التوتر ؛ _أنا...سأصعد للغرفة أولًا لأغير ثيابي ثم أعود إليكم.. لم تشعر أثناء تحدثها بأناملها التي تململت تتمسكُ بحزام حقيبتها أكثر..و لم ينتبه أيّ منهما ليوليا التي عادت تلتفت مستأنفة طريقها نحو غرفة الطعام..فقد اكتفى وائل بأن حرك رأسه ببطءٍ موافقًا.. و اكتفت ضحى بأن زمت شفتيها قليلًا في حركة لم يغفلها..قبل أن تتحرك متجاوزة إياه نحو السلالم فعلًا.. مدركة و واعية بأنظاره التي تتبعت ابتعادها بنفس ذلكٓ التعبير الغريب بهما.. و كأن هناكٓ فجوة عميقة بدأت تتولد بينهما من حيث الفراغ..يزداد حجمها أضعافًا كل يوم حتى قبل أن تطلعه على الحقيقة..فقد كان وائل رجلًا ذكيًا حتى في الحب..و هي لا تملكُ من أمر نفسها إلّا التزام الصمت أمام نظراته و تساؤلاته في كل مرة..مثله ربما..تنتظر بفارغ الصبر تلكٓ اللحظة التي ستتملكها الشجاعة فيها للبوح.. و هي تشكّ بأنها باتت قريبة جدًا...جدًا ! و في غرفة الطعام..تفاجئت يوليا بمجرد وصولها و هي ترى آخر شخص تمنت رؤيته هنا اليوم..كان مجد..ذلكٓ الذي رفع أنظاره صوبها يرمقها بتلكٓ النظرة الحقيرة التي تذكرها بذلكٓ اليوم..و تتهمها خلسة بأشياء لا تفهمها ! نفس الاتهام الذي حملته نبرته بشكل خفي..حينما قال يتظاهر أمام الجميع إلّا هي بالإعتيادية ؛ _هل كل شيءٍ على ما يرام ؟ أين ضحى ؟! تظاهرت يوليا مثله بالاعتيادية و هي تقترب من الطاولة أكثر إلى أن اتخذت مقعدًا..و فتحت فمها تجيب أثناء ذلكٓ بلا مبالاة متعمدة أن لا تنظر له ؛ _لقد صعدت للأعلى لتبدل ثيابها.. رفعت يديها بعدها تشرع في الأكل مباشرة..إلّا أن والدها الذي كان يجلس في المقعد الرئيسي على جانبها..همس فجأة يقاطعها بنبرة...قلقة ؟! _هل أنتِ بخير ؟! نظرت له يوليا شبه مجفلة بدهشة..فقال يشير إلى وجهها بيده بنفس النبرة الـ..دافئة نوعًا ما!..و التي لم تسمع مثيلتها منذ وقتٍ طويل ؛ _وجهكِ يبدو شاحبًا للغاية ! التفت مجد في نفس اللحظة يدقق النظر بملامحها و كأنه يحاول أن يتأكد من مدى صواب تلكٓ الملاحظة..و قد كانت شاحبة فعلًا..شاحبة لدرجة دفعت رغبة قوية بداخله لأن يلقي عليها سؤالًا مشابهًا.. لكنه التزم الصمت بدلًا عن ذلك..و أشاح بوجهه بعيدًا يرغم نفسه على التمسك في موقفه..هو لن يسمح لنفسه بأن يصبح حكرًا على إنسانة تمقته إلى هذا الحد.. حتى و لو أراد بكل جوارحه فكبريائه المُنتفض داخليًا لا يزال يرفض ! بينما في مكانها..تسمرت يوليا قليلًا حينما اجتاحها شعور غريب من...انشراح حقيقي..حتى أنها تراجعت قليلًا و ابتسمت عيناها خلسة شاعرة بقلبها يختلج بسعادة مألوفة.. قبل أن تهمس مجيبة سؤال والدها بنبرة تشبه الـ...... الامتنان ! ألم تعترف من قبل بمدى حُبها لوالدها ! كما أقرت جميع جوارحها دائمًا بأنها الفتاة الأكثر حُبّا لوالدها في العالم ! _أنا...أنا بخير بالطبع ! طرفت برموشها بعدها و هي تستقبل إيماءة والدها المترددة بسعادة أكبر..و قد بدت كإنسانة بلهاء قليلًا و هي تنقل عينيها الهادئتين ظاهريًا فقط إلى والدتها..تلكٓ التي منحتها ابتسامة صريحة و واضحة.. ابتسامة تفهم و حُب و أمومة خالصة ! ابتسامة كانت لتكون الأجمل لولا بعض القلق الذي شوبها خلسة..و زادت وطأته ما إن التفتت قليلًا لترمق مجد ثم تعود لتنظر لها مجددّا.. فهمت يوليا حينها بأن عقل والدتها قد تطرق لحوارهما قبل أيام عديدة ! لكنها بطريقة ما..و كواحدة من المرات النادرة لم تهتز داخليًا..و لم ترتعش أطرافها قلقًا..فقد أشاحت بوجهها تستأنف أكلها بشهية مفتوحة نوعًا ما.. بينما ظل جزء كبير من عقلها عالق مع هذا الموقف..نظرة والدها لها و نبرته..و الجزء الآخر مع...نائل ! ذلكٓ الرجل الجميل..و الذي باتت تستشعر في نفسها رغبة غير مطوعة في الاستمرار بهذا الطريق برفقته غير عابئة بأيّ عوائق بعد.. بأيّ اختلافات أو عقبات قد تحول بينهما ! ___________________________ دلفت للغرفة بسرعة مغلقة الباب خلفها بإهمال..قبل أن تتقدم نحو الداخل إلى أن ارتمت جالسة فوق السرير تنظر أمامها بإرهاق شديد..لحظات استغرقتها في الجلوس بنفس الوضع.. ثم فجأة..ما كادت أن تطرق لتدس يدها في حقيبتها الأنيقة تهم بإخراج تلكٓ الرسائل اللعينة حتى كانت تنتفض بقوة حينما انفتح الباب فجأة..و أطل منه وائل الذي توقف مكانه ينقل عينيه بين ملامحها التي شحبت تمامًا ببعض القلق...أو التوجس ! رمشت ضحى ببطءٍ و هي تسحب نفسًا عميقًا تستنجد الله من قلبها أن لا تكون مشاعرها الحقيقية قد ظهر أثرها في ملامحها..لكن عيني وائل تسمرتا أخيرًا على يدها التي كانت لا تزال تتمسكُ بها بالحقيبة..فعادت تنتفض شبه مجفلة و هي تتركها هامسة بخفوت ؛ _أنا...كنت على وشكِ تغيير ثيابي...لماذا تركت مائدة العشاء و لحقت بي ؟! لم يستطع وائل أن يزيح عينيه أو ذهنه عن حركتها السابقة تلك و عن وضعها الغريب هذا أساسًا..قبل أن يهز رأسه في حركة شبه مرئية..ثم قال ينظر في عينيها الآن بنبرة غير بديهية تمامًا ؛ _لقد تأخرتِ قليلًا.. صمت لوهلة واحدة..ثم عاد يهمس بصوتٍ ثقيل نوعًا ما ؛ _هل ما قالته يوليا صحيح ؟! شحبت ملامحها أكثر و كأنه قد استهدفها بطريقة لم تتوقعها..و قد ظهرت ردة الفعل واضحة بشكل أكبر هذه المرة إليه..إلى أن قال يضيف شارحًا بجدية ؛ _لقد كانت حرارتها مرتفعة ! الآن ارتفع حاجباها بغباء حقيقي..لولا أن أضاف وائل بنفسِ النبرة ؛ _لاحظت هذا عندما لمست وجهها قبل قليل ! و كأنه قد ألقى عليها خبرًا...جميلًا ! بل و كأنه قد ألقى عليها تعويذة ما جعلتها تتنهد...ارتياحًا !!! ثم قالت تهز رأسها ببعض التشوش..بصوتٍ بالكاد استعاد قوته و ثباته ؛ _هي..إنها...لقد كانت مرهقة قليلًا فقط..لكنها أصبحت أفضل الآن صدقني ! كان الموقف برمته غريبًا..غير مألوفًا..حتى نبرتهما و نظراتهما و طريقة تحدثهما إلى بعض..حتى ذلكٓ الصمت الموحش الذي يحيط المكان..و حتى إيماءته البطيئة التي تلقى بها ردها..و الصمت الذي قابلتها هي به بعدها.. لم يكن يبدو معهودًا بينهما بأيّ شكل من الأشكال ! _حسنًا إذًا..أنا سأنتظركِ في الأسفل...غيري ثيابكِ بسرعة و انضمي إلينا.. قال فجأة بنفسِ النبرة..ثم رمق الحقيبة بنظرة جديدة لم تبدو ذات مغزى الآن و هو يتراجع أكثر يهم بالذهاب فعلًا..إلّا أنه عاد و تسمر محدقًا في الفراغ..و تسمرت ضحى أيضًا و هي تقابل حركته هذه بملامح متأهبة.. و قد شعرت قبل حتى أن يلتفت إليها مجددًا..بأنه سيلقي بسؤال جديد..و هذا ما حدث فعلًا..فقد التفت إليها وائل يمنحها عينيه المغلفتين بطبقة جفاء غريبة.. قبل أن يفتح فمه ليلقي بسؤال جديد..سؤال لم تتوقع سماعه إطلاقًا.. _سأسألكِ لآخر مرة ضحى......... تأهبت ملامحها أكثر بقلق داخلي..بينما استأنف وائل بدون أن يفارق عينيها ؛ _هل هناكٓ شيء ما تخفينه عني ؟! ربما شيء تودين قوله بشدة لكنكِ لا تزالين تشعرين بالتردّد لسبب لا أعرفه ؟!!! شعرت بوتيرة خفقات قلبها تتثاقل بطريقة مؤلمة.. كإنسانة وقفت أمام الموت و فتحت ذراعيها منتظرة أن تحظى بعناقه الأبدي..إن كان سيكون موتها في تلكٓ اللحظة كفيلًا بأن يمنعها من النظر في عينيه..و إلقاء كذباتٍ جديدة ! إلّا أن حتى الموت لم يكن رحيمًا كفاية لينقذها..و شعرت بأن عينيه تقيدانها بطوق حديدي..عيناه بكل الترقب.. بكل ذلكٓ التوجس الذي كان يملأهما..و بلفحة الـ..عتاب أو التحذير..كانتا تطبقان على أنفاسها.. ثم بعد وقتٍ طويل..بعد صمتٍ طويل كئيب..فتحت فمها لتمنحه جوابًا باهتًا كملامحها..و كأن حتى صوتها قد تواطأ مع عينيه اليوم بغاية قتلها..و نسف كل ذرة أمل زرعتها كلمات يوليا بداخلها.. همست بصوتٍ أجش خافتٍ و بأنفاس ثقيلة متهدجة ؛ _لا ! ثم ابتلعت ريقها ببطءٍ و هي تهمس مؤكدة بصوتٍ أكثر وضوحًا غير غافلة عن...نظرة الإحباط الخفية التي برزت في عينيه ؛ _بالطبع لا ! لم يمنحها وائل أيّ رد..فقد أسدل رموشه قليلًا يلتزم صمتًا جديدًا تلكٓ المرة أقصر من السابق..ثم في النهاية.. كان يرفع عينيه إليها مجددّا ليمنحها ردة فعل باهتة كصوتها..و نظراتهما.. مجرد إيماءة هادئة..ثم صوته الذي ارتفع يهمس لها باختصار ؛ _جيد ! كان من الواضح أن تلكٓ الكلمة لم تخرج من قلبه خالصة فعلًا..ليس و عينيه لا تؤكدان ذلك..ليس و كل شيء حولهما اليوم يكاد أن يجزم بأن لا شيء جيد.. على العكس تمامًا فقد كان الوضع يبدو أشد سوءًا..و هي لا تعلم حتى الطريقة التي قد تصلح بها هذا الأمر بعد الآن ! راقبته بعدها إلى أن غادر مغلقًا الباب خلفه بهدوء خادع..فأطبقت عينيها و أطرقت قليلًا تقابل الأرض بإرهاق شديد..قبل أن ترغم نفسها على الوقوف..بدون أن تنسى أن تحمل حقيبتها حيث وضعتها في مكانها المخصّص..في جهتها هي بالخزانة الكبيرة و في منتصف ثيابها.. و اتجهت بعدها إلى الحمام..متأكدة...بل واثقة بأن وائل لا يمكن أن تخطر في باله حتى فكرة لمس أشياءها ناهيك عن فتح جهتها المخصّصة بالخزانة و العثور على تلكٓ الحقيبة التي تحولت إلى ملعونة اليوم..فقط لكونها تحمل بداخلها تلكٓ الرسائل.. غالبًا..كما كان هو واثقًا بأن احتمال أن تكذب ضحى عليه بينما تنظر في عينيه..غير وارد إطلاقًا...لكن حتى تلكٓ الثقة قد بدأت تهتز اليوم !!! بدليل سؤاله و نبرته و نظراته !! ___________________________ كانت تلكٓ الليلة..أول ليلة تمر صامتة إلى ذلكٓ الحد منذ أن قرّر وائل و عزم على أن يعترف لها بالحُب..فقد بدا كل منهما و كأنه ساهم تمامًا في عوالم مختلفة..لولا أن تلكٓ العوالم ذاتًا كانت لا تضم أيّ شيء باستثناء..موقفهما السابق في ذهنها..و حقيبتها الغامضة في ذهنه ! حتى أنه لم يتحرك إطلاقًا حينما اقتربت ضحى لتتخذ مكانها في السرير مستلقية بجانبه..فقد ظل مستلقيًا بنفس الوضع..يستند إلى ذراعه برأسه بينما يقابل السقف الصامت.. لكنها هي..شعرت برغبة ملحة لأن تكون قريبة منه أكثر.. رغبة أقرب إلى...الاحتياج..فاقتربت بنفسِها تريح رأسها المرهق على صدره الواسع..و بسطت أناملها فوق نفس المكان تتحسّس خفقات قلبه المضطربة ملامسة قماش قميصه المنزلي الأزرق.. حينها لم يشعر وائل بنفسه و هو يخفض أنظاره ليرمق شعرها الناعم بنظرة ساهمة..و لانت عيناه أكثر بدون أن يشعر و هو يرفع يده ليضمها متخلّلًا تلكٓ الخصلات الحبيبة برقة.. لحظات قصيرة استغرقاها في نفس الوضع..ثم فجأة.. كانت ضحى تطرف برموشها ببطءٍ حينما شعرت بيده الأخرى على وجنتها تتحسّس بشرتها بلمساتٍ حانية و كأنها حركة يحفزها بها على شيء مجهول.. حينها فقط..كانت ترفع رأسها نحوه لتمنحه عيناها الحزينتان..و كان هو يسدل رموشه قليلًا يتأمل تلكٓ العينين بسكون كامل لم يقدر أحدهما على تبدِيده.. قبل أن تشعر بشفاهه على جبينها تشكلان قبلة...ثقة ؟! أو ربما كانت تلكٓ طريقته في الهروب مؤقتًا فقط من دوامة أفكاره..و في دفعها على النوم عازمًا على عدم تبديد هذا الصمت... رُبما غدًا...بعد أن يجد ضالته ! ____________________________ لقد تناولت وجبة الغذاء مع مجد ! كانت هذه هي الجملة و الفكرة الوحيدة التي تدور في ذهنها..كما ظل نفس الموقف يتردّد في عقلها رافضًا أن يتركها..لقد كان الأمر أشبه بحلم غريب..حلم لا يمُت للمنطق بأيّ صلة لكنه يبقى حلمًا جميلًا...نوعًا ما ! كانت تسير شاردة الذهن..منذ أن غادرت المطعم برفقته لتتفاجأ للمرة التي لم تعد تذكر كم بعرضه لاصطحابها للمنزل..لكنها رغم دهشتها..و رغم رغبة داخلية غريبة احتلتها بأن توافق..فقد قابلت عرضه بالرفض متعللة بأن لديها موعد آخر.. و ها هي ذي تقف أخيرًا أمام منزلها..بعد ساعاتٍ أمضتها في التجول هنا و هناك بدون هدف..ما بين الساحل و المتنزه القريب و باقي الطريق الذي قرّرت أن تقطعه أيضًا سيرًا على الأقدام.. تنهيدة خافتة حرّرتها إن دلت على شيء فعلى كونها لا تشعر بأيّ رغبة بعد في الدخول إلى منزلها الصامت.. الكئيب و المنفر و الذي ازداد كآبة بعد رحيل والدها لا العكس.. فقد كانت أمها...امرأة ضعيفة أمام كلمة اسمها الوحدة.. إنها حتى تشعر بالقلق أحيانًا من الطريقة التي من المفترض أن تعيش بها والدتها في حال تزوجت هي..و في حال قرّر آدم هو الآخر الاستقرار في المدينة التي يدرس بها حاليًا.. على الرغم من أنها تستبعد الفكرتين..أو بالأحرى... تكرههما! و ربما يبدو الأمر غريبًا إلّا أنها دائمًا ما رسمت للزواج صورة بشعة في ذهنها..كشخص قرّر فجأة الانتحار بإلقاء نفسه في البحر ثم ندم في نفس اللحظة...لكن بعد فوات الأوان ! و هي تعلم حتمًا سبب كل هذه المشاعر..والداها بالطبع ! فالإنسان عبد لتجربته حتى و إن رفض التصديق بهذه الحقيقة !! لولا أنها تصبح امرأة أخرى عندما ترى مجد..عندما تنظر في عينيه و تتحدث إليه..و تتحول إلى أشد غباء حينما يبادر هو بالنظر أو التحدث !! و هي من راهنت نفسها مرارًا على ثباتها و صمودها أمامه..الآن تتساءل ما كانت ستكون ردة فعلها لو حدثت تلكٓ المعجزة المستحيلة ذات يوم...و طلب منها مجد الزواج !!! مهلًا ماذا قالت...زواج !!! انتفضت بقوة و هي تهز رأسها عندما بدأ عقلها يستوعب إلى أيّ حد خطير بدأت أفكارها في التمادي..ثم نظرت حولها لتتفاجأ بأن المصعد قد تخطى الطابق الخاص بشقتها بطابق واحد...تبًا لها و لمجد !! نفس مضطرب زفرته و هي ترفع يده لتضغط الزر أمامها تجبر المصعد على النزول مجددًا..إلى أن توقف بعد لحظتين..و انفتحت أبوابه على مصراعيها أمامها لتتفاجأ و قبل حتى أن تنجح بقطع خطوة خارجه بـ...آدم يقف أمامها !!! كان آدم يقف أمام باب شقتها المفتوح..ينظر لها بابتسامة كبيرة علمت بأنها كانت مرتسِمة قبل أن يراها حتى..لكنها ازدادت اتساعًا بعد رؤيتها..و برقت عيناه بشدة و هو ينقلهما بين شكلها الأنيق بـ...لهفة..أو فخر ! شعرت ميرنا بالدموع تتجمع في عينيها من حيث الفراغ..أليس هذا هو الحلم الحقيقي فعلًا ؟! لقد كان آخر شيءٍ توقعته هو أن ترى آدم اليوم...أو حتى بعد وقتٍ قريب !! لكن حتى دموعها تلك لم تستطع أن تمنع ابتسامتها من أن ترتسم باتساع هي الأخرى لتملأ كل ملامحها..قبل أن تقترب فجأة تقطع تلكٓ الخطوة بينهما..ثم و ما كادت أن تصل إليه حتى كانت ترتفع بسرعة لتطوقه في عناق بالكاد نجح في إظهار البعض من اشتياقها و سعادتها.. بادلها آدم العناق بشكل تلقائي و بقوة أكبر إلى درجة أن فارقت أقدامها الأرض..و أطبق هو عينيه بشدة ينخفض أكثر إلى أن أغرق أنفاسه في كتفها حيث طبع قبلات لا تحصى فوق معطفها الأصفر الأنيق..حريص على أن لا يجعلها تشعر بدموعه التي كانت قد بدأت تنساب تباعًا مثلها.. إلى أن شعر بها تبتعد لكن ليس إلّا لتطوق وجهه متأملة ملامحه الحبيبة بشوق..حينها فقط فتح فمه ليهمس بنبرة مرحة ؛ _لقد رأيتكِ من النافذة قادمة سيرًا..لكنكِ تأخرتِ في الصعود..هل تعطل المصعد بكِ ؟! هزت ميرنا رأسها في حركة لم تبدو بأنها تحمل أيّ معنى..بينما تنهد آدم و هو يرفع يديه إلى أن تمسكٓ بيديها على وجهه و تركهما هناكٓ فقط يتأمل ملامحها و دموعها هو الآخر بصمتٍ.. إلى أن همست ميرنا بصوتٍ أجش مبحوح قليلًا ؛ _لم تخبرني بأنكٓ قادم ! همس آدم مبقيًا على ابتسامته المتسِعة ؛ _أردت أن تكون مفاجئة جميلة لكِ ! سالت دموعها أكثر من بين ابتسامتها و هي تهمس ؛ _إنها جميلة فعلًا..جميلة للغاية ! إلّا أن آدم همس بصوتٍ تلكأ قليلًا كابتسامته ؛ _لكنني سأبقى لمدة ثلاث أيام فقط..هذا ما استطعت أن أحصل عليه ! لم يظهر أيّ تعبير جديد للرفض في عيني ميرنا رغم التأثر الذي كان يلتهمهما..فقد عادت تجذبه إلى أحضانها بقوة..و همست بحرارة و هي تشدّد من احتضانها له ؛ _لا بأس..لا بأس..أنا لا أصدق حتى بأنكٓ هنا الآن..لقد اشتقت إليكٓ بشدة..بشدة ! أغمض آدم عينيه و هو يتنعم بهذا الحضن الذي لطالما شعر به أشد دفئًا و أغلى حتى من حضن أمه..و ساد صمت طويل لم يرغب خلاله أن ينهي لحظة الشوق هذه.. إلّا أنه اضطر في النهاية أن يهمس بنبرة مختلفة بينما أنامله لا تزال تضمها مشكلة تربيتات حنونة على ظهرها ؛ _لقد أودعتِ والدي في مركز للعلاج ! و كأنما تعرضت ميرنا فجأة لصفعة مدوية..فتحت عينيها لتقابل مباشرة عيني والدتها التي لم تعرف حتى متى و كيف لم تشعر باقترابها..تلكٓ التي كانت تقف الآن في حاجز الباب خلفها..و قد أخبرتها نظراتها بأنها من أخبرت آدم بهذه المعلومة...من غيرها قد يفعل أساسًا ! الحقيقة أنها حتى و إن لم تفعل فقد كان آدم سيعلم بمجرد عودته أو زيارته لهم..فهي لم تكن تملكُ القوة بعد لتكذب أكثر بينما تنظر في عينيه مباشرة ! تراجعت ببطءٍ بدون أن تحرره تمامًا إلى أن نظرت في عينيه المتسائلتين..و المتفهمتين لأقصى حد في نفس الوقت..قبل أن ترفع أناملها لتكرّر حركتها السابقة.. طوقت وجهه الحليق برفق..قبل أن تهمس بحزم ناقض تمامًا ملامحها المضطربة و العبرات المنسابة من عينيها ؛ _دعنا نتحدث في الداخل ! ____________________________ بعد دقائق..كان الثلاثة يجلسون في البهو الأنيق..ميرنا في أريكة منفردة و آدم في الأريكة الملاصقة بجانب والدتهما..تلكٓ التي لم تسمع ميرنا صوتها و لو بالصدفة منذ وصولها.. كان هناكٓ توتر طفيف يحيط بالأجواء..لكن آدم ظل رغم ذلكٓ يقابلها بنظرته المتساءلة إلى حد كبير و الدافئة إلى أقصى حد.. كان يبدو كشخص على أتم الاستعداد للتسليم بكل كلمة ستنطقها..مستعد لسماع أسبابها و مبرّراتها التي هو يستطيع تخمينها بكل سهولة..لكنه لا يزال يحتاج إلى سماعها رغم ذلك.. إلى أن فتحت والدتها فمها لتتحدث أخيرًا..قالت تربت على ركبة ابنها و تنظر صوبها هي ؛ _لا بد بأنكٓ جائع جدًا..دعني أجهز لكٓ شيء و أعود.. كان من الواضح جدًا غاية والدها من هذه المبادرة..لقد كانت غايتها أن تمنحها بعض المساحة لشرح الموضوع لأخيها..و هي فعلت... زمت فمها قليلًا و هي تتأمله للحظات..قبل أن تقف بهدوء إلى أن احتلت مكان والدتها السابق بجانبه..و همست تسدل جفونها قليلًا أمام نظراته الصريحة.. تحاول أن تضفي أكبر قدر من الثبات إلى صوتها ؛ _موضوع والدي..في الحقيقة..أنا أعتذر بشدة لأنني أخفيت الأمر عنك آدم لكنني.......... _ماذا فعل هذه المرة ؟! صمتت فجأة حينما قاطعها آدم بهذا السؤال..فتسمرت للحظة واحدة تراقب فيها أناملها المتشابكة..ثم نظرت له مجددًا مردفة تلكٓ المرة بوضوح رغم الحزن الذي قفز إلى صوتها فجأة و ظهر أثره في عينيها بشكل أوضح ؛ _لقد رفع يده على أمي ! ارتفع حاجبا آدم بما يفوق الذهول أو الصدمة و هو يتراجع قليلًا محدقًا بها بعينين متسعتين..بينما استأنفت ميرنا تهز كتفيها بإقرار ؛ _إنها ليست المرة الأولى بالطبع ! تلكأت شفاه آدم و كأنه سيهمس بشيءٍ ما..لكن العجز التام تمكن منه للحظات..ثم ما إن استطاع تمالك نفسه قليلًا..همس يميل إليها أكثر ناظرًا في عينيها بتردّد ؛ _هل هذا يعني بأنه فعل شيئًا أسوء !! الآن ساد صمت طويل بعض الشيء..صمت كئيب و مغلف بشرود حزين اكتسح عيني ميرنا..ثم همست في النهاية تجيبه بحزن أكبر ؛ _سرق صندوق مدخراتها...عنوة و أمام عينيها ! أسدلت جفونها بعدها تعود لنفس وضعها السابق..تراقب أناملها المتشابكة بتوتر..بينما فغر آدم شفاهه عاجزًا تمامًا عن نطق كلمة واحدة للحظاتٍ أخرى..و ربما هذا ما جعل ميرنا تنظر له مجددًا.. لكنها ما كادت أن تفعل..حتى كانت تجفل بذلكٓ القلق المعهود و الذي دائمًا ما احتل قلبها لأجله..حينما قابلت الشحوب الكبير الذي لم تعرف حتى متى اكتسح ملامحه الوسيمة بهذه القوة.. ثم رفعت يدها لتغطي يده المرتاحة فوق ركبته..و شدّدت من تمسكها بها و هي تردف بخفوتٍ ؛ _لا تحزن..أعلم كم يبدو الأمر في غاية الصعوبة لمجرد التفكير به لكنني أعدكٓ بأن كل......... _لقد فعلتِ الصواب ! للمرة الثانية يقاطعها آدم..لكن هذه المرة خرج صوته بنبرة صارمة لا تشبه نبرته المعتادة..نظرت له ميرنا ببعض الحيرة..فقال يهز رأسه مؤكدًا بجدية جعلته يبدو لوهلة أكبر من سنه العشرون بسنواتٍ عدة ؛ _لقد فعلتِ الصواب..ميرنا...حتى و لو لم أعرف أسبابكِ كانت ردة فعلي لتكون مماثلة تمامًا..هل تعلمين لماذا ؟! شعرت بيده الأخرى تحط فوق يدها متمسكة بها أكثر.. ثم همس يخاطب عينيها..همس بنبرة...جميلة ! _لأنني أثق بكِ ! ربما أكثر ممّا أثق بنفسي..لطالما وثقت بكِ و بكل قراراتكِ ! كانت ميرنا تراقبه طوال الوقت بحُب..حتى أن دمعة هادئة ليست بحزينة أو سعيدة هربت من عينها اليمنى و هي تسمع كلمات كانت في أمس الحاجة لسماعها..فكيف حين يكون قائلها هو أخاها الوحيد ؟!!! قبل أن تجبر شفتيها على رسم ابتسامة حنونة..ابتسامة تخللها شيءٍ يشبه...الأمل ! و قالت تسأله بنبرة خرجت بشكل بديهي ؛ _حقًا ؟! أومأ لها آدم بنفسِ الطريقة و هو يرسم ابتسامة مشابهة تمامًا..فهمست ميرنا بنبرة أم تخاطب طفلها المفضل ؛ _عانقني إذن ! و فعل..اقترب منها آدم ليضمها بقوة مستقبلًا عناقها هو الآخر برحابة شديدة..إلّا أنه همس بعد لحظاتٍ و هو يحرك أنامله على ظهرها مربتًا برفق ؛ _ماذا كان موقف أمي من هذا القرار ؟! همست ميرنا و هي ترتاح على كتفه ساهمة في البعيد ؛ _إنها ليست رافضة..لكنها لم تعلن موافقتها أيضًا ! صمتت لوهلة صغيرة..قبل أن تستأنف بخفوتٍ ؛ _إنها تلتزم الصمت فقط و كأنها تحترم قراري..لكنني في قرارة نفسي..أعلم كم هي حزينة...أستطيع ملاحظة هذا بكل سهولة... ثم تنهدت و هي تضيف بتنهيدة ؛ _الجميع يستطيع ملاحظة هذا أساسًا ! أغمض آدم عينيه و هو يشدّد من احتضانها أكثر..لكن عينيه وقعتا فجأة على والدتهما التي كانت تقف على بعد خطواتٍ منهما..تحمل في يديها صحن الأكل الذي أعدته للتو على ما يبدو.. لكنها توقفت في منتصف الطريق و هي تصادف هذا المشهد..كما استطاع أن يتكهن بكونها قد سمعت كلمات ميرنا من طريقتها في النظر لهما.. في هذه اللحظة..و بهذه الفكرة..وجد نفسه يتراجع إلى أن وقف مقتربًا منها..ثم قال يرسم ابتسامة كبيرة متظاهرًا بمرح لا يشعر به ؛ _فقط لكي لا تشعر الأميرة بالغيرة سأضمها أيضًا ! كان قد وصل إليها فعلًا فامتد ذراعه يضم والدته جانبيًا بقوة..بينما ارتاحت شفاهه على جبينها للحظة..لكن هذه الأخيرة ظلت ساهمة تمامًا كل نظراتها منصبة نحو ميرنا فلم تستطع أن تتجاوب معه إلّا بتربيته على ذراعه و ابتسامة بالكاد نجحت باستمالتها إلى شفتيها.. قبل أن تهمس فجأة بصوتٍ خرج يحمل شرودها السابق ؛ _إلهي..هل هذا وقت العناق الآن..ستجعلني أوقع ما في يدي.. اقتربت بعدها من طاولة الأكل القريبة إلى أن وضعت الصحن هناك..و استغرقت لحظة واحدة فقط منحنية بنفس الوضعية..قبل أن تلتفت لتنظر إلى ميرنا الآن.. تلكٓ التي لم تتوقف عن مراقبتها إطلاقًا بعد أن استوعبت مثل آدم بأنها قد سمعت كلماتها..و قد أكدت والدتها هذا الإدراك بصوتها الذي خرج بعد لحظة واحدة بنبرة شخصٍ يحاول التظاهر بما لا يشعر به ؛ _و تعالي أنتِ أيضًا..لا بد بأنكِ لم تأكلي أيّ شيء بعد وجبة الغذاء.. نظرت ميرنا لآدم الذي كان قد اقترب ليتخذ مقعده شارعًا في الأكل بشهية مفتوحة فعلًا..و رغم كونها لم تكن تشعر بالجوع إطلاقًا..ليس لكونها قد تناولت وجبة غذاء مميزة اليوم برفقة...مجد ! بل فقط لكونها كانت إنسانة من هذا النوع..إنها لا تحِب أن تأكل عندما تكون حزينة على عكس الكثير من الناس! فقد أرغمت قدميها بصعوبة على حملها للوقوف..ثم على التقدم باتجاه الطاولة كل غايتها أن لا تكسِر نداء أمها..و أن تحصل على بعض الدفء عبر الجلوس حول طاولة تحتوي فردًا آخر من عائلتها باستثناءها هي و والدتها.. بعد أن عاشت أيامًا صامتة كانت فيها كل منهما تكتفي ببضع لقيمات تتناولها كوجبة قبل أن تهرب إلى غرفتها.. جلست في مكانها المعتاد..بينما اتجهت والدتها مسرعة إلى المطبخ لتحضر باقي الأطباق..و حينها..ما إن اختفت هناك..حتى كان آدم يتخلى عن تظاهره شبه المقنع بالأكل بشراهة.. نظر لها باهتمام..قبل أن يمد يده ببطءٍ إلى أن احتوى يدها المرتاحة فوق الطاولة..و همس ينظر في عينيها.. يشدّد من احتضانه ليدها..و يرسم ابتسامة مواساة حنونة كصوته ؛ _سيكون كل شيءٍ على ما يرام ! بادلته ميرنا الابتسامة بواحِدة باهتة قليلًا..لكن حتى تلك الابتسامة لم تنفكّ أن اتسعت أكثر و برقت عيناها قليل بأمل ضئيل أمام تلكٓ النظرة التي لم تنفكّ تزداد تفهمًا و حنانًا ! هل عليها أن تعتبر هذا يوم حظها فعلًا ؟ أولًا غذائها مع مجد و الذي خلف شعورًا جميلًا في قلبها حتى و إن شعرت بصعوبة الاعتراف بهذا..ثم أهم شيء..أجمل ما حدث معها اليوم..هو لقاءها بأخيها.. و كأن القدر تعمد بعطفٍ أن يمنحها هذه الهدنة القصيرة من سلام و سكينة افتقدتهما منذ وقتٍ طويل! ___________________________ لقد كان يشعر بضغط هائل يطبق على قلبه و أنفاسه.. فقد أخذت ضحى حقيبتها معها ! و الآن لم يعد هناكٓ شيء يبحث عنه في غرفتهما ! ألم تكن تلكٓ الفكرة وحدها كافية لأن تجعله يستوعب كم أن علاقتهما أصبحت هشة ! منذ متى كانت ضحى تخفي عنه أيّ شيء ! و متى استطاعت بذور الشكّ أن تغرس لنفسِها مكانًا في قلبه هو نحوها !!! لقد كان يشعر بالقهر لمجرد أن تخطر في ذهنه فكرة التجسّس على أغراضها..و يتضاعف شعوره حين تذكر موقف الأمس.. و كذبها الصريح عليه بينما تنظر في عينيه ! ألا تدرك بعد كم هي فاشلة في الكذب ؟! كيف يمكن لامرأة تملكُ عينين معبرتين كخاصّتها أن تنجح في الكذب أساسًا! خاصة حينما يكون الشخص المقابل لها هو نفسه !! فضحى لم تراه يومًا كمُجرد زوج..و لا كمجرد قريب بالدم أو صديق..لقد كان يملكُ مكانة أقوى بكثير و أعمق من أن يتم حصرها في أيّ وصف..لقد كانت ضحى تحِبه إلى درجة يصعب معها انتقاء الكلمات للشرح ! و هو كان يعلم هذا منذ اليوم الأول..لكنه يعلم أيضًا بأن الحب بكل مفاهيمه العمياء لا يكون كافيًا دائمًا ! بل هو غير كافٍ فعلًا !!! و أكبر دليل على هذا هو علاقة بدون حُب..يمكن أن تنجح..لكن علاقة بدون ثقة ؟! هذا أمر غير وارد إطلاقًا ! منذ متى و هو غارق في شروده بنفس الموقف..موقفه في الصباح مع ضحى بينما يراقبها و هي تحمل حقيبتها التي باتت ثمينة فجأة في عينيها..تعلقها فوق كتفها بكل اعتيادية ثم تنظر في عينية سائلة بـ...ببساطة ! " هل نذهب ؟! " كيف أمكنها أن تتحدث بمثل تلكٓ البساطة أساسًا..أن تنظر في عينيه بذلكٓ العمق..و قد تجرأت تلكٰ العينين على التزام الصمت بينما صاحبتهما تلفّ خيوط كذبة لا يعرف حقيقتها بعد حول قلبه !!! ما الذي تخفيه عنه ضحى حقًا ! و الأهم من هذا..ما السبب الذي يدفعها تخفيه أساسًا ! هل يعقل أن تكون تلكٓ الحقيقة مرتبطة به ؟! هل تخاف ضحى من أن تتسبب له بالأذى بأيّ طريقة كانت ! مهما كانت أسبابها..و مهما كانت تلكٓ الحقيقة فهو لم يعد قادرًا على تجاوز الأمر بعد..لم يعد قادرًا على التحلي بصبر لم يكن يمتلكه يومًا أساسًا..و على النظر في عينيها المتهربتين كل ليلة و التظاهر بأن أيّ شيء لم يكن ! لقد كان يسير في إحدى مواقع البناء برفقة معاذ الذي لم يتوقف منذ دقائق عن التحدث..بينما هو يكتفي أمامه في كل مرة ينتفض إزاء صوت صديقه المطالب بانتباهه بمجرد إيماءة ساهمة لا معنى لها..أو رد مختصر باهت.. قبل أن يعود ليغرق في نفس الشرود الذي يحمل صورة واحدة لا غير..صورتها هي...و موقف الأمس ! ثم فجأة..لم يشعر بنفسه إلّا و هو يتوقف مثيرًا انتباه صديقه الذي قرّر التوقف عن التحدث أخيرًا..ثم قال يرفع يده ليبعد الخوذة الصفراء المصمّمة للعمل عن رأسه بصوتٍ ظهر فيه الإرهاق جليًا ؛ _حسنًا..بما أن كل شيء يبدو على ما يرام فأنا سأذهب الآن.. نظر له معاذ حينها بغباء شديد..حينما تساءل عقله عن مغزى جملة صديقه الأحمق هذا..ما الذي يقصده بأن كل شيء يبدو على ما يرام ! هل تفقد هو أيّ شيء أساسًا..إنه حتى لم يخاطب العمال و لم يرمق المكان بأيّ نظرة منذ أن وصلا ! فتح فمه و كأنه يود التعقيب متسائلًا عن هذا الوضع..إلّا أنه عاد و تراجع في آخر لحظة و هو يرى ذلكٓ الضياع الذي كان يحتل عيني صديقه..ثم زفر تنهيدة مطولًا و هو يتناول منه الخوذة مردفًا بتفهم ؛ _حسنًا لا عليك..يمكنكٓ الذهاب أنت الآن و أنا سأهتم بالباقي.. أومأ له وائل إيماءة شاردة جديدة..ثم رمقه بنظرة أخيرة حملت نوعًا من الامتنان..قبل أن يلتفت فعلًا مقتربًا من سيارته بخطواتٍ قد تبدو ثابثة للعين..لكن بالنسبة له.. فقد كان يشعر بأن العالم بأكمله على وشكِ الانهيار من حوله و فوقه.. و ربما يموت أيضًا إذا كان هذا سينقذه من أفكاره..و من فكرة أن تتحقق تلكٓ الشكوك في عقله ! رغم أنه لم يكن يشكّ بها هي حصرًا..من المستحيل تمامًا أن يشكّ بضحى..الأمر يشبه أن يشكّ الإنسان بنفسه ! و هي كانت أغلى عنده من نفسِه أيضًا ! لكن ماذا عساه أن يفعل حينما تعتنق زوجته مثل هذا الإلحاح و التفاني في الإخفاء...و في الكذب ! إنه يشعر بأنه عاد معها إلى ما قبل سنواتٍ من الضياع و الوحدة..و الأسوء هو ذلكٓ الشعور الذي بدأ ينتابه أيضًا.. بأن ضحى ربما..لم تكن تراه كما يراها...و إلّا كيف يكذب المرء على نفسه !! كان قد وصل إلى سيارته أخيرًا..ففتح الباب بسرعة ليرتمي في مقعده حيث تمسكٓ بالمقود بيديه الاثنتين ناظرًا أمامه بعينين تغلفهما كل أنواع الحِيرة و الضياع و...الغضب! غضب غريب هو ما دفعه لأن يحرّر المقود شارعًا بدلًا عن ذلكٓ في تشغيل السيارة حيث انطلق إلى وجهة غير محدّدة..و بعد دقائق توقف في الساحل..هناكٓ حيث ترجل من السيارة مقتربًا من الضفة بهدوء ظاهري فقط.. هناك حيث وقعت عيناه مباشرة على ذلكٓ المطعم الفاخر..و استعاد عقله تلقائيًا تلكٓ الذكرى المميزة لهما.. قبل أيام معدودة..حينما طلبت منه ضحى أن يخرجا للتنزه سويًا بعد أن ساهمت في جعل الجميع يغادر المنزل.. و كان المكان الذي اختاره لأجلهما هو هذا المكان..طرف برموشه ببطءٍ و عقله يستعيد تلكٓ اللحظات الثمينة التي استغرقاها في السير هنا سويًا.. هو..يلفّ كتفيها بذراعه الوحيد بينما يتأملها بابتسامة و يده الأخرى تعمل بجهد على إزاحة خصلات شعرها المتطايرة إلى الجانب كلما تمردت..و هي...تحاوط جذعه القوي متمسكة بقماش سترته أيضًا بقوة بينما تستقبل بكل رحابة تلكٓ اللمسات على شعرها و بشرتها أحيانًا.. و هناك..في تلكٓ اللحظات الجميلة..تداعت كل الكلمات و بسط الصمت النبيل سيطرة سادية على قلبين أعلنا استسلامهما بالكاد لعشق عتيق..عميق..قويّ و متين إلى حد يجعل فكرة تزعزعه غير واردة إطلاقًا.. لقد سارا لمسافة طويلة هنا..لمدة دقائق لم يفعلا فيها أكثر من التمسكِ ببعضهما و تأمل بعضهما بابتسامة..قبل أن ينتهي بهما المطاف يجلسان في ذلكٓ المطعم..و مجددًا يتأملان شيئًا ما.. لا..ليس إطلالة البحر الخلابة..بل ملامح بعضهما البعض.. تلكٓ الابتسامات الحقيقية المتسعة..كلماتهما و أناملهما المتشابكة في منتصف الطاولة كل منهما يتلاعب بخفقات الآخر كما يريد.. لقد كانا و كأنهما يمارسان انتهاكًا من نوع ما ضد بعضهما..لكنه انتهاك متاح تمامًا..انتهاك جميل إلى حد الاستسلام لسطوته..و التسليم بتأثيره.. استعاد عقله للمرة التي لا يذكر كم موقف الأمس..سؤاله الضائع بلا جواب و نظرة عينيها المتهربة في محاولاتٍ واهية تمامًا لـ...تمويه قلبه ! غافلة تمامًا عن أكبر حقيقة بينهما..منذ متى كانت عيناها وسيلته الوحيدة لقراءتها ؟! إنه يستطيع قراءتها من كل حركاتها و سكناتها بسلاسة عظيمة...كما ظن يومًا بأنها تفعل ! " سأسألكِ لآخر مرة ضحى......... " " هل هناكٓ شيء ما تخفينه عني ؟! ربما شيء تودين قوله بشدة لكنكِ لا تزالين تشعرين بالتردد لسبب لا أعرفه ؟!! " " لا ! " " بالطبع لا ! " ثم استعاد عقله حوارًا آخر أشد غرابة..و كلمات كان لها تأثير السوط على قلبه... " أحبكٓ وائل..أحبك...لقد كنت أنت...الرجل الأول و الوحيد الذي وقعت في حُبه..و الذي سأحِبه دائمًا بغض النظر عن أيّ ظروف..أريدكٓ أن تدرك هذا..أريدكٓ أن تستشعر هذا..أريدك أن تتذكر هذا دائمًا و تحفظه في قلبكٓ..سواء كنا سويًا أو لم نكن...... ! " زفر بقوة و هو يخرج يديه من جيبي بنطاله..و زم فمه قليلًا و هو يلتفت فجأة مقتربًا من سيارته..إلى أن فتح الباب بسرعة و ارتمى في مقعده للمرة الثانية..لكن هذه المرة لم يكن هدفه تصفية ذهنه و الهرب من شروده السابق.. فقد ارتفعت يداه مباشرة ليبدأ في تشغيل السيارة هامسًا لنفسِه بحزم ؛ _إلى هذا الحد و كفى..لن أستطيع التحمل أكثر.. و تلكٓ المرة..عكس السابقة...كانت وجهته محدّدة..تلكٓ الوجهة التي انطلق إليها بسرعة تفوق الطبيعية..و كل غايته...أن ينظر في عينيها و يلقي بنفسِ السؤال الذي ألقاه عليها في الأمس.. مع فرق وحيد..أنه لن يتوانى اليوم حتى يسمع الإجابة المنشودة منها ! تلكٓ الإجابة التي انتظرها أن تبادر هي بنفسِها بمنحها له منذ وقتٍ طويل.. لولا أن آثر هو مستسلمًا التمادي في انتظار تلكٓ المبادرة منها..و قابلت هي انتظاره بأن تمادت في صمتها ! __________________________ نفس الكلمات كانت تتكرّر في ذهنها..كلماتها له ذلكٓ اليوم..نظرات القلق و الحيرة في عينيه و هو يرى حالها الغريب..حوار الأمس و...سؤاله..ثم جوابها..كل تلكٓ التفاصيل هي ما جعلتها عاجزة عن النوم ليلة الأمس.. لقد حاولت بشدة..على الأقل التظاهر بالنوم أمام وائل.. لكن و كأنما قد فقدت السلطة على التحكم بحواسها ظلت عيناها ساهمتان في الفراغ لوقتٍ طويل.. مفتوحتان على اتساعهما و قد شاركها وائل نفس الوضع للأسف ! لقد كانت تشعر بغرابة تصرفاته..صمته المفاجئ و نظراته التي و كأنما فقدت بريقها فجأة..وائل لم يصدق كذبتها.. و هو محق في عدم تصديقه..لقد كانت تلكٓ المرة الأولى التي يتجرأ لسانها بالكذب على وائل..كانت المرة الأولى التي ينظر وائل في عينيها بذلكٓ الفراغ..لقد كانت نظرة لم يمنحها لها حتى في فترة زواجهما الأولى..حينما كان يكرهها و يلومها بحق.. و كأنه..و كأنه قد سئِم من المطالبة بتفسير منها...و كأنه قد سئم من انتظار ذلكٓ التفسير كما سئم من تصديقها !! لقد لامس الشكّ فؤاد وائل ليلة الأمس نحوها و هذا... بسببها !!! إنها حتى لا تفهم السبب الذي جعلها ترتدي حقيبة الأمس نفسها اليوم..هل شعرت بالخوف من احتمالية أن تخطر في ذهن وائل فكرة التفتيش بين أغراضها ؟!..ربما محاولته تلكٓ تمنحه الأجوبة التي لم تتكرم هي بمنحها ! زفرة قوية..غاضبة و يائسة حرّرتها و هي تغمض عينيها إزاء كل تلكٓ الأفكار المتضاربة التي ترفض عتقها..لكنها لم تلبث أن فكّت العقدة عن ذراعيها حيث كانت تقف أمام النافذة الجدارية الكبيرة في مكتبها تتأمل اللا شيء حرفيًا.. ثم عادت تسحب نفسًا عميقًا و هي تفتح عينيها مجددًا بنظرة مصمّمة..لا بأس...لا بأس بكل ذلك إذا كان الأمر سينتهي اليوم..و هو سينتهي اليوم فعلًا..هي...ستنهيه اليوم! التفتت فجأة مقتربة من حقيبتها الملقاة فوق المكتب إلى أن فتحتها بسرعة ثم فعلت الشيء المتوقع..أخرجت تلكٓ البطاقات ترفعها جميعها في يدها ناظرة لها بقنوط.. قبل أن ترفع الأخرى هامة بتمزيقها.. مزقتها جميعها من المنتصف قبل أن تقترب من سلة المهملات إلى أن ألقت بها هناك بإهمال..ثم عادت تلتفت بحزم أجبرت نفسها عليه مقتربة من مكتبها..و هناك توقفت للحظة تحمل الهاتف حيث شرعت أناملها بسرعة في خط حروف رسالة قصيرة.. " هل يمكنكٓ أن تأتي إلى منزل أبي ؟ أريد التحدث معكٓ في أمر مهم للغاية! " ابتلعت ريقها ببطءٍ و هي تتأمل رسالتها للحظاتٍ بينما أناملها تتلكؤ فوق زر الإرسال..لكن صوته الذي عاد يتردّد في ذهنها بنفس الإصرار.. " سأسألكِ لآخر مرة ضحى...هل هناكٓ شيء ما تخفينه عني ؟! ربما شيء تودين قوله بشدة لكنكِ لا تزالين تشعرين بالتردّد لسبب لا أعرفه ؟!! " هو ما منح أناملها التحفيز لأن تضغط الزر... ثم هدوء تام.. و لحظات قاتمة أخرى من صمتٍ كئيب استغرقتها مع نفسها..قبل أن تزم فمها بقوة حينما تلقت إشارة تدل على وصول الرسالة..لكنها لم تجد ما يدل على كونه قد قرأها.. و لم تكُن لتنتظر هذا التأكيد كي تترك الهاتف ملقية به في الحقيبة قبل أن تحمل الحقيبة ذاتها تعلقها فوق كتفها..ثم اقتربت من الباب بسرعة عازمة على التوجه مباشرة إلى منزل عائلتها.. و بعد دقائق معدودة..كانت تدفع الباب متقدمة نحو الداخل بهدوء..إلّا أنها تفاجئت بمجرد اقترابها بضعة خطوات من غرفتها الأرضية بمجد..و ذلكٓ الأخير كان ينزل الدرجات الطويلة بشكل بديهي.. لولا أنه توقف في منتصف الطريق حينما لمحها..قبل أن يعود ليتم طريقه لكن بخطواتٍ أصبحت بطيئة الآن..و قال أثناء ذلكٓ يلقي ذلكٓ السؤال المزعج نفسه ؛ _ماذا تفعلين هنا في هذا الوقت ؟! نظرت له ضحى ببعض القنوط مردفة ؛ _مجددًا هذا السؤال ؟! كانت نبرتها على غير العادة..تبدو غير مسالمة تمامًا..ثم أضافت تهز رأسها بلا فائدة أمام الصمت الذي قابل مجد جملتها به ؛ _وائل سيأتي بعد قليل..أقول هذا بهدف القول ليس إلّا.. أشاحت بعدها بأنظارها تهم بإتمام طريقها بغير مبالاة.. لكن صوت مجد الذي ارتفع فجأة معقبًا أوقفها ؛ _أنتِ لا تزالين غاضبة مني..أليس كذلك ؟! زمت ضحى فمها و هي تحدق أمامها بعينين تلونتا فجأة بلفحة من...غضب بالفعل! حينما استعاد ذهنها موقف ذلكٓ اليوم..و الكلمات التي دارت بينهما..لقد كان مجد قادرًا على تمييز لفحات البرود في صوتها و عينيها في كل مرة خاطبته بعد ذلكٓ اليوم.. مع الوضع في عين الإعتبار أنها لم تحاول أساسًا إخفاء هذا..لكنها لم تحاول إشهار مشاعرها أيضًا و لا مواجهته بها ! ظل مجد واقفًا في نفس المكان..فوق الدرجة الأخيرة ينتظر جوابها..إلى أن التفتت إليه فجأة..ثم فتحت فمها هامسة بنبرة...لا معنى لها ! _من قال بأنني غاضبة منكٓ أساسًا ؟! تأملها مجد بتمعن للحظات..لكنها هي..تسمرت قليلًا مضيقة عينيها بعض الشيء إزاء تلكٓ النظرة الجديدة التي احتلت عينيه..كانت نظرة...حنان ؟! منذ متى لم ينظر لها مجد بـحنان ؟! منذ متى لم يبتسِم لها ؟! لم يربت على شعرها ؟! لم يلمِس يدها أو...يضمها! منذ متى لم تضع رأسها على كتفه و تغمض عينيها بسلام متشربة فكرة أنها تملكُ أخًا بالفعل...مثل يوليا ! إنها لا تحِب أن تعترف بهذا..حتى أمام نفسها لكنها باتت تشعر بأنها فقدته..لقد فقدت مجد حرفيًا منذ أول مرة قرّرت هي فيها الارتباط بوائل ! و كأنه قد وضع الخيار الصارم في يدها قبل أن يدلي بحكمه الظالم في حقها ! إما هو...أو وائل ! إما أخيها الوحيد..أو زوجها ! على الرغم من أن وائل لم يضعها في هذا الخيار أبدًا..و هذه نقطة أخرى تحسب لوائل ضده !!! انقباض غريب شعرت به يجتاح قلبها..و كأن هناكٓ أنامل عصِية قاسية قد اخترقت قفصها الصدري بهدف واحد.. أن تعتصر ذلكٓ القلب المرهق مطبقة بسيطرة سادية كانت لتحرمها من التنفس..و كادت أن تنجح بإرسال لمعة من التأثر إلى عينيها أمام تلكٓ النظرة التي اشتاقت لها بشدة.. أمام ذلكٓ الإدراك..أن مجد...كان يشبه والدها..لكنه لم يستطع يومًا أن يملأ نصف مكان والدها في حياتها حتى ! هو لم يستطع حتى أن يروي عطشها لاستشعار مواساة...الأخ ! شعرت بتلكٓ اللمعة تتكاثف في عينيها بشدة..حتى أنها أطبقت فمها مع كل تلكٓ الأفكار..و مع كل المعضلات التي تلم بحياتها منذ فترة..و قد زاد الطين بلة صوته الذي ارتفع بنبرة حملت نفس الوميض بعينيه ؛ _ضحى أنا........... إلّا أنها لم تكن لتسمح له..حتى و إن كان أخيها الوحيد.. حتى و إن كان داخله يضمر لها كل الخير..حتى و مكان عميق بداخلها يجعلها متأكدة بأنه لم يكن ليهمس نفس الكلمات الجارحة لو كان في وضعه السوي يومها.. لو لم يكن مأخوذًا تحت تأثير يوليا..و فكرة انفصاله عن يوليا ! فهي لم تكن لتسمح له..بأن يلخص كل شيء في مجرد... كلمة اعتذار باهتة ! فقالت تقاطعه بصوتها الذي حاولت بكل جهد أن يخرج محملًا بكل الثبات..فقط تجنبًا لأن تنهار هنا..بين أحضانه و على صدره..و ربما تشاركه كل أسرارها بعد أن تبكي طويلًا..لولا أن صوتها أيضًا خذلها..فخرج يحمل كل ضياعها و ألمها و وحدتها.. _رجاءً...مجد ! حينها..تسمر مجد مكانه تمامًا يحدق بها بنظرة لخصت كل شيءٍ بالفعل..و كأنها قد سردت له البعض من أسرارها بالفعل..و كأنها قد بكت على صدره طويلًا..و شاركته البعض من وحدتها..و كأنها قد ألقت بكل الكلمات التي تختزنها في صدرها منذ وقتٍ طويل.. كيف طاوعه قلبه أن يتخلى عنها و لو بقلبه بينما كان هو الشخص الوحيد المتبقي لديها ! أن يضعها في ذلكٓ الخيار..ألا يعلم كم كانت بحاجة ماسّة إليه يومها..إنها حتى لم تعد تستطيع عد اللحظات التي انهزمت فيها أمام احتياجها إليه دون أن تجده بجانبها.. باستثناء حضوره البارد من حولها و رابطة الدم التي تجمع بينهما و تضعهما في نفس الخانة أمام الناس ! سمعت صوته يهمس بعد لحظاتٍ طويلة من صمت غريب..صمت غير مألوف فهو دائمًا ما تحدث نيابة عن الجميع و نيابة عنها أيضًا ! همس بها جعل تلكٓ الحاجة الماسة بداخلها..تستيقظ مجددًا..و كأنها قد عادت إلى نفس اللحظة مجددًا..و ها هي ذي تقف في منتصف زفافها بثوبها الأبيض تنظر في عيني أخيها الباردتين مطالبة...بمجرد عناق صغير يخفّف عنها وطأة ما هي مقدمة عليه ! لكن مع فرق وحيد..أنها لم تعد هي الطرف الذي يطالب بذلكٓ العناق بعد...ليس لأنها لم تعد في حاجة له..بل لكونها قد سئمت المطالبة به ! _هل يمكنني أن أضمكِ قليلًا على الأقل ؟! أشعر بأنني في حاجة لهذا ! الآن كان دورها هي لتتجمد تمامًا..بينما قفزت دمعة لم تملك أمر منعها لتلامس جفونها ثم تلامس عيني مجد.. ثم فتحت فمها تزامنًا مع تلكٓ الخطوة التي اقتربها منها لتهمس الآن بنبرة زادت اختناقًا ؛ _لا يمكنك ! إلّا أن مجد لم يتراجع..مجرد أن توقف للحظة واحدة ينظر لها بتلكٓ الطريقة التي بدأت تساهم في استفزازها.. كما فاقمت من سوء وضعها..ففتحت فمها مكرّرة حينما تقدم خطوة أخرى سمعت صداها بوضوح.. _لا يمكنكٓ مجد..أخبرتكٓ لا يمكنك........ رفعت يدها تشير إلى الباب مضيفة بصوتٍ شرع ينهار ببطءٍ كعبراتها التي شرعت تتساقط واحدة تلو الأخرى بنفس التأني..و كأن العالم بأكمله اتفق على معاقبتها.. على إضعافها و تحطيمها.. _الشيء الوحيد الذي أريده منك الآن هو أن تغادر.. رجاءً..لدي ما سأتحدث به مع وائل.......... صمتت فجأة حينما توقف مجد أمامها..و قد شعرت بطريقة ما بأنه قد قطع تلكٓ الخطوات بلمح البصر و وصل إليها رغم أنه كان يسير بكل هدوء..نظرت له تزم فمها..غالبًا..تحاول أن تعتمد طريقتها الفاشلة كليًا أمام الجميع في التظاهر بعكس ما تشعر به.. _مجد...... ! همست فجأة بنبرة حملت بعض الإنفعال..و كأنها كانت تحذره من أن يقدم على تلكٓ الخطوة..لا يمكنه أن يضمها الآن..ليس اليوم..ليس و قد استجمعت كل طاقتها بصعوبة فقط كي تتمكن من النظر في عيني وائل و البوح بالحقيقة.. و الأهم...ليس بعد فوات الأوان !!!! إلّا أن مجد..لم يبدو و كأنه قد سمعها..و حتى لو سمعها فلم يبدو و كأنه قد يصغي إليها ! لا يعلم ما الأثر الذي خلفه في قلبه حواره ليلة الأمس مع ميرنا..لكنه يعلم بأنه يشعر بنفسه مختلفًا بطريقة غريبة منذ أن سمع قصتها الغريبة تلكٓ مع والدها..و استعاد عقله أحداثًا لم يظن بأنه لا يزال يتذكرها حتى من الماضي ! و أكثر ما يعلمه الآن..و يدركه...بأن ضحى..أخته الوحيدة لم تستحق منه كل تلكٓ الكلمات..لقد كان رجلًا نذلًا..يعلم هذا..لكنه ليس رجلًا يتخذ من معضلاته ذريعة لتفريغ شحنات غضبه المكبوتة في أقرب المقربين إليه ! أو على الأقل..ليعترف...بأنه لا يريد أن يكون هذا الرجل بعد الآن !! امتدت يده فجأة يربت بها على وجنتها برقة..و انحرف إبهامه يمسح أثر دمعة حزينة من فوق خدها..قبل أن يرفع الأخرى أيضًا..لا لشيءٍ إلّا..ليجذبها إليه برفق إلى أن ارتاح رأسها على صدره..و أغمض هو عينيه بقوة و هو يضمها بقوة شديدة.. بينما تسمرت ضحى تنظر بعيدًا..بعيدًا جدًا بعينيها المتسُعتين..قبل أن تقرّر بكامل إرادتها..أن تطبق رموشها..قبل أن ترتفع ذراعاها تبادله هذا العناق بتردّد أولًا..ثم...بقوة شديدة ! أطبقت عينيها بعدها أكثر و هي تستشعر تلكٓ الدموع الجديدة التي لم تتوقف عن الانسياب..لكن بوتيرة أقل من السابقة الآن..بينما عادت أنفاسها التي كانت تختنق في صدرها قبل قليل لتستعيد وتيرتها تدريجيًا.. قبل أن تسمع صوت أخيها..يهمس في أذنها بنبرة خرجت حنونة للغاية..تمامًا كنظرته قبل قليل..و كالطريقة التي تحركت بها أنامله على ظهرها مربتة بهدوء.. _أعتذر... ! لقد...تهورت بشدة و قلت أشياء سخيفة للغاية ! شعر بأنفاسها المكتومة في كتفه و التي تباطئت وتيرتها أكثر..فهمس يشدّد من احتضانها أكثر و أكثر ؛ _لم يكن يجدر بي قول كل ذلك..لم يكن هذا صائبًا..أنا آسف للغاية ضحى......سامحيني ! و كأنها..و كأنها قد حصلت على تلكٓ التربيتة التي كانت بحاجة إليها اليوم..تحديدًا قبل مواجهة وائل..كانت تجاهد نفسها بحزم كي تمنع صوتها من الارتفاع..إلّا أنها عجزت في النهاية..و لم تشعر بصوتها الذي ارتفع فعلًا تهمس بنبرة حملت نوعًا من...اللوم ! _لماذا لم تعد تهتم بي مجد ؟!..لماذا لم تعد تضمني ؟! كما يهتم وائل بيوليا..كما يضم وائل يوليا... ! ألا تعلم كم أنا..بحاجة ماسّة لهذا...... ؟!!! دمعة جديدة انسابت ببطءٍ من عينها اليمنى..بينما ارتفع صوت مجد يحمل بعض...التهدج الذي بدا غريبًا حين اقترانه به ! _لماذا لا تضمينني أنتِ ؟!!! ابتسامة ساخرة دامعة افترت بها شفاهها..حينما همست بنبرة تحمل نفس العتاب السابق ؛ _و كأنكٓ تسمح لي ! ابتسامة تكاد أن تكون مماثلة احتلت ملامح مجد.. ابتسامة لا تمُت للسعادة بأيّ صلة..لكنها دافئة بشكل خاص..قبل أن ترتفع أنامله إلى أن أصبح يقبض على كتفيها الآن.. دفعها برفق إلى أن أصبح ينظر في عينيها..و حينها ققط..همس بنبرة خرجت مختلفة عن كل نبرة خاطبها بها يومًا..همس بينما ينظر في عينيها و يطوق وجهها الحزين بين يديه ؛ _أعدكِ..بأنني سأحتضنكِ كثيرًا بعد الآن ! الآن اتسعت ابتسامة ضحى الحزينة بقدر ضئيل..و صمتت لثوانٍ..قبل أن تفتح فمها هامسة فجأة بنبرة بالكاد استعادت سطوتها ؛ _شيءٌ آخر ! نظر لها مجد باهتمام..فقالت ترفع حاجبًا واحدًا كشخص يملي شروطه الواضحة قبل التوقيع على صفقة مهمة للغاية ؛ _وائل يمكنه أن يأتي إلى هنا و يذهب في الوقت الذي يريد ! و كأنها قد ألقت بتعويذة سحرية جعلت تلكٓ النظرة تختفي..و أسقط مجد يديه من على وجهها متأفّفًا بضيق حقيقي ؛ _إذا كان هناكٓ شيء واحد يمنعني من احتضانكِ فهو هوسكِ بهذا الغبي ! _مجد !!!! نادت بصرامة بالكاد لائمت صوتها الضعيف..فزفر مجد بانفعال و هو يقول هاتفًا على مضض ؛ _حسنًا حسنًا و كأنني أملكُ صلاحية الاعتراض أساسًا.. إنه يأتي و يذهب كما يشاء و منذ وقتٍ طويل أيضًا ! قالت ضحى بنبرة خرجت باترة كالسيف و قد بدت و كأنها تحاول استفزازه فقط ؛ _لا يمكنكٓ أن تمتلكٓ الصلاحية أساسًا..هل تعلم لماذا ؟ لأن هذا البيت لا يعتبر بيت زوجته فقط بل بيت عمته أيضًا ! قال مجد يجيبها على مضضٍ ؛ _و التي تكون أمي بالمناسبة ! إلّا أنها فقط رفعت حاجبيها معقبة ببساطة ؛ _هذا لا يغير أيّ شيء ! الآن زم مجد فمه ناظرًا لها بغيظ..قبل أن يلتفت فجأة يتجه إلى الباب..حينها فقط..كانت تتحرّر ابتسامة حنونة لونت عيني ضحى فقط..و هتفت تشاكسه أكثر ؛ _إلى أين ؟! قال مجد بدون أن يلتفت إليها ؛ _سأغادر..ألم تقولي بأن لديكِ ما تتحدثين به مع السيد المحترم ابن خالنا و شريكنا في السكن ! كانت واحدة من اللحظات النادرة التي يفقد فيها مجد أعصابه بهذا الشكل.. و التي يبدو فيها..لطيفًا بهذا الشكل ! راقبته ضحى متنهدة إلى أن وصل إلى الباب و همّ بفتحه..إلّا أنه عاد و توقف في اللحظة الأخيرة..قبل أن يلتفت إليها مجددًا..ثم قال بما جعل ابتسامتها تتلاشى تمامًا حينما استعاد عقلها هدفها الأساسي من المجيء إلى هنا اليوم.. _إذا عدت و لم أجد المعتوه هنا فسأضمكِ مجددًا ! لم يكن هناكٓ أيّ تفسير محدّد يشرح سبب قوله لهذه الجملة..ربما أراد دفعها للابتسام مجددًا..و ربما أراد أن يؤكد وعده السابق لها بأنه سيبدأ باحتضانها كثيرًا بعد الآن..و ربما...تكون قد خطرت الجملة في ذهنه فلم يرِد الاحتفاظ بها.. بما أنه كان مثلها..يشاركها نفس الحاجة الماسة للعناق ! غادر بعدها مغلقًا الباب بهدوء..و فقط...انتشر صمت كئيب في المكان..و تلاشت كل التعابير من ملامح ضحى و هي تتراجع ببطءٍ مقتربة من غرفتها..ثم من نافذة الشرفة الكبيرة حيث توقفت تنتظر مجيء وائل بـ..قلق فقط! _______________________________ _أنا أمام الباب..افتحي.. كان هذا صوت يوليا التي قالت تخاطب صديقتها أسيل في الهاتف..تلكٓ التي وقفت فجأة حيث كانت تجلس بجانب عمر..لكنها اضطرت لتركه مقتربة من الباب الخاص بغرفته هنا في منزل عائلتها.. تقدمت بسرعة متخطية الباب الداخلي ثم الحديقة حيث كان يجلس والدها تراقبه الفتاة المكلفة بالاهتمام من على بعد مسافة أمتار..لتقترب من الباب الرئيسي إلى أن فتحته بدون أن تنزل الهاتف من أذنها.. و كما توقعت تمامًا فقد اصطدمت أنظارها بملامح يوليا المبتسِمة بلطف..حينها فقط و ما إن رأتها كانت تسقط الهاتف..ثم اقتربت منها لتحاوطها هامسة بتنهيدة ارتياح ؛ _رباه..سعيدة لأنكِ استطعتِ المجيء ! بادلتها يوليا العناق بهدوء..قبل أن تبتعد قليلًا سائلة باهتمام ؛ _أين هو الشقي الصغير إذن ؟! تراجعت أسيل قليلًا مفسِحة لها المجال للدخول..و قد تقدمت يوليا فعلًا تهم باللحاق بها إلى داخل المنزل..إلّا أنها توقفت في منتصف الطريق حينما لمحت المالك الأصلي لاسم عمر يجلس في الحديقة.. كان والد أسيل يجلس بهدوء تام..ساهم في الفراغ بعينيه الضائعتين كما العادة..و بما أنها كانت تحِب هذا الرجل منذ أول مرة عرفتها عليه أسيل..فقد التفتت قليلًا منحرفة عن طريقها إلى أن توقفت أمامه.. ثم انخفضت تجلس القرقصاء أمام مقعده هامسة ؛ _مرحبًا عمي عمر..هل تذكرتني ؟! أسقط السيد عمر عينيه مباشرة لينظر لها..و قد بدت ملامحه فارغة للحظاتٍ و كأنه لم يرها..لكنها علمت بأنه رآها بالفعل..بل و سمع صوتها حينما رأت بقلب سعيد تلكٓ الابتسامة التي أخذت تكتسِح ملامحه ببطءٍ.. قبل أن يفتح فمه هامسًا بمودة ؛ _بالطبع أتذكركِ..أنتِ صديقة ابنتي أسيل... اتسعت ابتسامتها أكثر بسعادة لطالما اقترنت في قلبها بهذا الرجل..و بعائلة أسيل ككُل..و على ذكر هذه الأخيرة فقد كانت قد توقفت في منتصف الطريق حينما لاحظت بأن يوليا لم تعد تلحق بها.. قبل أن تلتفت بشكل بديهي مقتربة منها و هي تراها تجلس جلستها المعتادة أمام والدها..كطفلة صغيرة تلقي تحية شغوفة على أفضل فرد من عائلتها ! _و ما هو اسمي إذًا ؟! سمعت هذا السؤال يطرح من طرف يوليا..بنفسِ النبرة التي تحمل حماسًا يفوق الحدود..فابتسمت هي الأخرى متنهدة و هي تقول معقبة قبل أن يتسنى لوالدها الرد ؛ _ما الذي تسألينه إياه بالضبط يا حمقاء ! إنه يتذكرك أكثر ممّا يتذكرني أنا شخصيًا ! لم تولي يوليا انتباهًا لتعقيبها..باستثناء نظرة جانبية لا مبالية منحتها لها قبل أن تعود لتنظر في نفس المكان منتظرة سماع الرد..و قد جاءها الرد فعلًا..ليس كما تنبأت أسيل.. _ليلى ؟! فبهتت ملامحها قليلًا و انعقد حاجباها بنظرة شبه عابسة..و همّت بأن تقف لتستأنف طريقها نحو المنزل بعد أن تقدم له عبارة امتنان خالصة و ابتسامة أخيرة.. لكن ضحكة تحرّرت من بين شفاه والد أسيل حالت دون ذلك..فنظرت له مجددًا و هي تسمعه يقول مصحّحا بنبرة قد يظن شخص لا يعرف مرضه عن قرب بأنها نبرة شخص سليم بالفعل ؛ _لا تعبسي فورًا لقد عرفتكِ....... نظرت له يوليا باهتمام..فأضاف أمام تعابير الترقب على ملامح أسيل و ملامحها ؛ _أنتِ يوليا... ! و كأنه قد منحها هدية غالية المكانة لا الثمن..عادت ابتسامتها تتألق أكثر من السابق الآن..قبل أن تلتفت قليلًا تنظر لأسيل التي اتسعت ابتسامتها بإيثار..و قد كانت لتتسع أكثر لولا أن ارتفع صوت يوليا مشيرة إليها ببعض المكر المتعمد ؛ _و تلك ؟!!! نظر السيد عمر لابنته فعلًا باهتمام..و نظرت له أسيل رافعة أحد حاجبيها بجذل..قبل أن يعيد أنظاره إلى يوليا مردفًا بغير مبالاة ؛ _هذه لا أعرفها..لكنها تشبه زوجتي آسيا كثيرًا...هل تعرفينها أنتِ ؟!!! زمت أسيل فمها قليلًا تهز رأسها مردفة بإحباط شعرت به يوليا حقيقيًا لسبب ما رغم الابتسامة التي لم تفارق ملامحها التي لاحظت شحوبها الطفيف منذ أن أتت ؛ _ماذا أخبرتكِ ! بينما قالت يوليا تمُط شفتيها مخاطبة والدها بنفس النبرة الودودة للغاية ؛ _اممم..ألا يمكن أن تكون ابنتها ؟ بما أنها تشبهها لهذا الحد ! بمجرد طرحها لهذا السؤال..رأت ملامح السيد عمر التي تسمرت قليلًا و كأنه يعجز عن التحرك ما لم يستوعب عقله ما قالت..و قد استوعبه..نوعًا ما...فقد قال فجأة يرفع رأسه نحو أسيل بضياع مألوف جدًا..فقط لكونها اختبرته ألف مرة من قبل! _أسيل..أسيل..ابنتي الصغيرة أسيل...هذه أسيل ابنتي..... ! نظرة من حنان غير مطوع اكتسحت ملامح أسيل و هي تتأمل والدها من نفس المكان..بينما تنهدت يوليا و هي تتحرك أخيرًا إلى أن عادت تقف و لا تزال محتفظة بابتسامتها كما كانت.. رمقتها أسيل بنظرة دافئة تشاركها ابتسامتها المتسعة.. قبل أن تقترب من والدها تحثه على الوقوف متمسكة بيديه ؛ _أنت تبدو متعبًا..دعني أدلكٓ على غرفتكٓ لترتاح قليلًا.. استجاب لها والدها بكل رحابة..لكنه قال رغم ذلكٓ يسألها بنبرته الثقيلة الضائعة أثناء سيره برفقتها هي و يوليا التي كانت تسِير بمحاذاتها ؛ _هل إلى أمكِ ؟! هل نادتني آسيا ؟! أومأت له أسيل بهدوء مجيبة بتفهم ؛ _نعم..دعنا لا ندعها تنتظر كثيرًا.. بينما طرفت يوليا برموشها و ابتسامتها تتداعى ببطءٍ.. لقد كان من الممكن لعلاقتها بوالدها أن تكون بهذا القدر من الدفء على الأقل ! فقط..لو كانت تمتلكُ نفس الرفاهية في الإمساك بيديه و احتضانه كلما شاءت.. إنها تكاد أن تشعر بالخجل لمجرد أن تقفز فكرة مثل هذه إلى ذهنها..ما معنى أن يعتري قلبها شعور سخيف بـ... الغيرة من علاقة أسيل بوالدها ! في حين أن هذا الأخير بالكاد يتذكرها ! لكن فكرة واحدة..لطالما جعلتها تقف هذا الموقف..إذا كان والد أسيل لا يزال قادرًا على مدها بالدفء حتى و هو في هذا الحال ! فما ذنبها هي لتحيا مثل هذا الجفاء المؤذي من والدها !! مع الوضع بالاعتبار كونها تعشق والدها بطريقة غير طبيعية..كما تدرك بأنه يعشقها بنفس الطريقة..لكن منذ متى كان الحُب كافيًا للنمو بأيّ علاقة ! ما نفع الحُب أساسًا إذا لم يجعل حامله يتخلى عن البعض من قناعاته في الحياة..و يتنازل باعتناق قناعاتٍ جديدة لأجل أحباءه !!! كانت أسيل قد وصلت إلى غرفة والدها..بينما تراجعت هي تتخذ مقعدًا جانبيًا في البهو منتظرة عودتها..إلى أن عادت هذه الأخيرة فعلًا..و قالت مباشرة تحثها على التوجه إلى غرفة معينة ؛ _تعالي ! وقفت يوليا فعلًا مقتربة من الغرفة حيث قادتها أسيل..و هناك..رأت عمر يجلس فوق السرير..قدماه الصغيرتان مفرودتان أمامه بينما هو منسجم كليًا في اللعب ببعض الأشكال الجميلة أمامه.. توقفت أسيل تستند إلى طاولة الزينة بظهرها بينما تقدمت يوليا نحو الداخل أكثر إلى أن جلست في طرف السرير..و حينها فقط..ما إن شعر عمر بتلكٓ الحركة..حتى كان يرفع رأسه بسرعة..قبل أن يقفز بسرعة ليحاوطها بذراعيه الصغيرتين هاتفًا بحماس فاق الحدود ؛ _خالتي يوليا..لقد اشتقت إليكِ ! بادلته يوليا العناق بقوة شديدة و هي تهمس مطبقة عينيها بحرارة ؛ _و أنا اشتقت لكٓ بشدة أيها الشقي الصغير ! ثم ابتعدت قليلًا بدون أن تحرّره تمامًا..و همست تحاوط وجهه الجميل باهتمام بالغ ؛ _كيف حالكٓ الآن ؟! غالبًا..كانت غايتها الحقيقية من احتضان وجهه هي التأكد من درجة حرارته كما أخبرتها أسيل..و قد شعرت بتعبه فعلًا رغم حماسه الطفولي الطبيعي تمامًا و ابتسامته الواسعة المُشبعة بالاشتياق.. رمقت أسيل بنظرة خاطفة..قبل أن تفتح فمها سائلة بهدوء ؛ _منذ متى و حرارته مرتفعة ؟! قالت أسيل تجيبها بخفوتٍ و قد بدا بعض القلق جليًا على ملامحها ؛ _منذ أن استيقظ صباحًا..أساسًا لهذا السبب لم أصطحِبه للمدرسة ! أومأت لها يوليا ببطءٍ..ثم قالت تراقب عمر الذي عاد إلى اللعب و كأن أيّ شيءٍ لم يكن ؛ _حسنًا إذًا..مبدئيًا سأدون له دواء خافض حرارة..و في حال لم يتحسن وضعه........ صمتت فجأة..فقالت أسيل تلتقط جملتها باهتمام ؛ _في حال لم يتحسن وضعه... ؟! قالت يوليا بنبرة حاولت بأمكن ما يكون أن تخرج في غاية التفهم ؛ _حينها..سنقوم بفحص صغير من أجله.. لكن غايتها لم تتحقق تمامًا..و حدث عكس ما تمنت حينما قالت أسيل تسألها بتأهب الـ...قلق ! _فحص ؟!!! قالت يوليا بجدية و هي ترمق عمر و كأنها تحاول التأكد إن كان يسمعهما أو لا ؛ _فحص صغير أسيل ! ثم نظرت لها سائلة بنبرة طبيبة لا صديقة الآن ؛ _هل هذه أول مرة يحدث فيها هذا معه ؟! أومأت لها أسيل بالإيجاب..إلّا أن بعض التردّد الذي قفز إلى ملامحها جعل يوليا تحثها بجدية ؛ _أخبريني ؟! قالت أسيل تعقد ذراعيها بنفسِ النبرة القلقة ؛ _إنه يعاني من الإسهال منذ يومين ! لكن شيئًا من ارتياح دخيل تسلل إلى قلبها و هي تسمع رد يوليا التالي ؛ _لماذا لا تقولين منذ البداية ! ربما يكون هذا هو سبب ارتفاع حرارته ! _حقًا ؟! سألت أسيل بترقب..فشردت عينا يوليا للحظة بتفكير.. قبل أن تنظر لها مجددًا سائلة ؛ _هل يمكن أن يكون قد تناول شيئًا منتهي الصلاحية في المدرسة ؟ أو في البيت بدون أن تلاحظي هذا ؟!! نظرت لها أسيل بتشوش مجيبة ؛ _لا أظن ! ثم استقامت قليلًا سائلة بتلكٓ النبرة الأمومية التي لطالما ارتبطت بطفلها...و لطالما أحبتها يوليا! _الآن أخبريني يوليا..هل عليّ أن أنقله للمشفى ؟! تنهيدة يائسة قليلًا حرّرتها يوليا و هي تقول مبتسِمة بصبر ؛ _أخبرتكِ لا..ستجعلينه يتناول الدواء الذي سأكتبه أولًا ثم في حال لم يتحسن وضعه حينها نجد حلّا بديلًا ! إلّا أن أسيل بدت أمامها كامرأة متصلبة العقل و هي تقول ؛ _تقصدين بالحل البديل القيام بالفحص..أليس كذلك ؟!! الآن تأففت يوليا قليلًا و هي تهتف عاتبة بصوتٍ هادئ ؛ _ماذا قلنا أسيل !!!! تراجعت أسيل قليلًا تنظر لها بغير ارتياح..فاتسعت ابتسامته يوليا قليلًا و همست تتأملها بمحبّة ؛ _هل تعلمين بأنكِ تتحولين إلى امرأة أخرى كلما تعلق الأمر بعمر ؟!! لم تستغرب أسيل من هذه الجملة..فقد أشاحت بعينيها عن يوليا قليلًا تتأمل طفلها الصغير..ذلكٓ الذي كان قد خلد إلى النوم منذ لحظاتٍ بجانب ألعابه..و قالت تهز كتفيها بجذل ؛ _انتظري أن تصبحي أمّا و حينها ستتعرفين على نسختكِ المماثلة من هذه المرأة التي وصفتها بالـ-أخرى- ! ابتسامة شاردة قليلًا منحتها لها يوليا..بينما تاه عقلها مستعيدة أحداث الأمس..ثم سيارتها التي تركتها أمام منزل نائل ! قالت تخاطب نفسها بصوتٍ ساهم ؛ _عليّ أن أذهب لأستعيد سيارتي ! لولا أن أسيل سمعت هذه الجملة بل و ميزتها أيضًا.. فقالت تعقد حاجبيها قليلًا باستغراب ؛ _سيارتكِ ؟! ألم تأتي بها ؟!! أجفلت يوليا ناظرة لها بغباء أولًا..لكنها لم تلبث أن هزت رأسها و رفعت يدها إلى طرف جبهتها مجيبة بهدوء ؛ _لا..لقد تركتها ليلة الأمس مرصوفة في مكان ما..كنت سأذهب لأستعيدها الآن لو لم تتصلي بي.. قالت أسيل تلقائيًا و هي تفكّ عقدة ذراعيها متمسكة بيديها بطرف الطاولة وراءها ؛ _لو أرسلتِ أحدًا ليأخذها ! إلّا أن ابتسامة شبه ملحوظة برقت بها عينا يوليا جعلت حاجباها يرتفعان جذلًا..و من ذلكٓ الارتياب بداخلها يزداد نوعًا ما..و قد فاقمته صديقتها الحالمة حينما قالت ساهمة في البعيد..بنبرة مميزة ؛ _لا ،أفضل أن أستعيدها بنفسي ! حينها برزت ابتسامة ماكرة قليلًا في عيني أسيل..و تعمدت أن تلتزم الصمت للحظاتٍ تتأمل فيها تعابير صديقتها بتمعن..إلى أن رفعت يدها تلمِس بأصابعها الرفيعة فمها مردفة فجأة بتفكير ؛ _عمومًا..دعينا من هذا..لقد كنت أريد أن أسألكِ....... نظرت لها يوليا بالكاد تخفي ذلكٓ البريق عنها..فقالت أسيل بدون أن تختفي ابتسامتها الخفية ؛ _ذلكٓ الرجل الذي رأيناه في المقبرة في ذلكٓ اليوم....... صمتت فجأة حينما قاطعها صوت يوليا الذي ارتفع بنبرة علمت بأنها لم تكن مقصودة أو مخطّطة ؛ _نائل !!!! و فقط..تراجعت قليلًا مدركة بأنها وقعت في الفخ.. خاصة و قد استقامت أسيل لتقترب منها تزامنًا مع ذلكٓ السؤال الذي خرج بنبرة...ماكرة ! _آه...هل كان اسمه نائل ؟! لا أعلم كيف نسِيت ! ثم صمتت لوهلة واحدة..و عادت تهمس بينما تقترب أكثر إلى أن جلست بجانبها ؛ _كيف حاله إذن ؟!!! نظرت لها يوليا عاقدة حاجبيها بشيءٍ من...جزع حينها..و كما توقعت أسيل..فقد قالت تجيبها بنبرة خرقاء لم تخفي توترها ؛ _هل أنا أعيش معه ؟! لماذا تسألينني ؟!! رفعت أسيل حاجبًا واحدًا تمنحها نظرة مفادها... " أنا أكشفكِ تمامًا! " و قد كان دور يوليا الآن لأن تقف مقتربة من طاولة الزينة..ثم قالت تنظر لها عابسة بغير رضا ؛ _ماذا الآن ؟!! قالت أسيل تسألها مباشرة بنبرة أم تخاطب ابنتها الصغيرة التي ارتكبت مُصيبة ما ؛ _أين تركتِ سيارتكِ ؟!!! حسنًا..لم يعد هناكٓ مفر ! رفعت يوليا يدها اليمنى تزيح خصلة من شعرها إلى الوراء بتوتر..و تلكأت لوهلة واحدة على نفس النظرة العابسة..لولا أن ملامح أسيل لم تكن تقبل التفاوض.. فقالت تزفر أخيرًا باستسلام ؛ _حسنًا إنها أمام منزله ! فغرت أسيل فمها بدهشة مبالغ بها و هي تقول ؛ _هذا يعني بأنكِ تلتقين به فعلًا ! زمت يوليا فمها بقنوط و هي تشيح بعينيها جانبًا غير قادرة على الإنكار..إلّا أن عيني أسيل تسمرتا قليلًا على التوهج الطفيف الذي احتل وجنتيها..قالت تسألها ببطءٍ ؛ _هل أنتِ معجبة به ؟! انتفضت يوليا ناظرة لها هاتفة بجزع ؛ _طبعًا لا ! لكنها سرعان ما تداركت نفسها..فقالت تلمِس جانب عنقها ببعض التوتر ؛ _أقصد...ليس بعد ! لكن ما لم تتوقعه أبدًا..هو تعليق أسيل التالي..حينما قالت تتأملها بنفسِ النبرة..لا تزال تتقمص دور الأم الذي يجعلها تتحول إلى امرأة أخرى مختلفة كليًا كما أخبرتها يوليا ؛ _أو ربما...تحِبينه.... ؟!!!! الآن نظرت لها يوليا بلوم مؤنبة ؛ _أسيل !!!! لولا أن هذه الأخيرة لم تتراجع أو تتزعزع بندائها..فقد تبسّمت شفتاها أكثر ببطءٍ..ربما الابتسامة الأولى الحقيقية التي ترسمها تلكٓ الشفاه منذ أيام..و كان سببها ردة فعل صديقتها الخرقاء.. و رغم أنها لم تكن تستطيع أن تجزم بأيّ مما قالته..إلّا أن نظرتها الخبيرة تلكٓ لا يمكن أن تخطئ..و هي إن لم تكم مخطئة فعلًا...فيوليا مهتمة بذلكٓ الرجل..لا و ليس اهتمامًا عاديًا.. إنه ذلكٓ النوع من الاهتمام الذي يجعلها عاجزة عن التوقف عن رؤية ذلكٓ الرجل..أو حتى إبعاده عن تفكيرها طوال الوقت..إنه ذلكٓ النوع من الاهتمام الذي يتسرب صاحبه إلى الإنسان فيجعله مجبرًا على التخلي عن البعض من مبادئه...و ربما جميعها ! إنه ذلكٓ النوع من الاهتمام..الذي أجبرها ذلكٓ اليوم على أن توقف السيارة بمجرد انطلاقها ثم تهرع إلى رجل بالكاد تعرف عنه القليل بدون سبب مقنع أو وجيه..و الذي يجعلها عاجزة الآن عن إبعاد تعابير التوتر و التشوش عن ملامحها.. و كأنما تم إيقاعها في فخ غير متوقع..لكنه فخ قوي و متقن إلى درجة الوقوع فيه بكل رحابة ! لهذا نعم..ربما تكون صديقتها قد وقعت في الحُب...و هي حتى لا تبدو مدركة لهذا !! انتبهت فجأة على تلكٓ الخطوات التي اقتربت بسرعة من الغرفة..فالتفتت لترى...نوران تقف في حاجز الباب المفتوح..قبل أن تهمس بينما تنقل عينيها بينهما بأدب ؛ _سيدة أسيل...... نظرت لها أسيل باهتمام و هي تميز نبرة التردّد الطفيفة في صوتها..فقالت هذه الأخيرة تستأنف بتردّد فعلًا ؛ _السيد إياد جاء..لقد قال بأنه يريد رؤية عمر الصغير لكنه لن يدخل قبل أن تخرجي أنتِ إليه ! اتسعت عينا أسيل قليلًا دهشة و هي تنظر إلى يوليا..تلكٓ التي عقدت حاجبيها سائلة بعدم فهم ؛ _لماذا كل هذه الدهشة ؟ ألم تتصِلي به أنتِ ؟!! أومأت لها أسيل بالنفي لا تزال نفس الدهشة تكتسح ملامحها..فقالت يوليا تسألها مجددًا بجدية ؛ _ألم تخبريه عن وضع عمر ؟!! نفس ردة الفعل منحتها لها أسيل و هي تهمس بحيرة ؛ _كيف علِم إذن !! إلّا أن يوليا قالت بجدية قاطعة بنبرة تشبه التوبيخ ؛ _لحظة لحظة..ما ردة الفعل هذه ؟!! ألم تكوني تريدينه أن يعلم ؟! لم تستطع أن تفهم تمامًا النظرة التي احتلت ملامح أسيل بعد أسئلتها هذه..نظرة...يأس..أو عجز..و كأنما تعجز عنه فعلًا هو إطلاعها على كمية التعقيدات التي أصبحت علاقتها بإياد تمر منها في آخر فترة ! لكنها استطاعت أن تمنحها العذر على ردة فعلها رغم هذا..فتنهدت بخفوت و هي تقف أخيرًا تهم بالإتجاه إلى الباب..هامسة أثناء ذلكٓ بنبرة بديهية ليوليا ؛ _عمومًا أنا سأخرج إليه و أنتِ ابقي مع عمر في حال استيقظ فجأة.. منحتها يوليا مجرد إيماءة بطيئة على كلماتها..بينما اقتربت أسيل من الباب أكثر هامسة لنوران بهدوء ؛ _لا بأس..يمكنك العودة إلى عملكِ الآن.. ___________________________ حينما خرجت..كان أول ما وقعت عيناها عليه هو إياد..و هذا الأخير كان يقف مستندًا إلى سيارته..يتلاعب بمفاتيحها بين يديه بينما عيناه ساهمتان في تلكٓ الحركة..أو بالأحرى...في الفراغ ! تلكأت قليلًا و هي تتأمله من مكانها حيث كانت لا تزال تتمسكُ بمقبض الباب الموارب..لكنها لم تلبث أن أبعدت يدها بتردّد و هي تقترب منه بخطواتٍ ثابثة..إلى أن وقفت أمامه..و حينها فقط كان إياد يرفع رأسه نحوها تزامنًا مع ندائها ؛ _إياد ؟! نظر لها إياد بنظرة لا تحمل أيّ تعابير أولًا..و انتظرته أن يعقب بأيّ كلمة و هي تراه يستقيم ببطءٍ بدون أن يزيح عينيه عنها..و لا هي فعلت..فقد كان عقلها لا يزال عالقًا في ذكرى الأمس.. و ذكرى تلكُ الليلة يرفض الخروج منها...... _كيف حالك ؟!!! قالت أخيرًا بعد تردّد طويل..و لأول مرة في حياتها..لا تقابل أيّ رد فعل من إياد على أيّ جملة تلقيها..لأول مرة يخاطبها إياد بتلكٓ النبرة المختصرة..و يمنحها مثل تلكٓ النظرة الخاوية ! _كيف حال عمر ؟!!! فقط ؟!!! شعرت بقلبها يهوي ألمًا..انقباض غريب اجتاحها و كان ليقف حائلًا بينها و بين قدرتها على التنفس..و لأول مرة أيضًا...يظهر أثر شعورها واضحًا جدًا في عينيها..فقد بهتت عينيها تمامًا و هي تتراجع قليلًا بملامحها فقط ناظرة له بـ...بصدمة ! لم تدرِ بأن عقله كان عالقًا مثلها في نفس الذكرى..عاجز عقله.لكن عجزه يكمن في كمية الألم الذي زرعتها به ردة فعلها ذلكٓ اليوم..عجزه يكمن في تمسكها المِميت بقرارها الأخير نابذة بذلكٓ عشق سنوات و عشرة طويلة.. عجزه يكمن في ذلكٓ الشحوب الذي استطاع تمييزه بسلاسة في عينيها..في الإرهاق الطفيف الذي لمحه يفترس تلكٓ العينين..و في صوت بكاءها الذي لا يزال يرن في عقله و في قلبه يكاد أن يفقده صوابه في كل مرة يتردّد رغبة في...احتضانها ! ربما..لو كان يملكُ وسيلة تخوله فقدان الذاكرة ! لما تردّد في اللجوء إليها !!!! استطاع بمعجزة ما أن يبقي على نفسِ الثبات في ملامحه لا عينيه..حينما قال يستأنف متجنبًا عينيها بنفس النبرة شبه...الجافة !!! _لقد ذهبت قبل قليل إلى مدرسته..كنت أريد رؤيته لكنهم أخبروني بأنكِ قد اتصلت بهم لتعتذري عن مجيئه اليوم ! كانت نبرته تحتوي بعض اللوم..و صمتت أسيل للحظاتٍ تستوعب فيها كل الموقف..لكنها عجزت تمامًا..فقالت تبتلع ريقها تشير إلى المنزل وراءها في حركة لا معنى لها ؛ _إنه...لقد كان مرهقًا قليلًا..أقصد..لقد ارتفعت حرارته قليلًا لكنه نائم و بوضع أفضل الآن.......... صمتت فجأة كشخصٍ يعجز عن إيجاد الحروف المناسبة للتعبير..بينما ظل إياد صامتًا لوقتٍ طويل يحدق بها بنفسِ طريقته الجديدة..غير المألوفة..الـ..قاسية نوعًا ما! إلى أن قال في النهاية ما جعل وضعها الـ-قلبي- يزداد سوءًا ؛ _لن أسألكِ حتى إن كنتِ تنوين إخباري أم لا..أو من يعلم... رُبما لم تمر الفكرة في ذهنكِ حتى ! همّ بأن يتجاوزها بعدها مقتربًا من المنزل..إلّا أن أناملها التي امتدت بغير إرادتها تتمسكُ بذراعه أوقفته فجأة.. نظر لها بتساؤل جاف..إلّا أنها همست تطرق برأسها قليلًا و كأنها تراقب تلكٓ الحركة.. لكن ما كانت تراقبه في الحقيقة هو شعورها الداخلي.. عجزها التام عن التحكم بنفسها بعد..و عن...النظر في عينيه بعد ! _إياد...رجاءً ! رجاءً ؟! على ماذا ؟!!! أغمضت عينيها بيأس من نفسها..كشخص نسيٓ الطريقة المثلى للتحدث بعد أن كان أيقونة في إلقاء الخطابات !! بينما تسمر إياد ينظر لها ببعض..الدهشة ! و لم يستطع أن يمنع صوته الذي ارتفع هامسًا الشيء الوحيد الذي خطر في ذهنه الآن..همس بنبرة لانت...قليلًا فقط ! _أستطيع أن أعد المرات التي نطقتِ فيها تلكٓ الكلمة ! إلّا أنها لم ترفع أنظارها نحوه رغم ذلك..فقد زمت فمها قليلًا ببعض التردّد..قبل أن ترفع رأسها صوبه أخيرًا..و قالت تهمس بما توقع سماعه نوعًا ما ؛ _تلكٓ الليلة.......... استطاعت أن تميز نظرة الرفض التي ظهرت في عينيه.. حتى أنه فتح فمه يهم بمقاطعتها فعلًا معترضًا على أيّ محاولة منها لفتح الموضوع المقيت..لولا أن هتفت هي تقاطع تلكٓ الرغبة ؛ _اسمعني فقط...أرجوك !! كانت نبرتها تحتوي نوعًا من...الندم ! أو الإعتذار !!! و وجد إياد نفسه يتسمر تمامًا مستشعرًا مدى جدية الموضوع بالنسبة إليها..قبل أن يتراجع نفس الخطوة التي ابتعدها قبل قليل فحرّرت أسيل ذراعه تلقائيًا..و توقف هو يستند إلى سيارته مجددًا..ينظر في عينيها بملامح استعادت تعابيرها المعتادة بالكاد.. قبل أن تبتلع ريقها ببطءٍ..ثم عادت تهمس بنبرة حاولت أن تمدها بقوتها المعتادة...لكن عبثًا أن تنجح! فقد خرج صوتها يحمل أطيافًا من شعورها الداخلي في تلكٓ اللحظة ؛ _ما حدث في تلكٓ الليلة..لم يكن ذنبك..و لم يكن ذنبي أنا أيضًا........ رباه..كيف زادت الطين بلة ! نظر لها إياد عاقدًا حاجبيه و كأنه يستنكر استعمالها لكلمة "ذنب" أساسًا ! إلّا أنها سرعان ما استأنفت أمام عينيه بجدية..بصِدق ؛ _و دعني أقول الصدق...هو لم يكن ذنبًا أساسًا ! أسدلت رموشها قليلًا عنه و هي تلتزم الصّمت للحظات.. ثم لم تلبث أن هزت رأسها في حركة تكاد أن تكون عديمة المعنى و هي تضيف بخفوتٍ ؛ _و إذا كنت ستسألني إن كنت نادمة أم لا..فسأجيبكٓ بكل صدق و أمانة بأنني..لست......... رفعت رأسها تقابل عينيه مجددًا..و استأنفت بنبرة خرجت ثابثة كليًا الآن ؛ _أنا لستُ نادمة إياد !! أومأت ببطءٍ و كأنها تؤكد شيئًا مجهولًا مردفة ؛ _في الحقيقة أنا...كنت في حاجة ماسة لهذا !! طرفت برموشها ببطءٍ..و شعر إياد الذي كان يراقبها طوال الوقت بتركيز شديد..يستمع إلى صوتها الذي يخرج بهذه النبرة المسالمة في لحظة نادرة..و يشعر بقلبه الذي مزقته ردة فعلها ذلكٓ اليوم..يستعيد القليل من الحياة !.. يأنها تكتم بصعوبة دمعة...أو اثنين !! لكن حتى محاولتها باءت بالفشل..و راقب بعينين مترقبتين لكل تعابيرها تلكٓ اللمعة التي احتقنت بداخل حدقتيها الفيروزيتين الداكنتين.. حينما همست تخاطبه بنبرة يعرفها..نبرة زوجته أسيل التي يعرفها منذ ست سنوات..زوجته التي لا يهون عليها أن تنظر له بذلكٓ الخواء و كأنه شخص لا تعرفه..همست بصوت شبه...مختنق ! _لا أعرف ما الذي دهاني بعدها إياد..لكنني...خفت!..لقد انتابني الخوف..خفت أن..أضعف..أن..أفقد نفسي و أنهار أمام تلكٓ المشاعر القوية التي اجتاحتني ليلتها..شعور كنت قد ظننت بأنني على وشكِ تجاوزه..لكنني علمت كم كنت ساذجة في ظني بعد تلكٓ الليلة..كما أنني.......... صمتت فجأة..فقال إياد يحُثها برفق الآن ؛ _كما أنكِ ؟!! كانت هناكٓ نظرة...دافئة قد احتلت عينيه و استطاعت أسيل أن تلمح أثرها في صوته أيضًا..فشعرت بقلبها الذي ناشد الحزن الشديد لأيام..يختلج قليلًا ببعض...الرضا! ثم همست تهز كتفيها بصدق ؛ _شعرت بالإحراج !!! حينها فقط..لمحت ابتسامة..كانت ابتسامة حقيقية تشكلت بتأني في عيني إياد و انتقلت إلى شفتيه أيضًا اللتين ارتفعت أطرافهما قليلًا يمنحها هدية دفعتها لأن تقابلها بـ..ابتسامة باهتة قليلًا ! لكنها مشبعة بالرضا !! إلى أن قال إياد بعد لحظاتٍ يلقي بسؤال لا ينفكّ يخطر في باله منذ فترة..تحديدًا منذ أن أطلعته على قرارها الصادم بالإنفصال.. _هل...ذلكٓ الشيء الذي ظننتِ بأنكِ تجاوزته هو...حُبكِ لي ؟!!! تلكٓ النظرة البالغة الذهول التي منحتها له بعد هذا السؤال أرسلت شعورًا قويًا بـ...سعادة غير مطوعة إلى قلبه..بينما قالت أسيل ترد في نفس اللحظة و بنبرة لا تقبل النقاش ؛ _قطعًا لا !!!! تراجع إياد قليلًا شاعرًا بالابتسامة تتسرب من قلبه مباشرة..بينما تلكأت أسيل قليلًا..و ساد بعض الصمت بينهما من طرفها هي حصرًا..إلى أن فتحت فمها مردفة بجدية ؛ _ما يجب أن تعرفه و تكون متأكدًا منه..هو أن قراري بالإنفصال عنك لم تكن له أيّ علاقة بالحُب ! لفحة من...حزن أو إقرار ظهرت في عينيها و هي تهمس بخفوتٍ..تسدل رموشها قليلًا عنه و كأنها تحاول أن تقي نفسها من احتمالية الوقوع ضحية ذلكٓ الضعف الذي أخبرته عنه ؛ _أنا..لا يمكنني أن أتوقف عن حبكٓ إياد..تلكٓ حقيقة لا أستطيع إنكارها..لا يمكنني أن أرتبط بغيركٓ أيضًا....... رفعت عينيها تمنحه عينيها للمرة الألف رُبما في نفس اللحظة..بينما برقت عينا إياد بشدة..يشعر بأنه في حلم غريب..هل يمكن أن يكون في حُلم بالفعل ؟!!! لا..لا يمكن أن يكون حلمًا..هل كانت خفقاته لتتضارب بهذا الشكل الهستيري لو كان حلمًا ! استطاع أن يتأكد بأنه ليس في حلم بالفعل..حينما امتدت يدها فجأة نحوه و...منحته لمسة..كانت لمسة دافئة للغاية فوق يده.. قبل أن ترفع تلكٓ اليد تتمسكُ بها فعلًا..و قالت بجدية أكبر..لكن بنفسِ النبرة المسالمة ؛ _أنا لا يمكنني أن أفعل بنا هذا إياد..و لا أريدكٓ أن تفعل.. لقد اتخذت قرار الإنفصال نعم...لكن غايتي الحقيقية لم تكن تدمير هذه العلاقة..بل إنقاذ الشيء الجميل الوحيد الذي تبقى منها ! استطاع إياد أن يفهم تلقائيًا مغزى جملتها الأخيرة..ما تقصده بالـ-شيء الجميل الوحيد الذي تبقى منها-..من علاقتهما..عمر.......... _عمر ؟!!! همس فجأة يكمل عنها ببعض الإحباط..فأومأت له أسيل بجدية..تحاول أن تنتقي كل كلمة تقولها بعناية فائقة..و تحاول أن تمنحه ذلكٓ الحافز الذي قد يجعله يتفهم موقفها و لو قليلًا !!! و قد همست بالفعل..همست بهدوء بالغ بدون أن تحرّر يده ؛ _لقد طلبت مني في المرة الماضية أن أتحدث إلى المحامي لتحديد موعد قريب لأجل الطلاق......... نظرة ترقب واضحة اعترت عينيه في هذه اللحظة..إلّا أنها استأنفت فقط بخفوتٍ ؛ _لكنني لم أفعل..و لا أفكر في أن أفعل أساسًا ! صمتت قليلًا..فهمس إياد يميل برأسه إلى الجانب قليلًا بخفوتٍ ؛ _لكنكِ لا تفكرين في التراجع !!! حينها كان دور أسيل لأن تميل برأسها قليلًا..و همست بآخر ما توقع سماعه..همست بدون أن تفارق عينيه أو يده بنبرة تشوبها نفس الجدية السابقة و إن كانت قد لانت بعض الشيء ؛ _لا أفكر.......حاليًا !!! طرف إياد برموشه ينظر لها بدهشة فاقت حدود الدهشة..و كان ليجزم بأنه يتخيل بالفعل..لولا أن تلكٓ النظرة في عينيها كانت تؤكد ما سمعه..حاول لمراتٍ متتالية أن يتحدث..لكنه كان يعجز في كل مرة.. ثم ما إن استطاع أن يتمالكٓ نفسه قليلًا..همس يسألها بتلعثم ؛ _حـ...حقًا ؟!!!! كانت أسيل قد شعرت بأنامل يده التي تحركت تتمسكُ بيدها أكثر..كما استطاعت أن تستشعر تلكٓ الارتعاشة الطفيفة بها..ارتعاشة تكاد أن تكون مماثلة لتلكٓ التي احتلت قلبها.. لم تكن تستطيع أن تجزم بأن ما تفعله الآن صائب أم لا.. إن كانت ستندم أم لا على مجرد خطوة صغيرة تراجعتها مبتعدة بذلكٓ عن الصّواب الوحيد الذي كانت تراه حتى قبل أيام معدودة.. لكنها تعلم شيئًا واحدًا..هو ذلك الشعور القميء..المرعب الذي اكتسحها في تلكٓ اللحظة..حينما فتحت الباب لتقابل تلكٓ النظرة الباردة..الجافة في عينيه.. ثم صوته الذي لا يزال وقعه حيًا في قلبها بينما يقاطع رغبتها في الشرح..ثم يعلن موافقته الصريحة على انفصالهما..بل و يأمرها بأن تقربه ناسفة بذلكٰ كل شعور جميل مر بينهما يومًا.. صمت طويل ساد من طرفها بعد ذلكٓ السؤال..ثم كانت تفتح فمها لتمنحه إجابة...ليست نزيهة تمامًا ! _حسنًا!..بما أن القاضي قد وضع لنا مهلة محدّدة فدعنا نلتزم بها ! اتسعت ابتسامة إياد بقدر ضئيل و هو يتأملها بشعور دخيل من سعادة لم يختبرها منذ وقتٍ طويل..ثم قال يرسم نظرة..شبه عابثة في عينيه ! _و ربما نستغل عمر أيضًا و ننضم بعض اللقاءات العائلية ! نظرت له أسيل حينها بيأس..و كأنها تذكره بجملة صارمة قالتها له قبل فترة حيال استغلاله لعمر..إلّا أنه فقط رفع يده الوحيدة الحرة في وضعية الاستسلام..و همس يضيف معقبًا بأدب بالغ ؛ _ألم تقولي بأن علينا احترام قرار القاضي !! حاجب واحد ارتفع في وجهها محدقة به بجذل..فقال يضيف بنزاهة كاذبة كليًا ؛ _و هذا أيضًا يندرج ضمن قراراته الصارمة ! و إلّا لماذا يمنحنا مهلة للصلح ؟! أساسًا كيف سنحظى بتلكٓ المهلة لو لم نجتمع إطلاقًا ثلاثتنا سويًا كعائلة ؟! لم تستطع أسيل أن تمنع نفسها في تلكٓ اللحظة من أن ترسم ابتسامة..ابتسامة جميلة رغم هدوءها..و قالت تسمح لنفسِها بصرامة عاطفية بأن تمنحه تلكٓ النظرة الـ.......عاشقة ؟!! _أنت تستغل عمر بالفعل ! و حرفيًا..كانت المرة الأولى التي لا تضايقه جملة كهذه.. فقد قال يقترب منها قليلًا فقط بوجهه..حريص على أن يلتزم بحدود الأدب التي وضعتها له...زوجته ! إنها لا تزال زوجته حتى اليوم رغمًا عن أنفها و عن أنف الجميع ! _أستغله لصالح والده و والدته..و لصالحه هو شخصيًا !! كانت قد اتسعت ابتسامته تزامنًا مع نطقه لهذه الكلمات.. و اتسعت ابتسامة أسيل بقدر ضئيل..فبدت كانعكاس جميل له..إلى أن قال في النهاية بصوتٍ تداعى منه ذلكٓ الحماس السابق نسبيًا ؛ _هل يمكنني أن أدخل لرؤية عمر الآن ؟!! أومأت له أسيل بشرود و ابتسامتها تتداعى ببطءٍ..فتسمر للحظات ينظر لها بتفكير..ثم قال بترقب ؛ _حسنًا هل يمكنني أن أمسكٓ بيدكِ أثناء طريقنا نحو المنزل ؟!! هل كانت مخطئة حينما وصفته بالمستغل ؟!!! قطعًا لا !! للمرة الثانية في نفس اللحظة..و للمرة التي لا تذكر خلال دقائق تومئ له ببطءٍ..ثم أخفضت رأسها قليلًا تراقب يده التي امتدت بغير تردّد تحتضن أناملها باحتواء بالغ..و بـ.. تملكٍ بالغ !!! هزت رأسها قليلًا تحاول أن تطرد أيّ فكرة تقفز إلى ذهنها بغاية إثناءها عن كل ما دار بينهما هنا اليوم..من ضمنها أيضًا تلكٓ الحقيقة المطلقة التي لا تملكُ أمر إنكارها.. و هي أن إياد كان يمتلكُ هاجسًا مجنونًا لـ..حمايتها من العالم ! و للاحتفاظ بها لنفسِه !!! ربما لو استطاع أن يحميها من نفسه قليلًا !! ما كانت علاقتهما لتصِل إلى هذا المآل !!!! سارت بجانبه بهدوء لا تزال تراقب ذلكٓ التلامس..ليس و كأنها زوجته منذ خمس سنوات..و حبيبته قبلها بسنة ! من يعلم..ربما لم يكن قرارها خاطئًا لذلكٓ الحد !!!! لم تعلم بأن إياد كان يتأملها هي طوال الوقت..يتأمل ملامحها الجميلة الشاردة..و قد عادت ابتسامته الجميلة لتخط ملامحه بتأني شديد..قبل أن يلتفت فجأة حينما تناهى إلى مسامته صوت خطوات تقترب منهما.. و وقعت عيناهما مباشرة على يوليا التي كانت تقترب منهما بهدوء..لكن حتى ذلكٓ الهدوء تحول إلى ذهول بالغ حينما وقعت عيناها على أناملهما المتشابكة بينهما..و استطاعت أن تلمح بسهولة طيف الابتسامة الذي كان يخط ملامحه..و السلام الذي كان يكتنف ملامح أسيل.. فتوقفت في منتصف الطريق تنظر بينهما بغباء..حتى أنها هزت رأسها قليلًا و أغمضت عينيها لوهلة قبل أن تفتحها مجددًا تراقب اقترابهما و كأنها ترى مشهدًا خياليًا من عالم آخر.. إلى أن وصلا إليها..و تسمرت عيناها تحدق بأسيل عاقدة حاجبيها بشدة..تلكٓ الأخيرة التي رسمت ابتسامة متردّدة غالبًا كانت غايتها منها أن تتلافى نظرة الاحراج الطفيف التي احتلت ملامحها.. _مرحبًا يوليا..كيف حالكِ ؟!! سمعت صوت إياد يهمس بلطفٍ بالغ..فنقلت عينيها المشوشتين المتبلدتين إليه ببطءٍ..ثم قالت تخاطب البريق المتألق في عينيه بنبرة متبلدة بالفعل ؛ _مرحبًا...كيف حالكٓ أنت ؟!!!.. ثم أضافت تعقد حاجبيها أكثر قبل أن تسمح له بالرد ؛ _تبدو سعيدًا !!! لم يستطع إياد أن يمنع ابتسامة جديدة من أن تتألق على ملامحه أمام تعابيرها التي تعتبر طبيعية تمامًا..إنه لا يستنكر حتى أن تتهمهما بالجنون..أو...تتهم صديقتها حصرًا بالجنون بما أنها تعرفه بشكل جيد كفاية كي تعلم رأيه في قرار أسيل المجنون !!! _ربما لأنني سعيد بالفعل ! قال يجيبها ببساطة..بتلكٓ النبرة المألوفة التي لطالما خصّها بها..فلطالما كانت علاقتهما أعمق من مجرد زوج يخاطب صديقة زوجته.. لقد كانت أشبه بصداقة نقية و حقيقية..يعزها كما تعزه.. و يحترمها كما تحترمه !! أشاحت يوليا بوجهها عنه قليلًا تتأمل صديقتها بجذل..و قد شعر برغبة في الضحك الآن لا الابتسام فقط و هو يرى الطريقة التي كانت تتجنب فيها أسيل عيني يوليا..و كيف تحركت أناملها بين أنامله و كأنها تود أن تنتزعها منه تلكٓ الخائنة ! لولا أنه تمسكٓ بها بشدة يمنعها..بينما قالت يوليا أخيرًا الشيء الوحيد المنطقي الذي يوحي به شكلهما ؛ _هل...عدتما إلى بعض ؟!!! _يوليا !!!! هتفت أسيل توبخها بجدية..لكنها سرعان ما تداركت موقفها أمام نظراتهما المحاصرة..فهمست بتلكؤ ؛ _أقصد...لقد............ صمتت فجأة و رفعت يدها الحرة لتلمِس بها المنطقة بين عينيها بإرهاق..بينما قال إياد مبقيًا على ابتسامته الواسعة ؛ _لقد قرّرنا أن نأخذ هدنة صغيرة ! زفرة يائسة حرّرتها أسيل و هي تسقط يدها ناظرة جانبًا.. لكنها اضطرت لأن تعيد انتباهها إلى يوليا مجددًا.. حينما قالت هذه الأخيرة تخاطبها هي بالأخص كشخصٍ..يسخر منها !!! أو ربما يتهمها !!! _قرار جيد !!! حسنًا..إنها المرة الأولى التي تتمنى لو كانت تمتلكُ قوة تخولها خنق شخص ما بعينيها فقط !! لولا أن صديقتها..تجاهلت تلكٓ النظرة تمامًا و كأنها لم ترها..قالت تحكّ طرف جبهتها بجدية الآن ؛ _عمومًا لقد دونت دواء ما لعمر و تركت لكما الورقة فوق المنضدة..إنه نائم الآن.......... صمتت لوهلة ثم أضافت بنفس النبرة ؛ _عليّ أن أذهب لأستعيد سيارتي الآن! أراكما لاحقًا ! ثم أشارت بيدها ملقية تحية أخيرة و هي تتراجع مباشرة و قد استطاعت أسيل أن تلمح الحماس الخفي في نبرتها و خطواتها..فقالت تهتف غير قادرة على إيقاف نفسها ؛ _قرار جيد !! هتفت يوليا تشيح بيدها بدون أن تلتفت إليها ؛ _سأتظاهر بأنني لم أسمعكِ ! كانت قد اختفت في رواق جانبي بعد تلكٓ الجملة..فنقلت أسيل عينيها إلى إياد و هي تسمعه يعقب بجذل ؛ _يبدو بأنها جملة مشفرة بينكما ! هزت أسيل رأسها بتشوش و هي تهمس عابسة بعض الشيء ؛ _دعكٓ من ذلك..إنها تحاول أن تستفزني فقط ! لكنها عادت تتسمر قليلًا و هي تقابل النظرة التي كانت تحتل عينيه..نظرة...جميلة إلى درجة أن تراجعت قليلًا خشية أن يتهور زوجها و...يتجاوز بعض الحدود ! لهذا..فقد قالت تتنحنح منبهة بخفوتٍ ؛ _آ......دعنا ندخل ! أومأ لها إياد ببطءٍ..لكن بدون أن تنقشع تلكٓ النظرة من عينيه..حينها كانت هي من تشيح بعينيها ملتفتة..قبل أن تتنهد بخفوتٍ حينما شعرت به يسير بمُحاذاتها بهدوء.. ______________________________ شعور بات مألوفًا من...خيبة أمل اجتاحها ما إن وصلت إلى وجهتها..و ترجلت من سيارة الأجرة لتتفاجأ بأن سيارتها موجودة فعلًا...لكن سيارته لا !!! هل هذا يعني بأنه ليس في البيت !!! كان الأمر واضحًا..لا تحتاج للتأكد من صحته بأيّ طريقة..إلّا أنها رغم ذلكٓ اقتربت من الكوخ بخطوات سريعة نوعًا ما..و رفعت يدها تطرق الباب بإحباط..لولا أن أيّ رد لم يصلها كما توقعت تمامًا.. فعادت تلتفت قليلًا ترمق سيارتها بشفاه مزمومة تفكيرًا.. قبل أن تقترب منها لتفتحها بسرعة..ثم استقلت مقعدها و هي تخرج هاتفها تطلب رقمه بحزم.. كانت تستند بيدها اليمنى إلى المقود بينما الأخرى تمسكُ بالهاتف على أذنها حيث شرع أصبعها السبابة يطرق فوقه برتابة في انتظار الرد المنشود..و قد جاءها الرد..بعد ثوان كادت فيها أن تفقد الأمل.. و ربما تتهور أيضًا و تنطلق باحثة عن أثره في كل ركن في المدينة..فقط لترضي تلكٓ الحاجة الماسة بداخلها و التي كانت تحثها لرؤيته اليوم و حالًا ! كما أنها...كما أنها أحضرت له هدية !!! _يوليا ؟!! سمعت الصوت الخشن ينادي اسمها من الجهة الأخرى بنبرة لم تستطع تمييز إن كانت مشوبة بالإهتمام فقط أو...بالقلق ! هل يعقل بأن يكون لا يزال يشعر بالقلق عليها منذ الأمس !!! ابتسامة باهتة قليلًا استوطنت عينيها و هي تهمس بخفوتٍ تزامنًا مع يدها التي تحركت إلى حقيبتها الملقاة بجانبها تفتحها مخرجة تلكٓ الهدية..و التي لم تكن سوى...ذلكٓ العطر نفسه الذي أهدته لها ضحى ! و الذي حاولت أن تعطيه له من قبل لكنها تردّدت !!! _كيف حالك ؟!!! _كيف حالكِ أنتِ ؟!!! سمعت صوته يسأل فورًا بنبرة ظهر فيها القلق واضحًا جدًا الآن..فتسمرت لوهلة برقت فيها عيناها بشدة..بريق استطاعت أن تميزه بوضوح و هي تقابل انعكاس عينيها في المرآة الأمامية.. و لم تشعر بذرة من تفاجئ أو تردّد أو حتى..استنكار !! لكنه ربما فعل ! فقد سمعت صوته يقول متداركًا ببعض... التوتر ؟! حسنًا ذلكٓ لا يليق به إلّا نادرًا !!! _أقصد..بعد ما حدث معكِ بالأمس..لم أستطع أن أتصل لذا......... كان يبدو عاجزًا تمامًا عن انتقاء كلمات مناسبة للشرح.. حتى أنها شعرت ببعض الشفقة الغريبة..شفقة لا تشبه الشفقة المعهودة..شعور لذيذ..دافء..و حنون اعتراها و هي تسمع محاولاته و تميز التردّد و القلق في صوته.. فقالت تقاطعه رغبة في مساعدته لتجاوز المعضلة تلكٓ ليس إلّا ؛ _أنا...بخير..بل بخير جدًا !! تلكأت بعدها قليلًا و هي ترمق عينيها في المرآة مجددًا.. و قد كان يتخللها بعض التردّد الآن..و كأن حالته تلكٓ قد انتقلت إليها و ها هي ذي تعيش نفس المعضلة.. إلى أن قالت ترفع العطر بين يدها تتلاعب بقنينته الأنيقة بكل راحة ؛ _في الحقيقة أنا..أمام بيتكٓ الآن...لقد جئت لأستعيد سيارتي لكنني فكرت بأن أراكٓ أيضًا لكن......... صمتت فجأة لا تعلم ما الذي عليها قوله..هل تخبره فقط بصدق بأنها تريد أن تراه ؟! أو تطلب منه مباشرة أن يرسل لها مكانه و لا يهمها ما قد يخطر في ذهنه من أفكار إزاء طلبها !!! عقدت حاجبيها قليلًا و هي تلتزم بعض الصمت الذي التزمه نائل هو الآخر فيما بدا و كأنها محاولة نزيهة لتحفيزها على الإتمام..و هي فعلت..قالت تتنهد أخيرًا بخفوتٍ الشيء الذي خطر في بالها ؛ _أنا...لديّ شيء أحضرته معي و أريد أن...أعطيكٓ إياه.. يمكنكٓ أن تعتبرها هدية أو...عربون شكر على كل المرات التي ساعدتني فيها حتى الآن..لكن في حال كنت منشغلًا فيمكنني الذهاب الآن و تأجيل ذلكٓ إلى الغـ.............. _سأرسل لكِ العنوان !!! أجفلت لوهلة حينما وصلها صوته المرتفع يقاطع كلماتها الخرقاء بـ...بلهفة !!! و للمرة الثانية تتسمر في مقابل عينيها الـ..باسمتين !! و اللتين كانتا الآن تنظران إليها بمكر !!! و كأنهما تعودان لساحِرة شمطاء كانت تهمس لها في المرآة بكل ظفر... " لقد فعلتِها ! " لكن لحظة...ماذا فعلت ؟!!! أليست امرأة نزيهة كليًا !!! بلى ! و حتى إن كان نائل يهتم بها..حتى و إن كانت قد نجحت في مسعاها النبيل و النزيه و الصادق في أن تراه اليوم..و في أن تستكشف بنفسها إن كان هو أيضًا يرغب برؤيتها.. فهذا لا يغير حقيقة كونه قد قاطعها من تلقاء نفسه... و أن كل اللقاءات التي مرت بينهما حتى الآن لم تكن بتخطيطها..و إلّا فهل يمكن للإنسان أن يحصّل وسيلة واحدة تخوله رسم القدر..أو التحكم في قلوب الناس..أو في وتيرة نبضات قلبه هو حصرًا ! هل يمكن التحكم في كل شعور سعيد يعتريه ؟! حتى و إن كان قادرًا على التحكم..من ذا الإنسان المختل الذي قد يعترض طريق سعادته و يقف حائلًا يين قلبه و قلب...يسعده !!! نظرة عابسة منحتها لعينيها في المرآة..تلكٓ النظرة الماكرة لا يمكن أن تنتمي إليها..و ما الذي يدينها لو كانت تريد رؤيته باستماتة ؟!! كيف تلومها تلكٓ العينان و هي من أقرت لهما بهذا بنفسِها !!! طرفت برموشها ببطءٍ و هي تشيح بعينيها أخيرًا عابسة نحو الجانب..قبل أن تفتح فمها لتهمس بخفوتٍ ؛ _حـ...حسنًا !! أنزلت بعدها الهاتف و هي تنظر أمامها شاردة تمامًا..كانت لا تزال تتلاعب بالعطر في يد و بالهاتف في اليد الأخرى.. قبل أن تنتفض فجأة حينما تسلل صوت رنة قصيرة من هاتفها.. رفعته بسرعة إلى عينيها..و قد كان كما أخبرها قد أرسل لها عنوانه !! حينها..و للمرة التي لا تذكر كم..تتسمر متأملة الرسالة تلكٓ بلا هدف..و للمرة التي لا تذكر كم أيضًا..ترتفع شفتاها بابتسامة...تلكٰ المرة ليست باهتة و لا متردّدة و لا حتى ماكرة... فقد كانت ابتسامة كبيرة..سعيدة...بل بالغة السعادة ! ثم عادت تدسّ العطر في حقييتها شارعة في تشغيل السيارة..لكنها لم تنسى أن ترمق عينيها في المرآة..و تلكٓ المرة لم تقابل نفس النظرة الماكرة..بل ما قابلته..كانت نظرة لامعة..متوهجة إلى درجة أن ترسل شعورًا بالغًا بالرهبة إلى قلبها.. نظرة...أحبتها ! كما أحبّت تلكٓ الطريق التي كانت تركض خفقات قلبها فيها متحدية كل حاجز يعترضها من اللا شيء..فقط لكونها تقودها إليه..و لأنها تعلم بأنها في نهايتها ستصِل إليه..ستقف أمامه و تنظر في عينيه.. و ربما أيضًا يكون الحظ في صفّها اليوم فترى ابتسامته أيضًا بعد أن تسلمه هديته في يديه !! ____________________________ توقفت أخيرًا بعد دقائق طويلة من القيادة أمام مبنى عريض متوسط الطول..قبل أن تقع عيناها المبتسِمتان مباشرة على تلكٓ اللافتة الكبيرة التي جعلتها تدرك بأنها الآن...تقف أمام مقر عمله !!!! تنهيدة خافتة حرّرتها و هي ترفع حقيبتها فوق كتفها و تفتح الباب حيث أنزلت قدميها بهدوء..ثم توقفت هناك للحظة تتساءل إن كان عليها أن تتصِل به ليخرج أو ربما تدخل فقط !!! لمٓ لا تدخل أساسًا !!! تقدمت بخطواتٍ أنيقة تتأمل كل ما يقع في مجال نظرها كطفلة تكتشف مدينة الملاهي لأول مرة..و قد كانت تشعر بنفسِها كطفلة فعلًا..بدليل تلكٓ اللهفة التي تحثها على تأمل كل ما يخصّه بمثل هذا التفاني !!! ما إن تقدمت أول خطوة بداخل المبنى..أول شيء لاحظته هو المرآتين الكبيرتين اللتين كانتا مثبثتين على جانبي الرواق بشكل أنيق..ثم الجدارين الرخاميين المصبوغين بلون أسود لامع خلفهما.. اقتربت بعدها بنفسِ الهدوء إلى أن وقعت عيناها على بعض الأشخاص هنا و هناك ممّن كانوا يتمرنون في آلات مختلفة... كان هناك مكتب استقبال مثبت في جانب معين..أنيق و مجهز كأناقة كل المكان..و قد لاحظت بأن جميع الجدران هنا كانت مصمّمة من الزجاج..و جميع الألوان تتراوح بين الأسود و الرمادي و الفضي.. لاحظت أيضًا بأن هناك عدة أروقة منها من قد تؤدي إلى مساحاتٍ أخرى هنا و غرف أخرى..ثم..منطقة جانبية حيث كانت تنتشر زرابي في ألوان مختلفة و تلكٓ مخصّصة للتمرين الفردي بعيدًا عن الآلات.. هناكٓ مقهى جانبي لمحته من البعيد..و هناك بهو أيضًا حيث جلس بعض الشباب يحتسون أنواع مختلفة من العصائر أو لأخذ قسط من الراحة و التحدث فقط..و هناكٓ حلبة تمرين متوسطة الحجم في جانب آخر..ثم كانت...السلالم التي تؤدي لطابق علوي.. لقد كان المكان ببساطة...جميلًا للغاية !!! و هي لم تتوقع حتى بأن يكون نائل...يدير مكانًا أنيقًا كهذا !!!! لكن أهم شيءٍ لاحظته..و أزعجها..للغاية..هو أن نائل لم يكن متواجدًا في أيّ مكان !!! و ثاني شيء أزعجها..ذلكٓ الكم المتواضع نسبيًا من الفتيات الـ...جميلات !!! هل يقابل نائل كل هذه الفتيات حقًا ؟! و كل يوم !!!! حسنًا و ماذا في الأمر ؟! إنه مقر عمل في النهاية !! ألا تشتغل هي أيضًا في مكان يعج بالجنس الآخر !!! لكن هل هذه المقارنة عادلة ؟!! كيف يمكنها أن تقارن عملها في المشفى بالعمل هنا..حينما يكون المسؤول رجلًا !!! مهلًا..هل وصفت نائل بأنه مجرد...رجل !!! حينما يكون المسؤول رجلًا طويلًا..جذابًا..وسيمًا للغاية ! و...لطيفًا و مراعيًا !!! رجل مميز قد قد تقع في حبه جميع النساء بدون استثناء........ حسنًا..لقد بدأت تبالغ قليلًا !! عقدت حاجبيها عابسة بشدة..قبل أن تغمض عينيها للحظة..و هزت رأسها بلا فائدة تحاول طرد تلكٓ الأفكار المعتوهة.. التي تدرك حقيقة صدقها رغم كونها معتوهة !! ثم ما كادت تفتح عينيها..حتى كانت تقعان تلكٓ العينان على رجُل أفكارها المعتوهة !!! كان نائل يقترب من السلالم الطويلة تلك..ينزل الدرجات بثباتٍ و بتلكٓ الجاذبية الفطرية التي يمتلكها..لكنه لم يكن بمفرده الآن..فقد كان يبدو منشغلًا في التحدث إلى شاب بجانبه بجدية.. لم يكن شكله يبدو مختلفًا عن العادة..لكنه بطريقة ما..بدا أكثر أناقة !!! ظلت تراقبه بعينيها الساهمتين بتركيز شديد..تتلقف كل حركاته..كيف كان يستعمل يديه أيضًا في الشرح..كيف كان ينظر للرجل بجانبه بجدية أقرب إلى الصرامة..كيف كانت شفاهه تتحرك بسرعة كمن يتحدث عن أهم موضوع في العالم.. كيف رفع يده يلمِس شعره الأملس الناعم يرتبه إلى الوراء رغم أنه كان مرتبًا أساسًا..و كيف سقطت نفس اليد يشير بها إلى مكان معين حيث التفت هو أيضًا يحدق بمكان إشارته بدون أن يتوقف عن التحدث.. و كيف تسمرت تلكٓ اليد و تسمرت ملامحه أيضًا و عيناه ما إن وقعتا عليها بالصدفة !!!! ابتلعت يوليا ريقها ببطءٍ..و شعرت بأن جميع الأصوات من حولها قد تلاشت..بل ما تلاشى..كان العالم بأكمله..و كأن يدًا خفية قد حملت قلبها المتسارع بنبضاتٍ مجنونة و وضعته في مكان آخر..بعيد..بعيد للغاية... عالم منفرد يضم شخصين اثنين فقط..هي..هو..و عينيه ! و في مقابلها تمامًا..كاد نائل أن يتعثر في الدرجة التالية التي كان ينوي نزولها لولا أن تمالكٓ نفسه في آخر لحظة..فتوقف مكانه يقابل تلكٓ...المعجزتين من مكانه البعيد و قد فقدت خفقات قلبه صوابها إلى أجل غير محدّد !! هل يمكن لشعور الاشتياق أن يجتاح قلب الإنسان إلى هذا الحد المجنون ؟! و لإنسانة لا تعني له أيّ شيء أمام العالم..لكن لذلكٰ القلب الخافق بجنون...باتت تعني الكثير !!! اليوم أيضًا كانت تبدو...كأميرة ! اليوم أيضًا كانت ترتدي كأميرة ! تقف كأميرة ! تتأمله كأميرة !! و قد جذبت انتباه الكثير هنا...كأميرة !!! طرف برموشه فجأة و هو ينتفض حينما مرت في ذهنه هذه الفكرة..فنظر حوله ليتفاجأ بالوجوه التي استدارت تحدق بها باستغراب لبعضها..و بـ...إعجاب للبعض الآخر ! حتى أن الشاب الذي كان يقف بجانبه..و الذي لاحظ تصنمه فجأة محدقًا في مكان ما..قد تجمد مثله ما إن التفت ليتفقد مكان نظره..نظر له نائل بجمود لوهلة..و انطبق فمه بحدة و هو ينقل عينيه بين تلكٓ النظرات و بينها.. قبل أن يتنحنح فجأة جاذبًا انتباه ذلكٰ الواقف بجانبه.. لكن ربما كان هذا الأخير رجلّا غبيًا لدرجة حالت بينه و بين فهم خلفية تلكٓ الحركة منه..فقال يشير إلى يوليا و يخاطبه هو بـ...انبهار تام ! _من تلكٓ السيدة الجميلة هناك ؟! هل تعرفها ؟!! حينها نظر له نائل بعينين متسعتين استنكارًا و...غضبًا يعرفه الجميع هنا! فتراجع الآخر قليلًا ناظرًا له بحذر.. بينما زم نائل فمه أكثر يحاول أن يتمالكٓ..شعورًا بشعًا جدًا احتل قلبه..و قال يعتصر أسنانه بفكّ محتد ؛ _إنها من طرفي !! لم تبدو كجملة بديهية..بل بدت كتحذير خاص و صريح ! تحذير فهمه الآخر جيدًا..فقال يطرق برأسه قليلًا ؛ _أستسمح منك...سيد نائل ! إلّا أن ملامح نائل لم تلِن..و قال يشير مرة أخرى بذقنه هذه المرة إلى مكان معين ؛ _عد إلى عملك ! و قد عاد فعلًا..نزل الدرجات بسرعة بعد أن أومأ له للمرة الثانية مقتربًا من مكتب الاستقبال ذاك..و أثناء اقترابه لم تهتز عيناه للحظة حتى نحو يوليا التي لاحظت ابتعاده..كما استطاعت أن تكتشف مهنته هنا حينما اتخذ مكانه خلف المكتب.. عادت تنظر بعدها إلى نائل..ذلكٓ الذي اقترب منها بخطواتٍ سريعة و على وجهه نظرة غاضبة لم تفهمها.. كان ينقل عينيه حول المكان بتوتر أثناء اقترابه بسرعة.. كشخصٍ لا يطيق صبرًا لنسف تلكٓ الخطوات و...ماذا ؟!! تفاجئت بيده تمتد إلى معصمها تقبض عليه بقوة لتسحبها إلى مكان محدّد هنا قبل حتى أن تنجح بإلقاء التحية.. و تلكٓ المرة فقد خفق قلبها بقوة و هي تستشعر يده على بشرتها مباشرة بحيث كانت ترتدي قميصًا أبيضًا بأكمام تلامس مرفقيها فقط..و فوقه سترة أنيقة بدون أكمام و في نفس اللون..و بنطال أسود حريري أنيق بنفس القدر... لم تستطع أن تعقب بكلمة واحدة..تركته يقودها بكل حرية..بينما تجمد كل شيء فيها هي و عيناها تتأملان تلكٓ اللمسة كما كانت تتأملها جميع حواسها و كل خلية تنبض بداخلها.. إلى أن وصل إلى مكتب جانبي ففتح الباب بسرعة و دخل محفزًا إياها على الدخول هي الأخرى..حينها فقط.. كانت ترتخي أنامله محرّرة معصمها بعد أن توقف أمامها تمامًا..يفوقها طولًا و يفوقها ثباتًا و يفوقها...شوقًا ربما! كانت عيناها لا تزالان متسمرتان على نفس المكان حيث فارقت أنامله بشرتها للتو..و فغرت فمها قليلًا على نفس لاهث متدهور و كأن تلكٰ الأنامل كانت تمدها بالحياة و ها هي تحتضر الآن..على فراش......الحُب ؟!!! رباه إن حالتها تسوء تمامًا !!!! ابتلعت ريقها ببطءٍ و عقلها يستعيد كلمات أسيل لها تزامنًا مع رفعها لرأسها في رحلة طويلة مرت بها عيناها على مفترق طرق تمثل في أنامله التي انغلقت حول نفسها بقوة.. كشخصٍ يحتضر مثلها..أو يقاوم الاحتضار شوقًا !! " ربما تحِبينه ! " ربما ماذا ؟!!! رمشت ببطءٍ حينما قابلت عينيه أخيرًا..و للمرة الثانية تشعر بأن العالم قد توقف تمامًا من حولها.. العالم قد فقد جميع الألوان إلّا من لون واحد...كان لون عينيه !!! العالم قد تخلى عن جميع الأشخاص و الأصوات و الأسماء و ما تبقى فقط شخص واحد..صوت واحد هو ذلكٓ الصوت الذي ارتفع يخاطبها أخيرًا..اسم واحد و هو اسمها الذي نطقه بحروف بطيئة.. يتمهل في نطقه و كأنه يكرّر حروف قصيدة مقدسة ! _يوليا !!!!! فقط... ؟ أربعة أحرف..أربعة أحرف فقيرة..غنية بتلكٓ النظرة في عينيه كانت لتجعلها تتهاوى مستسلمة للموت لولا البعض من صمودها..و صوته الذي عاد يرتفع ليقتحم حدود قلبها كـ..إعصار جميل داهم جميع دفاعاتها ليرديها في النهاية ضحية لنفس تلكٓ الكلمة التي ذكرت في سؤال أسيل.. و تهربت هي بصمود كاذب من أن تجيب عليها !.. _لماذا دخلتِ إلى المكان فجأة ؟! لقد كنت أنتظر أن تتصلي بي !!!! استطاعت يوليا بصعوبة شديدة أن تتمالكٓ نفسها..فهزت رأسها تستعيد تركيزها..قبل أن تردف مجيبة بخفوتٍ ؛ _لقد أردت أن أرى مقر عملك ! لاحظت بأن ملامحه كانت لا تزال تحمل بعض أطياف الغضب السابق..أو ربما الإنزعاج ! و رغم أنها بداخلها.. كانت تدرك بأن ذلكٓ الانزعاج لم يكن بسببها..إلّا أنها همست رغم ذلكٰ تسأله بتردّد ؛ _لماذا غضبت إلى هذه الدرجة ؟! ألم تكن تريدني أن أدخل ؟!!! نظر لها نائل شبه مجفلًا الآن..ثم لم يلبث أن قال ينفي بجدية ؛ _بالطبع لا..كل ما في الأمر أن المكان يعج بالناس و الضجيج..و لطالما ظننت بأنكِ لا تحبين مثل هذه الأماكن لذا......... صمت فجأة ينظر في عينيها بهدوء..بينما شعرت يوليا ببعض الراحة و هي ترى تلكٓ التعابير السابقة قد تداعت.. لكن ما شعرت به أيضًا كان شيئًا يشبه...السعادة حين سماع تعقيبه على شخصيتها.. قبل أن تبتسم ببطءٍ هامسة برضا ؛ _أنا لا أحِبها فعلًا ! أومأ لها نائل ببطء و عيناه تنزلقان على ابتسامتها كما العادة..حركة دفعتها لأن تبتسِم أكثر..قبل أن يفتح نائل فمه سائلًا بجدية ؛ _عمومًا..لقد أردت أن أسألكِ...هل تشعرين بنفسكِ أفضل الآن ؟!!! نظرت له يوليا بغباء في البداية..لكنها سرعان ما هزت رأسها بهدوء مستوعبة مغزى سؤاله الحقيقي..و قالت تجيبه مطمئنة ؛ _أنا بأفضل حال ! صمت قصير ساد بعد ردها هذا..صمت شاركها به نائل و بدا و كأن كل منهما عاجز عن قطعه..بنفسِ الطريقة التي عجزا بها عن إشاحة أنظارهما بعيدًا.. لولا أن قال نائل يتنحنح قليلًا ؛ _لقد...أحضرتِ لي شيئًا ؟! أومأت له يوليا محتفظة بنفسِ الابتسامة..لكنها لم تفتئ أن أطرقت قليلًا تفتح حقيبتها..فترقب نائل ذلكٓ و هو يراها تخرج قنينة زجاجية أنيقة للغاية..قنينة استطاع أن يميز محتواها قبل أن ترفعها نحوه حتى.. قبل أن تفرد يدها نحوه هامسة بـ...خجل ؟!! _لقد كنت أفكر في أن أهديه لكٓ منذ وقتٍ طويل..كنت لأفعل لولا بعض التردّد الذي منعني....... أخذه نائل منها تلقائيًا..قبل أن يسقط أنظاره قليلًا يتأمله في يده..و راقبت يوليا ردة فعله بتمعن..كانت و كأنها تنتظر ظهور تلكٓ الابتسامة التي أتت لأجلها بصبر..لولا أن نائل فاجئها تمامًا.. بأن منحها بدل تلكٓ الابتسامة التي تمنت...ضحكة !!! كانت ضحكة صامتة..هادئة للغاية احتلت ملامحه التي نادرًا ما تعرف الابتسام..ضحكة غريبة..لكنها حقيقية إلى أقصى حد..ضحكة ارتفع لها حاجباها و اتسعت عيناها قليلًا و اختلج قلبها بها بشدة !! ضحكة..أخذتها إلى درجة أنها مالت قليلًا بوجهها تتأمله بإخلاص..و قد شعرت بأن ذلكٓ المشهد أبديّ سيبقى رغم أنه مشهد لم يتعدى بضعة ثوان..قالت لا تزال عاجزة كليًا عن احتواء شعورها ذاك ؛ _ما الخطب ؟!!! نظر لها نائل حينها بملامح بالكاد استعادت طبيعتها سائلًا بأسف ؛ _هل رائحتي سيئة لهذه الدرجة ؟!! حينها..كان دورها لتتبسم بهدوء..ثم قالت ترفع حاجبًا واحدًا الآن بجذل ؛ _إنها الجملة النمطية التي ينطقها كل شخصٍ يتلقى عطرًا كهدية !!! رغم أن ما كانت تود أن تسأله فعلًا هو... " هل أنت حقيقي فعلًا ؟! هل كنت حقيقيًا قبل قليل ؟! أم أن عقلي الأحمق قد بدأ يمتهن معضلة تخيل أشياء جميلة بدون سبب !!! " قال نائل بنفسِ تعابيره التي بدت غريبة اليوم..فقد كان هناك نوع من..البساطة يحتل تلكٓ الملامح..نوع غير مألوف من الهدوء و الاسترخاء و اللين..و كأنه..و كأنه قد سعد للغاية بهديتها !! _لا تأخذيني على محمل الجد..كل ما في الأمر أنني... استغربت قليلًا !!!! هل يمكن أن لا تأخذه أو تأخذ أيّ كلمة يقولها على محمل الجد ؟!! هل هناكٓ احتمال موجود كهذا حقًا ؟!!! قالت تخاطبه بنفسِ الجدية في صوته لكن برهبة لا تزال ظاهرة في عينيها و صوتها ؛ _ستتوقف عن الاستغراب حينما تشم رائحته ! نظر لها نائل سائلًا ببعض الشرود و قد تداعت ابتسامته كليًا الآن ؛ _حقًا ؟!! فأومأت له تحاول أن تقاوم شعور الإحباط الذي اعتراها إزاء اختفاء ابتسامته..ثم لم تلبث أن أضافت شارحة ببساطة ؛ _لقد صنع بأنامل شخص عزيز على قلبي جدًا ! و كواحدة من المراتِ النادرة..فقد اعترى بعض الفضول ملامح نائل..حتى أن حاجبه الأيمن قد ارتفع ينتظرها أن تشرح..و هي فعلت...قالت شارحة ببساطة فعلًا ؛ _ابنة عمتي ضحى..لقد تعرفت عليها في الأمس ! أومأ نائل بهدوء..لكنه لم يلبث أن سألها ببديهية دفعت ابتسامة جديدة إلى شفتيها ؛ _هل تصنع العطر ؟!! فقالت تجيبه فورًا ؛ _امرأة أعمال ! ثم أضافت فورًا مشيرة إليه ؛ _و أنت تعتبر كذلك...نوعًا ما ! نظر لها نائل بعدم فهم الآن..فهمست تشير بيديها بصوتٍ عذب ؛ _المكان جميل للغاية ! لقد انبهرت به ! نظر لها نائل حينها بتمعن للحظة..قبل أن يتراجع قليلًا إلى أن اصبح يجلس على طرف المكتب وراءه..المكتب الخاص به..و قال يحرك يديه مثلها لكن بغاية أخرى ؛ _أقدر سماع هذا منكِ..لكنه لا يعتبر لي عمليًا...لقد اشتريته بالتقسيط قبل تسعة أشهر..في الحقيقة لا تزال أمامي سنوات طويلة قبل أن أستطيع تهجئة جملة كهذه ! كانت يوليا تنظر له بجدية..لكن ملامحها لانت بعض الشيء و هي تسمع منه هذه الكلمات..قبل أن تقترب الخطوة التي ابتعدها قبل قليل.. ثم قال تنظر في عينيه بجدية ؛ _هل أقول الصدق ؟! أومأ لها نائل ببطءٍ..فقالت تستأنف بوضوح ؛ _ما قلته الآن لا يعني أيّ شيء..سواء كنت قد اشتريته بالتقسيط أو دفعة واحدة فأنت من صنعت هذا المكان.. بل و صمّمته أيضَا..و أنت المحرك الرئيسي و الذي بسببه انضم كل أولئكٓ الاشخاص إلى هذا المكان بالذات ! لم يبدو نائل و كأنه قد تأثر بكلماتها..قال يجيبها بنفس الجدية و هو يضع العطر برفق شديد فوق سطح المكتب بجانبه ؛ _السبب الوحيد الذي يجعلني أعمل هنا هو حاجتي لتأمين لقمة العيش ! كان ينظر بعيدّا الآن..يراقب حركة يده التي شرعت تحرك القنينة بدون هدف و كأنه يرتب شيئًا وهميًا أو يبحث عن ركن مناسب ليتركها فيه..و قد شعرت يوليا و كأنه تعمد هذا..أن يشيح بعينيه عنها و كأنه يحاول أن يخفي شعوره الحقيقي خلف ما يقول.. و قد كانت تلكٓ الجملة تنم عن...وحدة ! و كأنه قد تطرق بطريقة غير مباشرة..لمعضلته الحقيقية التي لا تفارق ذهنه أو قلبه بالكاد...معضلة فقدانه لابنته...و زوجته ! شعرت بقلبها يضيق بهذه الفكرة..لقد كانت قد بدأت تتناسى بشكل تلقائي هذه الحقيقة..أو ربما تعمدت أن تتناسى !!! ربما لأن مجرد التفكير بذلكٓ الموضوع يؤذيها هي شخصيًا..و ربما...لأنها بدأت تنغمس في طريق هوجاء.. حيث أسوء كوابيسها لم تعد حقيقة مرضها و ضغوط والدها و ماضيها..بل...رؤية حزنه !! هي لم تعد تريد أن تراه حزينًا..لم تعد...تحتمل ذلك ! لهذا...فقد تسمرت عيناها تحدق بكابوسها الثاني..كانت ارتعاشة يده التي لم ترها منذ مدة..و التي استطاعت أن تلاحظها رغم محاولاته الحثيثة لإخفاءها عبر التلاعب بهديتها.. و تذكرت أمنيتها التي راودتها منذ وقتٍ ليس بالطويل كثيرًا..بأن تلمس تلكٓ اليد..بأن...تحتوي تلكٓ الارتجافة.. تذكرت حتى حركتها يومها و التي كرّرتها اليوم مطبقة أناملها بتشنج و كأنها تحاول أن تقمع تلكٓ الرغبة.. و ربما تقمع رغبة أخرى أيضًا بأن...تلمس وجهه محفزة إياه على النظر لها فقط! و قد استطاعت..بأعجوبة ما...أن تقمع رغبتها الثانية.. لكنها لم تستطع أن تفعل نفس الشيء مع الأولى..فلم تشعر بيدها التي امتدت فعلًا تلمِس يده..للمرة الأولى تلمسها فعلًا باستثناء تلكٓ المرات التي صافحته فيها.. أمسكت بيده برفق شديد إلى أن حملتها محفزة إياه على التخلي عن محاولاته تلك..و قد تخلى عنها..لكنه تجمد تمامًا يستشعر تلكٓ المبادرة منها بما يفوق الدهشة..و قد اكتسحته ارتعاشة أخرى..تلكٓ المرة أصابت قلبه مباشرة.. قبل أن يلتفت ببطءٍ لكنه لم ينظر لوجهها..فقد أسقط عيناه يحدق بيدها الأخرى التي امتدت أيضًا تتمسكُ بيده.. كانت يده ترتعش بشكل ملحوظ الآن..تلكٓ الارتعاشة التي تحولت منذ وقت طويل من ارتعاشة ألم طبيعي إلى ارتعاشة مرضية تصاحِبه كلما مرت به تلكٓ الذكرى.. الذكرى الأصعب و الأشد ألمّا على قلبه.. لم تكن تتمسكُ بأنامله الآن..ققد كانت تحتوي راحته بأناملها الدافئة..تعانق إبهامه أيضًا بدون أن تلمس أصابعه الأخرى..و قد احتوت اليد الأخرى ظاهر كفه أيضًا مربتة فوق بشرته بهدوء شديد.. حينما همست تأمره بصوتٍ خافت شعر به رقيقًا للغاية.. بدون أن ترفع رأسها نحوه أو تتوقف عن تمسيد يده بحركات تنم عن...خبرة طبية ! _اجلس ! رفع نائل حاجبه الأيمن ناظرًا لها بعدم فهم ؛ _ماذا ؟!!! فرفعت يوليا رأسها مكرّرة الآن بنبرة...آمرة بحق ! _أخبرتكٓ أن تجلس....... ثم أشارت للمقعد بجانبه مضيفة ؛ _الكرسي إلى جانبك ! كان نائل ينظر لها بذهول حقيقي..حتى أنه فغر فمه قليلًا و ظل نفس الحاجب مرتفع و كأنه ينتظر تتمة أخرى لما قالته..لولا أنها لم تمنحه أيّ تتمة..بل مجرد نظرة استنكار جديدة فقدت على إثرها ملامحها ابتسامتها السابقة.. ثم ماذا فعل في النهاية ؟! جلس !!! جلس بكل هدوء..و رفع رأسه يراقبها بينما يده لا تزال محتجزة ليديها..قبل أن تحرّر يدًا واحدة إلى أن أمسكت بالكرسي المقابل و قربته قليلًا من خاصته لتتخذه جالسة في مقابله.. لم تكن تنظر له الآن..قالت و هي مستمرة في حركاتها ؛ _الآن أغلق يدكٓ و خذ نفسًا عميقًا إلى الداخل.. كان نائل لا يزال يراقبها فاغر الشفاه..لكن ليس بذهول فقد ضاعت ملامحه تمامًا و هو يتأمل تلكٓ الملامح التي يراها تعتنق مثل هذا النوع من التعابير الجادة إلى هذا الحد لأول مرة.. بدءًا من عينيها المنشغلتين بعيدًا عنه...به ! إلى حاجبيها المنعقدين بنفس تلكٓ الجدية البالغة و الشفاه المطبقة في خط مستقيم ينم عن تركيز..ثم يأتي شعرها..و قد لاحظ للتو بأنها لم تكن تسدله بالكامل..بل كانت تجمع خصلتين من الجانبين لتجعلهما تلتقيان في الخلف بمشبكٍ لم يتمكن من رؤيته.. و هناكٓ خصلتان ناعمتان منسدلتان من على جانبي وجهها لتلامسان في نهايتهما فكّا محدّدا بالغ الأنوثة ! وجد نفسه ينفذ ما أمرت به تلقائيًا..و أغلق يده ببعض التردّد على يدها و هو يسحب نفسًا عميقًا يملأ به رئتيه شاعرًا بأنه كان في حاجة إليه فعلًا.. _الآن ازفره إلى الخارج..و افتح يدك ! سقطت أنظار نائل على ذلكٓ الالتحام المقدس بين أيديهما متنهدًا بعمق..و بطريقة ما..فقد شعر بعجز قوي يتملكه يمنعه من فتح يده بالفعل و ترك يدها حتى و إن كانت هي لا تزال تتمسكُ به.. لكنه لم يجد بدّا من التنفيذ مجبرًا..قبل أن يسمع صوتها تأمره للمرة التي لا يذكر كم..همست بهدوء تام و بصوت خافت تخلله شيء من...الرفق ! _الآن كرّر نفس العملية إلى أن أطلب منكٓ أن تتوقف ! همست هذه الكلمات و هي تراقب ما تفعله بتمعن..كما كانت تترقب جميع حواسها أنفاسه متأكدة بأنه نفذ ما أمرت به..كانت حريصة على أن لا ترفع أنظارها إليه لأنها تعلم بأنه سيتوقف إن فعلت.. و كان هو حريصًا على عدم التوقف عن تأمل تشابكِ أناملهما أو وجهها لأنه يعلم بأنه قد يتوقف لو فعل !!! قسرًا عن إرادته..فقد كانت حواسه تشهد و تقر بمدى تأثيرها عليه في تلكٓ اللحظة..و في كل اللحظات بعد الآن..لقد بدأ تواجد هذه الفتاة بجانبه..يصبح مثل الإدمان إلى قلبه و عينيه.. لقد كانت يوليا بطريقة ما...تمده بالقوة ! كانت يده تنغلق و تنفتح في حركات رتيبة متتالية حول يدها..و قد فقد قدرته للعد كي يعلم كم مرة أخذ نفسًا عميقًا محملًا بتلكٰ الملامح..و تلكٰ الأنامل..ثم عاد يحرّره بتمهل شاعرًا بالعالم كله من حوله يكتسب ألوانًا جديدة.. و قد كان ليستمر إلى الأبد..لولا أن سمع صوتها الخافت تأمره مجددًا بلطفٍ تلكٰ المرة ؛ _يمكنكٓ أن تتوقف الآن ! رفعت عينيها بعدها مباشرة تنظر في عينيه..لكن عينيه هو اتسعتا قليلًا و هو يقابل تلكٓ الابتسامة التي لم يعرف حتى متى عادت ترتسم في وجهها بذلكٓ التألق..ثم فجأة..شعر بخواء عميق يكتسح قلبه بحركتها التالية.. حينما حرّرت يده ببطءٍ متراجعة قليلًا..و قالت مبقية على ابتسامتها الجميلة العذبة..قالت بصوتٍ أشد عذوبة من ابتسامتها ؛ _لقد اختفت ! عقد نائل حاجبيه قليلًا ناظرًا لها بعدم فهم..فرفعت يوليا يدها اليمنى تشير بها إليه شارحة ببساطة ؛ _ارتعاشة يدك ! لم يدرِ لما لمح نائل في نبرتها كما عينيها شيئًا من.. الفخر..قبل أن يرفع حاجبيه و يطرق برأسه قليلًا ناظرًا بدهشة إلى يده..مستوعبًا...بذكاء محدود تمامًا..بأن ارتعاشة يده المعهودة قد اختفت فعلًا.. و هو لا يعلم حتى متى اختفت !! هل قامت بسحر ما تلكٓ الفتاة ؟!! بدا و كأن عقله قد توقف عن العمل للحظاتٍ و هو يرفع يده و يحرك أنامله و كأنه يحاول أن يستشعر تلكٓ الارتجافة مجددًا عبثًا..و في النهاية..وجد نفسه يعود لينظر لها سائلًا بجدية حقيقية ؛ _ما الذي فعلته بالضبط ؟!!! قالت يوليا تجيبه ببساطة بالغة..بدون أن تتخلى عن ابتسامتها ؛ _لا شيء في الحقيقة! إنه تمرين بسيط للغاية ! قال نائل معقبًا بجدية أكبر ؛ _لكنها اختفت كليًا..عادة يستمر الوضع لدقائق طويلة بدون جدوى ! تأملته يوليا للحظة بتمعن..قبل أن تفتح فمها هامسة بنبرة شابها شيءٌ من مرح ؛ _يمكنكٓ أن تمنحني هدية شكر !! تراجع نائل حينها في مقعده سائلًا ببطءٍ..و بدون مرح ؛ _ما هي ؟!!! بدا و كأنه يسايرها فقط أو ربما يسأل بدافع السؤال فقط..بينما غايته الحقيقية كانت أن يتحدث إليها أكثر فقط..أن يسمع صوتها..و يتأمل ابتسامتها أكثر ! و هي لم تبخل..فقد أجابت بنفسِ تلكٰ النبرة التي شابها دفء غريب ؛ _أن نذهب للتنزه !! توقعت كل شيءٍ منه..توقعت جميع الردود..إلّا أن يسألها نائل بنفس تلكٓ النبرة البالغة الجدية..و قد بديا بطريقة جلوسهما تلك..و الهدوء الذي يكتنف المكان..و كأنهما في منتصف اجتماع هام و جاد للغاية.. _هل سنقوم بهذا التمرين مجددًا ؟!!! قالت يوليا بصوتٍ خافت ناعم ؛ _يمكنكٓ أن تقوم به بمفردك أيضًا! لقد أخبرتكٓ بأنه تمرين في غاية البساطة ! إلّا أن نائل قال يكرّر بجدية بالغة ؛ _سألتكِ...هل سـ-نقوم- به مجددًا !!!! حينها..تداعت ابتسامتها قليلًا..لكن ليس إلّا لتفسح المجال للمعة جميلة بأن تستوطن عينيها..ثم قالت تهز كتفيها ببساطة الآن ؛ _كلما رأيتُ يدكٓ ترتعش..أو شعرتٓ أنت بأنكٓ في حاجة لهذا !! طيف ابتسامة مألوف..ميزت أثره في عينيه فقط..لكن ملامحه لم تفقد جديتها أبدًا..حينما قال يخاطب عينيها مباشرة بنفسِ الصوت الهادئ ؛ _شكرًا لكِ ! و فقط..شعرت يوليا بأن العالم كله قد ابتسم في وجهها و هي تتلقى ذلكٓ التعبير منه..و تسمع صوته بتلكٓ النبرة التي تشابهت جدًا مع نظرة عينيه..قبل أن تهمس بصوتٍ خرج شبه متحشرج بمشاعر لا تفهم ماهيتها ؛ _لقد أخبرتكٓ بالطريقة التي عليكٓ أن تشكرني بها ! أومأ لها نائل بتأني..لكنه همس رغم ذلكٓ ببطءٍ ؛ _قد تمرضين !! كانت يوليا تجلس باسترخاء بالغ الآن..تستند بيديها إلى قوائم الكرسي المرتفعة قليلًا..و قد قالت ترفع حاجبًا واحدًا بنبرة خرجت رائقة نوعًا ما ؛ _هل أنا دمية قماشية ؟!!! تقطيبة جديدة ظهرت بين حاجبي نائل و هو يقول ببعض التشوش ؛ _ماذا تقصدين ؟!!! فتحركت يوليا تقترب منه بجذعها قليلًا هامسة كشخص يشي بسر بالغ الأهمية لشخصٍ آخر ؛ _لقد أصبحت أشعر بأنكٓ تعاملني هكذا بالفعل ! لم تتوقع تلكٓ الحركة من نائل..حينما اقترب هو الآخر قليلًا مستندًا بمرفقيه إلى ركبتيه..و قال يسألها بجدية ؛ _هل لا زلتِ تلتزمين بجزئكِ من الاتفاق ؟!! استطاعت أن تتكهن تلقائيًا ماهية هذا الاتفاق الذي يقصده..لكنها قالت رغم ذلكٓ تسأله بنفس نبرته..و في نفس اللحظة ؛ _هل تلتزم به أنت ؟!!! قال نائل ببطءٍ و عيناه تتلكآن على كل تعابيرها الشفافة و التي بدت له بطريقة ما... بعيدة كل البعد عن الجدية التي تتحدث بها ! _أنا من سألت أولًا !! لكنها خالفت توقعه للمرة الألف حينما تراجعت قليلًا فقط بعيدًا عن عينيه..و قالت تهز كتفيها و تشبكُ أناملها أمامها ببساطة ؛ _و أنا سألت ثانيًا ! ثم أضافت بجدية لا يزال يظن بأنها غير حقيقية حتى الآن ؛ _و لن أجيب بكلمة قبل أن أسمع الرد منكٓ أنت أولًا ! ظل نائل متسمرًا بنفسِ الوضع للحظة أخرى..ثم لم يلبث أن تراجع قليلًا هو الآخر منهيًا بهذا ذلكٓ التواصل العجيب بينهما..و أجاب متنهدًا باستسلام ؛ _أنا لم أدخن منذ ثلاثة أيام..و هذه تعتبر فترة جيدة للغاية بالنسبة لشخصٍ مثلي كان يعالج مزاجه بالتدخين ! ربما يبدأ بمعالجته بعد الآن بعينيها..و بصوتها و ابتسامتها..ربما تصبح إدمانه الجديد الجميل و المفيد لصحة قلبه..ربما...يستبدل إدمانه القديم نهائيًا بها ! ربما...لو كان في عالم آخر..لو كان في وضع آخر..كان ليهمس كل تلكٓ الكلمات إليها بكل صدق..ثم يطلب منها.. بكل صدق و أمانة أيضًا..أن تؤمن له وسيلة فعالة تخوله رؤيتها في أيّ وقتٍ يشعر بأنه في حاجة لذلك.. المعضلة الأقوى هو شعوره الداخلي بانعدام أن يعيش لحظة مستقبلية بعد لا يشعر فيها بأنه في حاجة إليها! _و أنتِ ؟!!! همس أخيرًا بعد أن استطاع تمالكٓ نفسه بعض الشيء.. فقالت يوليا تبتسم ببطءٍ ؛ _أنا أتناول وجبة الغذاء بانتظام و في وقتها الصحيح -تقريبًا- منذ بضعة أيام ! كانت نبرتها يتخللها نوع من الرضا عن الذات..أو ربما عنه هو بالذات..بينما قال نائل يكرر وراءها جذلًا ؛ _تقريبًا ؟!!! فقالت يوليا تجيبه بتلكٓ البديهية التي يعرفها ؛ _بحكم طبيعة مهنتي ! في حال كنت لا تزال تتذكرها ! كيف ينساها ؟! كيف ينسى أو يتغاظى عن أيّ شيءٍ يخصها بعد الآن و إن أراد !!!! اكتفى الآن أمامها بإيماءة بطيئة هادئة..و كأنه والد حنون يثني على ابنته المطيعة..فتنهدت يوليا و هي تقف أخيرًا محفزة ؛ _هل نذهب الآن إذًا ؟!!! رفع نائل عينيه إليها بصمتٍ الآن..بينما وقعت عيناها هي على العطر المحفوظ في نفس المكان منذ دقائق..و قالت تعيد تلكٓ العينين الثاقبتين في تحديقهما إلى عينيه ؛ _ألن تشم رائحته إذًا ؟!!! رمق نائل العطر بنظرة خاطفة قبل أن ينظر لها مجددًا مجيبًا ؛ _سأفعل...حينما أكون بمفردي ! الآن ظهر بعض العبوس الذي لم يستطع أن يفهمه في ملامح يوليا..و قالت ببديهية ؛ _لماذا ؟!!! كانت لا تزال تقف حتى الآن بجانب الكرسي الذي تركته منذ قليل..و تلكٰ المرة فقد كان دور نائل ليهز كتفيه مجيبًا ببساطة بالكاد ناسبت صوته ؛ _لا أحِب أن يرى الناس تعابير الانبهار على وجهي ! شعر نائل ببعض الدهشة و هو يرى تلكٓ النظرة تزداد عبوسًا..بينما قالت يوليا تشير إلى نفسها باستنكار بالغ و حقيقي ؛ _الناس ؟! هل تعتبرني حقًا مجرد إنسانة من...سائر الناس ؟!!! ظهر عدم الفهم على ملامح نائل..و صمت للحظة واحدة قبل أن يهمس رافعًا أحد حاجبيه ؛ _ألستِ واحدة منهم فعلًا ؟!!! لم يستطع أن يفسر تحديدًا التعبير الذي ظهر في عينيها بعد هذا الرد منه..نظرة تشبه إلى حد كبير..خيبة أمل !! بينما شحبت ملامحها قليلًا..و تسمرت للحظة واحدة قبل أن تفتح فمها لتهمس بنبرة...باردة ! _معكٓ حق..أنا كذلكٓ فعلًا !!! لم تمهله بعدها لحظة إضافية..التفتت تهم بالاتجاه نحو الباب فعلًا..بينما وقف نائل سائلًا بوجه ممتقع ؛ _إلى أين ؟!! كانت هناكٰ نظرة غبية قد ارتسمت في ملامحه الحادة بالفطرة..و قد تضاعف شعوره الداخلي فعلًا بالغباء حينما التفتت يوليا..و نظرت له مردفة بنبرة لمح فيها كل شيء إلّا الرضا! _لقد تذكرت للتو بأنني يجب أن ألتقي بصديقة...إلى اللقاء ! و فقط ! عادت تلتفت لتفتح الباب فعلًا مغادرة ببساطة بالغة ! حينها وجد نفسه هو من يتسمر تمامًا محدقًا في أثرها للحظة واحدة بغباء متضاعف..لكن حتى ذلكٓ الغباء سرعان ما تداعى..و ارتفع حاجباه قليلًا بنظرة إدراك متأخرة.. زفرة محملة بغيظ شديد حرّرها و هو يقترب من الباب هامّا باللحاق بها بسرعة... كان يسير بسرعة فعلًا..حتى أنه لم يهتم في خضم بحثه عنها إلى الصوت الذي ارتفع يناديه من جانب معين و قد كان لنفسِ الرجل الذي يشغر وظيفته خلف طاولة الاستقبال.. فقد كان شبه مأخوذًا بتلكٓ النظرة التي اعتلت ملامحها قبل قليل إزاء جملته..و بصوتها البارد و استياءها الغريب فقط لكونه قد...كان أغبى من أن يستطيع أن يمنحها الرد الطبيعي الذي يشعر بصدقه حقيقيًا في قلبه.. أنها لا...هي ليست مجرد إنسانة تشبه سائر الناس بالنسبة إليه..في الحقيقة هي لا تشبه أيّ أحد قابله في حياته من قبل أو سيقابله مستقبلًا !! لقد كانت امرأة..متفردة بنفسها..مميزة بأسلوبها و بشغفها و ميولاتها..امرأة قد يصنفها على أنها الأشد غرابة من كل امرأة قابلها في حياته..و الأهم أنها كانت تملكُ قلبًا جميلًا للغاية...و أجمل ابتسامة في الكون !!!! توقف أخيرًا أمام الباب الزجاجي الكبير..يبحث عنها بعينيه فقط آملًا أن لا تكون قد غادرت فعلًا..و قد تحقق أمله بالفعل..فلمحها تقف بجانب سيارتها..و قد فتحت الباب هامّة باتخاذ مقعدها.. لولا أنه منعها بصوته الذي ارتفع مناديًا تزامنًا مع يده التي امتدت يغلق الباب فجأة بمجرد وصوله إليها..نفس الحركة التي قام بها في أول لقاء لهما !! _يوليا !!!! رمقت يوليا يده التي استقرت فوق زجاج نافذة سيارتها بنظرة جانبية تحمل نفس التعابير السابقة..قبل أن تنقل عينيها العابستين إليه.. فقال يسحب نفسًا عميقًا إلى داخله ؛ _ما فهمته في الداخل.. ليس نفس الشيء الذي قصدته ! شعر بأنه يهذي بكلمات لا معنى لها و هو يرى الطريقة التي ارتفع بها حاجباها قبل أن تعقدهما بتشوش..فتنهد بخفوتٍ و هو يسحب نفسًا جديدًا ينعش به رئتيه..أو ربما كانت غايته الحقيقية منه أن يتدارك قليلًا تلكٓ النظرة المتعطشة في عينيه لـ... لتأملها أكثر..و لـ...رؤية ابتسامتها للمرة الألف !!! لكن و لعجزه الشديد..و لإدراكه التام لذلكٓ العجز..فقد اكتفى بأن رفع يده ببطءٍ مخلفًا أثرًا واضحًا لها على زجاج سيارتها..ذلكٓ الأثر الذي لمحته يوليا..قبل أن تنظر في عينيه مجددًا.. حينما قال بصوتٍ أجش..بدون أن يفارق عينيها إلّا مضطرًا حينما يرمش بعينيه ؛ _في الحقيقة أنتِ لا تشبهين أيّ شخص قابلته من قبل.. لقد شعرت بهذا منذ أول لقاء لنا..منذ الوهلة الأولى التي نظرت في عينيكِ و استطعت تمييز ذلكٓ الحزن العميق بهما يومها..منذ أن تحدثت إليكِ..في أول حوار لنا..منذ تلكٓ اللحظة التي وقعتِ فيها فاقدة للوعي بين ذراعاي.. أمام بيتي أنا..باستثناء أنكِ امرأة مميزة إلى درجة أن يستطيع أيّ شخص إدراك هذا من النظرة الأولى لكِ هل تعلمين بماذا شعرت أيضًا ؟!... صمت فجأة بينما ترقبت عينا يوليا و التي كانت تسمعه بترقب أساسًا..بتمعن و تركيز و بـ..لهفة لسماع المزيد ! و قد منحها المزيد الذي أرادت..منحها تتمة لكلماته بكلمات...أعمق و أجمل مما توقعت أو أرادت !!! _أنكِ امرأة لن يتكرّر وجودها في حياتي..و لن أنساها ما حييت !! صمت بعدها ينظر في أعماق عينيها بصدق..بينما تجمدت يوليا..و بهتت عيناها قليلًا لكن لسبب آخر الآن ! فقد كانت تشعر بقلبها يختلج بشدة..و بطريقة ما.. بطريقة غريبة فقد شعرت أيضًا بغصة قوية تخنق حنجرتها.. غصة لا يمكنها أن تصفها بأنها سيئة أو مؤلمة أبدًا.. بالأحرى فقد كانت غصة تأثر ظهر في عينيها و انتقل إلى صوتها الذي ارتفع بسؤال وجيه..و قد لانت ملامحها عن السابق متشحة بنظرة...دافئة الآن ! _ماذا أنا أيضًا ؟!!! نطقت هذا السؤال بهدف نطقه ليس إلّا..لولا أن نائل أخذه على محمل الجد ربما..فقال يجيبها بنبرة صادقة لأقصى حد..جادة لأقصى حد !! _أنتِ...تمتلكين أجمل ابتسامة رأيتها في حياتي ! و ليشهد اللّٓه عليّ أنني لم أنطق هذه الجملة لامرأة من قبل رغم أنني كنت متزوجًا !!!!! هل يمكن للإنسان أن يفقد وعيه و هو يقف على قدميه ؟! لأنها تشعر الآن بأنها قد فقدت وعيها فعلًا !!! و الأدهى من هذا أن هذا الرجل الذي يقف أمامها يتأملها بأمانة بعد أن استهدف قلبها الضعيف للتو بكلماتٍ نزيهة تمدح في ابتسامتها...لا يدرك هذا حتى ! و حتى لو كان يدركه..ماذا بيده ليفعله غير أن يراقب عينيها و قلبها بينما ينهار بصمتٍ ! بل إنه في بالحقيقة كان يفاقم من وضعها بنظراته تلك !!! يسألونها عن سبب تواجدها مع رجل كهذا..بينما لو منح أيّ واحد منهم فرصة التعرف عليه ليوم واحد...لوقعوا في حُبه جميعًا رُبما مثلها و أكثر !!!! إنها تتساءل فقط عن الطريقة التي كان يستطيع بها أن يتفرد بكل تلكٓ الصفات المتناقظة في نفس الآن..الغضب و اللطف..البرود والدفء..خشونة ملامحه المعتادة ضد نظرته الحنونة الآن.. صوته الغاضب الذي قد ينجح ببث الرعب بقلوب رجال أقوياء ضد صوته الـ...مسالم قبل قليل ! حتى لمسة يده كان يمكنها أن تتخذ ألف طريقة و طريقة متناقضة..إذا كانت هي امرأة مميزة إلى ذلكٓ الحد الذي وصفه فماذا عنه هو ؟! ماذا عنه هو إذن ؟!!!! لم تشعر بتلكٓ الابتسامة التي تسربت من عينيها قبل أن تنتشر بكل إنشٍ في وجهها قسرًا عن إرادتها..و فقط..كان دوره هو لأن ينهار..لكن الفرق الوحيد أنها استطاعت أن تميز ذلكٓ الانهيار في عينيه.. لقد...فقد وعيه مثلها ! و كم تمنت لو تستطيع أن ترفع يدها بكل هدوء الآن فقط لتلمِس بها موضع قلبه المجنون بخفقاته مربتة برفق شديد !!! لكنها اكتفت في تلكٓ اللحظة بالشيء الوحيد المسموح لها..تأمل تلكٓ النظرة في عينيه..و ترقب طيف الابتسامة الذي احتل تلكٰ العينين ببطءٍ..هدية جديدة يمنحها لها اليوم !! عربون شكر مثالي على هديتها !! ثم كان يدس يديه في جيبيه هامسًا بنبرة شابها شيء من...الراحة !! _هل نذهب إذن...... نظرت له يوليا حينها بغباء..فقال يستأنف بخفوت..لا يشعر بذرة حاجة ليسألها عن موعدها مع صديقتها لأنه يعلم بأنها كانت تكذب !!! _للتنزه ؟!!!! إيماءة بطيئة ضائعة تمامًا منحتها له يوليا..و قد كان ليشكّ من كونها قد سمعت سؤاله..لولا أن طرفت برموشها ببطءٍ..و أزاحت عينيها عنه على مضض ليس إلّا لتتجاوزه مقتربة من سيارته القريبة.. راقبها نائل للحظة..قبل أن يقترب منها هو الآخر تزامنًا مع وصولها لسيارته..و امتدت يده تلقائيًا يفتح الباب الخاص بالمقعد الملاصق لمقعده و الذي أصبح مدونًا باسمها الآن..فهي كانت حرفيًا..أول شخص يصعد إلى جانبه في ذلكٓ المقعد منذ أن استبدل سيارته القديمة الغالية أضعافًا بهذه السيارة قبل سنة.. و قد كانت غايته وقتها أن يؤمن بقية المبلغ الذي يحتاجه لاستئجار هذا المكان حيث يقفان الآن أمامه.. قبل أن يجد نفسه و قد تخلى عن كل شيء يمتلكه باستثناء البيت القديم حيث كان يعيش هو و عائلته الصغيرة.. ذلكٓ المكان الذي كان ملتزمًا بدفع إيجاره كل شهر و لا يزال حتى يومنا هذا..حريص بقلبه و روحه على حماية ذكرياته الجميلة بداخل جدرانه !! رمقته يوليا بنظرة أخرى..كانت نظرة أطول قليلًا الآن و أعمق من السابقة..قبل أن ترفع يديها لتكرّر نفس الحركة المستفزة نوعًا ما..حينما تستند بإحداهما إلى طرف الباب المفتوح و بالأخرى إلى طرف المقعد نفسه لتساعد نفسها في الصعود.. أغلق الباب بعدها بهدوء و هو يراها تسحب حزام الأمان تغلقه حولها بكل بديهية..قبل أن يستقل مقعده بخفة بالغة..لكنه لم ينطلق فورًا..نظر لها سائلًا باهتمام أصبحت تستطيع تمييزه في صوته الذي قد يبدو للعالم أجمع باردًا فقط بنبرة محدّدة واحدة لا تتغير !! _أين تريدين الذهاب اليوم ؟!! هل إلى الساحل أو لتناول الطعام ؟!!! فقالت تبتسِم ببساطة بالغة ؛ _دعنا نتناول الطعام في الساحل ! ألا يمكننا !!! شعرت بأنها تملكِ العالم فقط لكونه قد منحها تلكٓ الإيماءة الجديدة..ثم نظر أمامه مجددًا يهم بالإنطلاق كشخصٍ مجهز بمهمة تحقيق أمنياتها..لكنه عاد ليتراجع للحظة..ثم نظر لها مردفًا الآن ببطءٍ ؛ _لن ألمِس العطر أو أشم رائحته إلّا حينما تكونين بجانبي !! هل يقصد...بأنه سيلمسه اليوم..أو غدًا ؟! لأنها في جميع الحالات لم تعد تملكُ إمكانية أن لا تكون بجانبه لمدة يوم واحد حتى !!! لكنها فقط..أومأت له ببطءٍ موافقة..و لم تستطع..بل لم تحاول حتى أن تبعد أنظارها عنه حتى بعد أن التفت شارعًا في القيادة إلى وجهة حدّدتها هي..رغم أن الوجهة كانت آخر ما يهمها و هي بجانبه !! ____________________________ اليوم أيضًا..تفاجأ بأنها ستخرج في نفس الوقت معه..و اليوم أيضًا..وجد نفسه عاجزًا عن عدم التفكير بها بين كل دقيقة و أخرى تحتل عقله فيها يوليا..قبل أن تقاطع خلوة عقله تلكٓ صورة جديدة لها هي.. و تزداد أفكارة وطأة كلما التقى بها أو رآها من البعيد..و قد التقى بها لعدة مراتٍ فعلًا..كان من إحداها ذلكٓ الاجتماع الضروري الذي حضر فيه خاله بصفته رئيس و مالك المشفى و جميع الأطباء المتاحين في تلكٓ الساعة.. لم تكن يوليا موجودة اليوم..لكنها هي كانت هنا..و لسوء حظه أو لا يعلم ربما لحسنه..فقد اتخذت المقعد المقابل له برفقة بمجموعة من الزملاء..كانت عيناها منشغلتان طوال الوقت بالنظر صوب خاله الذي لم يتوقف عن التحدث بتركيز.. بين لحظة و أخرى تسقط أنظارها لترمق بعض الملفات أمامها بنظرات عملية..و في لحظات أخرى..كان يشعر بها و كأنها ترمقه هو بنظرة خاطفة بالكاد يستطيع التقاطها قبل أن تلتفت مجددًا -متظاهرة- بأنها لا تراه !!! لكن هل تظاهرها نجح ؟! قطعًا لا !!! أساسًا لطالما كانت ممثلة فاشلة و بشهادة الجميع من حولهما !!! كما أصبح هو غالبًا !! أو يخشى من أن يصبح !!! أحيانًا تراوده أفكار غريبة فعلًا..كأن يقف أمامها و يلقي بالسؤال الوجيه مباشرة..هل حقًا تحِبينني ؟!! هل...تلكٓ الإشاعة المنتشرة في جميع الأرجاء صحيحة !!! أم أنها مجرد أوهام صنعها الفضول و صارت تؤطرها كما يؤطر رجل حزين صورًا لأجمل ذكرياته خوفًا من تلفها !!! و الأهم..إن كان ما يظنه الجميع صحيحًا..لماذا ؟!! لماذا تقع فتاة مثلكِ في حُب رجل مثلي ؟!! إنه لا يستنكر أن تقع أيّ امرأة في حبه..فقد كان يعرف قدر نفسه جيدًا و يدرك قيمتها..لكن المفارقة الحقيقية هنا كانت هي ! كونها ليست امرأة تقع في حُب رجل لا تعرفه من شكله الخارجي فقط ! ليست امرأة تصاب بالإنبهار فقط لكون رجل ما قد نظر في عينيها باهتمام في لحظة عابرة..أو خاطبها ببعض اللطف أحيانًا !! و هي لا يمكن أن تكون قد وقعت في حُب مكانته الاجتماعية و خلفية عائلته المرموقة طبعًا ! فماذا إذن ؟! إلّا إذا كانت كل تلكٓ الأفكار نفسها هي مجرد وهم من عقله الذي يشعر به بدأ يفقد زمام الأمور في آخر آونة !! الحقيقة أنها واحدة من المرات القليلة التي يدخل فيها اجتماعًا و لا يعرف موضوعه..المرة الأولى الذي يجلس في منتصف اجتماع مهم كهذا و لا يستمع إلى ما يقال بجانبه.. لقد كان في العادة شديد التركيز..لا يمكن أن تخرج كلمة واحدة من بين شفاه خاله إلّا و يكون قد سمعها و استوعبها كليًا !!! لكنه يشعر بنفسه الآن و قد بدأ يفقد تركيزه إلى أفكار هوجاء..إلى ملامح...جميلة !! لفتاة لا يعرف إن كان عليه أن يصنفها شقراء..كيف و عيناها و حاجباها كانتا على النقيض من شعرها ! كيف و هو يعلم بأن لون شعرها الحقيقي كان يماثل لون عينيها و حاجبيها !!! لولا أن قرّرت لسبب لا يعرفه أن تغير لونه الحقيقي مستبدلة إياه بلونه الحالي و الذي يشبه خاصة يوليا نسبيًا ! ليتها تستعيد لونه الحقيقي فقط !!! إلى أن انتفض فجأة ملتفتًا إلى خاله الذي كان قد وقف بعد أن أعلن انتهاء الاجتماع..ذلكٓ الاجتماع الذي لم يكن هو جزءًا منه بأيّ طريقة..رمقه خاله أثناء ابتعاده بنظرة حازمة آمرًا ؛ _مرّ على مكتبي قبل أن تغادر..أريد التكلم معكٓ قليلًا.. فأومأ له كالمغيب تمامًا..و ما كاد أن يبتعد خاله مغادرًا الغرفة الكبيرة حيث لحق به معظم الأطباء هنا..حتى كان يعود ليلتفت صوبها..و هناك..وجدها لا تزال تقف بعد أن وضبت كل الملفات و رفعتها بين ذراعها الأيمن تهم بالخروج أيضًا.. لكنها تسمرت قليلًا حينما التقت عيناها بخاصته..و هكذا فعل هو الآخر..وقف بهدوء بدون أن يزيح بأنظاره عنها و لو لثانية واحدة..فقد توقف كلاهما على بعد تلكٓ المسافة الشبه ملحوظة..و قد كان الشيء الوحيد الذي يفصل بينهما الآن هو الطاولة الذهبية الكبيرة الطويلة.. كانت ميرنا اليوم ترفع شعرها بالكامل بمجموعة مشابك أنيقة مثبثة في أماكن معينة من شعرها بأناقة شديدة.. بينما الباقي منه مرفوع في عقدة أنيقة بنفس القدر..و قد بدت..بشهادة عينيه فقط...جميلة !!! هو لم يكن يعرف بأنها جميلة من قبل إلى هذا الحد ! أو بالأحرى...إنها المرة الأولى التي يراها جميلة حقًا !! المرة الأولى التي تتمعن فيها عيناه النظر لكل تفاصيل ذلكٓ الوجه شاعرًا بأمس الحاجة لفعل ذلك..المرة الأولى التي يحدث صوتها الذي ارتفع بعد لحظاتٍ تأثيرًا في قلبه..و إن كان صغيرًا رغم أنه لم يعد يؤمن بمصداقية تلكٓ الكلمة فيما يخص وضعه الجديد هذا بعد !!! _عن إذنك !! و فقط..التفتت بعدها تقترب من الباب فعلًا بخطواتٍ هادئة..و ظل هو واقفًا في نفس المكان يراقب أثرها إلى أن اختفت..حينها فقط كان يهز رأسه بغاية واحدة..أن يستميل بعض التركيز الإضافي إلى عقله.. قبل أن يقرر مغادرة الغرفة هو الآخر عائدًا إلى عمله.. و ها هو ذا يجد نفسه..بعد انتهاء دوام عمله اليوم..و ذهابه إلى خاله ليستمع إلى حديثه الذي لم يتطرق فيه اليوم إلى موضوعهما الأساسي..يوليا..إلّا بسؤال صغير مختصر.. " كيف هي علاقتكما الآن ؟ ألا زلتما تلتقيان ؟!! " و قد منحه هو جوابًا مختصرًا أكثر..جوابًا خرج بنبرة شبه جافة.. " أحيانًا ! " قبل أن ينظر له مجددًا سائلًا عن سبب استدعائه و كأنه يطلب من خاله بطريقة منمقة أن يعفيه من التحدث بهذا الموضوع أكثر..و قد فعل خاله..بعدها علم منه بأن غايته الحقيقية من هذا الاستدعاء كان أن يطلعه على تلكٓ الرحلة الطبية التي ستبدأ في غضون شهرين من الآن.. متساءلًا إن كان يود الانضمام أيضًا بعد أن أخذ موافقة يوليا مسبقًا... كانت رحلة طبية من الرحلات التي يقرر مشفاهم التطوع إليها بدون انتظار مقابل مادي..فيذهبون إلى أحد القرى النامية نوعًا ما و المتضررة للإهتمام بأهلها..و هو بطريقة ما..لطالما أحب هذه الرحلات بدون سبب مقنع سوى ذلكٓ الأثر المريح الذي كانت تخلفه في قلبه و يمتد بعدها إلى أيام و أشهر !! لغباءه الشديد..كاد لسانه أن يتهور ملقيًا أغبى سؤال في حياته.. " هل ستنضم الدكتورة ميرنا أيضًا ؟!! " لولا أن نجح بمشقة بتدارك نفسه..فزم فمه شاتمًا نفسه داخليًا بغيظ..قبل أن يهز رأسه ببطءٍ ليفتح فمه مجيبًا بما توقعه خاله ؛ " سأذهب ! " و قد كانت تلكٓ المرة الأولى حرفيًا..التي لا يتدخل فيها قرار يوليا في قراره ! كانت المرة الأولى التي يعلن فيها موافقته بدون أن يستحضر صورتها..و يستحضر صورًا مستقبلية له بينما يهتم بها و يراقبها كولي أمرها غير المباشر !!! فكرة لم يعرف أيصنفها جيدة أم سيئة..لكنه تنهد في جميع الأحوال مجليًا ذهنه و هو يتلقى رد خاله الذي كان عبارة عن إيماءة تشجيع..قبل أن يشير له إلى الباب سامحًا له بالرحيل.. و لم يعلم خاله..لن يعلم أبدًا أي حالة غريبة وجد نفسه يغرق فيها و هو يتجه إلى الباب سريعًا مدركًا بأنها قد غادرت و كل غايته ربما...أن يلقي عليها نظرة أخيرة ! أو ربما فقط يتظاهر بأنه رآها بالصدفة و يعرض عليها أن يقلها !!! و قد وجدها فعلًا..كانت تقف في الرصِيف تنتظر سيارة أجرة ربما كما العادة بما أنه لم تكن تملكُ سيارة..لكن أول شيءٍ لاحظه و جعله يتوقف مكانه فوق نفس الرصيف.. يراقبها من مكانه البعيد نسبيًا..بأنها لم تكن تطلب سيارة أجرة..بل كانت...تتحدث في الهاتف بتركيز !! عقد حاجبيه ببطءٍ و هو يدس يديه في جيبي بنطاله يراقبها بتفانٍ غريب..و رغم كل محاولاته لإزاحة عينيه أو التظاهر بأنه يتفقد المكان حوله بدون سبب..إلّا أن فشلًا ذريعًا كان يقابله في نهاية كل محاولة فيجد نفسه و قد استسلم منشغلًا بها مجددًا.. إلى أن لمح أخيرًا سيارة أجرة تتوقف أمامها..و أنزلت هي الهاتف راسمة ابتسامة لم يستطع أن يفهمها..انتظرها بعدها أن تقترب من السيارة لتصعد و قد كانت غايته التأكد بأن كل شيء طبيعي... أم أنها كانت تبتسم للسائق تلكٰ الحمقاء !!! استطاع أن يستوعب خطأ كل أفكاره حينما لمح الباب الأمامي و هو ينفتح بسرعة ثم...ثم خرج شاب طويل نحيف لم يستطع أن يلمح وجهه بالكامل..لكنه استطاع بالطبع أن يلمح ابتسامته الكبيرة.. و تلكٓ اللهفة التي اقترب منها بها إلى أن...إلى أن ضمها بقوة !!! لقد ضمها فعلًا !! ضمها بقوة و فعلت هي إلى درجة أن ارتفعت أقدامها عن الأرض و تحولت ابتسامتها إلى ضحكة شعر بأنه قد سمع صداها من مكانه رغم أنه لم يفعل !! هو فقط...وجد نفسه يتراجع خطوة مترنحة شبه مرئية بملامح شحبت تمامًا..و قد مات كل غروره..ماتت كل أفكاره السابقة و ذلكٓ الحماس الغريب الذي كان يحتله و كأنه لم يكن !! هل يعقل أن تكون مرتبطة ؟!! هل كان يهذي طوال الوقت بمعتقدات مجنونة عن إنسانة لا يعرف عنها حتى الآن إلّا اسمها و عنوان منزلها و القليل من المعلومات الباهتة عن خلفية عائلتها !! هل يعقل ؟!!! فغر فمه ببطءٍ على نفس ثقيل و هو يراقبها بينما تبتعد أخيرًا..تنظر إلى وجه ذلكٓ الشاب الغامض..تحاوط ذلكٓ الوجه..تبتسم له بمٓحبة شديدة..حتى أنها قد اقتربت منه قليلًا تستند بجبينها إلى خاصته و تحركت شفاهها هامسة له بكلماتٍ لم يسمعها.. قبل أن تبتعد مجددًا مستقبلة قبلة بمنتهى الرحابة طبعها ذلكٓ الملتصق بها فوق جبينها..ثم امتدت يده تتمسكُ بيدها بكل بديهية إلى أن فتح لها باب السيارة محفزًا إياها على الصعود في المقعد الخلفي.. و هي صعدت..بكل رحابة ! قبل أن يصعد هو الآخر بجانبها..و تنطلق السيارة بعيدًا تاركة رجلًا أنيقًا..يراقب أثرها بملامح ضائعة تمامًا..مندهشة و مذهولة كلوحة مرسومة بأنامل رجل مات بالإحباط مسبقًا.. و قد تركٓ وصية أخيرة يسرد فيها قصته..عبارة عن تلكٓ اللوحة الباهتة غير المفهومة لأيّ أحد..حتى لنفسِه !! _________________________________ منذ متى و هي تنتظر ظهور تلكٓ العلامة بدون جدوى.. تلكٓ العلامة التي تثبت لها بأنه قد قرأ رسالتها و سيأتي سريعًا..لكنه لم يفعل للأسف...و لم تعد تظن بأنه سيفعل ! ساعات أمضتها في غرفتها بمنزل عائلتها..بين الجلوس أحيانًا على طرف السرير أو التجول بدون هدف أو حتى الوقوف خلف حاجز الشرفة متأملة اللا شيء..لم يفارق الهاتف يدها في أيّ منها.. ثم في النهاية حينما بدأت تشعر بالسؤم من الانتظار.. تنهدت بخفوتٍ و هي تعود إلى الغرفة تاركة باب الشرفة مفتوحًا خلفها..و ما فعلته كان أن وضعت الهاتف فوق منضدة قريبة قبل أن تقترب من الحمام تهم بالاغتسال رغم أن غايتها الحقيقية كانت تخفيف البعض من توترها.. لكنها كانت متأكدة بأنها لن تنام هذه الليلة إلّا في غرفتها هنا..في جميع الحالات سواء أتى أو لم يأتي... كفى...إنها تشعر بالتعب..لقد تداعت كل طاقتها السابقة و لم تعد تشعر بقابلية صمودها أكثر أمام عينيه بدون أن... تبوح بكل شيء..بدون أن ترسم الخط الفاصل لكل شيء.. و ستفعل...غالبًا هذه الليلة !!! دقائق توقفتها تحت المغسلة تطبق رموشها بقوة محاولة استمداد كل ذرة تركيز و ثبات موجودة في العالم..لكن عبثًا فقد كانت تشعر بنفسِها تتآكل من التوتر..إلى أن خرجت في النهاية ترتدي رداء الحمام الأزرق الذي كان يلامس بطوله ركبتيها..و يكاد أن يبتلع جسدها المرهق.. كان أول شيءٍ اقتربت منه هو المنضدة المحفوظة بجانب خزانتها الكبيرة..لترفع هاتفها متفقدة نفس الرسالة البائسة..لكنها تفاجئت الآن و هي ترى العلامة التي تدل على أنه قد قرأها فعلًا...قرأها أخيرًا !! لكنه لم يمنحها أيّ رد عكس ما توقعت..و لم يبدو بأنه سيمنحها أساسًا بما أنه قد غادر خانة الدردشة قبل أكثر من ثلاث دقائق بالفعل !!! طرفت برموشها ببطءٍ و هي ترفع يدها الحرة إلى شعرها المبلل تتخلله باضطراب..قبل أن تلتفت قليلًا تهم بالإقتراب من السرير الوثير فقط لتلقي بثقلها عليه لبضع لحظاتٍ ثم تتصل به مجددًا.. أو لعلها تجد حلّا بديًلا بأن تذهب إلى مقر عمله بنفسِها للبحث عنه في حال لم يكن في المنزل و هي تكاد أن تكون واثقة بأنه ليس في المنزل...فليس من شيٓم وائل أن يتجاهل رسالة لها بهذا الشكل تحت أيّ ظرف.. قد يكون زوجها يمتلكُ عيوبًا كثيرة إلى درجة تجعل من الصعوبة عدها..لكن هذه ليست إحداها بالطبع ! لكنها ما كادت أن تفعل..ما كادت أن تلتفت بالكامل أو توحرك خطوة إضافية واحدة حتى..حتى كانت تتسمر تمامًا حينما وقعت عيناها على منظر غريب...منظر بث الرعب في أعماقها ! فقد كانت الرسائل...نفسها التي مزقتها من المنتصف و ألقت بها في سلة المهملات قبل دقائق طويلة... ملقاة الآن فوق السرير..جميعها تقريبًا! شعرت بالعالم كل يدور بها..حتى أن الهاتف وقع من بين أناملها التي ارتخت تمامًا ليصطدم بالأرض بصوتٍ مسموع..و ارتعشت أطرافها شاعرة بعقلها يفقد تحكمه في كل شيء..حتى في حركة جسدها الذي ظل متجمدًا بلا حركة للحظات.. كانت ترتعش...كل ما فيها ارتعش مدركة بأن وائل وجدها..لقد وجد وائل الرسائل بطريقة لم تفهمها و لا تشعر حتى بأدنى اهتمام لفهمها..كل ما تفكر فيه الآن هو أن وائل وجدها...لقد وجد الرسائل فعلًا بنفسه !!! رباه كيف عساها أن تمتلكٓ الجرأة للنظر في وجهه الآن و إن كان هنا..و هي تشعر بأنه هنا...إنه هنا فعلًا !!! دمعة وحيدة..يتيمة للغاية انزلقت ببطءٍ من عينها و هي تبتلع ريقها بصعوبة..تزم فمها مطبقة أناملها أيضًا بقوة.. لكن حتى محاولاتها تلكٓ لم تنجح بتخفيف حدة توترها.. و لا بأن تغير الواقع مرجعة الوقت إلى الوراء بضع ساعاتٍ فقط ! ليتها ما استمعت ليوليا..ليتها تركت تلكٓ الرسائل بسيارته..أما كان سيكون الوضع أهون كثيرًا ؟! أيّ فخ غريب هذا الذي أوقعها فيه القدر ؟! و الذي يستمر في إيقاعها به ! و كأنها قد ارتكبت ذنبًا عظيمًا إلى درجة أن كل سنوات حياتها لن تكفي لتعويضه !!! ربما كانت تعلم ماهية ذنبها..ذنوبها..خذلانها الأول لمجد بقرار الرحيل مع والدها حتى و إن لم يكن في نيتها أن تفعل..خذلانها لوائل حينما توسلها أن توجد حلّا لمعضلة زواجه منها..و ذاك الأمر لم يكن بيدها أيضًا... و الأهم يوليا..ذنبها العظيم في حق يوليا !!! ثم تأتي هذه اللحظة..و خيانتها العظيمة لوائل..لزوجها..حتى و إن كان لفظ خيانة أشد قسوة من استعماله..لكن ماذا يمكنها أن تطلق على تصرفها بالأمس ؟!!! ما الذي فعلته في حياتها أساسًا غير أنها خذلت أقرب المقربين إليها و خذلت نفسها !!! بعد تلكٓ الأفكار القاسية التي رفضت أن تتلاشى من عقلها..خاصة سؤالها الأخير..وجدت نفسها تلتفت ببطءٍ شديد..إلى أن نظرت له مباشرة.. و قد كان فعلًا متواجدًا هنا كما توقعت ! كان وائل يجلس في أحد المقاعد الوثيرة الخاصة بالبهو الجانبي الأنيق بغرفتها..لكن لا طريقة جلوسه..لا ملامحه أو شكله الآن...كانت تشبه المكان الذي يجلس به ! لقد كان يبدو ببساطة..بجلسته المتذبذبة المستسلمة بينما يميل بجذعه إلى الأمام مسندًا مرفقيه إلى ركبتيه..مشبكًا أنامله ببعضها بلا هدف..بثيابه المجعدة عكس العادة..بدءًا من سترته الرمادية إلى قميصه الرسمي المجعد تحتها..بشعره المبعثر تمامًا بلا ترتيب.. بنظرته إلى عينيها..نظرته الـ..فارغة كليًا !! كرجل مات مسبقًا !!! مات قبل لحظاتٍ..قبل دقائق...و تلكٓ التي تجلس أمامها هي جثته المتحركة !!! حتى أن تعابيره لم تتغير برؤيتها..و نظرة عينيه ازدادت فراغًا و...قتامة بعد أن قابل عينيها !!! و لم يحاول التحرك أبدًا أو تغيير وضعيته..لولا أنها لم تكن تنتظر تلكٓ البادرة منه..فقد وجدت نفسها تقترب منه تلقائيًا بخطواتٍ حملت لهفة لا تحصى و لا توصف بكلمات.. إلى أن وصلت إليه و انخفضت تجلس القرفصاء أمام قدميه..رافعة عينيها و يديها إلى وجهه تحاوطه بشدة..و همست أمام عينيه بلهفة..بنبرة شخص يقف على شفا لحظة واحدة من موته فعلًا !!! _وائل...وائل أرجوكٓ اسمعني..امنحني فرصة للشرح.. وائل..وائل أنا..أنا كنت..كنت سأخبرك..أقسم باللّه..لهذا أساسًا أرسلت لكٓ تلكٓ الرسالة..أنا................ كانت تهذي بكلماتٍ غير مترابطة تمامًا..لكن حتى كلماتها.. حتى حزنها و تلكٓ اللهفة المتقظة بعينيها لم تنجح بأن تغير من تعابيره شيئًا اليوم.. هو لم يأبه حتى بذلكٓ الخوف الشديد في عينيها..و بطريقتها في احتضان وجهه بيديها..حينما قال يقاطع هذيانها فجأة بصوتٍ... فارغ كليًا كنظرة عينيه و ملامحه ! _بماذا ستخبرينني ؟!!!! تراجعت ضحى قليلًا بعينيها فقط..و شحبت ملامحها تمامًا حتى كادتا أن تماثلان الجدار المقابل له بياضًا..و عجزت تمامًا الرد بكلمة و كأنه قد كمّم فمها لا بسؤاله... بل بنظرته تلك !! هل سيحدث ما كانت تخشى منه دائمًا ؟ هل ستفقد وائل ؟!!! هل...ستفقده ؟!!!! كانت يداها الباردتان لا تزال على وجهه..حينما فتح وائل فمه مكرّرًا بنبرة ارتفعت قليلًا لكنها لم تفقد برودها أو ذلكٓ الخواء العميق بها ؛ _بماذا ستخبرينني ضحى ؟! بماذا كنتِ ستخبرينني ؟!! لقد قلت للتو بأنكِ كنتِ ستخبرينني...بماذا كنتِ ستخبرينني يا ترى ؟! هل بنفس الشيء الذي نظرت في عينيكِ و سألتكِ مرارًا أن تشاركيني إياه...... ؟!!! كانت ملامحها تزداد شحوبًا أكثر بعد كل سؤال جديد وحدها تدرك داخليًا بأنه ليس بسؤال حقيقي ! لقد كان وائل...يسخر منها !!! يسخر من محاولاتها البائسة للتو و من كل محاولاتها السابقة !! يسخر من ادعاءها الصادق تمامًا بأنها كانت ستخبره فعلًا..يسخر من قدرتها المبهرة على الكذب..و من كل المرات التي نظر في عينيها مستفسرًا بدون أن يجد لقلقه أجوبة مرضية !!! هذا ما قد يبدو عليه الأمر فعلًا..أنه يسخر منها...لكنه في الحقيقة كان يسخر من نفسه !! و دليل هذا النظرة التي ظهرت في عينيه بعدها..نظرة شديدة..اليأس..شديدة..الإحباط ..شديدة الاستسلام.. دليل هذا حركته التالية..حينما رفع يده ليلمس يديها المرتجفتين على وجهه.. احتواهما للحظة واحدة بين يديه اللتين شعرت بهما بطريقة ما..أشد برودة من يديها.. و لأول مرة خلال خمس سنوات..يكون هدفه من ذلكٓ الاحتواء أن...يبعدها ! فقد أزاحهما..أزاح يديها من على وجهه تاركًا إياهما تسقطان باستسلام تام بجانبها..ثم وقف ببطءٍ ليتجاوزها مخلفًا نفس الفراغ في عينيه في أعماق روحها..و ظلت هي جالسة في نفس المكان..فوق الأرض أمام مقعده الفارغ..تناظر اللا شيء أو ربما ما كانت تتأمله الآن.. صورًا من مستقبل قريب لن يكون وائل ضمنه !!! لقد كانت تعرف وائل جيدًا..وائل لا يشبه أيّ رجل آخر.. وائل لا يشبه أيّ شخص قابلته طوال حياتها..إنه لا يشبه خالها في صرامته و قسوته.. لا يشبه مجد في أسلوبه الساخر و لسانه اللاذغ.. لا يشبه يوليا في طريقة تعاملها الجادة مع الأمور..في حبها و تفانيها لتحمل مسؤولية كل شأن يخصّ حياتها.. و لا يشبهها هي في تخاذلها العاطفي..و في طريقة حبها الهستيرية لكل المقربين منها....... لقد كان وائل و كأنه مزيج من كل ذلك..مزيج من جميعهم مع بعض الصفات الأخرى المتطرفة التي خلق بها أو ربما اكتسبها بمرور الزمن..لقد كانت تعرف وائل جيدًا جدًا.. أكثر من نفسها ربما... و وائل الذي تعرفه...لن يسامحها !!! _______________________________ مساء الفل...كيف حالكم ؟! ❤ | |||||||
24-01-25, 01:26 PM | #35 | ||||
| نورتي حبيبتي اشتقنالك فصل أكثر من رائع وائل عرف بالموضوع بطريقة خاطئة الله يجيب العواقب سليمة يا عمري على نائل و يوليا ثنائي المفضل تعجبني حواراتهم مجد ههه ضحكت من أعماق قلبي عليه وقعتو ميرنا في شباكها شكرا على الفصل رواية جميلة جدا ❤️❤️ | ||||
24-01-25, 01:30 PM | #36 | |||||
| اقتباس:
| |||||
26-01-25, 06:27 PM | #37 | ||||||||
| اقتباس:
ضحى صار موقفها صعب فعلًا لكن رغم هذا فالخطأ لا يقع عليها بالكامل..ربما لو كان وائل قد منحها الشعور الكافي بالأمان ???????? نائل ويوليا في عالم ثاني ❤❤ هههه مجد أحس بشعور متخفي من التشفي في كلماتك عنه.. كما العادة لازم أقرأ رأيك كم مرة قبل الرد ❤❤ | ||||||||
30-01-25, 01:00 AM | #38 | |||||||
| الفصل العاشر ● الفصل العاشر بصعوبة شديدة..تمكنت من أن ترغم نفسها على الوقوف..و وقفت بالفعل..على أقدام هلامية ضعيفة..قبل أن تلتفت ببطءٍ و قد كان وائل الآن يقف موليًا إياها ظهره..يناظر الفراغ مطرقًا برأسه قليلًا..يسند يدًا مرهقة إلى جانبه بينما بالأخرى يلمس بها جبينه..أو شعره لم تستطع أن تميز ! ما استطاعت أن تميزه فقط..هو تلكٓ النظرة بعينيه ما إن التفت إليها..نظرة عينيه الآن و كأنها قد تخلت عن فراغها السابق و اتشحت ببعض...الألم ! مرفق بخيبة أمل قوية..ما استطاعت تمييزه هو صوته الذي ارتفع يهمس لها..يخاطبها بـ...هدوء خادع كليًا !! _هل تعلمين كيف مر هذا اليوم علي ؟!!! كيف مرت ليلة البارحة ؟!!! كانت تشعر بعينيها تحترقان من الداخل..حتى و هي تذرف الدموع ببطءٍ كانت تشعر بعجز قاتل..و كأن..و كأن حتى تلكٓ الدموع لا تكفي.. بينما استأنف وائل..يطعنها ببطءٍ..يؤكد لها صواب أفكارها قبل قليل.. حقيقة أن وائل الذي تعرفه...لن يسامحها ! _كيف استطعت النوم و أنا أضم بين يداي امرأة أعرفها منذ الأزل..لكنني بطريقة ما...أصبحت أشعر بأنني لا أعرفها ! كيف استطعت أن أضمها أساسًا و أقبل جبينها بينما كل خلية بي تئن بضرورة اقتلاعها من حضني هي و عينيها الكاذبتين في مقابل عيناي..هي و صوتها الذي ارتفع يحاول تبرئة تلكٰ العينين عبثًا !!!! سالت دموعها أكثر و هي تزم فمها بقوة..حركة كانت الغاية الوحيدة منها أن تقمع تلكٓ الحروف الأربعة التي أرادت الخروج مشكلة اسمه..فقط لتتوسله بالاسم الأقرب إلى قلبها في العالم أن... يمنحها فرصة واحدة للشرح !! و كيف فاقم وائل من وضعها ؟! بتلكٓ الدمعة التي انزلقت من عينيه تكاد أن تفوق دموعها ألمًا..و بصوته المتهدج أساسًا..و الذي تهدج أكثر و هو يفتح فمه المرتعش يستأنف بتلكٓ النبرة التي لم تعد تعرفها.. فوائل لم يخاطبها بهذا الضعف يومًا !!! لقد عاشت معه سنوات طويلة..بدءًا من طفولتها إلى مراهقتها إلى سنواتها الثمينة الماضية كزوجته..سنوات رأت فيها جميع حالاته الضعيفة و القوية..الغاضبة و الحزينة.. لكن لا واحدة منها كانت تشبه حالته هذه قبل اليوم !! _كيف استطعت أن أضمها بكل تلكٓ القوة بينما الفكرة الوحيدة التي تؤرق عقلي..هي إيجاد طريقة تخولني الوصول إلى تلكٓ الحقيقة التي تبخل بها علي...بنفسي !! كيف و قد تجرأ عقلي لأول مرة على التشكيكِ بها !!! كيف و قد تجرأ ذلكٓ الرجل البائس على ارتكاب شيءٍ لم يفعله يومًا حتى مع خصومه..التفتيش بين أغراضها!..و البحث بينها ليس و كأنه يعيش في تلكٓ الغرفة مع أقرب إنسانة إليه..مع زوجته..بل مع إنسانة غريبة..إنسانة متباعدة إلى درجة الكذب أمام عينيه..أن تقفل على حقيبتها في جهتها من الخزانة خوفًا من نفسِ المبادرة ثم تحملها منذ الصباح الباكر تجنبًا لنفس الفكرة !!!! كان صوته يزداد تهدجًا بمرور كل لحظة..و تراجعت ضحى قليلًا تهز رأسها بالنفي على شيءٍ مجهول..لكنه بطريقة ما..استطاع أن يخمن ذلكٓ الشيء المجهول..فقال يزم فمه بقوة..يحاول أن يمنع ذلكٓ النزيف الصامت المتدفق من عينيه المحتقنتين ألمًا.. _ألم تحمليها معكِ لهذا السبب تحديدًا ؟!!! و فقط..لم تكن هناكٓ فرصة متاحة لمحاولة الإنكار حتى !! لأن وائل..كان محقًا..لقد أخذتها لذلكٓ السبب فعلًا !!! حتى و قلبها يصرخ رافضًا لمجرد الفكرة..كانت نفس الفكرة لا تزال تفترس عقلها !! و في النهاية وجدت نفسها تخضع لها..تستسلم لها بكل صعوبة..و تحمل حقيبتها خوفًا من نفسِ الشيء الذي حدث اليوم ! خوفًا من أن يعلم وائل الحقيقة من مكان آخر غير عينيها !!! لم يكن يبدو و كأن وائل سيصمت اليوم..و قد كان محقًا تمامًا..فقد حان دوره اليوم للتحدث..حان دوره للقيام بالشيء الوحيد الذي لم تستطع هي فعله...التحدث !!! و قد همس فعلًا..همس يحرك يديه مشيرًا إلى أماكن مجهولة..همس يخاطب عينيها الـ...كاذبتين كما وصفهما بنبرة بالكاد خرجت تحمل بعض القوة المعهودة في صوته ! _الآن...ما الذي يدفع امرأة محترمة...لإخفاء رسائل رخيصة مثل هذه عن زوجها ؟!!! بل أيّ عذر قد تنطِقه في هذا العالم سيكون كافيًا لأن يبرّر فعلتها ؟!!!! الآن تحولت الدموع الصامتة إلى شهقاتٍ بلا صوت..ثم فتحت ضحى فمها لتهمس بصوتٍ خرج ضعيفًا للغاية.. يحمل نبرة التوسل التي تمنت أن تناديه بها !! _وائل..أرجوك...... !!! هي لا يهمها حقًا أن تتوسله..إذا كان المقابل أن يصدقها في النهاية !!! لولا أن وائل..-الذي تعرفه-..لم يسمح لها حتى بتلكٓ الهمسة..فقد همس يستأنف و كأنه لم يسمعها..قال بدون أن يزيح عينيه المستنزفتين عنها بنبرة ميتة ؛ _الجواب...لا عذر !!! ثم اشتد صوته قليلًا و هو يرفع يده في إشارة لها هي الآن..و قال ينطق كل كلمة على حدا من بين أسنانه ؛ _أنتِ...لا تملكين أيّ عذر للتبرير ضحى !!! لا تملكين أيّ عذر !!!! هز رأسه و كأنه يؤكد شيئًا مجهولًا قبل أن يهمس مجددًا و تلكٓ المرة..همس بنبرة غريبة..نبرة...تعرفها ربما !!! _أو ربما يكون هناكٓ عذر..ربما يكون هناك.......... إنها..إنها تلكٓ اللحظة التي ينهي بها كل شيء ! وائل سينهي كل شيء !!!! وجدت نفسها تهز رأسها أكثر و كأنها تتوسله فعلًا..لسبب مجهول تلكٓ المرة..أو ربما لنفس السبب الذي تدركُ ماهيته في قلبها !! و هو...كما توقعت..فلم تكن لتوقفه تلكٓ الإيماءات منها.. فما حدث كان أنه أومأ برأسه و كأنه يمنحها الإجابة على إيماءتها..ثم قال يستأنف ببطءٍ.. قال..يطعنها أكثر...ببطءٍ ! _ربما تكون تلكٓ الكلمات قد راقت لكِ !!! الآن أمالت رأسها إلى الجانب تنظر له بتوسل أكبر..و رأت..أمام عينيها..سيل الدموع الذي تجمع بعينيه..قبل أن تنزل تلكٓ الدموع..نزلت أنهارًا..و فقط... تحول وائل من نسخته التي تعرفها إلى...طفل يتذمر خيانة والدته لوعد غال منحته إياه !!! قبل أن يستأنف بصوتٍ خرج مختنقًا الآن..همس بما جعلها تدرك بالإضافة إلى إدراكها السابق..أن وائل -الذي تعرفه- لن يتغير ! عظم الجرح الذي زرعته في قلبه !! _أنتِ...ألم تتذمري تلكٓ الليلة طويلًا..من أسلوبي..من طريقتي في التعامل معكِ و من...كلماتي المندفعة الجارحة..ألم تفعلي...في هذا المكان تحديدًا !!!.. صمت لوهلة واحدة قصيرة..قبل أن يضيف بـ..بيأس ! _من يعلم!..ربما تكون تلكٓ الكلمات قد لمست ذلكٓ الجزء الضعيف المُتطلب بداخلكِ !!! ثم صمت لوهلة أخرى ينظر في عينيها المبللتين..هناكٓ حيث ظهر أثر واضح لـ..إرهاق جديد ! و قال يسألها في لحظة توقف سيل دموعه فيها مؤقتًا فقط..بنفسِ الصوت الميت ؛ _هل فعلٓت ؟!!!! همست ضحى تغمض عينيها بإرهاق شديد ؛ _حسنًا..حسنًا أنا أعرف حالتكٓ هذه..أنت ستهذي بكلماتٍ لا تقصدها ثم ستندم لاحقًا..أنا أعرفكٓ وائل..أنت لا تقصد هذا حرفيًا..أنت تعلم بأنكٓ لا تقصِد هذا..أنت لا تقصِـ....... _من هو ؟!!! قاطع وائل كلماتها غير المترابطة فجأة بهذا السؤال الوجيه..فتسمرت تمامًا تفتح عينيها اللتين توقف سيل الدموع منهما فجأة..لكن الألم كان لا يزال واضحًا..غائرًا كنهر عميق ارتحل جميع رواده فاحترقت مياهه وحدة.. كانت ملامحها المرهقة لا تزال شاحِبة..و قد عجزت للمرة التي لا تذكر كم عن الرد و عقلها يستعيد الوجه المقيت لصاحِب الرسائل ذاك..ماذا ستخبره أساسًا لو أجابت ! هل تقول بأنه..زميلها في العمل ! سيصبح الوضع أسوء آنذاك! هل تسرد له ذلكٓ الموقف المخزي الذي حدث في مكتبها و تجرؤه عليها بالكلام ! حينها حتمًا سينقلب الوضع إلى كارثة عظمى !!! هل...تخبره بأنه نفس الرجل الذي قابله في حفل ذكرى زفافهما ؟! الذي ألقى عليه التحية و وضع باقة ورد أمام عينيه في يدها !!! نفس باقة الورد التي صعدت معهما حتى غرفتهما لترتاح فوق الطاولة الزجاجية تراقبهما كجاسوسٍ خبيث مسير لإرادة صاحِبه !!! و حينها...حينها لا تستبعد أن يقتله وائل...أو يقتلها هي.. من يعلم !!! صمتها و كأنه قد استفز وائل تمامًا..فلم يشعر بنفسِه إلّا و هو يقترب الخطوتين اللتين تفصلان بينهما..و تلكٓ المرة همس أمام عينيها تمامًا..ما يفصل بينما بضع إنشاتٍ ليس إلّا.. _من هو ذلكٓ السافل الذي أرسل لكِ هذه الرسائل ضحى ؟! هل تعرفينه ؟!!! و كما هو متوقع منها..لم تستطع أن ترد بكلمة..لا تستطيع أساسًا..بل ما حدث أنها أطبقت فمها أكثر على أنفاسٍ مضطربة..و لم تستطع أيضًا أن تزيح عينيها عن تلكٓ العينين مهما حاولت.. و قد جعلتها تلكٓ الفكرة التي خطرت في ذهنها للتو.. ترتعش بشدة..ربما...ربما تكون تلكٓ المرة الأخيرة التي تحظى بها بفرصة النظر في عينيه عن قرب !! على الأقل لوقتٍ طويل !!! هل سيسامحها وائل حقًا ؟!! هل سيضمها مجددًا ؟! هل سينظر في عينيها بهذا القرب هل...سيقبلها ؟!!! حسنًا ماذا عن ذلكٓ المستقبل الذي حلمت به و رسمته طويلًا إلى جانبه ؟! هل ستغدو سرابًا...أحلامها !! ماذا عن نسختهما الجديدة الجميلة ؟! ماذا عن نسخته هو الجديدة ! هل ماتت إلى الأبد ؟!!!! _من هو ؟!!!! انتفضت فجأة و هذه المرة بشكل ملحوظ جدًا على صوته الذي ارتفع فجأة يكرّر سؤاله السابق بانفعال الآن..و قد بدا..من تلكٓ الطريقة التي كان ينظر بها لها الآن... بأنه لا ينوي التراجع أبدًا ما لم يسمع الرد المنشود !! قبل أن تطرف برموشها عجزًا..ثم فتحت فمها لتهمس بصوتها المبحوح بعجز فعلًا ؛ _لا أستطيع..لا أستطيع أن أخبركٓ وائل لا أستطيع....... خرج صوتها لاهثًا بشدة كشخصٍ يعجز عن مجرد التقاط أنفاسه..إلّا أن وائل لم يهتم حتى بذلكٓ العجز في عينيها أو صوتها..فقد بدت عيناه اليوم و كأنهما قد طمستا خلف سراب كذبتها.. فقد امتدت يداه فجأة يقبض على ذراعيها بقوة تكاد أن تكون عنيفة لا لشيءٍ إلّا ليقربها منه أكثر..و اقترب هو بوجهه من وجهها أكثر مكرّرًا بصوتٍ بطيء نافذ الصبر ؛ _من هو...ضحى ؟!!! همست ضحى أمام عينيه بأنفاسٍ ازدادت تدهورًا ؛ _لا أستطيع أن أفعل...وائل..أرجوك..أنت...أنت ستقتله !!! إلّا أنه فقط كرّر بقوة..غير مدرك غالبًا لضغط أنامله الذي كان يزداد عنفًا على ذراعيها..حتى أن حاجباها انعقدا ببعض الألم..و انفلتت شهقة ثقيلة بلا صوتٍ من بين شفتيها تزامنًا مع صوته ؛ _أخبريني..ضحى ! ألا يكفي ما فعلته بي حتى الآن ؟! ألا يكفي كذبكِ في وجهي..إخفائكِ لتلكٓ الرسائل الرخيصة بكل ذلكٓ التفاني..ألا تكفي خيانتكِ....... لم تشعر ضحى بنفسِها و هي تفتح فمها هامسة في هذه اللحظة بجزع شديد ؛ _أنا لم أخنك !!! و قد كان دوره الآن ليهمس في نفسِ اللحظة و بنبرة لا تقبل النقاش أو التفاوض ؛ _لقد خنتني ضحى..لقد خنتني..و إلّا ماذا يمكن أن أطلق على فعلتكِ غير هذا الاسم !! لقد خنتني ضحى..بطريقة ما كنت لأتصورها أو أتخيلها في أسوء كوابيسي !!! تحشرج صوته قليلًا و هو يضيف مخاطبًا تلكٓ الدمعة الجديدة التي سقطت ببطءٍ تحرق بشرتها ؛ _ما كنت لأفعل هذا بكِ قط ضحى..لو كنت مكانكِ...لما فعلت بكِ هذا..لو كنت مكانكِ...لفضلت الموت على أن أفعل هذا بكِ !!! همست ضحى من بين دموع جديدة بصوتٍ خافتٍ متألم و مستنزف لأقصى حد ؛ _لقد...كنت مجبرة..لقد...كنت خائفة وائل!..خفت من ردة فعلك..خشيت أن تتهور بتصرف ينهي حياتنا نحن الاثنين........ تحركت يدها المرتعشة بشدة غير عابئة بالألم الذي ترسله أصابعه لذراعيها إلى أن بسطتها ببطءٍ فوق موضع قلبه الخافق بجنون..لأول مرة تشعر بأن قلبه يخفق بهذا الجنون.. و همست كشخصٍ على وشكِ الموت..بصوتٍ مشتد شديد الانفعال رغم الضعف الشديد الذي كان يفترس عينيها ؛ سامحني وائل..أرجوكٓ سامحني.......أنا..لم...أخنك..لا يمكنني أن أفعل أساسًا.......... و كأنها قد نطقت بالعكس..و كأنها قد أكدت خيانتها فعلًا..و كأنها قد نسفت بكلماتها المنتحبة تلكٓ حتى ذلكٓ الهدوء الخادع الذي انتشر في المكان مؤقتًا.. كما نسفت قدرته على النظر في عينيها أكثر من ذلكٓ القرب فشعرت به يحرّر ذراعيها فجأة في حركة عنيفة نوعًا ما..ثم تراجع يبتعد عنها خطوة متخاذلة..و عادت تلكٓ العينان لتنزفان ألمًا بينما يهمس بأسى ؛ _هل تعلمين حتى ما الذي فعلته من أجلكِ !! ما الذي ضحيتُ به !!! كل مبادئي..كل قناعاتي...كل شيءٍ آمنت به حتى اليوم..حتى عملي........ صمت فجأة..بينما تأهبت ملامح ضحى لهفة لسماع تتمة تلكٓ الجملة الأخيرة التي أرسلت شعورًا قبيحًا من...قلق دخيل إلى قلبها..لولا أن وائل..قرّر أن يشيح بوجهه في هذه اللحظة..و تاهت عيناه الضائعتان أساسًا محدقًا في كل مكان عدا عينيها للحظاتٍ.. حينها ارتعشت شفاه ضحى تريد أن تنطق باسمه..تريد أن تحثه على الإتمام..و قد كادت أن تفعل..لولا أن قرّر في هذه اللحظة بالذات أن يعيد أنظاره إليها..ثم و في بادرة غريبة..ارتسمت ابتسامة.. لا..ليست ابتسامة طبيعية أو سعيدة أبدًا..كانت ابتسامة مريرة..ساخرة..دامعة...و قال بنبرة خرجت تحمل نفس السخرية في ابتسامته فعلًا ؛ _ماذا كنتِ تظنين أساسًا ؟! كيف يستطيع رجل بائس مثلي أن يحصل على ذلكٓ الموقع بكل تلكٓ البساطة !! استطاعت ضحى أن تتكهن تلقائيًا بماهية الموقع الذي يتحدث عنه..لقد كان موقع منزلهما...منزل أحلامهما !! لكنها لم تستطع أن تفهم مغزى سؤاله ذاك..و شعرت بذلكٓ القلق بداخل قلبها يتضاعف يكاد أن يفترس قدرتها على الوقوف بعد..إلى أن أكمل وائل..بنفسِ النبرة ؛ _لقد كان ذلكٓ الموقع عائد للشركة!..لقد كان مشروعًا خططنا له أنا و معاذ منذ وقتٍ طويل..حتى أنني كنت قد قمت بتسجيله و بدأت بالإستعداد للبدء به..لكن السيد وائل..بطريقة ما...قرّر فجأة أن يحتفظ بالموقع الذي لا يملكه أساسًا لنفسه..و ماذا كان المقابل ؟!!! الآن تحفزت عيناها أكثر..و تحولت النظرة بهما إلى خريطة من التفاعلات الحزينة و القلقة..ثم ماذا ؟! عاد نفس الصوت ليرتفع مجددًا..تلكٓ المرة بجملة جعلتها تترنح قليلًا تكاد أن تسقط فعلًا! _أن أننازل عن جزء صغير من حصّتي في الشركة لمعاذ ! طبعًا..بعد أن اضطررت لإلغاء المشروع نفسه و خسرت بعض العملاء المخضرمين !!! أغمضت ضحى عينيها يأسًا و دموعها تنزل تباعًا..و كأنها قد عقدت صفقة صارمة مع عينيها بأن لا تفارقها ليوم واحد طوال حياتها..يجب أن تبكي..لا بد أن تبكي في كل وقتٍ.. كانت قد استسلمت تمامًا..حتى أن كتفيها قد تخاذلا إلى الأسفل و أطرقت برأسها قليلًا تشعر بـ...الموت!..رباه أيّ كابوس هذا !! هل عاشت كل تلكٓ السعادة طوال أيام لتحيا هذه اللحظة بعدها !!! بينما ارتفع صوت وائل الذي بطريقة ما..لم يعد يشبه صوته ! _هل تدركين ما الذي ضحيت به لأجلكِ ! ما لم أستطع أن أفعله لأجل نفسي سابقًا..لأجل عملي نفسه سابقًا فعلته من أجلكِ بكل رحابة...و لم أشارككِ الأمر..هل تعلمين لماذا ؟!!!! صمت قليلًا ينظر لرأسِها المطرق..لعينيها المطبقتين النازفتين بشدة..و عاد يهمس بألم..بنفسِ الاستسلام المرير السابق ؛ _لأنني لم أشعر بأنها تضحية كبيرة كفاية لكي تستطيع إيفاءكِ حقكِ في قلبي..و لتعويض كل السنوات التي أهملتكِ بها..على الأقل لم تكن لترقى لمقارنتها مع تضحيتكِ أنتِ بجزء من ميراث والدكِ لأجلي !! هل...كلمة الألم عادت تكفي لوصف ما جسدته ملامحه.. أو ملامحها من مشاعر في تلكٓ اللحظات ! ربما حتى لو تم اختراع ألف كلمة أخرى كمرادف لها فلن تكفي بعد !! استطاعت أن تفتح عينيها للمرة التي تذكر كم بصعوبة بالغة إلى أن نظرت له..بنفسِ الاستسلام..بنفسِ الموت.. حينما قال وائل بنبرة تحمل شيئًا أكبر بكثير من العتاب ! _ثم يأتي هذا اليوم..الذي أهرع فيه تاركًا عملي في منتصفه إلى مكتب زوجتي..كل غايتي أن أمنحها فرصة أخيرة للشرح..لكنني لا أجدها..و للمصادقة الغبية..فبدلًا من أن تشاركني هي تلكٓ الحقيقة..أتفاجئ أنا بها ملقاة في سلة المهملات..عبارة عن رسائل غرامية من شخصٍ معتوه..مجهول..و قد قرّرت زوجتي في آخر لحظة أن تمزقها و تلقي بها خوفًا من أن أراها !!! هز رأسه عدة مراتٍ كشخصٍ يهذي بينه و بين نفسه..و قست عيناه فجأة و هو يرفع أصبعه للمرة الثانية..تلكٓ المرة ليردف آمرًا بصوته المضطرب..بنبرة لا تقبل الجدال! _و الآن ستخبرينني بدون مُماطلة...من هو ؟!!!! صمت تام طويل و كئيب جدًا قابله من ضحى..فعاد يهتف تلكٓ المرة بنبرة خرجت عن حدود سيطرته فخرجت مرتفعة إلى حد أجفلها ؛ _من هو....... ؟!!!! حينها فقط..كانت ضحى تبتلع ريقها ببطءٍ ناظرة في عينيه الغاضبتين..و اللتين فقدتا كل التخاذل و اليأس السابق ليحل محلهما...نظرة في غاية..الانفعال فقط ! ثم لم تستطع أن تمنع شفاهها التي انفرجت على همسة خرجت في غاية الخفوت..في غاية الضعف..في غاية الألم و الاستسلام و قد انسدلت رموشها أيضًا و أطرقت برأسها عاجزة عن النظر في عينيه بعد ؛ _إنه...زميلي في العمل........ صمتت لوهلة واحدة كان وائل قد رفع أحد حاجبيه فيها بانفعال فاق حدود الانفعال..إلى أن عادت تستأتف بنفسِ النبرة بدون أن ترفع رأسها ؛ _نفس الرجل الذي أتى لحفل ذكرى زفافنا..صاحِب باقة الورد الحمراء !! صمت غريب ساد المكان بعد هذه الكلمات..صمت غريب كئيب و باعث للتوتر..صمت رفضت خلاله أن ترفع رأسها إطلاقًا..صمت شعرت به طويلًا رغم أنه كان في الحقيقة قصيرًا للغاية.. ثم فجأة..حدث شيءٌ لم تتوقعه..أو..بصيغة أدق..فقد فعل وائل شيئًا لم تتوقعه..و لم يتوقعه وائل ذاتًا!.. ذلكٓ الذي كان يقف مصعوقًا..بملامح فاقت ملامحها شحوبًا..و عينين عادتا لتتسعان كما قبل ساعاتٍ حينما وقعت عيناه على البطاقات الممزقة تلكٓ و قرّر أن يحملها ليكتشفها قبل أن يتفاجأ بمحتواها.. لكن حتى دهشته الآن بدت أقوى بكثير..و كأن تلكٓ الرسائل نفسها لم تكن شيئًا أمام ما يعيشه الآن..حتى حقيقة كذبها عليه بدت هينة..ليت الأمر اقتصر على كذبها..ليت الأمر اقتصر على تلكٓ الرسائل.. ليته مات قبل أن يعيش هذه اللحظة !!! كانت يداه الآن ترتعشان بشدة..عقله اخترع آلاف المشاهد و رسم آلاف الصور و المواقف المخزية..زميلها في العمل..نفس الرجل الذي تجرأ و دخل إلى بيته ليمنح زوجته باقة ورد و بطاقة أمام عينيه.. زميلها في العمل..بمعنى أنها تراه كل يوم..يتغزل بها كل يوم و لو بعينيه..يتأملها بتمعن قبل أن يقرّر موضوع رسالة اليوم ثم يرسلها بكل بساطة ليس و كأن العالم محكوم بقوانين و مبادئ.. ليس و كأنها امرأة متزوجة..ليس و كأنها..زوجته هو !!! و هي ظلت صامتة تمامًا..و كانت ستستمر في صمتها غالبًا لو لم يكتشف الأمر اليوم..بل و وصل بها الحد أن تتناول منه الباقة أمام عينيه..ثم تنظر في نفس العينين و تعرفه إلى...معجبها السري على أنه مجرد زميل عمل! بل و............ " أنا..لا أشعر بنفسي على ما يرام..هل يمكنكٓ أن تضمني فقط وائل ؟! " لم يشعر بنفسِه في تلكٓ اللحظة..لم يدرِ ما حدث.. و كيف ارتفعت يده المرتعشة تلكٓ من تلقاء نفسها نحوها لـ...لتصفعها !!! لقد صفعها فعلًا..صفعة قوية إلى درجة أن ارتد وجهها الشاحِب المتألم المبلل إلى الجانب..و أطبقت هي عينيها أكثر و كأنها...و كأنها توقعت هذا ! لكنها في الحقيقة لم تتوقعه..و ما كانت ردة فعلها تلك إلّا وسيلة دفاعية تبناها عقلها ليمنع انهيارها الفوري !!! إنها النهاية فعلًا...تلكٓ هي النهاية المتوقعة..إنها تعيش نفس اللحظة التي خافت منها و تجنبتها طويلًا..إنها النهاية فعلًا فوائل...وائل صفعها !!! و هي حتى و إن كانت تعشقه بشكل مجنون..حتى مع كل خلية نابضة بالألم بداخلها..لم تكن لتضيف كلمة بعد هذا ! أساسًا هل هناكٓ جدوى لسماع كلمات نطقها شخص ميت! لأنها ماتت لحظتها !!! لم تستطع أن تضيف كلمة..لم ترد..لم تقدر...لكنها استطاعت بمعجزة ما أن تفتح عينيها ببطءٍ إلى أن..إلى أن نظرت في عينيه..و هناك..رأت نظرة جسدت شعورًا مشابهًا لشعورها ترتسم في عينيه.. لقد كان وائل ينظر لها بصدمة..إلى آثار أصابعه و الخدش الصغير النازف الذي خلفه خاتم زواجهما بجانب شفتيها.. إلى عينيها الغارقتين في الدموع و الألم و الناظرتين له بصمتٍ.. لكن حتى ذلكٓ الشعور..لم ينجح بأن يغير أيّ شيء بينهما اليوم!.. لم ينجح بأن يجعله ينسف الخطوة الفاصلة بينهما..لم ينجح بأن يجعل ملامحه تفقد خواءها أو غضبها السابق..لم ينجح بأن يجعله يتراجع و لو بكلمة واحدة.. و ما حدث كان...أنه تراجع خطوة..ثم خطوتين..و في الثالثة كان يلتفت فجأة لتحط يده المرتجفة بشدة على منضدة الزينة الخاصة بها يلقي بكل ما كان فوقها إلى الأرض بعنفٍ.. ثم انخفض بجذعه يستند إليها بيديه الاثنتين بإرهاق شديد للحظات..و ما إن رفع رأسه مجددًا..كانت عيناه تقعان حينذاك على عينيها..مجددًا..التقت عيناه بعينيها عبر انعكاسها في المرآة.. عيناها اللتان اكتسحهما شيءٌ يشبه الخواء..فباتت و كأنها نسخة أخرى منه..لا تعرف إن كانت مذنبة أو ضحية..مثله تمامًا !! لا تعرف إن كان عليها أن تتوسل الصفح أكثر أو...ترد الصفعة بواحدة مثلها !!! إن كان عليها أن تنهار أرضًا الآن أو ترفع ذقنها أكثر تتظاهر بصمود لا تمتلكه..بدليل الألم الخفي في عينيها.. خفي عن العالم أجمع إلّا عنه..بدليل دموعها التي رفضت أن تعلن مغادرتها هذه الليلة و شاركتها إصرارها السادي دموعه..بدليل الضغط العصيب في فكها يثبت بأنها قد ابتلعت ريقها مئات المرات في نفس اللحظة.. بدليل الانتفاضة التي اهتز بها جسدها خلسة ما إن ارتفعت يده لتصطدم بالمرآة الآن..لا...و ليس بغاية كسر المرآة بل ما كسره كان صورتها..و عينيها... و لم يهتم حتى بتلكٓ الدماء التي تدفقت من ظاهر كفه بقوة عنيفة و هو يسقط يده أخيرًا..يستقيم بصعوبة..و يلتفت صوبها ليقابل عينيها لمرة أخيرة..قبل أن يقترب منها..لا لشيءٍ إلّا ليتجاوزها مبتعدًا نحو باب الغرفة المفتوح على مصراعه..ثم باب المنزل الذي وصلها صوت انغلاقه بعنفٍ فاق حدود العنف المعهود بين الناس.. حينها فقط..ما إن غادر وائل مخلفًا صمتًا كئيبًا في المنزل..صمت مرفق بصوته الذي ارتفع في عقلها يعذبها.. مغلف بأثر صفعته على وجهها..و دمائه في المرآة.. كانت...تستسلم لذلكٓ الانهيار ! فسقطت كدمية قماش تم تكميم قدرتها على الوقوف من طرف صانعها..سقطت فوق الأرض الباردة تتأمل للحظاتٍ طويلة بملامح لا حياة فيها اللا شيء المتمثل في خسارتها الجديدة..خسارتها الأعظم و الأقوى.. و كأنها قد خلقت في هذه الحياة بمهمة واحدة..أن تحيا طوال حياتها تحارب أشياء وهمية..لكن القدر الذي وضعها في خضم هذه الحرب الشنيعة...قد نسيٓ أن يزودها ببعض الأسلحة في يدها !!! أخيرًا بعد لحظات الصمت البائسة تلك..كانت تخرج شهقة..شهقة أولى...ثم واحدة أخرى..ثم كانت ترفع يديها إلى شعرها تشد أطرافه بقوة منحنية على نفسها.. مجهشة في بكاء مرتفع هستيري.. و بكت بصوتٍ لو كان قد تردّد صداه في أذنيه حتى قبل يوم واحد..لمات جزعًا و خوفًا عليها..لجلس بجانبها يشاركها بكاءها و يضمها..و يتوسلها أن تشاركه أسبابها.. لكنها باتت شبه متأكدة الآن... بأنه حتى و لو سمعه..فلن يحرك بداخله شيئًا..بل كان ليغادر مغلقًا الباب خلفه بنفسِ الطريقة.. فهو في جميع الأحوال...لن يسامحها! و لا هي باتت تجد في نفسها قابلية لتفعل !!! _____________________________ كان يقود كالمجنون تمامًا..لكنه مجنون يعرف وجهته جيدًا للغاية..و قد كانت الوجهة..نفس المكان الذي زاره قبل دقائق طويلة..هناكٓ حيث وجد الأجوبة القاطعة لكل تساؤلاته السابقة.. هناكٓ حيث شعر لأول مرة بفقدان السيطرة إلى درجة قادته نحو منزل زوجته كل ما يريده النظر في عينيها.. فقط ليحرّر ذلكٓ العتاب المكبوت في قلبه..لولا أنه فعل ما يفوق العتاب بأضعاف.. لقد..رفع يده على زوجته...على ضحى! لأول مرة يفعلها مع أيّ إنسان و كانت مع ضحى !!! أنى له أن يسامح نفسه بعد هذا ؟! حتى مع كل مشاعره المتضاربة..حتى مع الوضع بعين الاعتبار فعلتها الأخيرة.. كذبتها الأخيرة..ذنبها الأخير في حقه ! فهو لا يستطيع إلّا أن يكره نفسه..لا يستطيع إلّا أن يتساءل بمرارة شنيعة..ما فرقه الآن عن مجد ؟!!! كانت أنامله لا تزال ترتعش بشدة حتى و هو يتمسكُ بالمقود بهذه القوة العنيفة..و بالطبع فهو لم يهتم أبدًا بعلاج الجرح الغائر الذي خلفته شظايا زجاج المرآة في ظاهر كفه فكانت الدماء لا تزال تنساب بغزارة مخيفة.. ربما يبدو منظرها مرعبًا لأيّ أحد..لكن له هو..فلم يكن يملكُ قابلية للشعور بأيّ شيء في هذه اللحظة..للتفكير في أيّ شيء سوى...ذلكٰ الرجل اللعين ! سيجده..سيجده اليوم و سيلقنه درسًا لن ينساه طوال حياته..لا يهمه بعدها مصير حياته هو حصرًا..لم تعد تغريه فكرة الحفاظ على تلكٓ الصورة المتحضرة أمام العالم..أو أمام نفسه.. هذه المرة..هذه المرة الأمر يخصّ ضحى !! و بما أن هناكٓ سافل في هذا العالم خولت له نفسه النظر لزوجته بمثل تلكٓ الطريقة الدنيئة..هناك سافل في هذا العالم كان يراقب زوجته..يتغزل بها..يكتب لها الرسائل.. و الله يعلم إلى أيّ حد قد تكون وصلت به أفكاره بشأنها !!! أيّ جرأة خولته المجيء إلى منزله و إهداءها باقة ورد مرفقة برسالة دنيئة أمام عينيه !! و الأهم من هذا..كيف استطاعت زوجته هو..ضحى..أن تتصرف بمثل ذلكٓ الهدوء في موقف كذاك !!! كيف طاوعها قلبها أن تستغفله بذلكٓ الشكل..أن تضعه في موضع المغفل أمام ذلكٓ الرجل !! كيف استطاعت حتى أن تنظر في عينيه بعدها بينما لا تزال تكتم سرًا كهذا في جعبتها !!!! أيّ رجل في العالم قد يقف في مكانه اليوم و يستطيع الصمود بعد !!!! " هل يمكنكٓ أن تضمني فقط..وائل..أنا لا أشعر بنفسي على ما يرام ! " أطبق عينيه لوهلة من الثانية و هو يشعر بالموت يزوره مبكرًا على هيئة صوتها..هل كان يجب أن تنتظر كل هذا الوقت كي تشاركه بأمر في غاية الأهمية كهذا !! و الجواب هو..لا ! هي لم تكن مضطرة على انتظار كل هذا الوقت !!!! كان يمكنها أن تخبره منذ البداية..بعد أول رسالة..بعد أول تلميح..بعد أول نظرة وقحة أو محاولة للتجاوز..و هو متأكد بأن ذلكٓ الرجل لم يكن ليكتفي بالمحاولة فقط !! و لا يظن حتى بأنه يملكُ بعض الخجل ما يخوله التراجع بكلمة منها !!! و الله يعلم فقط أيّ مواقف أخرى قد تكون تعرضت لها بدون علمه !!! لا يزال يتذكر كمية الضياع التي كانت تحتل عينيها طوال الفترة السابقة..كمية الحزن الذي حملته كلماتها له و كأنها امرأة على وشكِ مجابهة الموت !! هل كانت تخاف من ردة فعله إلى هذه الدرجة ؟! في حين أنها لم تهتم بمشاعره هو قط!.. حينما يستيقظ فجأة على حقيقة أن رجلًا آخر قد وضع عينيه على زوجته..هناكٓ رجل آخر في هذا العالم يغفو كل ليلة على صورها ربما..يشتري لها الورود و يرسلها متى أراد..و يبتكر كلمات الغزل التي يكتبها لأجلها في بطاقاتٍ شاعرية بكل حرية !!! انعطف بالسيارة متوقفًا فجأة أمام وجهته..قبل أن يفتح الباب بسرعة مترجلًا..و لم يشعر بيده التي ارتفعت تبعد أثر دمعة من بين دموع كثيرة ذرفها اليوم..نسفها في حركة عنيفة في بداية الطريق من تحت جفنه..ثم اقترب أكثر إلى أن تخطى البوابة الكبيرة لهذا المقر الأنيق.. كانت ساعات دوام اليوم على وشكِ الانتهاء لهذا فلم يكن هناكٓ إلّا القليل من الموظفين الذين جلسوا في أماكن مختلفة هنا..و هو لم يهتم بأيّ أحد منهم..و لا بنظراتهم التي انصبت نحوه بدهشة بالغة لحالته المزرية اليوم.. فالجميع هنا كان يعرفه على أنه زوج السيدة ضحى..لكن و لا واحدًا منهم رآه من قبل بهذا الوضع ! حتى أن بعض الهمسات الخافتة قد تسللت إلى أذنيه تتضمن تساؤلات استغراب و قلق حيال احتمالية أن تكون السيدة ضحى قد تعرضت لحادث ما..لكنه لم يهتم بأحدها فقد كان يسير بخطواتٍ سريعة..بنظرات فارغة محملة بغضب قادر على أن ينسِف المكان عن آخره ! و لم يتردّد من أن يدفع الباب بقوة ما إن وصل إلى مكتبها..خاصة و قد كان مكتب السكرتيرة أيضٍا فارغًا فلم يكن هناك من يمنعه..و حتى لو كانت فهي لم تكن لتملكٓ الجرأة على منعه.. دلف بسرعة ليقترب مباشرة من الخزانة الكبيرة الجانبية حيث كانت تضم مجموعة من الملفات في إحدى رفوفها جميعها تهم المعلومات المتاحة للمدير عن الموظفين هنا.. و بدون أن يتردّد امتدت يده يدفعها بقوة إلى أن سقط معظهما فوق الأرض بجانب قدمه..قبل أن يلتقط المتبقي منها يلقي بها بنفسِ الطريقة.. ثم انخفض القرفصاء شارعًا كمجنون حقيقي فعلًا الآن في التقليب بينها باحثًا عن صورة واحدة..و اسم واحد.. و عنوان واحد سيهرع إليه مباشرة ما إن يجده.. لقد كان بإمكانه أن يستعين بأحد الموظفين هنا لسؤاله عن أسماء الموظفين الذين تم طردهم أو انسحابهم في آخر فترة..فهو حتى و إن لم يكن قد سألها متأكد من أنها ستكون قد طردته بحلول الآن.. و ربما لا ! من يعلم !! فمن بعد أحداث اليوم..يشكّ بأن يفاجئه أيّ شيءٍ يخصها بعد !!! إلّا أنه كان من الغضب و من الانهيار ما يجعله عاجزًا عن التواصل مع أيّ إنسان في هذه اللحظات !! لهذا فقد انكب على الملفات يقلبها واحدًا تلو الآخر قبل أن يلقي بها بغير اهتمام في كل مرة لا يجد غايته..و قد تعمد أن يركز أكثر بين الأقدم منها..مستندًا على الاحتمال المنطقي الواضح بأن يكون ذلكٓ السافل يعمل هنا منذ وقتٍ طويل.. ما كان ليمتلكٓ كل تلكٓ الجرأة موظف حديث التعيين !! دقائق طويلة أمضاها في التقليب بينها..لم يتوقف خلالها لحظة واحدة لأخذ نفس..إلى أن تسمر فجأة و عيناه تقعان أخيرًا عليها..صورته..ملامحه المقيتة التي من غير الممكن أن ينساها.. و حينها فقط..كانت تضيق عيناه كما ضاقت أنفاسه و أنامله التي لا تزال تحمل نفس الارتجافة تقبض على طرف الملف تكاد أن تمزقه من المنتصف..خاصة و قد وقعت عيناه على اسمه..خاصة و قد وقعت عيناه على عنوانه..خاصة و قد وقعت عيناه على تاريخ تعيينه !! منذ ثلاث سنوات ! ذلكٓ النذل يشتغل هنا..إلى جانب زوجته منذ أكثر من ثلاث سنوات !!!! أظلمت عيناه بشدة..و اشتد ضغط يديه حول الملف للحظاتٍ أخرى كانت فيها أنفاسه تتسارع بشدة..ثم لم يشعر بنفسه و هو يقف فجأة ملقيًا بالملف بعنفٍ أرضًا فوق الملفات الأخرى.. و اقترب من الباب المفتوح على مصراعيه ليخرج مغلقًا إياه خلفه بعنفٍ تلكٓ المرة..ثم إلى الرواق نفسه حيث عادت نفس النظرات تشيعه بالدهشة و التوجس الكامن فيها أثناء طريق خروجه.. إلى أن ارتمى في مقعده و انطلق بسرعة أكبر مخلفًا خلفه رياحًا عاتية..و صوت صرير مرتفع.. _____________________________ حينما توقف أمام منزله أخيرًا..وجد نفسه يتسمر للحظة محدقًا في هذه البناية المتوسطة الطول و القابعة في هذا الحي الراقي.. قبل أن يزم فمه بقوة..ثم فتح الباب مقتربًا من المنزل بسرعة..و لم يتردّد من أن يرفع يده يطرق الباب بقوة كفيلة بأن تجعل أيّ كان من في الداخل..يهب راكضًا لإيقافه..أو شتمه.. لكن أحدًا لم يفتح..و شعر وائل بأن أعصابه على وشكِ الانفلات أكثر فشرعت يده تطرق الباب يكاد أن يكسره بعنفٍ أكبر..و قد كان ليستمر في الطرق إلى ما لا نهاية ربما..لولا أن سمع بعد لحظاتٍ طويلة..صوتًا من جانبه يسأله بقلق ؛ _بماذا أساعدكٓ سيدي ؟!! كان صوتًا ناعمًا لامرأة وقفت بجانبه على بعد الدرجتين القصيرتين حيث يقف فوق أعلاهما..و حينها فقط..كان وائل يتسمر لوهلة سامحًا لصمتٍ غريب بأن ينتشر في أعماق المكان المظلم ليلًا.. التفت إليها بعدها ببطءٍ..و قد كانت امرأة تبدو في نهاية العشرينيات أو ربما تكون قد بلغت الثلاثين..نظر لها وائل بملامح فارغة تمامًا بلا مشاعر..قبل أن يفتح فمه سائلًا بنبرة تشابهت مع نظرته ؛ _هناكٓ نذل اسمه فراس عبد الصمد يعيش هنا ! لوهلة ظهر عدم الفهم في ملامح المرأة..و الدهشة الشديدة من وصفه الأول..حتى أنها ضيقت عينيها قليلًا تلتزم الصمت للحظة اتشحت فيها ملامحها ببعض الارتباك.. قبل أن يرتفع حاجباها أخيرًا سائلة باستيعاب بطيء ؛ _آه...تقصد الرجل الذي كان يقطن هنا ! لكمة مباغتة شعر بها وائل تستهدف كل استيعابه مباشرة..بينما استأنفت السيدة تتفحصه بريبة ؛ _لقد كان يعيش هنا رجل اسمه فراس فعلًا سيدي..لكنه انتقل قبل شهر واحد و أنا أقطن هنا الآن ! كان وائل يستمع إليها بنفسِ التعابير الفارغة الخالية من المشاعر..و ما كادت أن تصمت تمامًا..حتى كان يفتح فمه ليسأل للمرة الثانية بنفسِ النبرة..بدون أن يشعر غالبًا بقبضتيه اللتين انغلقتا حول نفسيهما بعنفٍ غير عابئ بأيّ ألم يصدره كفه المصاب..غير عابئ حتى بنظرات المرأة التي انخفضت ترمق تلكٓ الدماء المتكدسة و تعاين حالته غير المريحة بعينين ازدادتا توجسًا و قلقًا غريبًا.. _أين يقبع مكان سكنه الجديد ؟! هل تعرفين ؟!!! كان يتحدث حرفيًا..بل و يبدو كشخصٍ غير سوي نفسيًا في تلكٓ اللحظة..و كأنه يكابد آلاف المعضلات بداخله عاجز تمامًا عن الهروب منها أو فقط...الاستسلام !!! بينما زمت المرأة فمها تبتلع ريقها ببطءٍ..ثم قالت تحرك رأسها بنبرة خرجت تحمل الحذر..و شيء من الصلابة أمام أسلوبه المُهين في طرح الأسئلة ؛ _لا أعرف..و حتى إن كنت أعرف فأنا لا أملكُ حق مشاركة مثل هذه المعلومة مع أيّ أحد....... أشارت بعدها بيدها نحو موقف السيارات المقابل مضيفة باقتضاب ؛ _الآن و قد أخذت جميع أجوبتك..هل يمكنكٓ أن تغادر عتبة منزلي الآن سيدي ؟!!! إلّا أن وائل لم يتزحزح..فقد ظل يحدق بها في الظلام كشخصٍ لا يصدق أيّ من الأجوبة التي سمعها..و بالطبع لم يستطع أن يتمالكٓ نفسه من إلقاء سؤال جديد يؤكد شعوره ؛ _كيف أعلم بأنكِ لا تكذبين ؟!! الآن ظهر تعبير من نفاذ الصبر في ملامح المرأة..ثم قالت ترفع رأسها أكثر صوبه بنبرة خرجت قاطعة الآن ؛ _يمكننا أن نطلب الشرطة لو أردت ! و هي ستتكفل بتأكيد مصداقيتي و طردكٓ من هنا بعدها مباشرة !! ما رأيك ؟!!! حسنًا..لو حاول أن يعتصر عقله لاستعادة جميع لحظات حياته بدون استثناء لما وجد لحظة واحدة تعرض فيها لموقف مشابه..هل هدّدته تلكٓ المرأة بالاتصال بالشرطة للتو ؟!! هو...بسمعته الطيبة و صورته اللامعة !!! حسنًا ماذا لو أطلعها على أسبابه..هل قد يستعيد تلكٓ الصورة التي هي أكثر شيء عاش طوال حياته حريصًا على الحفاظ عليها !! يكاد أن يقسم بأنها المرة الأولى التي يتعرض فيها لإهانة من أيّ نوع ! بل هي المرة الأولى فعلًا !! أساسًا مجرد مجيئه إلى هنا و توقفه أمام تلكٓ المرأة كان يعد أكبر إهانة !!! الأغرب من كل هذا الموقف الذي يعيشه..هو أنه لم يشعر بأيّ استياء داخلي من جملتها..في حين لو كان في وضعه الطبيعي الآن لفقد عقله غضبًا.. كان كبريائه الأسطوري لينتفض..و ربما يصبح هو الطرف الذي يتصل بالشرطة لاحقًا !! لولا أنه لم يعد يمتلكُ حتى ذلكٓ الكبرياء لينتفض !! لقد جردته ضحى من كبرياءه !!!! لم يكن ليشعر بالاستياء من موقف كهذا بعد موقفه مع ضحى..بعد كل المعضلات التي انقضت تداهم حياته خلال يوم واحد..و لم يكن ليتراجع مستجيبًا لتهديد سخيف كهذا.. فقد زم فمه بهدوء خادع تمامًا و هو ينزل الخطوتين ببطءٍ أمام عيني الشابة التي راقبته بقلق عاد ليحتل ملامحها بشكل أوضح الآن..حتى أنها تراجعت خطوة ملحوظة ما إن توقف أمامها وائل.. بينما قال هذا الأخير يضيف آخر كلمة بنبرة خرجت لا تقبل التساهل ؛ _حسنًا...لكنني سأعود حتمًا ! التفت بعدها يقترب من سيارته بخطواتٍ تحولت فجأة إلى سريعة تحمل غضبًا لا يضاهى..بينما تسمرت المرأة في مكانها للحظاتٍ أخرى..قبل أن تلتفت ببطءٍ تراقب أثر ذلكٓ الرجل الغريب.. ذلكٓ الرجل الذي شعرت بوسامته تناقض تمامًا وضعه المزري و نظرته الفارغة اليوم..حتى ثيابه كانت تبدو غالية توضح مدى ثراء صاحِبها..لولا أنها انتفضت فجأة على صوت انغلاق باب سيارته بعنفٍ..ثم راقبته بعدها برهبة و هو ينطلق بسيارته مصدرًا صريرًا مرتفعًا.. و حينها فقط..كانت تقترب من منزلها حيث انخفضت تفتح حقييتها لتخرج المفاتيح و...الهاتف !! ذلكٓ الهاتف الذي رفعته إلى أذنها بعد أن طلبت اسمًا ما تزامنًا مع تقدمها أول خطوة بالداخل..ثم قالت ما إن جاءها الرد و هي تمد يدها لتشغل الضوء في المكان كاشفة عن منزل أنيق فعلًا.. _لقد جاء رجل اليوم فراس..و قد كان يبدو غنيًا كما أخبرتني لكنه بدا في وضع غريب أيضًا....... صمتت للحظة تستمع إلى الطرف الآخر قبل أن ترفع صوتها مجيبة بجدية لم تخلو من نفس الرهبة في عينيها منذ أن غادر ذلكٓ الرجل تحديدًا ؛ _بالطبع أخبرته..لكنني لا أستطيع أن أجزم لكٓ بأنه قد اقتنع ! تراجعت قليلًا تستند إلى الباب المغلق بظهرها..قبل أن تفتح فمها..و تلكٓ المرة سألت بنبرة حتى هي لم تخطط لها ؛ _لكنه كان يبدو في حالة مزرية فعلًا..و كأنه..و كأنه رجل يائس لإيجادكٓ في أسرع وقت....... صمتت لوهلة أخرى..قبل أن تضيف ببطءٍ و برهبة بالغة و شديدة اكتنفت صوتها ؛ _لقد بدأت أشعر بالقلق حقًا فراس..أيّ مصيبة أوقعت نفسكٓ بها هذه المرة ؟!!!! _______________________________ " ضوء القمر..لـ كلود ديبوسي.. " كانت المرة الأولى التي تتخذ فيها قرار العزف بمفردها بعد مرتها الفعلية الأولى و التي عزفت فيها بينما تجلس إلى جانبه في مقابل البحر..لقد كانت تعزف له حرفيًا ! و اليوم أيضًا هي ستعزف له..حتى و إن لم يكن متواجدًا بجانبها ليسمعها..فهي قد بدأت ترتدي ثوب الحالمية منذ أن قابلته كي تؤمن بأنه سيشعر بها..بطريقة ما... و لهذا بالتحديد فهي قد قرّرت أن تعزف نفس المقطوعة التي سمعاها سويًا في ذلكٰ المطعم الساحر..و سمعت اسمها ينطق بصوته العميق في التخلل إلى دواخلها و سبي جميع حواسها.. " ضوء القمر.. لـ كلود ديبوسي.. " كم مرة ستستعيد تلكٓ الهمسة منه بعد ؟!! و كأنها ليست جملة عادية لإسم عادي نطقه بطريقة عادية..و كأنه..و كأن صوته كان يتغزل بها...كما عينيه يومها !!! كان المكان الذي اختارته هو الشرفة الرئيسية الكبيرة لمنزلها..هناكٓ حيث جلست متربعة فوق الزربية الصغيرة المزخرفة فوق الأرض..قبل أن تسحب نفسًا عميقًا إلى داخلها مستعيدة صوته للمرة الألف.. تلكٓ المرة ما استعادته كانت توجيهاته ذلكٓ اليوم بينما يعلمها الأساسيات الأولى لحمل الكمان..ثم العزف..و هكذا فعلت..كانت تتحرك بهدوء شديد مع كل أمر جديد تستعيده في عقلها..تكاد أن تستشعره و هو يجلس بجانبها يحفزها بيديه و عينيه.. قبل أن يشرع في مراقبتها بدون أدنى تردّد ما إن أطبقت عينيها أخيرًا بسلام و لامس القوس الأوتار مصدرة أول لحن.. ابتسامة عذبة ارتفعت لها زوايا شفتيها و صوت اللحن يتخلل أذنيها ساحرًا..هل كانت تظن بأنها إنسانة عديمة الشغف ؟! كيف أمكنها أن تتهم نفسها حصرًا بالبرود و الفشل !!! الشيء الوحيد الذي تكاد أن تكون متأكدة منه الآن هو أنها لن تستطيع أن تلقي نفس الإتهامات على نفسها بعد الآن..ليس و تلكٰ الابتسامة الكبيرة الجميلة تؤكد على مدى السحر الذي اكتسح جوارحها و هي تستمع إلى صوت عزفها..و ربما لو لم تكن متأكدة من أنها هي مصدرته لما استطاعت التصديق !!! لقد كانت...بارعة!..لقد أصبحت...بارعة !! هو جعلها... بارعة !!! لقد جعلها تكتسب شغفًا جديدًا..ذلكٓ الرجل الذي فقد شغفه في كل شيءٍ منذ ثلاث سنوات !! كانت تعزف بانسجام شديد..أناملها تحرك القوس باسترخاء عجيب فوق الأوتار..ليس و كأنها مرتها الثانية حرفيًا في العزف..ليس و كأنها نفس الفتاة التي هربت من مدرسة الموسيقى قبل سنوات مصرة على الغرق في قوقعة قاتمة حيث لا شغف..لا طموحات..لا أحلام.. مجرد آلة تتحرك بأوامر والدها !!! بينما ملامحه تملأ كل جزء من تفكيرها كما أصبح يفعل بها صاحِبها منذ فترة !! ثم فجأة...فتحت عينيها منتفضة على إثر صوتٍ قوي لانغلاق باب سيارة..و لم تكد تلتفت صوب مكان الصوت منزلة الكمان عن كتفها ببطءٍ حتى كانت نفس العينين تتسعان بقوة حينما وقعتا على...وائل !!! كان وائل يقترب بخطواتٍ سريعة توحي بغضب حقيقي و عارم..نفسه ذلكٰ الغضب الذي لمحت انعكاسه واضحًا جدًا في ملامحه..و استطاعت بغير جهد أن تخمن بقلق و حسرة كاملة أسبابه! لكن ما جعل شهقة ذعر حقيقي تهرب من بين شفتيها.. حينما وقعت أنظارها على آثار الدماء الواضحة في ظاهر يده..و هي لم تكن لتلمح كل هذا طبعًا لولا الضوء الصادر من المصابيح المتعدّدة التي كانت معلقة حول الباب الداخلي لمنزلهم و البعض الآخر القابع في الحديقة.. لم تشعر بنفسِها و هي تقفز واقفة بسرعة مقتربة منه إلى أن اعترضت طريقه هاتفة بجزع فاق حدود الجزع ؛ _وائل... !!!! امتدت يداها بعدها قبل حتى أن تسمح له بالإستيعاب لترفع يده بينهما تتفقد إصابته هاتفة بجزع أكبر ؛ _يا إلهي ما الذي حدث ! إنها تبدو إصابة عميقة..كيف حدث هذا ؟!!!! رفعت عينيها بعدها تنظر في عينيه الخاويتين كليًا..بينما ظل وائل متسمرًا تمامًا بنفسِ الملامح.. يرفض أن يمنحها ردًا كما يعجز عن انتزاع يده و إتمام طريقة نحو......غرفته ؟! نحو ذلكٰ الكهف حيث سينهار متخليًا عن كل أسلحته.. مستسلمًا و مسلمًا لوحدته الجديدة و دماره الأسمى !! ارتعشت كفه بوضوح بين يدي يوليا..لكن ملامحه ظلت على حالها..و فتح فمه يريد أن يتوسلها فقط أن..تتركه و شأنه !!! حتى و إن كان من يخاطبها الآن أخته الوحيدة..حتى بينما يعلم بأن غاية كل تصرفاتها خوفها عليه..إلّا أنه كان يشعر بنفسِه في تلكٓ اللحظة أشد إرهاقًا و انهزامًا من أن يستطيع أن يتبادل أيّ حوار مع أيّ إنسان !!! لولا أنها سبقته بصوتها الذي ارتفع فجأة..و ما فعلته كان أنها نطقت بآخر سؤال توقع سماعه ؛ _هل...تحدثت مع ضحى ؟!!! حينها فقط..كان يظهر تعبير جديد على ملامحه..فقد ارتفع حاجباه الاثنان صدمة لا دهشة..و ارتعش كفه أكثر فأطبقت عليه يوليا و هي تسمع صوته الباهت الذي ارتفع أخيرًا يسألها بـ...تردّد..أو خوف! _ما...دخل ضحى بالأمر ؟! و عن ماذا سنتحدث تحديدًا ؟!! و فقط..لم يحتج لأكثر من تلكٓ النظرة المشبعة بحسرة لا مثيل لها..و بتردّد مشابه لخاصته و كأنها تتساءل إن كان عليها أن تستنتج بأنهما قد تحدثا فعلًا أو ربما فقط تتظاهر بالجهل إلى أن تتحدث مع ضحى لكي يفهم.. الآن ما ارتعش كانت رموشه..ثم انعقد حاجباه ببطءٍ و هو يفتح فمه للمرة الثانية تلكٓ المرة همس بصوتٍ باهت أكثر و هو ينقل عينيه بين عينيها و كأنه يتوسلها أن تنفي هذا الاتهام عنها.. _لقد فهمت! أنتِ تعلمين فعلًا !!! صمت آخر استقبله..فاشتدت ملامحه قليلًا و كأن كل ذلكٓ الغضب السابق عاد ليحكم قبضته على كل كيانه.. قبل أن يسحب يده من بين يديها مكررًا أمام ملامحها التي شحبت بشكل مفاجئ بصوتٍ أشد ارتفاعًا و أشد ضعفًا! _لقد كنتِ تعلمين منذ البداية !! لقد كنتِ تعلمين..أليس كذلك !!! _وائل !!!! همست يوليا برجاء..إلّا أنه فقط تراجع خطوة شبه ملحوظة و هو يهتف بصوتٍ ارتفع أكثر ؛ _لقد كنتِ تعلمين...لقد كنتِ تعلمين أنتِ أيضًا و مع ذلكٓ فضلتما أن تتسترا على الأمر بينما أنا بينكما أتنقل كرجل بائس غبي لا قيمة له !!!! شعرت يوليا بقلق أكبر يكتسحها و هي ترى الطريقة التي ارتفعت بها يده المصابة يلمس جبهته كشخصٍ يقاوم الإغماء..لكنه لم يكن يقاوم الإغماء..بل ما كان يقاومه هو تلكٓ الغصة الواضحة التي شوهت صوته ما إن عاد يهتف بقهر ؛ _رباه كيف أستوعب هذا الآن..كيف أتقبل هذا...بل ما الذي أعيشه أنا الآن...ما الذي فعلته في حياتي كي أبتلى بمُصيبة كهذه......... كان يتحدث بهستيريا..و قد شعرت يوليا بأنه على وشكِ فقدان صوابه لا وعيه فقط..فلم تتمالك نفسها من أن تقترب منه فجأة إلى أن ارتفعت قليلًا تحتضنه بقوة.. ثم همست و هي تشدّد من احتضانها لعنقه..غير عابئة بالصدمة التي أصابت جسده بهذه الحركة منها..أو بكونه لم يبادلها العناق..فقد همست بعينين تذرفان الدموع بسخاء ؛ _لم أكن أعلم..لقد علمت في الأمس فقط وائل..أقسم باللّه لم أكن أعلم..أرجوكٓ أن تهدأ قليلًا الآن............ أطبقت عينيها بعدها بقوة و هي تشدّد من احتضانه مكرّرة بأسى ؛ _لا أستطيع تحمل رؤيتكٓ بهذا الشكل...اهدأ قليلًا أرجوك.. و قد هدأ فعلًا..ظاهريًا فقد عادت ملامحه لنفسِ الخواء الذي كان يحتلها منذ ساعات..لكن حتى ذلكٓ الهدوء لم يدم سوى ثانيتين..ثم لم يشعر بنفسِه إلّا و هو يرفع يديه ليحتضنها بقوة.. ثم أسقط رأسه المرهق يخفي جميع خيباته في كتفها.. هناكٓ حيث انسابت دموعه حارقة كالنار..هناكٓ حيث شاركها ضعفًا لم ترى مثيله يوليا في حياتها..هناكٓ حيث همس مجهشًا في بكاء هستيري غريب..كطفل صغير ارتكب غلطة عمره ثم عاد نادمًا يشتكي في حضن أمه! _لقد...رفعت يدي على ضحى يوليا..لقد ضربت ضحى.. لقد صفعتها يوليا..صفعت زوجتي..صفعت ضحى....... كيف استطعت أن أفعل هذا..كيف استطعت............... كان صوت بكاءه يرتفع أكثر و أكثر مع كل كلمة..بينما أطبقت يوليا عينيها أكثر و هي تزم فمها بقوة تحاول أن تمنع صوت بكاءها من الارتفاع مثله.. لا تعلم حتى الآن ما الذي يمكن أن يكون قد حدث..كيف أخبرته ضحى..أو إن كانت قد أخبرته بنفسِها أساسًا أو علم من مكان آخر..و لو كان هذا الاحتمال هو الصحيح فحينها..حينها قد يتحول الأمر إلى كارثة فعلًا !! سمعت صوته الذي خرج على النقيض تمامًا من صوته الطبيعي..تشوهه الغصة و الدموع الغزيرة التي أغرقت قماش قميصها المنزلي الأبيض ؛ _كيف سأعيش بعد الآن..كيف سأسامح نفسي و إن سامحتها هي..كيف ستسامحني ضحى...أيّ حياة قد تستقيم لي أساسًا بدون ضحى..أنا لا أستطيع العيش بدون ضحى يوليا..لا أستطيع أن أعيش بدونها....... كان يبدو كشخصٍ يهذي..كمن أسقط كل حصونه و أسلحته ضد الحياة فعلًا و لم يتبقى في يده سوى ألم عميق..و حزن يكاد أن يبلغ عنان السماء من شدته.. كيف ستسامحه ضحى ؟ و كيف سيسامحها ؟! من بينهما قد يتجرأ بعد الآن و ينظر في عيني الآخر..و يطلب الصفح !!!! للحظاتٍ طويلة التزمت فيها يوليا الصّمت و هي تقابل اللا شيء بعينيها المبللتين ألمًا لا دموعًا فقط..لحظات طويلة التزم فيها وائل نفس الصمت إلّا من صوت شهقاته التي بدت و كأنها لن تنتهي اليوم.. قبل أن ترغمه يوليا على الابتعاد قليلًا..ثم رفعت نفس اليدين تطوق وجهه هامسة بصوتٍ يحمل نفس الغصة في صوته ؛ _هناكٓ أجوبة مدوية لجميع أسئلتكٓ وائل..و هو الوقت!.. الوقت سيداوي جميع الجروح أخي..ضحى..ضحى ستسامحك..و أنت ستسامحها..هل تعلم لماذا ؟! لأنكما تحِبان بعضكما بجنون !!! كانت تخاطبه بتوسل لشيءٍ مجهول و هي تنظر في عينيه اللتين توقفتا عن ذرف الدموع أخيرًا..لكن الألم بداخلهما كان لا يزال ظاهرًا بوضوح..ثم أضافت ترسم شبح ابتسامة لا تمت للسعادة بأيّ صلة ؛ _أنتما...أجمل مثال للحُب رأيته في حياتي !!! لم يظهر أيّ تعبير جديد في عيني وائل اللتين عادتا لنفسِ الخواء..و كأنه شخص قد فارق الحياة فعلًا..منذ أن..رفع يده على ضحى..منذ أن...فارق ضحى !!! بينما طرفت يوليا برموشها و هي تنقل عينيها بين عينيه للحظاتٍ و كأنها تحاول أن تقتنص أيّ ردة فعل له..و حينما لم تجد..همست تتوسله و هي تشدّد من احتضان وجهه و تقترب ملامسة جبينه بجبينها ؛ _أرجوكٓ وائل..أنتما ستتجاوزان هذا.......... للحظاتٍ أخرى توقعت بأنها لن تسمع أيّ رد منه..إلى أن سمعت صوته المجهد يسألها بنبرته التي تؤكد موته السابق ؛ _هل تؤمنين بهذا...حقًا ؟!!! كانت نبرته تحتوي على بعض..السخرية! تلكٓ السخرية التي لم تحِب يوليا أن تلتفت إليها..فطرفت برموشها المبللة و هي تحرّر وجهه..و امتدت يدها بدلًا عن ذلكٓ ترفع يده هامسة ؛ _دعني أتفقد إصابتك....... إلّا أن وائل هتف يمنعها بصوتٍ بالكاد استعاد قوته ؛ _لا !!! نظرت له يوليا حينها بعدم فهم..إلّا أنه فقط أبعد يده تلكٓ المرة بصرامة..قبل أن يتجاوزها مقتربًا من المنزل بخطواتٍ فقدت كل الغضب السابق..و اكتسبت نفس الإرهاق بملامحه الآن.. حينها..التفتت يوليا تراقب ابتعاده بأسى حقيقي..و همت للحظة بأن تقترب منه لتمنعه من البقاء بمفرده في هذا الوضع..إلّا أنها عادت و تسمرت مكانها شاعرة بأن أيّ مبادرة أخرى قد تفعلها الآن لن تجدي.. لقد بكى وائل طويلًا على كتفها..و تلكٓ كانت أقصى حدود التعبير التي يستطيع أن يصل إليها..لقد كانت تعرفه جيدًا القدر الذي يجعلها متأكدة بأنه قال كلمته الأخيرة لهذه الليلة.. كلمة قصيرة تتكون من ثلاثة أحرف ضئيلة.. لكنها تحمل بأحرفها القصيرة تلكٓ معنى أكبر بكثير..هو لا يريدها أن تعالج يده التي ارتفعت في وجه ضحى ! حتى و إن كان فؤاده لا يزال يتمزق وجعًا على ما كان.. حتى و كبرياءه يئن ملتاعًا بما اكتشفه..فهو لا يزال يرفض أن يرمّم جرحًا تسبب لنفسِه به غالبًا..بعد أن ارتكبت تلكٓ اليد فعلًا محظورًا اليوم ضد زوجته !!! شعرت بأنها مراقبة من مكان ما..فرفعت رأسها مباشرة لتقابل عيني والدها..ذلكٓ الذي كان يقف خلف حاجز الشرفة الرخامي الخاص بغرفته.. لكنه لم يكن يتأمل الأفق كما هو متوقع..فقد كان ينظر في عينيها هي الآن مباشرة..و قد استطاعت يوليا أن تفهم من النظرة التي كانت تحتل عينيه و كل ملامحه.. نظرة حملت نوعًا من...القلق رغم الثبات الذي كان يهيمن على كل ملامحه..بأنه قد شهد موقفها مع وائل بالكامل.. و ربما يكون قد سمع صوت عزفها الـ...شاعري قبلها ! بطريقة ما..فهي لم تستطع أن تزيح عينيها عن عينيه..و بطريقة أشد غرابة..لم تستطع أن تبعد فكرة دارت في ذهنها..أو سؤالًا وجيهًا..هل سيكون والدها قد استطاع تخمين دوافعها الحقيقية الخفية وراء شغفها الجديد !!! هل سيكون قد لاحظ عدم تواجد ضحى بالمنزل ؟! هل سيكون قد استطاع فهم حالة وائل المزرية قبل قليل !! هي لا تستبعد أن يكون ملمًا بكل شيء..فلطالما كانت أكبر هموم والدها..رغم كل شيء..رغم كل الخلافات و رغم هوسه المجنون بالمشفى و الإرث...هي أولاده الأربعة !! بما فيهم مجد و ضحى !!! ضحى !!!!! أجفلت فجأة داخليًا و هي تتذكرها..قبل أن تجد نفسها تشيح بعينيها بعد أن منحت والدها مجرد إيماءة هادئة لا معنى لها في الحقيقة..ثم اقتربت من الباب الكبير الذي تخطته بسرعة في طريقها إلى غرفتها.. كل غايتها..أن تتصل بضحى بما أنها لن تستطيع أن تذهب إليها في هذا الوقت المتأخر..لولا أنها تفاجئت بالمتكلم الصوتي يخبرها بأن هذا الرقم غير متاح الآن...و ربما يكون الهاتف نفسه مغلقًا !!! حينها تراجعت بعد عدة محاولاتٍ فاشلة إلى أن جلست في طرف السرير تنظر أمامها بيأسٍ شديد..تنتظر الصباح بفارغ الصبر لكي تذهب إليها..و تطمئن على وضع أخيها الذي لا تعلم كيف سيكون حاله الآن.. مع العلم أنه كان يقبع في غرفته القريبة من خاصتها الآن..و هي لا تستطيع حتى مع هذا الإدراك أن تذهب إليه !! ____________________________ منذ دقائق و هو ممدّد في نفس المكان..فوق السرير الوثير يقابل السقف الأبيض لهذه الغرفة البائسة بملامح خلت منها كل المشاعر..ربما باستثناء شعور واحد..اليأس و الفشل و الاستسلام.. كان عقله يرسم له مشاهدًا متتالية لهما..مشاهد من ماض بعيد..مشاهد جميلة و ساحرة عاشها برفقتها قبل فترة.. صور متفرقة لهما في كل مكان في هذه الغرفة..ضحكات فقد أثرها اليوم..صوتها الدافء في حواراتٍ طويلة لهما.. ثم...آخر مشهد جميل عاشه برفقتها بهذه الغرفة..كان بعد عودتهما من نزهتهما الطويلة ذلكٓ اليوم..لا يزال يتذكر صوت الضحكات التي تشاركاها يومها بينما يترجلان من السيارة.. قبل أن يقترب منها بسرعة لا لشيءٍ إلّا ليضمها جانبيًا بدون أن يتوقف فمه عن التحرك منتقلًا من موضوع إلى آخر..مواضيع لم تنتهي إلّا بتقدمهما خطوة بداخل المنزل الفارغ كليًا إلّا منهما.. و حينها فقط شعر بنفسه عاجزًا عن الصمود أكثر و هو يتأمل بنهم ملامحها الخلابة الجمال و المبتسِمة باتساع على نكتة ألقاها للتو..فلم يشعر بيده التي امتدت تقبض على ذراعها تعيدها إليه بعد أن تجاوزته بخطوة واحدة.. و قبل أن يمنحها فرصة الفهم أو التساؤل..كان قد قلب وضعيتهما بحيث أصبحت هي تستند بظهرها إلى الباب المغلق..تنظر في عينيه بعينين متسِعتين..جميلتين إلى حد مجنون.. ثم لم يشعر بنفسِه إلّا و هو يهمس مباشرة في اللحظة التي سبقت اقترابه منها ناسفًا كل مسافة بينهما ؛ _كفى..لن أستطيع الصمود أكثر بعد !!! و فقط...أطبق عينيه و هو يتذوق رحيقها بنهم..يستنزف أنفاسها و يجردها من رفاهية الاعتراض..فقد اكتفى بأن رفع ذراعيه الاثنتين يحتضن خصرها ملصقًا إياها أكثر به..قبل أن يشعر بذراعيها ترتفعان بعد لحظاتٍ الدهشة الأولى تبادله عناقه مطبقة عينيها مثله..مستقبلة و مستجيبة لكل ما يمنحه.. بعدها لم يشعر بنفسِه و هو ينخفض في لمح البصر لا لشيءٍ إلّا ليحملها بين ذراعيه بالكامل..ثم همس بصوته اللاهث مبتسِمًا ملأ قلبه العاشق و هو ينظر في عينيها اللتين كانتا لا تزالان تحملان أثر الدهشة ؛ _بما أن المنزل فارغ تمامًا إلّا منا..ما رأيكِ أن نرتكب بعض الهفوات الجديدة ؟!!! و فقط..لم تكن لتعترض أساسًا..و لم يكن هو لينتظر سماع رد يعرفه بقلبه..فتقدم يقترب من السلالم اللولبية الطويلة بدون أن يفارق عينيها المأخوذتين تمامًا به كتلكٓ الليلة.. الفرق بين تلكٓ الليلة و الآن..هو حوارات طويلة خاضاها خلال الأيام القليلة السابقة..لكنها جعلت من علاقتهما تتحول إلى ما هي عليه الآن..جعل علاقتهما الناقصة سابقًا تكتمل.. تصبح أعمق و أقوى و أجمل !!! أو هذا ما ظنه لحظتها على الأقل !!!! التفت ببطءٍ يرمق المكان الخالي بجانبه فوق السرير.. مكانها !!! قبل أن تمتد يده تلقائيًا يلمس وسادتها..تلكٓ الوسادة التي تحمل عطرها..قبل أن يرفعها ببطءٍ مقربًا إياها منه..و لم يفكر كثيرًا و هو يضمها بقوة مطبقًا عينيه.. مغرقًا أنفه في قماشها الناعم.. هناكٓ حيث استنشقت كل جوارحه عطرًا خلابًا لطالما أحب أن يفقد نفسه في سحره.. لكنه لن يفقد نفسه بعد الآن إلّا حزنًا..و حسرة...و ألمًا! ______________________________ هل كانت مرتبطة حقًا ؟! طوال الوقت !!! هذا هو السؤال الذي ما انفكّ يتردّد في ذهنه طوال دقائق أمضاها خارج المنزل بعد انتهاء دوامه..يجلس فقط بدون هدف مع مجموعة من أصدقائه القدامى من الجامعة..لكن بالإضافة إلى هذا السؤال..كانت هناكٓ أسئلة أخرى تؤرق مضجعه.. و إن يكن..بماذا يعنيه هو الأمر أساسًا ؟!! و حتى إن كانت مرتبطة..إن صدق إحساسه الغريب أو ربما...قلقه الغريب المزعج و لم يكن ذلكٓ الشاب أحد أقربائها فما شأنه هو ؟!! بماذا قد يفيده أو ينقصه حتى لو تأكد من صحة هذه المعلومة !!! بحق الله ألم تكن مجرد زميلة عمل بائسة في نظره حتى قبل فترة ! ما الذي تغير الآن ؟! الجواب...لا شيء !!! لا يجب أن يتغير أيّ شيء !!!! لهذا..فقد هز رأسه بقوة و هو يحاول أن ينفض عقله من تلكٓ الأفكار عبر منح تركيزه لذلكٓ الحوار التافه الذي كان يتبادله زملاءه القدامى.. و قد كان عن رحلة تخييم يخطّطون لتنظيمها..حتى أن أحدهم هتف يحاول أن يجذب انتباهه بحماس ؛ _أنا أظن بأنها ستكون فريدة من نوعها..رحلة شبابية بامتياز..ما رأيكٓ مجد ؟!!! انتفض مجد ناظرًا له بتركيز مشوش ليس و كأنه نفس الشخص الذي كان قد قرّر سابقًا أن يجاري هذا الحوار هاربًا من أفكاره التي بدأت تتخذ منحنيات شديدة العته و الاستفزاز.. لكنه لم يلبث أن تنحنح بلا صوتٍ مجبرًا نفسه الآن على رسم تعبير جاد..ثم قال و هو يحمل هاتفه و محفظته من فوق الطاولة و يهم بالوقوف مستئذنًا بنبرة لا تقبل النقاش ؛ _إنها فكرة لا بأس بها..لكنني للأسف لا أستطيع أن أكون موجودًا معكم في هذه الخطة..لدي الكثير من العمل...... ثم أضاف فورًا و هو يرفع معطفه المعلق فوق الكرسي أيضًا ؛ _أستأذنكم الآن يا رفاق.. لم يهتم بعدها لنظراتِ الدهشة المرفقة بعضها بالامتعاض التي كان يرمقه بها رفاقه..أولًا بسبب تعليقه المستفز نوعًا ما رغم نبرته البديهية التي يعرفها معظمهم.. هل قال عن الفكرة التي يخططون لها بكل حماسٍ منذ فترة طويلة بأنها...لا بأس بها! ثم ثانيًا..بسبب اللا مبالاة التي كانت مرتسمة على وجهه و هو ينطق بجملته الأخيرة..قبل أن يلتفت مغادرًا فعلًا غير عابئ بسماع الرد من أيّ منهم..فقد اكتفى بأن ارتدى معطفه الأسود الفاخر فوق بدلته الأشد فخامة أثناء اقترابه من الباب الكبير للمقهى.. بينما زفر صديقه الذي سأله سابقًا و هو يعقب بمجرد رحيله ناقلًا عينيه بين الجميع بامتعاض ؛ _هل رأيتم ؟! إنه لا يتغير إطلاقًا ! لا يزال يعاملنا و كأننا خدم لديه لا أصدقائه منذ سنواتٍ !!! قال أحد أصدقائه الذي كان يجلس في الكرسي الملاصق بين الاثنين الأخريين في مقابله و بينهما مقعد مجد الذي أصبح فارغًا ؛ _اهدأ يا صاح..الأمر لا يستدعي كل هذا الانزعاج..ألا تعرفه منذ وقتٍ طويل و تعرف طبيعته ! إلّا أن الشاب الأنيق بجانبه لم يهدأ..بل قال بنبرة ظهر فيها الاستياء أكثر ؛ _و هل طبيعته تحتم عليه أن يعلق على موضوع نعتبره نحن مهمًا بهذا الشكل المهين !! زفر بعدها باستياء و هو يضيف معقبًا مخاطبًا نفسه ؛ _لكن لا بأس..ستكون هذه أول و آخر مرة أسأله فيها عن رأيه في أيّ شيء..أساسًا لو كان الأمر بيدي لقطعت علاقتي معه أيضًا..لنرى إن كان يستطيع أن يستأجر بعض الأصدقاء بثروة عائلته !! الآن من تحدث كان أحد الشابين الجالسين في مقابله..و قد قال معقبًا باستنكار هادئ ؛ _اووه..ألم تبدأ بالمبالغة قليلًا ؟! حينها نظر له الشاب الأول بنفس النظرة العابسة و هو يتراجع قليلًا في مقعده مشيحًا بأنظاره..بينما قال الشاب الرابع و الذي كانت ملامحه تبدو بشوشة نوعًا ما محاولًا تغيير منحى الموضوع ؛ _الآن دعونا منه و أخبروني..من منكم سيتكفل بتجهيز الأكل في رحلتنا ؟!!! و قد نجحت محاولته فعلًا في مسعاها..إلّا أنهم التفتوا صوبه يحدقون به بوجوه ممتقعة..فقال مؤكدًا بصوتٍ ارتفع قليلًا الآن ؛ _ماذا ؟! رجاءً لا تخبروني بأنكم تخططون لاشتراء الأكل جاهزًا !!! بالله عليكم..إنها رحلة في الطبيعة يا رفاق !! _____________________________ عندما عاد إلى المنزل..كان آخر ما توقعه هو أن يجد ضحى هنا فعلًا ! و بدون وائل !!!! لكنه تفاجأ ما إن اقترب من غرفتها تلقائيًا و كأن كل غايته الوفاء بوعده الغريب السابق ذاك في حال كانت أخته لا تزال هنا..تفاجأ ما إن امتدت يده إلى الضوء الجانبي يشغله بها نائمة فوق السرير فعلًا..بمفردها ! أساسًا لم تكن لتترك الباب مفتوحًا لو لم تكن بمفردها !! حينها تسمر ينظر إلى شعرها الذي كان الشيء الوحيد الظاهر أمامه..فهي قد كانت تنام مولية ظهرها إلى الباب..مندسة في غطاء سميكٍ يكاد أن يخفيها بالكامل.. دهشة شديدة احتلته و جعلته يعقد حاجبيه قلقًا رغم كل مزاعمه السابقة..و رغم رفضه الدائم لمجيء وائل في كل مرة يأتي بها..إلّا أنه كان يعرفها جيدًا..كان يعرف ضحى..و ضحى التي يعرف.. لم تكن لتمضي ليلة واحدة هنا إلّا في حالة واحدة.. حينما تكون قد خاضت شجارًا طويلًا مع زوجها !!! أو عندما يكون زوجها مسافرًا أو منشغلًا إلى حد مزعج !! و حتى في تلكٓ الحالات هي تفضل أن تحل مشاكلها بحزم لا أن تهرع للنوم في هذا الوقت المبكر نوعًا ما بالنسبة لموعد نومها..و ليكون صادقًا بعيدًا عن أحقاده الشخصية..فتلكٓ السمات لم يكن يتصِف بها زوجها أيضًا! أن يتركها هنا بهذه البساطة و يغادر عائدًا إلى منزله !!! و هذا يعيده إلى نفس الاحتمال..ضحى تشاجرت معه !!! طرف برموشه ببطءٍ و هو يخرج من شروده متقدمًا خطوة نحو الداخل و كل غايته كانت أن يطمئن عليها.. إن كانت نائمة فعلًا أو تمارس إحدى حيلها المرهِقة نفسيًا بالتظاهر بالنوم !! إلّا أنه عاد و تسمر تمامًا حينما وقعت عيناه على..المرآة المكسورة !! لقد كانت مرآتها الكبيرة و التي ظلت تحتفظ بها لسنواتٍ طويلة مكسورة فعلًا بشكل بشع..مشوهة بشرخ دائري تمتد منه مجموعة شروخ أخرى ممّا يجعلها تبدو كلوحة في غاية البؤس.. و فقط..كان هذا هو الشيء الوحيد المختلف في غرفتها و الذي لفت انتباهه و كاد أن يجمد الدماء في عروقه و عقله يتخيل العديد من السيناريوهات..ما الذي حدث هنا في غيابه فعلًا ؟!!! أساسًا ضحى كانت تبدو في غاية القلق منذ فترة..و هو رغم تظاهره بالجهل و اللا مبالاة فقد كان قادرًا طوال الوقت على تمييز ذلك ! لكنه فقط كان يرجحه بضمير خائن لآخر موقف بينهما..و استيعابها الجديد لصدق كلماته رغم قسوتها !!! طرف برموشه ببطءٍ و هو يرغم نفسه بالقوة على التقدم أكثر نحوها مبعدًا أنظاره عن شكل المرآة المقلق..إلا أنه تأكد ما إن وصل إليها بأنها لم تكن نائمة فعلًا..حينما تحركت فجأة ترفع الغطاء حتى وجهها بسرعة.. ثم ارتفع صوتها الذي شعر به مجهدًا للغاية..مختنقًا و يشوه ثباته غصة دموع واضحة ! صوتها تسلل إلى قلبه كالسم ليضاعف من قلقه !!! _لا أريد التحدث في أيّ شيء الآن مجد..أرجوك اتركني بمفردي..أرجوك....... ابتلع مجد ريقه و هو يشعر بذلكٓ القلق بداخله يتعاظم أكثر..قبل أن يقترب ببطءٍ إلى أن جلس في طرف السرير..ثم همس بصوتٍ أجش للغاية و هو يمد يده بتردّد يربت بها على رأسها من فوق الغطاء ؛ _لقد أردت أن أضمكِ فقط..كما وعدتكِ سابقًا..تتذكرين !! صمت طويل ساد من طرفها بعد هذه الجملة منه..صمت شعر به كئيبًا للغاية و ازداد قلقه الغريب مع فكرة أنها لا تنوي إجابته..لولا أن تفاجأ بها فجأة تتحرك بهدوء مزيحة الغطاء عن وجهها.. ثم تحركت تستقيم قليلًا جالسة تستند إلى قائم السرير.. و رفعت عينيها تقابل عينيه أخيرًا..حينها...و ما إن نظر في ملامحها..كان حاجباه يرتفعان بما يفوق الدهشة..فقد كانت ضحى...تبدو مختلفة عن كل مرة رآها فيها ! تنقلت عيناه ببطءٍ بين ملامحها و هما تستقران للحظة على أثر الدموع تحت عينيها..شحوب ملامحها الواضح و...الألم الذي يفوق الوصف الذي كان يحتل تلكٓ الملامح.. كانت تبدو كشخصٍ بكى طويلًا قبل مجيئه..بل هي قد بكت فعلًا..و لا يعلم منذ متى و هي على هذا الحال..و رغم ذلك..فقد زمت فمها قليلًا في محاولة استطاع أن يحكم بفشلها لـ...مقاومة البكاء من جديد! و هذا ما حدث فعلًا..فما إن قابلت عينيه.. حتى كانت تعود لتشيح بعينيها من جديد مجهشة في بكاء صامت !! حينها لم يشعر مجد بنفسه و هو يقترب منها فعلًا يجذبها إلى حضنه حيث طوقها بقوة..و فعلت هي المثل..لكن صوت بكاءها تحول من خافت بالكاد تتحكم به إلى شهقاتٍ معذبة انقبض لها قلبه رغم خفوتها.. قبل أن يشدّد من احتضانه لها يهدهدها برفق..ثم همس بعد لحظاتٍ في أذنها.. همس بصوتٍ تخلله شيء من...غضب !!! _لماذا تشاجرتما هذه المرة ؟!! لم يسمع منها أيّ إجابة لوقتٍ طويل..فقد اكتفت ضحى بأن فتحت عينيها الباكيتين تناظر السراب بقلب مجهد.. بحواسٍ مجهدة و روح أنهكها حُب يائس عتيق..ذلكٓ الحب الذي سلمت قلبها لبراتينه..حاربت نفسها سنوات للحفاظ عليه و حمايته..ذلك الحُب الذي كانت هي بنفسِها من سمحت له كما سمحت لصاحبه باستنزافها.. ذلكٓ الحب الذي كان قد قارب على الرسو فوق قارب أمان..قد سلم حصونه اليوم رافعًا راية الاستسلام !!! أطبقت عينيها بقوة و هي تزم فمها أكثر تحاول بيأس و بحزم أن تتحكم في دموعها..و في مشاعرها..بينما تنهد مجد بيأسٍ و هو يشعر بصوتٍ شهقاتها يتلاشى ببطءٍ إلى أن اختفى.. و علم قبل حتى أن يشعر بذراعيها اللتين تحركتا تفصِلان هذا العناق..بأنها ستعتكف طبيعتها المعهودة بالتستر على كل معضلاتها التي تصفها بـ "أمور شخصية" و لن تشاركه أيّ شيء !! و كأنه عدو لذوذ سيقف حائلًا بينهما...لا أخ !!! عقد حاجبيه باستياء داخلي و هو يسمح لها بالإبتعاد إلى أن نظر في وجهها منتظرًا سماع الرد المعهود..كأن تطلب منه بكل رجاء أن يتركها بمفردها..و أنها مرهقة و ترغب بالنوم فقط.. و بالنسبة لمشكلتها مع زوجها..فهما ناضجان كفاية ليستطيعان إيجاد الحلول لكل مشاكلهما -الخاصة- ! لقد ألقت عليه أسئلة عميقة في وقتٍ سابق..لكنها نست تمامًا أن تلقي نفس الأسئلة على نفسها..فهو بدون ظلم أو كذب..لطالما استشعر نفس درجة الجفاء منها..و كأنها...و كأنها تحِب وائل أكثر من حبها له !! تلكٓ فكرة لطالما شعر بمدى حقيقيتها في قلبه !! إلّا أنه لم يسمع الرد المعهود..فما سمعه..كان جملة غريبة تخللت مسامعه بتأثير مختلف تمامًا..و كأنه يسمعها من مكان بعيد جدًا..و كأن هناكٓ مسافات و مسافات تفصل ما بين صوتها و أذنيه.. فقد قالت ضحى..التي شعر و كأنها ليست ضحى التي يعرف..قالت بصوتٍ باهتٍ..محمل بلفحة استسلام غريبة جدًا..أغرب من جملتها نفسها! _أنا و وائل...سننفصل !!! حينها وجد نفسه هو من يتراجع ناظرًا لها بصدمة فاقت حدود الصدمة..بشفاه فاغرة و عينين متسِعتين و ملامح باهتة قد يظن شخص رآها من البعيد بأنها تعود لإنسان سمع الخبر الأسوء في حياته !!! لولا أنه لم يكن خبرًا سيئًا بالنسبة إليه..لكنه كان صادمًا و غريبًا..كحلم فاقد لماهية المنطق ! فهو يعرف ضحى جيدًا..و إن كانت هناكٓ فكرة واحدة لا يمكنها أن تمر في ذهن ضحى... هي أن تنفصِل عن وائل !! ضحى لا يمكنها أن تنفصل عن وائل..الأمر يشبه أن ينفصل الإنسان عن روحه..يشبه أن ينسلخ الإنسان عن جلده..أن يتخلى عن هويته و منطقه و وطنه.. ارتعشت شفاهه قليلًا في محاولاتٍ متعاقبة فاشلة للتحدث..إلّا أنه كان يعود و يتراجع في كل مرة حينما لا يجد أيّ كلمة يقولها..ما الذي يمكنه أن يقوله في هذا الوضع أساسًا ؟!! هل يشجعها على الطلاق بينما هو لا يعرف حتى جذور المشكلة الأساسية ؟! ستموت حينها ضحى حتمًا !!! ثم في النهاية..ما إن استطاع أن يستجمع بعض الطاقة ليهمس كلمة واحدة..سؤالًا واحدًا لم يستطع أن يهمس غيره ؛ _مـ...ماذا.......... حتى كان ينتفض حينما وقعت عيناه أخيرًا على شيءٍ غريب..كان أثرًا واضحًا لـ...صفعة ! فوق وجنتها !!! حينها لم يشعر بنفسِه و هو يمد يده بسرعة يقبض على ذقنها ليدير وجهها متحققًا ممّا رآه..و فقط..و كأن كل أثر للصدمة السابقة قد اختفى من ملامحه و من عقله أيضًا.. نظر في عينيها سائلًا باستنكار شديد..بعينين متسِعتين بشدة..بنبرة لا تبشر بالخير أبدًا ؛ _هل...هل ضربكِ ؟!!!! لم يظهر أيّ تعبير جديد على ملامح ضحى..باستثناء إرهاقها السابق و الحزن الكامن في ملامحها..فقد قالت بعدم رغبة حقيقية في التحدث أكثر و هي ترفع يدها لتنزل يده من على وجهها ؛ _كفى..مجد..رجاءّ......... و قد كانت تلكٓ الجملة منها..هي محفزه لأن يفقد كل ذرة تعقل تأمره بالثبات أكثر..فوقف فجأة هاتفًا بغضب حقيقي و أعمى بدون أن يشعر ؛ _كفى أنتِ...كفى أنتِ ضحى..كفى...لقد سئمت من كل هذا..ما الذي تفعلينه بنفسكِ بحق الله ؟! أيّ حياة هذه ؟! لقد أصبحت أظن بأنكِ تتعمدين هذا......... _ما الذي أتعمده ؟!!! هتفت ضحى تقاطعه من بين أنفاس مجهدة..بدون أن تغير وضعيتها أو تحاول الوقوف..فهتف مجد يجيبها فورًا بنفسِ النبرة التي كانت تمزج ما بين غضب قوي..و شعور حقيقي لامس صوته من...قهر !!! _تعذيب نفسكِ !! صمت لوهلة ينظر في عينيها المجهدتين لاهثًا قبل أن يضيف بصوتٍ أصبح أقل ارتفاعًا الآن..بنبرة خرجت ذات مغزى رغم الانفعال الذي يستوطنها ؛ _أنتِ...تتعمدين معاقبة نفسكِ ضحى..أنا أعلم هذا..أنا أدرك...أنتِ لا تزالين تشعرين بالندم حتى اليوم على ذنبكِ بحق يوليا..رغم أن العالم أجمع قد تجاوز هذا.. اللعنة حتى النذل وائل تجاوز هذا لكنكٓ لا تزالين تعاقبين نفسكِ على أخطاء الماضي البالية..لكن دعيني أخبركِ بأنه مهما بلغت أخطائكِ من فداحة..فهي لا تستحق أن تعيشي كل هذه المعاناة..لا تستحق أن تستنزفي نفسكِ في علاقة مرهقة مثل هذه..لا تستحقي أن تمضي لحظة واحدة إضافية مع رجل يعاملكِ كمجرد مسؤولية غبية تورط بها..كمجرد عبء تم وضعه على كاهله بالإجبار...... كانت ضحى تستمع إليه بفؤاد ينزف حرفيًا وجعًا أشد مرارة من الدماء..و لم تشعر بتلكٓ الدموع التي عادت تتساقط بحرارة من عينيها و كأن كل جوارحها تقر بمدى صدق كل كلمة نطقها.. إنها تخجل حتى من أن تعترف لنفسِها بأن مجد..لطالما كان محقًا !!! لكن ما جعل من تلكٓ العينين المبللتين تتسعان قليلًا دهشة هو...تلكٓ الدموع التي احتقنت بجوف عينيه هو.. بجوف عيني مجد..دموع حقيقية و صادقة انسابت إحداها ببطءٍ.. و ظهر أثرها في صوته الذي اختنق بينما يمد يده إلى أن لمس وجهها مجددًا يشير إلى نفس الأثر بقهر شديد..قهر يكاد أن يماثل قهر والد يراقب ألم ابنته الوحيدة بعجز تام !!! _لا تستحق أن تتحملي إهانة كهذه............ زم فمه بعدها و كأنه يحاول أن يكتم دموعه مثلها..ثم عاد و ترك وجهها..قبل أن يشيح بوجهه متخللًا شعره.. هاتفًا كشخصٍ على وشكِ فقدان صوابه ؛ _هل وصلت به الجرأة أن يرفع يده الآن ؟!! هل يحاول أن ينتقم مني النذل...لا بأس..لا بأس...أنا أعرف كيف سأرد الصاع هذه المرة.......... هل كانت تظن فعلًا بأن مجد لا يشبه والدها ؟!! كم كانت مخطئة إذًا!.. فقد شعرت الآن..في تلكٓ اللحظة و هي تراقبه بجوارح ترتعش..بأنها ترى نسخة مصغرة عن والدها! والدها أيضًا كان ليفقد عقله بنفسِ الطريقة..والدها أيضًا كان ليتغاظى عن جميع الأسباب و الأعذار..والدها أيضًا كان ليهرع مقتربًا من الباب و كل غايته أن........ _مجد !!!! هتفت فجأة توقفه قبل أن يتخطى باب غرفتها و قد استطاعت تلقائيًا تخمين ما ينوي عليه..و قد حاول مجد أن يتجاهلها..بل همّ بأن يكمل طريقه متجاهلًا ندائها.. إلّا أنه لم يستطع..فاستدار بسرعة ينظر في عينيها بصبر محدود..بينما تسمرت عينا ضحى لوهلة على يده التي كانت تتمسكُ بطرف الباب بقوة عنيفة ابيضت لها مفاصله..قبل أن تنقل عينيها إليه مجددًا.. ثم همست بنبرة خرجت تحمل شعورًا مختلفًا..شعورًا دخيلًا من...احتواء غريب استوطنها و جعل من مشاعرها السابقة المؤذية تفقد سطوتها على ملامحها ؛ _لا تذهب إليه..أرجوك.. بدا مجد و كأنه يصارع تناقضاتٍ عدة..كشخصٍ يكابد بداخله ألف حرب و حرب..حينما قال يسألها بصوتٍ لا تعابير فيه ؛ _هل ستخبرينني بما حدث بينكما ؟!! و كما توقع تمامًا...فقد ارتسم تعبير من..أسف على ملامحها..ثم قالت تسدل جفونها قليلًا كشخصٍ يشعر بالخجل ؛ _لا أستطيع.......... تنهيدة بلا صوت حرّرها مجد..بينما رفعت ضحى عينيها صوبه تضيف باستسلام ؛ _على الأقل حاليًا !! حينها لم يتمالك نفسه من أن يسألها مباشرة بنبرة تطلب ؛ _متى إذًا ؟!!! و للمرة الثانية..تسدل رموشها عنه تردّدًا و أسفًا..قبل أن تهز كتفيها في حركة وصله فحواها..هي لا تعرف..ليست مستعدة الآن و لا تعلم متى قد تكون مستعدة !!! رفعت ضحى عينيها تنظر للعتاب الصامت الذي جسدته عيناه في مقابلها..ثم لم تلبث أن همست تحاول أن تخفف من وطأة الأمر بأيّ طريقة ؛ _الأمر ليس كما تتخيله مجد..هذا هو الشيء الوحيد الذي يجب أن تعرفه........ ثم أشاحت بعينيها قليلًا تناظر اللا شيء مضيفة بصوتٍ خافتٍ باهتٍ ؛ _وائل...لم يتعمد أن يفعل هذا..لا يمكنه أن يتعمد أساسًا.. شعر مجد و كأنه على وشكِ فقدان صوابه فعلًا الآن.. حتى أن شعورًا مألوفًا من الضيق استفحل قلبه..و هتف غير قادر على إيقاف نفسه ؛ _لا أصدق..أنا حقًا لا أصدق..ألا تزالين تدافعين عنه حتى في ظل هذا الوضع الراهن........... _لا أدافع عنه !!! همست ضحى تقاطعه بصوتها الذي بالكاد استعاد بعض القوة..ثم أطرقت برأسها و خفت صوتها أكثر و هي تضيف كشخص يخاطب نفسه فقط ؛ _أنا...أقول الصدق فقط..أساسًا...لقد أخبرتكٓ بقراري الأخير......... كانت تبدو كشخصٍ يهذي بكلماتٍ غير مترابطة على الإطلاق..ضائعة تمامًا نظراتها و صوتها..قبل أن ترفع رأسها نحوه فجأة سائلة بنبرة خرجت غريبة ؛ _ألم أخبرك ؟!!! بماذا أخبرته تحديدًا ؟! إنه يكاد أن يجزم من نظراتها بأنها قد نست بحلول الآن مغزى جملتها السابقة أساسًا..و ربما تكون نادمة أيضًا على تهجئة تلكٓ الكلمة أمامه !! تلكٓ الكلمة..التي همسها بدون أن يرف له جفن ؛ _الانفصال ؟! هل هذا هو قراركِ الأخير حقًا ؟! هل أنتِ متأكدة ؟!!! كان يبدو هو الآخر كمن يخاطب إنسانًا يعاني من تأخر ذهني..و أمام عينيه المراقبتين..بهتت ملامحها تمامًا..و ارتعشت شفاهها و كأنها ستمنحه الرد شفهيًا..إلّا أنها عادت و تراجعت في آخر لحظة مكتفية بمجرد...إيماءة يتيمة مسكينة !!! أطرقت بعينيها الباهتتين بعدها تراقب أناملها التي كانت ترتاح فوق غطاء السرير الأبيض..بينما تراجع مجد يستند بظهره إلى أقرب جدار ناظرًا لها بيأس..لولا أن قرّرت هذه الأخيرة أن ترفع رأسها للمرة التي لا يذكر كم.. و تلكٓ المرة..همست تسأله مغيرة كل منحى الموضوع.. همست بنبرة تخللها نوع من...الرجاء !! _هل ستبقى معي إذن ؟!! صمت قصير اعتكفه مجد و هو يكتفي بالنظر لها..إلى أن قال يسألها بصوتٍ خرج يشبه صوتها في إرهاقه و تعبه ؛ _أنتِ تتعمدين فعل هذا..أليس كذلك ؟!!..لكي تمنعيني من الذهاب إليه !! كان شبه متأكدًا من صواب كلماته..إلّا أن يقينه تداعى قليلًا حينما همست ضحى بحرارة شعر بصدقها واضحًا لأقصى حد ؛ _بل أنا أحتاجكٓ فعلًا..أحتاجكٓ بشدة !!! حينها لم يجد بدًا من أن يتنهد باستسلام..ثم تحرك ببطءٍ يقترب منها تزامنًا مع يديه اللتين امتدتا إلى طرفي سترته يتخلى عنها باقيًا بقميصه الرسمي الأسود و ربطة عنقه..إلى أن ارتمى بجانبها فوق السرير.. ثم تراجع يستند برأسه إلى قائمه ناظرًا لها عن قرب بأسى..لولا أن اختارت ضحى تلكٓ اللحظة لكي تقترب منه بنفسها تلكٓ المرة إلى أن أراحت رأسها فوق صدره..و ارتفعت ذراعاها تضمه بقوة مطبقة عينيها..و كأنها محاولة صادقة منها لأن تستشعر ذلكٓ الحنان الأبوي الذي افتقدته منذ سنوات..تحديدًا منذ وفاة والدها.. يينما ساد صمت جديد من طرف مجد..وجد نفسه خلاله يرفع ذراعيه ليحاوط كتفيها يبادلها هذا العناق بقوة أكبر.. و قد ارتاحت شفاهه على جبينها و عقله يعود لضياعه السابق غارقًا في متاهات لا تحصى.. أهمها...إنسانة هي الأقرب إليه اسمها ضحى ! و إحداها.. اسمها ميرنا !! و تلكٓ لا يعلم السبب تحديدًا الذي يجعل صورتها تقفز إلى ذهنه في تلكٓ اللحظة بالذات..إلّا إذا كان قد فقد عقله فعلًا..أو في طريقه لفقدانه !! _______________________________ لا تزال تجهل الطريقة التي مر بها هذا الصباح الذي اعتبرته كارثيًا بكل معنى الكلمة..فقد استيقظت لتتفاجأ بأن وائل قد غادر المنزل منذ الصباح الباكر..و ما كادت أن تنضم لطاولة الطعام تحاول عبثًا التظاهر بالاعتيادية حتى كان يقاطعها صوت والدها الذي سألها مباشرة متجاهلًا والدتها و كأنه يعرف بأنها الشخص الوحيد الذي يمتلكُ الرد على تساؤلاته المعقدة منذ ليلة أمس ؛ _أين وائل و ضحى ؟!!! حينها نظرت له مجفلة في الوهلة الأولى..ثم تعمدت بعدها أن ترفع المنديل إلى شفتيها تمسح ببطءٍ..قبل أن تهز كتفيها هامسة بنفسِ الاعتيادية الزائفة ؛ _كيف سأعلم ؟!!! و كما توقعت..فقد تراجع والدها ينظر لها بملامح شخصٍ لم يقتنع بكلمة ممّا قالته..في الحقيقة فقد نظر في عينيها مباشرة و كأنه يلقي عليها سؤالًا جديدًا..أو يذكرها بأهم معلومة..و هو أنه رأى موقفها مع وائل بالأمس! حينها..لم تجد مهربًا آخر..فزفرت بإرهاق و هي تهمس أخيرًا مجيبة بقلة حيلة ؛ _حسنًا أبي..لقد تشاجرا ليلة الأمس لكنني لا أعرف لما و لا أعرف أيّ تفاصيل أخرى.. لم يتزحزح والدها من وضعيته التي تبدو مريحة ظاهريًا فقط..فقد كانت تعلم كم يشكل إليه وائل و ضحى من مكانة..و كم يشكل إليه ارتباطهما الآن من أهمية..خاصة بعد رفضها الكارثي لمجد..أصبح الوضع يبدو أشد سوءًا و تعقيدًا و بات الحمل على ضحى و وائل أقوى و أثقل.. بينما اتسعت عينا والدتها و هي تتململ في طريقة جلوسها ناظرة لها بملامح شحبت فجأة..فأن يتشاجرا وائل و ضحى شيء..و أن يسمحا هذان الاثنان بوصول هذه المعلومة إلى كل أفراد البيت...شيء ٱخر !! فالجميع هنا تعود على طبيعة ضحى و وائل الكتومة خاصة فيما يخصّ علاقتهما..حتى أنهما لم يسمحا لوالده أو أيّ أحد في التدخل بقرارهما فيما يخصّ الإنجاب من عدمه و هذا لم يكن ليكون أمرًا مقبولًا أو واردًا عند والدها فيما مضى..لولا أنه اضطر أن يرضخ لإرادتهما بعد أن كان السبب أساسًا في ارتباطهما.. _ألا تعلمين بأن ضحى لم تبت هذه الليلة في المنزل ؟!! الآن عجزت يوليا عن التظاهر أكثر..تراجعت قليلًا تعقد حاجبيها بغير ارتياح..بينما هتفت والدتها الجالسة على المقعد بجانبها ترفع يدها إلى صدرها ذهولًا فاق حدود الذهول ؛ _يا إلهي !!!! إلى أن همست تهز كتفيها للمرة الثانية بخفوتٍ..تخاطب والدها فقط رغم القلق الجديد الذي أرسلته ردة فعل والدتها إلى قلبها ؛ _ربما تكون قد أرادت بعض الوقت مع نفسها....... أسدلت رموشها قليلًا تضيف كشخصٍ لا يثق بما يقوله ؛ _و وائل احترم رغبتها.. كان من الواضح جدًا أنها تكذب..و لم يكلف والدها نفسه جهد التظاهر بتصديقها حتى..فقد صمت للحظة يتأملها بملامح لامسها بعض اليأس..قبل أن يهز رأسه مشيحًا بعينيه..هامسًا بينما ينظر لوالدتها المشدوهة تمامًا و يشير بيده في حركة بلا معنى ؛ _وائل !!!! خرجت نبرته ساخرة للغاية تحمل استنكاره الواضح لادعائها بشأن وائل..كونه قد انصاع فعلًا لرغبة زوجته بأن تبيت في منزل آخر بمفردها...حتى و لو كان بيتها! حينها التفتت والدتها إليها تسألها بجدية حازمة ؛ _ما الذي يحدث هنا يوليا ؟! إذا كنتِ تعرفين أيّ شيء فتحدثي !!! شعرت يوليا بأنها عاجزة في تلكٓ اللحظة عن الجلوس أكثر في هذا الوضع المتوتر..فوقفت فجأة لتجيب هذه المرة بنبرة نافذة الصبر ؛ _كفى أمي..لقد قلت بأنني لا أعرف أيّ شيء..ما الذي قد أقوله بعد ؟!! رفعت بعدها حقيبتها و هي تستأنف متعمدة أن تنشغل بتثبيتها فوق كتفها بدل النظر بين ملامحهما المطالبة بأجوبة هي لا تمتلكها ؛ _عمومًا سأذهب للعمل الآن..هناكٓ عملية مهمة تنتظرني و يجب عليّ أن أكون في كامل تركيزي لأجلها...... همت بأن تغادر فعلًا..إلّا أنها عادت و التفتت ناظرة بينهما الآن فعلًا..و قالت تضيف بنبرة لانت قليلًا ؛ _و بالنسبة إلى ضحى فلا تقلقا..أنا سأتحدث معها بنفسِي و أطمئن عليها.. التفتت بعدها مبتعدة نحو الرواق المؤدي للباب..بينما زفر والدها بقوة زفرة سمعتها..كما سمعت سؤال والدتها الذي خرج بعدها محملًا بالقلق ؛ _كيف علمت بأنهما تشاجرا ؟!! و جاء الجواب من والدها ليجعلها تطبق عينيها للحظة متنهدة بيأس ؛ _لقد رأيت وائل عند مجيئه ليلة أمس إلى المنزل..كان يبدو في حالة مزرية جدًا........ فتحت الباب أخيرًا متقدمة نحو الخارج خطوة..و حينها فقط كانت ترفع رأسها قليلًا متنهدة للمرة الثانية..مغمضة عينيها.للنسيم البارد الذي داعب شعرها و قلبها ليرسل شعورًا خادعًا مؤقتًا من الراحة إليها.. لكن حتى ذلكٓ الشعور..تداعى تمامًا ما إن فتحت عينيها مقتربة من سيارتها البيضاء تهم بفتحها..لولا أن تفاجئت قبل أن تستطيع أن تفعل بسيارة تعرفها جيدًا تعبر الباب الرئيسي و تتوقف مصدرة صريرًا عاليًا يدل على غضب صاحبها العارم.. قبل أن تقع تلكٓ العينين المرهقتين على...مجد !!! _هذا ما كان ينقص !!! همست لنفسِها تكاد أن تفقد عقلها و هي ترى هذا الأخير يغلق باب سيارته بعنفٍ مقتربًا من الباب و على ملامحه نظرات لا تبشر بالخير أبدًا..زمت فمها بغيظ و هي تراقبه للحظة واحدة.. قبل أن تفتح فمها هاتفة بدون أن تشعر بغضب ؛ _إلى أين ؟!!! بدا و كأن مجد قد انتبه لوجودها لحظتها فقط..فالتفت بسرعة ينظر لها بنفس الملامح التي فاقت حدود الغضب..حينها زفرت يوليا نفسًا خافتًا تحاول أن تهدأ نفسها..و قالت تمنحه إجابة السؤال الواضح في عينيه ؛ _وائل ليس موجودًا في المنزل !! قالت تضغط على حروفها بتشديد..بينما ارتفع حاجبا مجد قليلًا و هو يقترب منها ببطءٍ إلى أن وقف أمامها..و قال بنبرة لو كانت تقتل...لماتت في موضعها! _ما أدراكِ بأنني جئت لأرى وائل ؟!! قالت يوليا تحاول أن تخرج نبرتها هادئة لأقصى حد ؛ _ألم تأتي لهذا السبب ؟!! كانت تنظر في عينيه تمامًا..ربما المرة الأولى التي تفعل بهذا القرب منذ وقتٍ طويل..و المرة الألف التي تفعل خلال حياتها..و مع ذلكٓ فإنها لا تشعر بأيّ شيء سوى... النفور !!! لقد كانت تنفر فعلًا من مجد..ليس كرجل أو كصديق أو قريب بالدم...بل ما تنفر منه فكرة أن ترتبط هي بهذا الرجل !!! صمت قصير ساد من طرف مجد..ثم فتح فمه يسألها بنفسِ النبرة بينما ينقل عينيه المتأججتين غضبًا بين عينيها و كأنه يتمنى أن تتحول هي ذاتًا لوائل كي يلقنها درسًا.. _أنتِ تعلمين ما حدث بينهما أليس كذلك ؟! تعلمين كل شيء !!! قالت يوليا بدون أن ترمش أو يهتز لها جفن واحد ؛ _حتى و إن كنت أعلم فلن أخبرك !! جملتها هذه و كأنها أكدت ادعاءه السابق..فقال يهز رأسه ببطءٍ ؛ _أنتِ تعلمين فعلًا ! تراجعت يوليا قليلًا تستند إلى سيارتها بدون أن تفارق عينيه..فقد رفعت حاجبًا واحدًا تنظر له بتحدٍ صامت.. ذلكٓ التعبير الذي لمحه مجد..و قال يتجاهله بإصرار ؛ _أين ذهب النذل ؟!!! استطاعت يوليا أن تتكهن بمغزى سؤاله ببساطة..إلّا أنها رغم ذلك..و لذلكٰ الشعور الداخلي الذي انتابها بالغيظ.. قالت تعقد ذراعيها بنبرة خرجت باردة..مستفزة للأعصاب بشكل متعمد ؛ _لأعرف أولًا من تقصِد بقولكٓ "النذل" ؟!!! و بالفعل..فقد ظهر أثر محاولاتها على ملامح مجد..فرأت بعينيها كيف انطبقت شفاهه و احتد فكه بقوة..قبل أن يهز رأسه للمرة الثانية ببطءٍ و كأنه يتوعدها سرًا.. لكن صوته حينما خرج..خرج في غاية الجدية و الانفعال رغم خفوته ؛ _"النذل" أخاكِ صفع ضحى..هل كنتِ تعلمين هذا أيضًا ؟! حينها فقط..كانت تتلاشى تعابير البرود من ملامحها..فقد صمتت للحظاتٍ تنظر له بملامح فقدتا كل التعابير..ثم قالت تتأمل الغضب العارم على وجهه و قبضتاه المغلقتان تكاد مفاصله أن تنكسر لشدة ضغطه..قالت بنبرة ذات مغزى ؛ _إنها ردة فعل قوية جدًا بالنسبة لشخصٍ فعل نفس الشيء لأخته ذات مرة !!! بدا و كأنها قد صفعته بهذا الرد..فتراجع مجد قليلًا ينظر لها ببعض الدهشة الدخيلة التي اكتسحت عينيه..حينها استقامت بهدوء مضيفة بنبرة خرجت في غاية الجدية الآن ؛ _أعلم بأن ما فعله وائل ليس صائبًا..و أنا لا أشجع هذا تحت أيّ ظرف..وائل ارتكب خطئًا فادحًا بحق ضحى.. لكنني أعلم شيئًا واحدًا آخر أيضًا..بأنه أيّ كانت أعذار وائل..فهي لا يمكنها أن تكون سخيفة بقدر أعذاركٓ أنت! حسنًا..لقد ضربته في الصميم الآن ! رغم أن ملامحه ظلت محافظة على ثباتها..و رغم أنه لم يكن بعلم بأيّ شيءٍ حيال مشكلة ضحى و وائل التي قادتهما لهذا الحال.. إلى أن فتح فمه أخيرًا..و همس بشيء توقعته نوعًا ما ؛ _هل تظنين بأن هذه الكلمات قد تجعلني أتجاوز عنه هذه الفعلة و أسامحه ؟! أيّ كانت أسبابه !!! لم يظهر أيّ تعبير للتفاجئ على ملامحها..بل ما ظهر هو نظرة غاية في...الإشمئزاز..قبل أن تستقيم واقفة ببطءٍ.. ثم قالت تنظر في جوف عينيه بنفسِ النبرة المستفزة السابقة ؛ _إذا طلب منكٓ السماح...فلا تسامحه !!! كانت...تسخر منه ! و قد ظهر أثر هذا على الابتسامة اللطيفة التي ارتفعت لها زوايا شفتيها بدون أن تصل لعينيها..كما ظهر على ملامحه التي تعقدت أكثر بدون أن يشيح بعينيه عنها.. فقد ظل يتأمل ابتسامتها الساخرة تلكٓ بأعصاب منفلتة.. لولا أن قرّر في لحظة خاطفة أن يتمالكٰ نفسه..فسحب نفسًا عميقًا إلى داخله و هو يخفف من ضغطه العصيب على أسنانه و قبضتيه..ثم فتح فمه ليهمس فجأة تزامنًا مع التفاتها تهم بفتح سيارتها تريد مغادرة هذه المساحة الخانقة مؤقتًا ؛ _بما أنكِ تتحدثين بكل هذه الثقة فلا بد أنكِ أخبرت أخاكِ العزيز على الأقل بعلاقتكِ المستحدثة الجميلة مع ذلكٓ الرجل الرخيص !!! تجمدت يوليا تمامًا تناظر يدها المتمسكة بمقبض باب سيارتها..بينما تسارعت ضربات قلبها لا تعلم إن كان السبب خوفها من هذه الفكرة بالذات..أن يعلم وائل عن علاقتها المستحدثة الجميلة فعلًا كما وصفها.. أو بسبب انزعاجها الشديد من تلكٰ الكلمة الغبية التي وصف بها...نائل !!! لكنها اضطرت في النهاية لأن ترمش ببطءٍ..ثم تركت المقبض و هي تلتفت صوبه ناظرة له بغضب داخلي انتقل منه إليها..و لم تشعر بشفتيها اللتين تحركتا تهمس من بينهما محذرة بصلابة ؛ _الرجل الرخيص الوحيد ها هنا هو أنت! إياكٓ أن تتجرأ مجرد المحاولة أن تتحدث عن أيّ شخص يخصّني بهذه الطريقة !! كانت تتحدث بصرامة لا تقبل الجدال..بينما تسمر مجد ينقل عينيه بين عينيها بـ...غضب تأججت نيرانه أكثر داخليًا فقط.. إلى أن قال يرفع أحد حاجبيه جذلًا مفتعلًا ؛ _هل هذا هو الشيء الوحيد الذي لفت انتباهكِ من بين كل ما قلته ؟!!! بهتت ملامح يوليا قليلًا و عقلها يعود ليتطرق لموضوع وائل مجددًا..و قد اختار عقلها في تلكٓ اللحظة..استعادة موقفها ذلكٓ اليوم مع وائل..و ردها الكاذب على سؤاله.. هل سيكون مصيرها كضحى الآن ؟! هل سيكون قدر أخيها أن يطعن في ظهره من أكثر إنسانتين مقربتين منه و الوسيلة كذبة بريئة غير مقصودة !!!! انتبهت لمجد مجددًا..لتلكٓ الابتسامة الجديدة و الأولى التي ترتسم في ملامحه لهذا اليوم..ابتسامة قال على إثرها ببطءٍ بينما يتأملها بتركيز متعمد ؛ _ماذا ؟! لا تخبريني بأنكِ وقعتِ في حبه ؟!!! رباه..هل ستسمع هذا السؤال كثيرًا ؟! هل هي مفضوحة إلى هذا الحد حقًا ؟!! أولًا..من أسيل...و تلكٓ كانت غايتها نبيلة لاستمالتها على التحدث أما هذا -النذل الحقيقي- الذي يقف أمامها..فقد كانت نواياه أبعد من أن تكون نبيلة !!! همست تحاول أن تخفي غصة قفزت إلى حنجرتها تكاد أن تخنقها ؛ _هذا ليس من شأنك ! سواء أحببته أم لا فهذا الأمر يعود لي أنا فقط !!! صمتت للحظة ترى محاولاته المستميتة للاحتفاظ بابتسامته تلك..لولا أنه فشل في النهاية..فانزلقت عيناها إلى فكه الذي عاد يحتد بقوة تكاد أن تكون عنيفة.. ردة فعله تلكٓ..أرسلت شعورًا من الرضا إلى قلبها..لكنه كان شعورًا ضئيلًا إلى درجة أنه لم يلامس عينيها..و ظلت فقط تنظر له..غير عابئة بمنحه الإجابة على أيّ من أسئلته..غير عابئة بمشاعره أو ردود فعله.. الشيء الوحيد الذي يهمها في الأمر الآن كان...وائل !! و تلكٰ الجملة التي نطقها بعدها ببطءٍ بعد أن هز رأسه في حركة علمت بأن المغزى منها كان أن يستعيد تركيزه و يتمالكٓ نفسه قليلًا أمام ما تمنحه عيناها من إجاباتٍ مبهمة.. _هل تعلمين ماذا ؟! أنا أستطيع أن أتوقع ردة فعل خالي بكل سهولة ما إن يعرف بأمركِ..لكنني لا أستطيع أن أقول نفس الشيء عن وائل........ صمت لوهلة ينظر لها و كأنه يخاطب صديقة له عن موضوع بسيط..ثم عاد يكمل بنبرة تشبه نظرته ؛ _في النهاية أنتِ تعرفين وائل أكثر مني بكثير..كم يمكنه أن يتمادى في ردود فعله حينما يتعلق الأمر بأخته الوحيدة...أو زوجته !!! كانت يوليا تنظر له الآن بعينين غامتا بعيدًا..نعم..لقد كان وائل رجلًا من هذا النوع..لكنه أيضًا..من جهة أخرى..كان الرجل الأكثر تفهمًا و حنانًا ممّن عرفتهم في حياتها.. لقد كان وائل...مثل سند قوي اعتادت أن تلجأ إليه كدعامة قوية ضد كل مآسيها و معضلات حياتها..كان وائل يشبه ذلكٰ الكتف الذي تسند رأسها عليه غير عابئة بكل هموم العالم.. كان الشخص الذي شجعها على الهرب من تلكٓ العلاقة المؤذية مع هذا الرجل..فكيف لا يشجعها بنفسِ الطريقة على الارتباط برجل جميل كـ...نائل !!! مهلًا..ماذا قالت للتو ؟! ارتباط !!! بنائل !!!! اتسعت عيناها قليلًا غير مصدقة الحد الذي بدأت أفكارها تتمادى في الوصول إليه..قبل أن تعيد أنظارها صوب مجد..كل غايتها الحقيقية أن تهرب من أفكارها..و قالت بنفسِ الصوت الخافت الذي شابه بعض الانفعال الآن ؛ _كم مرة سأخبركٓ بعد..ما يحدث في حياتي أو لا يحدث ليس من شأنك ! لاحظت بأنه كان يتأملها شاردًا..لكنه انتفض بسماع صوتها مستعيدًا تركيزه أخيرًا..ثم قال يجيبها متعمدًا استعمال طريقتها السابقة ضدها ؛ _لكنني أستطيع منحه العقاب المثالي بإطلاعه على خبر كهذا ! حينها لن يعود بحاجة لطلب السماح مني حتى !! الآن التوت شفتاها ترسم نظرة اشمئزاز أكثر وضوحًا..ثم قالت غير قادرة على منع نفسها ؛ _متى أصبحت رجلًا سافلًا لهذا الحد ؟!!! لوهلة شعرت بأنها لمحت تعبيرًا شفافًا من التردّد..أو.. اليأس في عينيه بسماع هذا السؤال..لولا أن صوته الذي ارتفع بعدها يستفزها أكثر أكد لها كذب شعورها ! _و سأفاجئكِ أكثر ! أنا أستطيع تخيل حتى عنوان المقال الذي ستكتبه الجريدة في صفحتها الأولى ما إن تنتشر فضيحتكِ في العلن......... اتسعت ابتسامته التي باتت تكرهها أكثر ببطءٍ و هو يقول بنبرة بطيئة مشددًا على كل حرف ؛ _"الدكتورة يوليا سعد الراجحي الابنة الصغرى للدكتور سعد محمد الراجحي و التي انفصلت حديثًا بعد عن ابن عمتها..تجلب العار لعائلتها............ " صمت فجأة ينظر لها بترقب..بينما ساد صمت طويل من طرف يوليا و هي تحدق به فقط عاجزة عن استيعاب مدى الانحطاط الذي وصل إليه هذا الرجل فعلًا..عاجزة أيضًا عن فتح فمها لوصفه بأيّ كلمة.. فالآن..و لأول مرة..تشعر بأن مفردات العالم أجمعها لن تكفي لوصفه..أو وصف شعورها !!!! لكنها..و بصلابة داخلية..تمكنت من أن تستعيد رباطة جأشها محفزة نفسها على عدم السماح له بلحظة انتصار واحدة..و كانت النتيجة..أن ارتسمت ابتسامة مشابهة لخاصته فوق شفتيها..ابتسامة حملت الكره لا اللطف.. ثم قالت تهمس بنبرة خرجت هادئة فعلًا الآن ؛ _جيد..لكن هناكٓ جملة تحتاج لتصحيح بسيط....... ظهر عدم الفهم على ملامح مجد أمام ابتسامتها و كلماتها..فاستأنفت مصحّحة فعلًا ببطءٍ ؛ _هٓجٓرٓت!...لقد هجرٓت ابن عمتها فوق طاولة عقد القران ! و فقط..و كأنها قد وضعت نقطة ختام للموضوع بأكمله.. فاتسعت ابتسامتها أكثر منتزعة منه راية الانتصار التي كان يهم برفعها ضدها..قبل أن تلتفت بهدوء لتفتح الباب أخيرًا مستقلة مقعدها.. و تلكٓ المرة..كما توقعت تمامًا..عجز مجد عن منعها..فقد تجمد مكانه تمامًا يناظر اللا شيء بملامح بهتت تمامًا كشخصٍ أصيب بالخرس..و قد انطلقت المتسببة بهذا مبتعدة بسيارتها و كأنه غير موجود.. لكنه لم يكن ليتخيل أبدًا..بأن كل تلكٓ التعابير ما كانت سوى واجهة أرادت إنقاذ موقفها أمامه من خلالها..و بمجرد انطلاقها بالسيارة بعيدًا..حتى كانت تلكٓ الابتسامة تتداعى تمامًا و كأنها لم تكن.. و عادت ملامحها لتعتكف شحوبًا جديدًا قلقًا و عيناها تشردان في البعيد..تحديدًا في علاقتها الغريبة بنائل..و ردة فعل وائل لو علم بها..و لو علم تحديدًا.. بأنها كانت تكذب عليه تلكٓ الليلة حينما سألها إن كانت تقابله أم لا !! حينها كانت ملامحها تزداد شحوبًا..و تنهدت بقوة و هي تهز رأسها في كل الاتجاهات محاولة أن تستعيد تركيزها المفقود تمامًا..قبل أن تفتح الزجاج سامحة للنسيم بأن يداعب حواسها كوسيلة إلهاء فعالة مؤقتًا.. و ما كادت أن تصل إلى المشفى..حيث كانت تنتظرها عملية بعد أقل من ساعة من الآن..حتى كانت ترفع هاتفها لتطلب رقم ضحى..انتظرت بعدها و هي تقترب بخطواتٍ سريعة أنيقة من المشفى.. لكنها لم تتلقى أيّ رد في البداية..إلى أن انفتح الخط من الجهة الأخرى و سمعت صوت ضحى...مختلفًا و غريبًا عن ما توقعته !! _مرحبًا يوليا..كيف حالكِ ؟!! كان صوتها...عاديًا !! أو على الأقل..فقد نجحت بطريقة ما في جعله عاديًا !!! لم تشعر يوليا بنفسها و هي تتوقف في منتصف الرواق عاقدة حاجبيها بقلق ازداد أضعافًا الآن..و همت بأن تفتح فمها تريد أن تهمس أيّ شيء..أن تلقي بسؤال ما أو فقط تطلب منها أن تقابلها بعد انتهاء دوامها لليوم..بما أنها لن تستطيع تأجيل مسؤولياتها في العمل إلى وقتٍ لاحق.. لولا أن قاطعتها ضحى..بنبرة أشد غرابة..فقط لكونها خرجت تحمل اعتيادية أكبر ؛ _آه...اسمعي يوليا..أنا في العمل الآن و لدي اجتماع بالغ الأهمية بعد قليل..هل يمكننا التحدث لاحقًا ؟!! الآن فغرت يوليا فمها و هي تتراجع قليلًا حينما مر من جانبها رجل ما كان يسير بسرعة كبيرة..و ابتلعت ريقها تحاول التحدث لكنها عجزت في كل مرة..قبل أن تسمع صوت ضحى تناديها من الجهة الأخرى بقلق ؛ _يوليا ؟!! حينها فقط..وجدت نفسها تجيب مجفلة بكلمات غير مترابطة ؛ _أ..أنا...أنا هنا..أقصد...حـ...حسنًا..حسنًا.. ..... صمتت لوهلة تسحب نفسًا عميقًا إلى داخلها..ثم عادت تضيف هذه المرة بنبرة خرجت ثابتة جادة ؛ _لكنني سأتصل بكِ اليوم حتمًا..أحتاج لأني نلتقي وجهًا لوجه.. _حسنًا !! هذه المرة كان دور ضحى لتمنحها نفس الكلمة كإجابة باهتة لا معنى لها..و ربما كانت تلكُ اللحظة الوحيدة التي شعرت فيها بأن ضحى ليست على ما يرام..و التي ظهرت فيها بعض من آثار أحداث الأمس في نبرتها.. لكنها سرعان ما أغلقت الخط بعدها..و تنهدت يوليا للمرة الألف ربما و هي تنزل الهاتف مستأنفة طريقها نحو مكتبها بسرعة.. و ها هي ذي..بعد أكثر من أربع ساعات على تلكٓ اللحظة.. تقف في السطح الكبير لهذا المشفى..تدس يديها في جيوب معطفها الأبيض الخاص بمهنتها..تراقب من خلف ذلكٓ الحاجز الحجري الذي يصل إلى خصرها حركة الشارع في الأسفل بلا هدف.. كانت عيناها شاردتان تمامًا في البعيد المتمثل في أفكارها المتضاربة بشدة..ما بين قلقها على مصير علاقة ضحى و وائل بعد الآن..و قلقها على نفسِها من تهديد مجد..لا تعرف ممّا تخاف فعلًا إن كانت هي أساسًا تنوي إخبارهم ذات يوم.. في النهاية علاقتها مع نائل لم تعد مجرد علاقة عادية يمكن السكوت عنها و التظاهر بأنها غير موجودة..لكن... متى ؟ و بأيّ جرأة ستخبر وائل بأنها كذبت عليه !! بأيّ جرأة قد تواجه والدها -إن استطاعت أن تواجه قبله نائل بمشاعرها المستحدثة- و هو من كان قد منحها مهلة تفكر خلالها بعلاقتها بمجد و تحاول إصلاحها!! بأيّ جرأة قد تشارك العالم بسرها الصغير !!! ماذا لو سبقها مجد فعلًا ؟! بل ربما يكون قد سبقها فعلًا و لا تستبعد أن يكون الآن برفقة وائل يخبره عن -فضيحها كما لقبها هو فقط.. أما بالنسبة إليها فقد كان ما تعيشه الآن... تلكٓ اللحظات المقتطعة من الزمن مع نائل..أصبحت لديها مثل الترياق لكل هموم حياتها السابقة !!! و كأنها تغادر قوقعة قاتمة في كل مرة تقابله و تدخل معه عالمه الذي يشبه الجنة !!! على ذكر نائل..فقد اتسعت عيناها فجأة و هي تقترب من الحاجز قليلًا ناظرة بتدقيق للأسفل..هناكٓ حيث لمحت سيارة دفع رباعي رمادية تتوقف على بعد أمتار قليلة من المشفى.. و هي لم تكن لتلفت انتباهها لو لم تكن تعرفها فعلًا..إنها... سيارة نائل !!!! _نائل !!!!! همست فجأة بذهول و هي تراقب بعينيها اللتين جحظتا بشدة الباب ينفتح قبل أن يخرج منه نائل فعلًا !! حينها لم تشعر بنفسها و هي تتراجع بسرعة مقتربة من الباب بخطواتٍ شبه راكضة..و بالطبع فهي لم تكن لتستقل المصعد مع كمية الانفعال التي اجتاحتها الآن فهرعت إلى السلالم تنزلها واحدة تلو الأخرى بسرعة.. كانت تركض عبر السلالم بسرعة فائقة..تتمسكُ بحاجزه شاعرة بأنفاسها تخونها متخلية عن وتيرتها الطبيعية..إلى أن وصلت إلى الطابق الأرضي و رغم ذلكٓ فلم تتوقف عن التقدم بسرعة إلّا حينما وصلت إلى الرصيف.. حينها فقط كانت تتوقف ناظرة له من البعيد..كان نائل يقف في الجهة المقابلة لها..على بعد مسافة ملحوظة منها يستند بظهره إلى سيارته..و قد وقعت عيناه مباشرة في عينيها بمجرد أن خرجت و كأنه كان يتوقع خروجها..بل و ينتظره.. كانت أنفاسها تخرج لاهثة الآن و كأنها كانت تخوض سباقًا لمسافة كيلومترات استهلكت كل طاقتها لا مجرد مسافة السلالم الطويلة و بعدها بضعة أمتار عبر الطابق الأرضي قبل أن تصل إليه.. قبل أن تنتفض فجأة على صوت رنة بهاتفها الملقى بجيب بنطالها الأزرق الحريري..فطرفت برموشها و هي ترمق أخيرًا يده التي كانت تحمل الهاتف فعلًا..يضعه على أذنه كشخصٍ كان ينتظر ردها منذ ثوان طويلة.. شعرت بيدها ترتعش قليلًا و هي تخفضها إلى بنطالها تخرج هاتفها إلى أن رفعته إلى عينيها تنظر إلى اسمه..و استوعبت بأنه كان يتصل بها فعلًا منذ أكثر من دقيقة.. خاصة و ذلكٰ الإشعار الذي أمامها بمجرد انقطاع الخط يخبرها بأن هذا اتصاله الثالث !! نفس ثقيل جديد حرّرته و هي تسقط الهاتف رافعة أنظارها إليه مجددًا..لكن أنفاسها ظلت تخرج بنفسِ الوتيرة و كأنها لا تزال تركض..و طرفت برموشها ببطءٍ تشعر بلمعة قوية تحتقن بعينيها.. لمعة لم تستطع أن تميز أسبابها..و لم تستطع أيضًا أن تكبح ظهورها أيضًا شاعرة برغبة داخلية غريبة تجتاحها بـ...بالبكاء !!! هل وصلت علاقتها بنائل إلى تلكٓ الدرجة من التميز كما تفكر فعلًا ؟!! ماذا ستكون ردة فعل نائل لو أخبرته الآن و في هذه اللحظة بأنها...بدأت تحبه !!!! هل...سيقبل بها ؟! هل...سيسخر منها ؟! هل...سيرفضها بكلماتٍ منمقة يتوخى فيها الحذر الشديد من أن يتسبب في جرحها أم أنه فقط...سيبادلها الحُب بالحُب !!! سيمنحها فرصة جديدة ثمينة في حياة أجمل برفقته !! أو ربما فقط...يحضنها مواسيًا !! و ربما تهزمه ضحكة جديدة و هو يطلب منها أن تتوقف عن الهذيان بكلماتٍ مندفعة !! فهي لا يمكن أن تكون قد وقعت في حبه خلال هذه الفترة القصيرة !! لا يمكن لأيّ أحد أن يقع في الحُب خلال هذه الفترة القصيرة !!! إلّا إن كان شخصًا مجنونًا !! حسنًا..هذه لا تبدو كمشكلة أساسًا..فهي لطالما شعرت بداخلها بأنها إنسانة مجنونة !! ابتسامة غريبة ارتسمت في ملامحها..ابتسامة جميلة على نحو ملفت لرجل واحد كان يقف في مقابلها يتأمل ابتسامتها تلك..بعد أن أسقط الهاتف هو الآخر ببطءٍ.. لكنه رفض مثلها أن يقطع المسافة بينهما حتى و صوت الضجيج..حتى و تلكٓ السيارات و خطوات المارين من حولهما تحجب عنهما الرؤية بين كل لحظاتٍ و أخرى.. فقد انتابهما شعور مشترك في تلكٓ اللحظة..و كأن العالم كله قد توقف معتكفًا لون السلام لأجلهما فقط !! إلى أن استقام نائل ببطءٍ مقتربًا منها..و تحفزت ملامحها هي بابتسامة حملت نوعًا من اللهفة..انخفضت عيناها بعدها تراقب خطواته المقتربة بثباتٍ منها..بدون أن تشعر أثناء ذلكٓ بيديها اللتين انغلقتا بداخل جيبي مئزرها في حركة شبه متوترة.. إلى أن وقف أمامها..و حينها فقط فتحت فمها تسأله بصوتٍ خرج متلعثمًا بغير قصد ؛ _أ..أنت هنا...أقصد...لماذا جئت ؟!!!! ارتفع حاجب نائل قليلًا ينظر لها ببعض الدهشة..فتنهدت يوليا بخفوتٍ..ثم هزت رأسها متداركة بنفسِ النبرة ؛ _أقصد...لم أتوقع مجيئكٓ إلى هنا........ للمرة الثانية تصمت فجأة..ثم رفعت يدها تلمس طرف جبهتها بتشوش..تلكٓ التعابير التي ميزها نائل بوضوح..و طرف ببطءٍ و هو يميل برأسه قليلًا ناظرًا لها بتمعن.. لكن عقل يوليا تنبه لفكرة ما..فأسقطت يدها مجددًا و التفتت قليلًا ترمق بوابة المشفى الكبيرة حيث كان لا يزال يدخل و يخرج هنا العديد من الأشخاص من المرضى و الموظفين.. ثم نظرت له مجددًا سائلة تلكٓ المرة بسرعة ؛ _هل أتيت لأجلي ؟!!! كان نائل لا يزال يتتبع كل حركاتها بتمعن و تركيز شديد..حينما أومأ برأسه ببطءٍ و هو يمنحها إجابة صريحة واضحة و بديهية للغاية ؛ _لأجل من غيركِ !!!! تسمرت يوليا لوهلة تحدق به و كأنها تشعر بالدهشة الشديدة من سماع هذا الرد..و هي كانت تشعر بالدهشة فعلًا..رغم كل ما وصلت إليه علاقتهما اليوم إلًا أنها لا تزال تشعر بالدهشة من أقل كلمة و بادرة و بـ..السعادة! بينما تلكأ نائل و هو يخفض أنظاره قليلًا يرمق يده التي أخرجها من جيب بنطاله للتو..و قال و كأنه يحاول أن يتدارك الموقف شارحًا سبب مجيئه الحقيقي ؛ _في الحقيقة..لقد ارتعشت يدي اليوم !! أطرقت يوليا قليلًا تنظر إلى يده مقطبة الحاجبين..قلقًا!! قبل أن تسمع صوته يهمس مضيفًا بدون أن يرفع رأسه أو ترفعه مستمرة في التحديق بأنامله التي كانت تبدو ثابتة الآن بعيدًا عن تلكٓ الارتعاشة البائسة التي تصيبه أحيانًا و كم أصبح يقلقها رؤيتها !! _لقد كنت أختبر بعض الأدوات الجديدة من أجل النادي الرياضي..أخبرتكِ ذلكٓ اليوم....... رفع رأسه بعدها ينظر في أعماق عينيها المترقبتين لتتمة ما قاله..و صمت للحظة واحدة كما أصبح يفعل في كل مرة يقابل فيها تلكٓ العينين قبل أن يستأنف بخفوتٍ و عيناه تتجولان بين كل ملامحها قبل أن تعودا لتستقران في عينيها..مستقره الذي بات يشبه الوطن بالنسبة إليه! _حينها فجأة...لا أعرف كيف خطرت ذكرى من الماضي في عقلي..كما يحدث دائمًا...أقصد..أحيانًا...كانت لي أنا برفقة ريم و والدتها بالطبع..كنا نجلس في متنزه جميل يقبع في أطراف المدينة..أنا بجانب روان..و ريم تتزحلق في إحدى الألعاب العامة المركبة أمامنا..ثم فجأة..و بينما ريم تنظر في عيناي ملوحة بيديها بحماس......... صمت فجأة و شعرت يوليا بأن صوته قد تحشرج قليلًا في آخر كلمة..فقالت تحثه برفق..تحاول بكل ما تمتلكه من جهد و طاقة أن تتجاهل اسم زوجته.. طريقة نطقه لاسم زوجته..و الألم الكامن في عينيه بينما يتحدث عن زوجته !!! _مـ...ماذا حدث ؟!!! أطرق نائل برأسه قليلًا ينظر إلى يده مجددًا..بينما ظلت هي تراقب جميع تعابيره عن قرب..تنتظر بلهفة داخلية مجنونة أن تسمع التتمة..أن يرفع رأسه مجددًا نحوها فقط...لتطمئن على عينيه !! إلى أن قال فعلًا..همس يضيف بصوتٍ خرج خافتًا جدًا الآن..لكنها سمعته بوضوح و كأنه كان يصرخ !! _ثم فجأة..تفقد ابنتي توازنها و تسقط من مسافة البضعة أمتار أرضًا !! أمام عيناي !!!! الآن كان دور يوليا لأن ترتعش رموشها..و مالت قليلًا تدقق النظر بوجهه بقلق أكبر..لكنه فقط ظل صامتًا.. مطرق الرأس مصرًا على إخفاء كل مشاعره الحقيقية التي كان يشاركها بها فعلًا بكلماتٍ صريحة عنها.. و حينما طال صمته..و شعرت بأنها لن تحتمل هذا الوضع بعد..همست تبتلع ريقها ببطءٍ ؛ _نائل ؟!!!! إلّا أن نائل لم يرفع رأسه..بل لمحت بقلب يخفق بقوة تلكٓ الارتعاشة التي أصابت شفتيه الآن..ارتعاشة تشابهت مع ارتعاشة رموشها و يده..حينما قال من بينهما..لا يزال مطرق الرأس بنفسِ الطريقة ؛ _أتذكر يومها بأنني كدت أن أفقد صوابي خوفًا و قلقًا.. لقد هرعت إليها كالمجنون أرفعها من الأرض و أتفقد الجرح الغائر الذي خلفه وقوعها في طرف جبينها..كانت روان..قلقة بنفسِ القدر أيضًا..كلانا شعر بأنه سيفقد عقله و نحن نتفقدها بلهفة شديدة..و قد كانت ريم..كانت تبكي بشدة..كانت تتألم بشدة..لا أخفي عليكِ وضعي قبلها..فأنا لا أتذكر حتى بأيّ صمود استطعت أن أحملها بذراعاي الهلاميتين لأنقلها للسيارة ثم إلى المشفى....... صمت جديد طاف في المكان..هذه المرة كان مرفقًا بدمعة انسابت ببطءٍ من عينها اليمنى..و ارتعشت يدها لارتعاشة يده و هي تلصقها بمئزرها الأبيض تقبض على قماشه بقوة لم تشعر بها.. إلى أن رفع رأسه نحوها..فسحبت نفسًا متهدجًا تكاد أن تشكره على هذه البادرة..فقط لكونه قد رفع رأسه أخيرًا يمنحها تلكٓ العينين حيث استطاعت أن تميز لمعة واضحة من الدموع.. ثم همس من بين شفاهه المرتعشة..للمرة الألف يشاركها هي فقط مشاعرًا لم يكن ليشاركها مع أيّ أحد في العالم..للمرة الألف تكون هي الشخص الوحيد الذي يخطر في باله في لحظة كهذه و يلجأ إليها بدون تردّد! _لقد حدث هذا تحديدًا...قبل ثلاثة أشهر من...وفاتها ! كان ينظر في عينيها تمامًا الآن..حينما سقطت عيناها على تلكٓ الدمعة التي تحرّرت ببطء من عينه اليمنى.. دمعة أرسلت شعورًا مجنونًا إلى داخلها بـ...العجز..و بألم غير مطوع..حتى أنها لم تشعر بأسنانها التي انغرست في طرف باطن شفتها السفلى و كأنها حركة فقط تمنع بها نفسها من التهور بحركة أخرى.. و لا..هي لم تكن تتمنى التمسكٓ بيده الآن..بل ما أرادته فعلًا...هو أن ترفع نفس اليد تلكٓ التي كانت تئن لتخليصه من ارتعاشته فقط لتلمس تلكٓ الدمعة..و تمسحها برفق شديد.. إلى أن همس نائل يهز رأسه مشيحًا بعينيه عنها..يحاول كعادة باتت مألوفة أن يخفي ضعفًا واضحًا عن عينيها.. لولا أن صوته الذي خرج مختنقًا..حال دون ذلكٓ كليًا! رغم أنها في الحقيقة لم تكن في حاجة لصوته لتمييز كل مشاعره الحقيقية ! إنها حتى باتت تندهش من هذه القدرة العجيبة التي أصبحت تمتلكها ضده..أن تقرأ كل سكناته و حركاته و ما تخفيه تعابيره من أسرار بكل سلاسة ! _لو كنت أعلم يومها..فقط لو خطر في ذهني احتمال فقدانها عما قريب..فقط لو استطعت أن......... لم تستطع يوليا أن تتمالك نفسها في تلكٰ اللحظة.. فامتدت يدها فجأة تتمسكُ بيده..و قبل حتى أن يستطيع نائل الذي صمت فجأة ينزل عينيه إلى تلكٓ الحركة أن يستوعب حركتها.. كان صوتها يرتفع تلكٓ المرة بحزم ؛ _تعال معي ! نظر لها نائل مجددًا رافعًا أحد حاجبيه ببعض الدهشة.. لكنها دهشة خالية من أيّ بوادر رفض..دهشة منحتها الرد الذي لم تسمعه بصوته..فالتفتت فجأة تحثه متمسكة بيده على مرافقتها فعلًا.. و هو..كاليوم السابق..حينما أمرته أن يجلس و فعل..فقد طاوعها اليوم و سار بدعمها سامحًا لها بأنه تأخذه أينما تشاء..كان يسير بمحاذاتها متنقلًا بعينيه المتسِعتين قليلًا بين مدخل المشفى الرئيسي الذي تجاوزته بمنتهى البساطة..و بين جانب وجهها بتعابيره الحازمة الٱن رغم لفحة واضحة من...حيرة كانت تحتل تلكُ الملامح ! قبل أن تعود عيناه لتستقران في نفس المكان مجددًا.. أناملها الملتفة حول يده تكاد أن تختفي تلكٓ الأنامل الرقيقة بداخل يده لا العكس !! كاد أن يفتح فمها ليسألها عن هذا المكان الذي تنوي أن تأخذه إليه بينما لا تزال ترتدي معطفها الطبي..لولا أن تنبهت عيناه قليلًا و هو يراها تدور حول المشفى نفسه.. و علم في النهاية بأن غايتها هي الباب الخلفي الصغير حيث توقفت أخيرًا مجبرة إياه على التوقف أيضًا..نظرت له بعدها بدون أن تفارق يده و كأن أناملها قد استساغت ذلكٓ الالتحام الذي باتت تشعر به روحيًا.. قبل أن تفتح فمها هامسة بجدية لم تخلو من نفس الحيرة التي لمحها قبل قليل في ملامحها فقط و الآن في صوتها أيضًا ؛ _هذا الباب مخصص للموظفين فقط و للحالات الضرورية..أي أنكٓ أنت حصرًا غير مسموح لكٓ بالدخول منه ! ارتفع حاجب نائل أكثر الآن..و قد هم أن يفتح فمها ليسألها بكل غباء..و ما العمل الآن إذًا ؟! لماذا جئت بي إلى هنا أساسًا !!! لولا أن سمعها تستأنف مبتلعة ريقها بنبرة خرجت مضطربة بعض الشيء الآن..مضطربة..بعينيه..و بأناملها المتشابكة مع خاصته كشخصٍ اتخذ قرارًا عظيمًا بأن لا يفارق تلكٓ اليد بعد تحت أيّ ظرف كان ! _لم أرد أن ندخل من الباب الرئيسي..كنا سنلفت الانتباه جدًا حينها ! للمرة الثانية يهم نائل بسؤالها عن مغزى ما تقوله فعلًا..و للمرة الثانية أيضًا تقاطعه قبل أن يفعل..فقد قالت تحرّر تنهيدة خافتة طويلة ؛ _لهذا لا بأس من خرق قاعدة بسيطة جدًا كهذه و الدخول منه..للمرة الأولى و الأخيرة ! لماذا عليهما أن يدخلا أساسًا ؟! كتم نائل هذا السؤال بداخله و هو ينظر لها باستغراب حقيقي الآن..لولا أن انحرفت عيناه بغير إرادته على..تلكٓ الابتسامة الجديدة التي ارتفعت لها زوايا شفتيها ببطءٍ.. ابتسامة..تشبه في مغزاها طريقتها في التمسكِ بيده ! كشخصٍ اتخذ قرارًا قاطعًا للتو !! لكنه لا يعرف ماهية هذا القرار !! و لا يعرف إن كانت تلكٓ الحيرة في أعماق عينيها نابعة من...تردّد طفيف يهدّد ذلكٓ القرار !!! كل تلكٓ كانت أفكار كتمها بكامل إرادته الآن..و اكتفى بأن منحها إيماءة بطيئة لم تبدو ذات معنى له هو حصرًا لا لها..فقد اتسعت ابتسامتها القلقة قليلًا..قبل أن تعود لتشيح بعينيها عنه ببساطة.. و بنفسِ تلكٓ البساطة..تقدمت نحو الداخل لا تزال تتمسكُ بيده و كأنه طفلها الصغير الذي تخشى أن يضيع الطريق إلى وجهتهما المنشودة لو أفلتته.. سار نائل بجانبها كشخصٍ مأخوذ الأنفاس مسلوب الإرادة فاقد للإدراك إلّا من حقيقة واحدة..أن الفتاة الوحيدة التي باتت تخطر في باله و تملأ كل جزء من عقله في آخر فترة.. تتمسكُ بيده الآن..تحفزه برفق غريب..بدفءٍ غريب و كأنها تتعامل مع الشخص الأقرب إليها في العالم على السير بمحاذاتها في طريق شبه مظلمة لا يعرف نهايتها.. لكن من يأبه بالنهاية حينما تكون رفيقته بهذا...السحر ! المفارقة الأكبر..أنها لم تترك يده حتى حينما وصلا إلى السلالم الكبيرة..و كاد نائل أن يجزم بأنها قد نسيت ذلكٓ التواصل بينهما..فقد كانت تبدو شاردة بينما تتقدم أمامه درجة سلم واحدة في كل مرة يصعد هو بهدوء لاحقًا بها.. إلى أن توقفا أخيرًا في حاجز الباب..حينها فقط كانت يوليا ترمش بعينيها مطرقة برأسها قليلًا ترمق أناملهما المتشابكة بملامحها التي لم تفقد هدوءها رغم لفحة التردّد الجديدة التي اكتسكت عينيها خلسة.. راقبها نائل بهدوء و هي تتسمر للحظة على نفس الوضع.. ثم فجأة..في لحظة خاطفة لم يتوقعها..شعر بأناملها التي ارتخت ببطءٍ تكاد أن تتخلى عن يده..و تلك المرة.. كان هو الشخص الذي يتصرف باندفاع لم يحسب له حسابًا.. فلم يشعر بأصابعه إلّا و هي تعود لتشتد حول يدها إلى أن أصبح هو من يتمسكُ بها الآن لا العكس..حركة كانت غايته منها أن يقف حائلًا أمام فرصتها في إنهاء ذلكٓ التواصل الغريب.. حركة...أجفلتها بشدة..و ظهر هذا في عينيها اللتين اتسعتا قليلًا في مقابل عينيه اللتين تضاعف الهدوء بهما ليس و كأنه نفس الشخص الذي كان يسرد لها موقفًا صعبًا عاشه اليوم فقط.. ثم فتح فمه ليهمس بصوتٍ متثاقل قليلًا الشيء الأول و الوحيد الذي خطر في ذهنه الساهم بها ؛ _في الحقيقة..ما أردت قوله فعلًا منذ مجيئي هو أنني... أنا......أحتاج لهذا ! تشوشت ملامح يوليا الساهمة كخاصته و هي تسمع هذه الجملة منه..فزفر نفسًا ثقيلًا لا صوت له و هو يضيف شارحًا و متداركًا ؛ _ذلكٓ التمرين............. صمت فجأة.. فهمست يوليا تحثه بخفوتٍ ؛ _ذلكٓ التمرين... ؟!! بدا و كأنه قد نسي الطريقة المثلى للتحدث أو الرد..فساد صمت قصير لبضع لحظاتٍ..إلى أن قال أخيرًا يميل برأسه قليلًا في حركة تشبه الاستسلام أو التسليم ؛ _تعلمين كم أفادني !! الآن كان دورها هي لترفع حاجبها ببعض..الحُب..لا الدهشة!.. ثم ارتسمت ابتسامة أخذت تستوطن ملامحها الجميلة بتمهل..و همست تتخلى عن القلق الملتصِق بعينيها منذ أن أتى مؤقتًا فقط.. _لقد قمنا به في الأمس فقط !! تلكٓ المرة..خرج صوته بسلاسة و بساطة شديدة و هو يهمس سائلًا ؛ _يمكننا أن نقوم به اليوم أيضًا ؟!! و كانت إجابتها..هي تلكٓ النظرة التي ازدادت دفئًا في عينيها..قبل أن تلتفت ببطءٍ لترمق المصطبة الحجرية الطويلة في مقابلهما على بعد أمتار..و همست تحاول أن تتغاظى عن وتيرة خفقات قلبها التي كانت تتضاعف بهستيريا..في كل مرة تستوعب أنامله حول يدها..و تشعر بتلكٓ الأنامل تشتد أكثر في تشبثها بها.. _دعنا نجلس هناك ! لم يمانع نائل..لكنه لم يترك يدها أيضًا..بل كان هو من قادها الآن نحو المكان الذي أشارت إليه و كأنه قد كتب بأنامله رسالة مشفرة إلى أناملها..أنه لن يتركها بعد ! و بالطبع لن يسمح لها بتركه !! تلكٓ كانت أفكارها هي لحظتها..و تمنت لو تناشد تلكٓ الخواطر المجنونة الواقع فعلًا! لو تكون تلكٓ هي غايته فعلًا..لو يكون مدركًا لتلكٓ الغاية !! لو يتشبث بها نائل باستماتة و يمنعها من أن تتركه بعد !! حينها كانت لتحارب العالم بأكمله لأجله ! لأجل ذلكٓ الشعور الوليد الدافئ و الجميل بقلبها..و كأنها طفلة صغيرة فعلًا قد فتحت عينيها للحياة للتو باكية بشدة..قبل أن يسنتكين بكاءها بكل رقة ما إن يتم وضعها بين أحضان والدتها الآمنة ! ثم تستوعب بأن ذلكٓ المكان الجديد غير المألوف الذي دفعت إليه بغير إرادتها أو تخطيطها..أصبح وطنها الوحيد و هويتها !!! جلست أخيرًا بجانبه فوق المصطبة المرتفعة بمسافة نصف متر تقريبًا عن الأرض..و تعمدت في خضم غرقها بداخل أفكارها المتضاربة المجنونة..أن لا ترفع رأسها نحوه بعد منشغلة في التمسكِ بيده بكلتا يديها الآن حيث شرعت تمارس سحرها الفتاك في تأثيره عليه.. كانت تسدل شعرها اليوم..تتركه طليقًا حرًا ينساب باستقامة..ربما باستثناء غرتيها الفاتنتين اللتين حجبتا عن عينيه جزءًا كبيرًا من تلكٓ الملامح أثناء إطراقها..و للمرة الثانية تراوده رغبة في أن يمد يديه برفق فقط ليزيح تلكٓ الخصلات الجميلة عن مجال نظره سامحًا لعينيه بالتجول بين كل تفاصيلها.. تمامًا كما كان عقله و قلبه منشغلان بتأمل تحركات أناملها السلسة فوق يده..و كأنها معالجة نفسية لا طبيبة جراحة تمارس وظيفتها في تهدئة قلبه و التخفيف من روع رجل مسكين هزمته ذكرى أليمة من الماضي.. لم تدرك حينها أن ما كانت تقوم به فعلًا..هو أنها ساهمت في تدهور خفقات ذلكٓ القلب أكثر..لكن بطريقة أخرى.. غير مؤلمة..غير جالبة للحزن أو الدموع.. إلى أن قررت أن تقطع الصمت فجأة..و قالت بصوتها المستكين الهادئ اليوم على نحو ملفت بدون أن ترفع رأسها أو تتوقف عن ما تفعله بإخلاص ؛ _أخبرني... ! لم يفهم نائل مغزى تلكٓ الكلمة منها في البداية..فالتزمت يوليا الصمت لوهلة مقدرة ردة فعله رغم أنها لم ترها مباشرة..ثم همست تستأنف بنفسِ النبرة..كمعالجة نفسية خبيرة تخاطب مريضها الوحيد و الأعز إلى قلبها!! _أخبرني أيّ شيءٍ يخطر في ذهنك..مشاعركٓ بالتحديد لحظتها..ردة فعلكٓ الأولى ما إن خطرت الذكرى نفسها في عقلك..أخبرني كل شيء..لكن بدون استعمال كلمة "لو" !! كان نائل يراقبها بإخلاص..ضائع تمامًا بين الغرق في ملامحها و تعابيرها و رغبته السابقة المجنونة في أن يمهد لنفسه الطريق لتلقف تلكٓ التعابير أكثر..و بين حركات أناملها و صوتها المطالب بأشياء لم يكن يمتلكُ رفاهية القيام بها سابقًا ! أن يجلس إلى جانب أحد ما..إنسانة جميلة بهذا القدر.. و كأنها..و كأنها ملاك مرسل إلى الجنة بهدف إنقاذه من وحوش الماضي المرير..و من براتين عقله المجنون الذي لا يكف عن التطرق لذلكٓ الماضي رافضًا النسيان.. أن...يبوح بكل تلكٓ السلاسة منتظرًا التفهم من عينين تترقبان كل ما سيقوله قبل أن يقوله حتى باهتمام شديد جدًا..بإخلاص شديد جدًا..أن يخفق قلبه بهذا الجنون و الهستيريا لسبب آخر عدا معضلته الحقيقية ! أن يخفق لأجل..امرأة..أيّ امرأة...ذلكٓ أمر لم يكن واردًا إطلاقًا حتى قبل فترة !!! _ردة فعلي ؟!!! همس ببطءٍ..لكنها لم ترفع رأسها رغم ذلك..قالت تحثه بخفوتٍ ؛ _هممممم ؟!!! حينها..تنهد بيأسٍ و هو يميل برأسه نحوها يتأملها بتمعن أكثر..و حينما طال صمتها أكثر من اللازم..فتح فمه يهمس تلقائيًا الرد الوحيد الذي خطر في ذهنه ؛ _أنتِ !!! و كأنه قد صرخ باسمها مناديًا من أبعد مكان في الأرض.. رفعت رأسها نحوه مجفلة بشدة..حتى أنه تراجع قليلًا يحدق بها عاقد الحاجبين ببعض الدهشة.. لولا أن تمالكت يوليا نفسها..فقالت تسأله بصوتٍ خرج مضطربًا بشدة الآن ؛ _مـ...ماذا قلت ؟!!! هزت رأسها بتشوش بينما هي تهمس مصحّحة و هي تتوقف عن التربيت على يديه بأناملها الفنانة بدون أن تتركها ؛ _أ...أقصد...مـ...ماذا أنا ؟!!! حينها..قال نائل يجيبها بثباتٍ بدا أشد غرابة من ردة فعلها السابقة ؛ _ردة فعلي الوحيدة كانت أنني تذكرتكِ...أنتِ !! فغرت يوليا فمها قليلًا تنظر له كمن أخذ تمامًا بتلكٓ الجملة..بينما استأنف هو ينقل عينيه بين عينيها بصدق.. بنبرة خرجت ساهمة نوعًا ما الآن ؛ _لقد...شعرت بحاجة شديدة لرؤيتكِ في الحال..أردت أن أرى ابتسامتكِ..أن أنظر في عينيكِ..أن أسرد لكِ ما شعرته اليوم بالتفصيل بينما أنظر لهما بهذا الشكل..بهذا العمق..أردت أن...أعيش تجربة الأمس مجددًا..أن...أقوم بنفسِ التمرين لكن ليس بمفردي..حينها............... صمت فجأة ينظر لها متنهدًا بثقل..بينما شحبت ملامح يوليا في مقابله ليس و كأنه قد منحها للتو كلمات تسربت إلى دواخلها بتأثير السحر..لتنشر شعورًا جميلًا من..بعض السكينة و تضاعف من حيرتها السابقة في نفس الوقت! كان من الواضح أنها لن تتحدث..و كان من الواضح أيضًا أنها لن تزيح بعينيها عن خاصته ما لم يضع تتمة لآخر جملة..و هو فعل..همس يستأنف و كأنه يخاطب نفسه فقط بصوتٍ خرج خافتًا جدًا ؛ _حينها...لن يعود له أيّ جدوى !!! طرفت يوليا برموشها ببطءٍ و هي تحرك شفتيها تهم بقول شيءٍ ما..لكن عجزًا غريبًا تمكن منها جعلها تعجز في كل مرة..ثم في النهاية..ما إن استطاعت أن تجد صوتها..همست بعينين غامتا كليًا بضياع تام ؛ _نائل...... !!!! فقط!.. هذا كان الشيء الوحيد الذي استطاعت همسه..ثم لم تشعر بنفسِها و هي تشيح بعينيها عنه مطرقة برأسها مجددًا..لكن ما فعلته تلكٓ المرة أن سحبت يديها ببطءٍ محرّرة يده..و قالت تلتفت ناظرة للأفق أمامهما غير مدركة للفراغ الذي خلفته حركتها السابقة ؛ _لقد..انتهيت !! حينما رفع نائل يده..لم تكن هناكٓ أيّ ارتجافة تحتل أنامله..لكنه شعر بارتعاشة من نوع آخر تكتسح قلبه..و عينيه اللتين انسابتا عليها مجددًا ينظر لها بصمت الآن.. يرى شحوبها الغريب اليوم..القلق الكامن في عينيها حتى و هي تنظر بعيدًا..تلكٓ الحيرة و التردّد القميء.. التفت بعدها مرغمًا ليتأمل اللا شيء..و طاف صمت جديد للحظاتٍ أخرى..إلى أن شعر بها فجأة تلتفت صوبه..فالتفت إليها تلقائيًا ينظر لها باهتمام لامس عينيه فقط..فقد ظلت ملامحه تحافظ على ثباتها و جديتها المعهودة و التي قد تبدو مبالغة أحيانًا.. استطاع أن يميز محاولتها الأولى للتحدث..لكنها عادت و تراجعت كما فعلت عدة مراتٍ اليوم..حينها قال هو غير سامح لها باعتكاف ذلكٓ التردّد أكثر ؛ _تريدين أن تقولي شيئًا !!! تلكأت يوليا أكثر و هي تنظر في عينيه بكل الاهتمام الذي استطاعت تمييزه بسهولة بهما..قبل أن تهمس بصوتٍ خرج مترددًا فعلًا ؛ _في الحقيقة..أريد أن أسألكٓ شيئًا لكنني أخشى........... _تخشين ؟!!! قاطعها نائل فجأة بهذه الكلمة التي خرجت تحمل استنكارًا حقيقيًا و كبيرًا..فتجمدت يوليا لوهلة تنظر له بدهشة..لكنها لم تلبث أن أومأت ببطءٍ شارحة فعلًا ؛ _نعم ! أخشى أن تسيء فهمي لأن السؤال......... صمتت لوهلة ثم عادت تضيف بصوتٍ تحول إلى أشد خفوتًا ؛ _يهم حياتكٓ الشخصية !!! الآن كان دوره لأن يعقد حاجبيه قليلًا ناظرًا لها ببعض الدهشة..لكن صوته خرج ثابتًا للغاية و هو يجيبها ؛ _لم يعد هناكٓ شيء اسمه "حياة شخصية" بيننا بعد الآن يوليا..أنتِ أصبحتِ تعرفين كل شيءٍ عني فعلًا !!! وميض من ابتسامة غير مكتملة لامس ملامحها القلقة و هي تتأمل تلكٓ الكلمات البديهية التي نطقها للتو..هل وصلا إلى هذه المرحلة بالفعل ؟! هل أصبحت قريبة منه إلى هذا الحد ؟!! تنهيدة طويلة حررتها و هي تلتزم الصمت متعمدة للحظاتٍ..إلى أن فتحت فمها مجددًا تهم بالتحدث..لكن ما قالته الآن كان عكس ما توقعت..و لا يمت بصلة للشيء الذي أرادت قوله فعلًا ! فقد همست تميل برأسها قليلًا بنبرة شابها بعض..المزاح المرفق بدفءٍ لا مثيل له اكتسح صوتها و عينيها ؛ _لا أعرف والدتك..أنت لم تتحدث معي عنها من قبل !! ارتفع حاجبا نائل قليلًا بجذل..لكنه لم يرفض سؤالها رغم ذلكٓ و لم يعقب عليه..قال يجيبها ببساطة شخص مستعد لأن يجيب جميع أسئلتها اليوم..بشرط أن تكون الإجابة متوفرة لديه !! _لقد توفيت عندما كنت في سنتي الثانية من الجامعة..و كانت قبلها ربة منزل ممتازة..و إنسانة في غاية الروعة ! كان يتحدث ببديهية فعلًا..نفس البديهية التي بات يخاطبها و يجيبها بها منذ عدة أيام..و التي كانت و لم تعد تدهشها بنفسِ القدر بعد..لكنها لا تزال تسعدها داخليًا في كل مرة بقدر أكبر !! ثم قال يضيف سائلًا بجدية ؛ _ماذا تريدين أن تعرفي عنها أيضًا ؟!! ماذا تريد أن تعرف عن والدته ؟! عن والده ؟! عن ابنته و عن كل فرد من عائلته ؟! الكثير الذي لا تستطيع عده !! إنها مستعدة حتى لأن تمضي ما تبقى من عمرها تجلس بجانبه بهذا الشكل..و تسمع حكايا منه عن نفسه و عن تلكٓ العائلة التي فقد جميع أفرادها !! بما فيهم زوجته أيضًا !!! زوجته كانت الفرد الوحيد من عائلته الذي لا تشعر بقلبها بخير كلما سمعت حكايا عنها منه ! كلما لمحت الشوق الجامح في عينيه..و هي لا تملكُ حتى رفاهية التحكم بذلكٓ الشعور رغم الأنانية التي تلفه من كل جهة !!! زفرت بخفوتٍ و هي تهز رأسها في حركة شبه مرئية كان الهدف منها طرد أفكارها الغريبة تلك..ثم همست تخاطب عينيه بنفسِ ابتسامتها غير المكتملة و صوتها المستكين لأقصى حد عكس خفقات قلبها! _لا شيء حاليًا.. أومأ لها نائل ببطءٍ..قبل أن يهمس مجددًا ؛ _ألن تسأليني إذن ؟!! حينها فقط..كان يتلاشى أيّ أثر للابتسامة و هي تتسمر للحظة تنظر له فيها بصمتٍ..قبل أن ترمش ببطءٍ و همست أخيرًا بينما تشيح بعينيها قليلًا عنه مسدلة تلكٓ الرموش الشقراء الكثيفة ؛ _زوجتك !! تنبهت حواس نائل و كأنه لم يكن يتوقع تلكٓ الكلمة رغم أنه في أعماقه كان قد استعد لتقبل سؤالها أيّ كان..بينما استأنفت يوليا لا تزال تسدل رموشها بنفسِ الطريقة ؛ _لقد...لاحظت شيئًا......... كاد نائل أن يهتف بها مطالبًا بإتمام كلامها بسرعة بدل نطق بضعة أحرف ثم التوقف فجأة في كل مرة..لولا أنها رفعت عينيها أخيرًا نحوه..فتراجع قليلًا بعينيه فقط و هو يسمعها تستأنف بصوتٍ خرج أكثر تماسكًا الآن ؛ _لقد كنت تتحدث منذ قليل..في الأسفل بحرقة شديدة عن تلكٓ الذكرى..و عن ألم فقدان ريم..لكنني لاحظت بأنكٓ كنت تتحدث عنها هي فقط..رغم أنكٓ فقدت زوجتكٓ أيضًا في نفس الوقت !!! بدا و كأنها قد ضربته في الصميم بكلماتها الصريحة.. حتى أن نظرة عينيه بهتت قليلًا كشخصٍ تلقى لكمة حقيقية..كمن يستوعب شيئًا جديدًا لم يستوعبه قبل اليوم..إلًا أنه رغم ذلكٓ لم يلتزم الصمت..و لم يستطع حتى فهم المغزى أو تقبل ملاحظتها كما وعد نفسه.. فلم يشعر بصوته المتلعثم قليلًا الذي ارتفع يجيبها ببعض الحدة أو الاستنكار ؛ _هذا لأن الذكرى كانت عن ريم.......... صمت فجأة ينظر لها بعدم فهم..قبل أن يرتفع صوته مجددًا سائلًا بعدم فهم فعلًا ؛ _ماذا تقصدين بالضبط ؟! ألست حزينًا على فقدان زوجتي ؟!!! هتفت يوليا بصوتٍ خافتٍ كشخصٍ ينفي عن نفسه تهمة شنيعة ؛ _بالطبع لا !!! _ماذا إذًا ؟!!! قال يسألها فورًا بجدية قاطعة..فتردّدت يوليا للحظاتٍ.. قبل أن تهمس متجنبة عينيه مجددًا بصوتٍ لامسه بعض الإرهاق الآن ؛ _أنا أقصد...أنا أعلم بأنكٓ حزين فعلًا على موت زوجتك.. هذه حقيقة لا تخضع للنقاش لأن هذا هو الشيء الطبيعي فعلًا لكنكٓ......... صمتت فجأة..فتحفزت ملامح نائل أكثر متلهفًا لسماع التتمة..و هي فعلت..استرسلت تبتلع ريقها بتوتر ؛ _ربما يكون حزنكٓ على ابنتكٓ أشد و أقوى...و هذا ما يجعلكٓ تتذكرها مرارًا بشكل أكبر..هذا ما يجعلكٓ تسهب في التحدث عن مشاعركٓ بعد فقدانها رغم أنكٓ عمليًا فقدتهما سويًا......... كانت ملامحه تزداد انفعالًا صامتًا و لهفة غير جميلة على الإطلاق لسماع التتمة..قالت يوليا أمام عينيه تحاول أن يكون صوتها مسالمًا لأقصى حد ؛ _و هذا إن كان يعني شيئًا فـ.......... الآن شعر نائل بصبره يبدأ بالنفاذ..فقال يحثها بجدية ؛ _لماذا لا تكملين كلامكِ مباشرة ؟!!! و كأن سؤاله هذا قد منحها التحفيز لأن تحرّر كل ما في جعبتها فعلًا..و فعلت...همست تلقي السؤال الأساسي الذي كان يملأ عقلها طوال الوقت ؛ _ألا تزال تحِبها ؟!!! الآن تحول الاستنكار إلى شيءٍ أكبر..و قال نائل يجيبها بصوتٍ قاطع ؛ _بالطبع أحِبها..لقد كانت زوجتي !!! لكنه لم يدرك كم كانت تبدو أجوبته مائلة إلى النمطية و غير مقنعة..إلّا حينما قالت يوليا بصوتّ استعاد ثباته بأعجوبة ؛ _ألا تزال تحِبها..لأنكٓ تحِبها فقط..أم لأنها...كانت زوجتك! شحبت ملامح نائل عند هذا الحد تمامًا..و تراجع هذه المرة فعلًا ينظر لها فاغر الشفاه قليلًا متسع العينين.. حتى أنه أشاح بوجهه أمام نظراتها الصريحة في انتظار رد واضح.. ذلكٓ الرد الذي هو ملزم بتقديمه لنفسِه أولًا..لا لها ! ألا يزال يحِبها..بدافع الحُب فقط..أم لأنها...كانت زوجته! هل هو حزين على موتها لكونه لا يزال يحِبها..أم لأنها... كانت زوجته فقط و هذا هو الشيء الطبيعي الذي يجب أن يشعر به أيّ شخصٍ في مكانه !!! تاهت عيناه تمامًا و عقله يطرح على نفسه مجموعة أسئلة متلاحقة عجز عن استنباط الرد عليها فورًا..إلى أن وجد نفسه يبتلع ريقه في النهاية ملتفتًا صوبها ببطءٍ..و نظر لها..لعينيها الثابتتين الآن..المترقبتين.. و اللتين ارتفعتا قليلًا ترمق التقطيبة الواضحة بين حاجبيه..قبل أن تعود لتقابل عينيه مجددًا بنفسِ الإصرار على سماع الرد.. و قد جاءها الرد..جاءها بصوته المتهدج بإدراكٍ جديد لم يكن ليمر في عقله بهذا الشكل المباشر لولاها.. لولا تلكٓ اللحظة و كلماتها! _لأنها...كانت زوجتي !!! ربما كانت جملته الحقيقية تبدو أعمق..ربما ما كان يود نطقه في دواخله هو.. " لأنها...كانت زوجتي..فأنا ملزم بالبقاء على حبها..و بالحزن عليها ما حييت! " كانت كلمات نطقتها عيناه الضائعتين تمامًا في دواماتٍ غريبة..و اللتين ازدادتا ضياعًا و هما تتنقلان بين عينيها اللتين اتسع بؤبؤيهما قليلًا في نفسِ اللحظة التي منحها الرد فيها.. كانت عيناهما قريبتان جدًا في تلكٓ اللحظة..نفس تلكٓ اللحظة التي طالت جدًا حتى بدت و كأنها لن تنتهي..كما لن ينتهي نهمها الداخلي لتأمله..و سماعه..و لـ...إغداقه بحُب جديد عفيف لا ينفكّ يزداد تمكنًا من قلبها! ثم وجدت نفسها..بدون أن تشعر..تهمس على إثر رده السابق بنبرة في غاية...الخفوت و الاضطراب ! _حسنًا هل...هناكٓ احتمال لأن ترتبط بامرأة أخرى يومًا ؟! فغر نائل شفتيه على نفسٍ لاهث..بدون أن يشيح بعينيه عن عينيها..بدون أن يتجرأ على التحرك حتى متجمدًا في نفس الوضع و بنفسِ الملامح الضائعة مسبقًا..و التي ازدادت ضياعًا بسؤالها.. ربما الشيء الوحيد الذي استطاع تحريكه كانت شفتيه و هو يفتحهما و كأنه سيقول شيئًا ما..لكنه عجز تمامًا في الوهلة الأولى..فعاد يبتلع ريقها ببطءٍ مستمر في التنقل بين عينيها الحزينتين و المتلهفتين داخليًا لسماع الرد.. إلى أن همس في النهاية بصوت..بنبرة..بكلماتٍ خرجت تلقائيًا من فمه..بعيدًا عن إدراكه العقلي..فقد قال الصدق الوحيد الذي شعر به في قلبه ؛ _هناك !!!! أومأ ببطءٍ و هو يكرّر مؤكدًا بنفس النبرة التي اختنقت قليلًا بغصة غريبة أحكمت سيطرتها على حواسه ؛ _هناكٓ احتمال !!!! كان من الواضح جدًا مغزى سؤالها..كان من الواضح جدًا مقصِدها الحقيقي..هل هناكٓ احتمال أن يرتبط بامرأة أخرى..بمعنى...هل هناكٓ احتمال أن يرتبط بها هي !!!! و هو منحها ردًا يحمل نفس مغزى سؤالها المبهم !!! نعم..هناكُ احتمال...إذا كان هناكٓ احتمال واحد أن يرتبط مجددًا بأيّ امرأة..فستكون هذه المرأة هي ! من غير الوارد أو المنطقي أساسًا أن يرتبط بغيرها !!! من غير الوارد أن تخطر الفكرة نفسها في ذهنه حتى !! لكن..من غير العادل أيضًا أن يستسلم لتلكٓ الفكرة..لذلكٰ الشعور ! أن يتجاهل كل المنطق الذي يصرخ بعكس ما يشعر به و ينصاع فقط لجشع عاطفي بات يستوطن قلبه بضراوة في آخر فترة يرغمه بأن..يحتفظ بها !! و قد فاقمت من تهييجه هي اليوم بنظراتها..بأسلوبها و سؤالها !!!! بينما شحبت ملامح يوليا أكثر و هي تقرأ الرد المبطن حتى و إن كانت تلكٓ النظرة الجديدة التي لاحت في عينيه و هو ينقلهما أكثر بين عينيها و كأنه يتعرف عليها من جديد تحاول أن...تنفي ذلك! ابتلعت ريقها ببطءٍ شاعرة بلسعة غريبة من الدموع تحرق عينيها..حتى أن بريقًا واضحًا ظهر في أعماقهما مجسدًا مدى صعوبة ما تعيشه الآن..ما تشعر به.. كما جسدت ذلكٓ أناملها التي ارتجفت فوق المنضدة بينهما بدون أن يتسنى لنائل رؤيتها..لكنه استطاع بوضوح رؤية و تمييز الارتجافة الأقوى التي اكتسحت رموشها و شفتيها.. تلكٓ الشفاه التي تحركت ببطءٍ تشكل جملة ما كان ليتوقع سماعها في...أغرب أحلامه ! لن يقول أجملها! جملة خاف من أن يسمعها ما إن استطاع عقله تكهنها تلقائيًا..فتسمرت عيناه على شفتيها يتأمل تلكٓ الكلمات التي خرجت من بينهما خالصة بقلب خافق عاجز تمامًا عن إيقافها !! _نائل أنا...في الحقيقة أنا...أنا أظن بأنني بدأت أحبك...... صمتت فجأة لاهثة الأنفاس..و اتسعت عينا نائل بقوة و هو يطرف برموشه ليرفعهما مجددًا محدقًا في عينيها حينما استأنفت بصوتٍ اختنق و تحشرج بشدة بعد أن سمحت لدمعة بائسة مسكينة بالانسياب ببطءٍ حارق على وجنتها.. _بل أنا...أنا أحبّكٓ فعلًا..أنا أحبّك..أحبّك..أحبّك........... !! كان صوتها يزداد اختناقًا و ضعفًا في كل مرة تكرّر فيها نفس الكلمات بإصرار غريب..بينما احتقنت أنفاسها أكثر.. و انسابت دموع حقيقية الآن من عينيها الاثنتين..إلى أن صمتت تزم فمها قليلًا..تنظر في عينيه مباشرة كمن ينتظر سماع الرد الذي سينهي حياتها...أو سينقذها !! بينما شحبت ملامح نائل أكثر و أكثر إلى درجة أنه لو مر أحد من جانبهما الآن..لظن بأنه مريض يعاني من نوبة غريبة تجعله عاجزًا عن كل شيء.. و هو قد كان عاجزًا بالفعل..شعور اجتاحه بقوة مخيفة و كان مصدره الرئيسي صوتها قبل قليل بينما تهتف بتلكٓ الكلمات كمن يكشف عن أكثر أسراره خطورة..و أجملها! لقد كان نائل..سرها الأجمل في العالم..يجب عليها أن تعترف بهذا بعد الآن سواء شاءت أم أبت !! و كأنما تم تكميم لسانه عن التحدث بعد..و كأن ثقلًا وهميًا قد جثم فوق روحه و فوق قلبه يمنع عنه رفاهية التنفس بعد..التحرك بعد...و التكلم !! حتى أنه لم يرمش بعينيه طوال ثوان ظل فيها يحدق بها فقط..كتمثال جميل من الشمع الخالص..لكنه شاحِب و باهت و حزين بقدر جماله !!! حينما تأكدت من أنه لن يتحدث..بل خافت أن لا يتحدث بعد ! فتحت شفتيها المرتعشتين تهمس من بينهما بصوتٍ مرتعش ؛ _نائل... !!! و كأنها قد أيقظته من غفوة عميقة..غفوة اجتاحت عقله فقط..انتفض كالملسوع ينظر لها بعينين متسعتين تخللهما شيء يشبه...الخوف !!! قبل أن يقف فجأة ليدور حول المصطبة الحجرية مبتعدًا بسرعة لم تستطع أن تستوعبها فالتفتت تراه يتوقف على بعد خطواتٍ منها..يستند بيديه إلى جانبيه محدقًا أمامه و قد أولاها ظهره فلم تستطع أن تميز تعابيره.. وقفت ببطءٍ تدور حول المِصطبة هي الأخرى مقتربة منه إلى أن وقفت خلفه مباشرة على بعد مسافة صغيرة.. لكنها لم تستطع أن تفعل أكثر من أن تقف هناكٓ تطرق برأسها قليلًا بينما الدموع تنساب تباعًا من عينيها.. و أمامها..ظل نائل يقف في نفس الوضع للحظاتٍ طويلة..إلى أن سمعت صوته يهتف همسًا كشخصٍ يخاطب نفسه باعتراض شديد ؛ _لم يكن يجب أن يحدث هذا..لم يكن يجب أن يحدث هذا..هذا ليس عادلًا..هذا ليس عادلًا........... كانت كل كلمة ينطقها و تفهمها بالطريقة الوحيدة التي تستطيع..تخترق قلبها كسهم نافذ..ذلكٓ السهم النافذ الذي انغرست حوافه الحادة في عينيها المبللتين بدموع سخية لم تذرف مثلها منذ وقتٍ طويل.. ثم أطرقت أكثر تهمس الشيء الوحيد الذي خطر في بالها و أنامل يديها الاثنتين ترتعش بشدة بداخل جيوب معطفها الأبيض ؛ _لا بأس إن كنت لا تبادلني المشاعر..أستطيع تفهم هذا نائل..عمومًا ربما أكون قد تسرعت قليلًا لكنني أريدكٓ أن تعلم شيئًا واحدًا..و هو أن آخر شيء قد أتعمد فعله هو وضعكٓ أمام الأمر الواقع..أنا فقط...فكرت أنكٓ ربما تكون منجذبًا لي أيضًا أو.............. التفت إليها نائل فجأة لينظر لها باستنكار شديد هاتفًا بما جعلها تنتفض داخليًا ؛ _منجذب لكِ ؟!!! نظرت له يوليا من بين أنفاسها المتدهورة غير قادرة على التفكير بأيّ شيءٍ الآن أو على فهم مغزى الغضب الكامن الذي ظهر في عينيه بشكل مفاجئ..و كأنها...و كأنها قد قالت شيئًا خاطئًا !!! ثم زفر تنهيدة مرهقة و أكتافه المنتصبة بغضب سابق تتهدل نحو الأسفل إعياء..و قال يهز رأسه في حركة شبه مرئية..قال يخترق حصونها كما فعلت هي قبل قليل! _تلكٓ الكلمة البسيطة لا يمكنها أن ترتقي لوصفِ ما أصبحت أشعر به نحوكِ منذ فترة !!! الآن سالت دموعها أكثر..و همست بصوتها المتحشرج تحاول أن تتشبث بأمل باهت استنطبته من تلكٓ الجملة المختصرة ! _ما الخطب إذًا ؟!!! صمت قبيح التزمه نائل أمامها للحظاتٍ..صمت خال من كل بوادر الأمل..صمت كان ليهدم حتى ذلكٓ الأمل الضعيف أكثر من صوته الذي ارتفع مجددًا يكرّر بنبرة شابها نوع من...السخرية !! _ما الخطب ؟! هل نطقتِ للتو بسؤال كهذا حقًا ؟!! رفع ذراعيه بعدها يفتحهما على وسعهما مستأنفًا بمرارة ؛ _ألا ترين !!!!! لم تستطع يوليا أن تفهم أيّ شيء..الحقيقة أنها المرة الأولى التي تشعر بنفسِها غبية إلى هذا الحد..إلى أن قال نائل يستأنف بمرارة ازدادت أضعافًا في صوته و عينيه ؛ _أنا لست رجلًا يصلح للإرتباط بعد يوليا !! أنا لست رجلًا قد يليق بأيّ امرأة بعد الآن ! فماذا لو كانت هذه المرأة هي أنتِ !!!! نطق آخر كلمة بنبرة خرجت مختلفة..و كأنه يصف بذلكٓ شيئًا عظيمًا..شيئًا أجمل و أرقى من أن يستطيع أن يبلغه إنسان مثله !!! بينما عقدت يوليا حاجبيها تنظر له باستنكار شديد أمام كل الكلمات التي داهمتها كالرصاص..ثم لم تشعر بنفسِها و هي تقترب خطوة أخرى نحوه هامسة بغباء فعلًا ؛ _لماذا ؟!!!! تلكأت شفتاها قليلًا أمام العجز الماثل في عينيه و هي تضيف بتلعثم عاطفي ؛ _أقصد...ألم تقل للتو بأنكٓ تبادلني...أقصد..بأنكٓ معجب بي أيضًا !!!! لم يتردّد نائل من الهمس مؤكدًا بجدية لم تخلو من ذلكٓ العجز السابق ؛ _نعم..و أنا أقف وراء كل كلمة نطقتها..لكن منذ متى كانت المشاعر وحدها كافية لنجاج أيّ علاقة في العالم !!! هتفت يوليا بصوتٍ ارتفع قليلًا جذلًا و استنكارًا ؛ _بالنسبة لي هي أكثر من كافية !!!! إلّا أن نائل فاجئها برده اليائس بمجرد أن صمتت ؛ _هذه معتقداتكِ أنتِ..لكن الواقع شيء آخر !!! تراجعت يوليا قليلًا تنظر له ببعض الانهزام..قبل أن تهمس الآن بصوتٍ خرج متخاذلًا ؛ _هل تستوعب حتى ما قلته لكٓ منذ قليل ؟! أنا أخبركٓ بأنني أحبك..أحبك..و أنت لا تزال تصنع أعذارًا سخيفة لو كنت تعرفني بالقدر الكافي لفهمت فورًا بأنني لا أهتم بها مثقال ذرة !!! صمتت لوهلة واحدة تنظر في أعماق عينيه بتدقيق..ثم عادت تهمس بيقين الآن ؛ _ليس حينما أكون متأكدة بأن ما أفعله هو الصواب !! لكن و كأنها كانت تهذي بكلمات غير مترابطة..قال نائل يجيب جملة واحدة بعينها بصوتٍ خافتٍ مستسلم ؛ _ربما لا أعرفكِ جيدًا فعلًا..لكنكِ تعرفينني بالقدر الكافي..ألا تعرفينني ؟!! لم تمنحه يوليا أيّ رد باستثناء نظراتها المتخاذلة..حينما استأنف هو يصفعها بحقائق لا تؤمن بها ! _أنا رجل فقد ابنته و زوجته في نفس الوقت و بطريقة مريعة..قبل أن يفقد نفسه هو الآخر..أنا رجل تخلى عن كل أحلامه و أسباب عيشه مؤثرًا الهروب من كل العالم على الاستمرار بتمثيلية التظاهر أمام الناس بأنه واحد منهم..رجل تخلى عن نفسه مسبقًا و لولا فداحة الفكرة لقرّر الموت منذ وقتٍ طويل..رجل مثلي...لا يملكُ من الطاقة لإسعاد نفسه حتى..أنى له أن يسعدكِ ؟!!! لكمات متتالية شعرت يوليا بألمها في قلبها و هي تستمع إلى كلماته التي لم تحمل الجدية فقط الآن..بل اليأس و الحزن و الإستسلام و...الحسرة !!! حسرة كبيرة كانت تكتسح عينيه..حسرة لم يملك من الطاقة لإخفاءها عنها! لكنها حسرة رأتها غبية و مستفزة..فقط لأنها لم تظهر في مكانها الصحيح ! قالت تجيبه الآن بصوتها الذي خرج ثابتًا رغم أمارات الألم في عينيها ؛ _بنفسِ الطريقة التي استطاع بها أن يجعلني سعيدة في كل مرة قابلته بها طوال شهرين متتالين..بنفسِ الطريقة التي جعل بها إنسانة مثلي..لا تؤمن بالشغف...تعتكف شغفًا جديدًا ! صمتت فجأة تنظر له بأمل حقيقي بزغت أطيافه في عينيها الآن..بينما لانت ملامح نائل قليلًا و عقله يخمن مغزى آخر جملة تلقائيًا..و قد كان ليصدق ذلكٓ التخمين الطبيعي جدًا و المنطقي.. لولا أن قرّرت يوليا أن تقترب الخطوة الصغيرة المتبقية بينهما..ثم ما فعلته..كان أن أخرجت يديها من جيبي معطفها تقربها منه ببطءٍ إلى أن..تمسكت بيديه الاثنتين بين يديها الآن.. و قالت تهمس أمام عينيه بما جعل من خفقات قلبه التي اعتكفت الموت طويلًا..تخفق بقوة هستيرية مستعيدة قبصًا من الحياة التي كان قد نسِي الطريقة الصحيحة لعيشها! _هذا الشغف...هو أنت نائل ! لقد عشت طوال حياتي أحاول أن أبحث عن مفهوم الشغف لكنني لم أستشعر معناه فعلًا إلّا بعد أن قابلتك ! تنهيدة طويلة محملة بحرارة شعورها الآن حرّرتها و هي تضيف بصوتٍ أجش بينما أناملها تطبق على أنامله أكثر ؛ _أنت أصبحت شغفي الوحيد بعد الآن نائل ! و الذي لم أعد أشعر بقابلية الحياة بعد بعيدًا عنه ! نزفت عيناها دموعًا جديدًا بطيئة و هي تكرّر للمرة التي لا تذكر كم ؛ _أنا أحبكٓ نائل..لا أخجل من الاعتراف بهذا..لا أخاف من الاعتراف بهذا..كما أنني أعلم بأن الأمر قد يبدو غريبًا حين التفكير بتاريخ أول لقاء حقيقي لنا..و ربما قد تخطر في ذهنكٓ فكرة التشكيك فيما أقوله الآن لكن هذا هو شعوري الحقيقي..لا أعرف كيف..لا أعرف متى و لماذا بهذه السرعة لكنني فقط...أحبّك !!! لمحت للمرة الأولى اليوم..تلكٓ الدمعة الحقيقية التي انسابت من عينه اليمنى ببطءٍ..دمعت تحرّرت تحمل معها أثر ما سمعه للتو..و تحرّر معها صوته الذي خرج خافتًا جدًا..متألمًا جدًا..و ضائعًا كعينيه اللتين أسدلهما عنها يراقب اللا شيء ؛ _لم يكن يجب أن يحدث هذا........ كان يهز رأسه بالنفي ببطءٍ بينما يتحدث..ثم أضاف بدون أن يرفع رأسه نحوها لا يزال يومئ برأسه معترضًا كشخصٍ يهذي ؛ _لم يكن يجب أن يحدث هذا يوليا..أنا..أنا لا أستحقكِ يوليا........ رباه..ألن ينتهي هذا الحوار أبدًا ؟!! ارتعشت شفاهها للمرة الألف و كأنها ستقول شيئًا..إلّا أن نفس العجز القبيح وقف حائلًا..إلى أن رفع نائل رأسه نحوها يمنحها نظراته المتألمة لم تدري ألأجلها أم لأجله.. و قال بصوتٍ فقد سطوته فجأة متشحًا بحسرة أكبر ؛ _أنا...سأؤذيكِ يوليا!...و ربما قد يمتد هذا الأذى إلى درجة فقدانكِ إلى الأبد...كشريكة حياة..و كصديقة........ صمت لوهلة قصيرة ينقل عينيه بين عينيها..ثم عاد يضيف بنبرة خرجت تحمل شعورًا مختلفًا الآن..شعورًا أعمق و أقوى..و أشد حزنًا و صدقًا! _و إذا كانت هناكٓ فكرة واحدة أصبحت أمقتها أشد المقت هي أن...أفقدكِ !!! كانت يوليا تستمع إليه بقلب خافق بقوة..و بملامح بهتت بشدة..لا تعرف إن كان عليها أن تبتسِم الآن سعيدة لأجل ذلكٓ الجانب العصي المختبئ بداخلها عميقًا و الذي لمسته تلكٓ الكلمات..ذلكٓ الجانب الذي لطالما استغله مجد ضدها ليهينها ويعايرها به ! جانب يوليا...تلكٓ المراهقة الوحيدة البائسة و التي لا تملكُ أيّ أصدقاء باستثناء ابنة عمتها..تلكٓ التي تم بصمها من قبل العالم بأنها إنسانة غريبة الأطوار..مؤثرين بدل البحث عن تفسيرات علمية..حصرها في خانة مغلقة الزوايا لكل واحد منهم.. حتى أنها تلقت شتيمة غريبة ذات مرة..لكنها مؤلمة بنفس القدر..شتيمة لم تنجح بنسيانها أو تجاوز أثرها حتى هذا اليوم.. مسخ !!! لقد وصفتها أحد زميلاتها في الإعدادية بتلكٓ الكلمة فعلًا !!! حتى أن الجملة بحد ذاتها تكررت في ذهنها.. و شعرت بقلبها يهوي و عقلها يسافر للحظاتٍ بعيدًا عن حدود هذه المحادثة ؛ " أولًا و قبل التحدث..ضعي خطوة بيني و بينكِ أيتها المسخ ! " لقد نطقت بجملة كهذه فعلًا..قالت هذا بين مجموعة فتيات أخريات بدون أن يرف لها جفن..و لم يرف لها حتى حينما تراجعت يوليا الصغيرة خطوة مترنحة فعلًا شاحبة الوجه بعد أن كانت تتجادل معها ببأسٍ شديد للتو.. ربما كان الأمر ليبدو أهون لو كانت المقصودة فتاة عادية..لكن بالنسبة إليها..فكل شتيمة أو تلميح سمعته في حياتها في خضم جدال أو حوار عابر حتى.. كان بهدف أذيتها و إلجام قدرتها عن الدفاع عن نفسها أكثر ! لأن تلكٓ الحقيقة المريرة...أنها تعاني مرضًا نادرًا يمنعها الشعور بالألم...كانت نقطة ضعفها الأكبر التي عجزت عن تجاوزها مهما حاولت !!! لكنها استطاعت مع مرور السنوات أن تتعايش معها.. استطاعت أن تدرب نفسها بعزيمة قوية على أن تتحكم في ردود فعلها كلما تم ذكر الأمر أو التلميح إليه بجانبها و لو بدافع المزاح ! و قد لاقى إصرارها نجاحًا كبيرًا لمراتٍ لا تعد..كما لاقت فشلًا ذريعًا في بعضها.. خاصة حينما يكون المعني بأذيتها هو مجد !!! ثم يأتي هذا الرجل اليوم..و ينظر في عينيها بينما يخبرها بكل تلكٓ البساطة المؤلمة...بأنه لا يستحقها !!! يعترف أمامها بحسرة شديدة بأن أكبر مخاوفه كانت أن.. يؤذيها...ثم يفقدها !! في نفس الوقت الذي لم يتردّد رجل آخر في أذيتها بكل الطرق و الوسائل..مشهرًا أسلحة فتاكة تستهدف أنوثتها حصرًا...متمننًا عليها لمجرد فكرة أنه قبل بالإرتباط بها! هناكٓ رجل أخبرها ذات يوم بينما ينظر في عينيها بكل أنانية و حقارة...بأن لا رجل في هذا العالم سيحبها لنفسها! بينما هناكٓ نائل..ذلكٓ الذي كان يتوسلها للتو بعبارات غير مباشرة بأن...لا تسمح لنفسِها بالإفراط في الوقوع في حب رجل مثله !! متغافلًا تمامًا عن حقيقة كونه لم يكن يقف في نفس الكفة معها الآن ليستطيع أن يرى نفسه من زاويتها..ليته فقط...يحاول أن يرى نفسه من زاويتها !! ربما...لوقع في حُب نفسه أيضًا !!! نظرت له مجددًا تحاول الخروج من سيل أفكارها الهوجاء..قبل أن تهمس تلكُ المرة تقترب منه أكثر بينما أناملها تشدّد من تمسكها بيديه بيقين ؛ _و إذا أخبرتكٓ بأنني مستعدة لخوض هذا الطريق معكٓ حتى مع كل هذه الاحتمالات..كما أنني لا أظن بأن هناكٓ أيّ قوة أو ظرف في العالم قد يجعلكٓ تفقدني بعد الآن.. نظرة اليأس التي اجتاحت عينيه من الفراغ دفعت ابتسامة باهتة قليلًا لتلامس أطراف شفتيها..بينما قال نائل يتأملها بيأسٍ فعلًا ؛ _ما الذي يجعلكِ مجبرة على فعل هذا ؟!!! بدا و كأن ذلكُ هو السؤال الذي كانت تنتظره يوليا.. فهتفت همسًا أمام عينيه ؛ _سأثبت لك...بأن كل ما تفكر فيه الآن ليس صحيحًا.. أنت لست ذلكٓ الرجل الذي كنت تصِفه لي للتو نائل..كما أنكٓ...أنت...لا يمكن أن تؤذيني......... لمحت رغبته في مقاطعتها في عينيه فاستأنفت بصوتٍ اشتد قليلًا بسرعة ؛ _على الأقل ليس بقصد !!! حينها زفر نائل بيأسٍ كامل..لكنها لم تتوقف رغم ذلك.. قالت تضيف بحرارة تشبه حرارة طفلة صغيرة لخوض أجمل رحلة مغامرات يمكن عيشها في الحياة ! _دعنا نحاول نائل..دعنا نحاول أن نخوض هذا الطريق معًا..دعنا نحاول أن نرمم بعضنا البعض سويًا و أنا أقسم لكٓ بأنني سأبذل كل ما في وسعي لكي أكون المرأة المثالية لأجلك..و لكي أسعدك !!! اتسعت ابتسامتها قليلًا في نهاية كلامها غير قادرة على التوقف عن تأمله بإخلاص..الحقيقة أن ما كانت تتأمله فعلًا أكثر من عينيه..هو تلكٓ النظرة التي احتلت كل ملامحه..نظرة...أشد دفئًا!.. قبل أن يرتسم وميض شبه ملحوظ لابتسامة ميزتها بصعوبة فوق ملامحه..ثم قال يهمس باستسلام تام بعد لحظاتٍ من صمتٍ طويل محمل بابتسامتها..و بذلكٓ الأمل الطفيف الذي احتوته كلماتها ؛ _أنتِ عنيدة جدًا !!!! حينها همست تجيب من بين ابتسامتها و هي تستقيم قليلًا في طريقة وقوفها بدون أن تتركٓ يديه ؛ _أنا لا أصبح عنيدة إلّا حينما يكون الأمر متعلقًا بأحد أحبائي !!! تلكٓ المرة لم يستغرب نائل من استفاضتها الميؤوس منها في التعبير..همس يميل برأسه هو الآن و كأنه يمنح نفسه وضعية أفضل لاقتناص كل تعبير جديد ترسمه تلكٓ الملامح الجميلة.. و التي باتت تمثل لديه شيئًا مثل..هوس جديد لا يمانع التسليم لجميع إيجابياته و سلبياته ! و قد كان له سلبية وحيدة ! أنه بات يعجزه عن النوم منذ أيام عديدة !!! _هل أصبحت واحدًا من أحبائكِ الآن ؟!! و للمرة التي لا يستطيع عدها..قالت صاحبة تلكٓ الملامح المختلفة..-الـ..جذابة إلى حد بات يستنكره أحيانًا بينه و بين نفسه-..تجيب سؤاله بكل بساطة ؛ _أنت أبرزهم !! حينها..و في واحدة من المرات التي لم تعد تراها نادرة كالسابق..فقد عجز عن منع ابتسامته من الاتساع أكثر و أكثر حتى كادت أن تتحول إلى ضحكة خلابة..ضحكة تاهت لها عيناها و هي تشاركه إياها بشعور مكتمل من... سعادة غريبة لم تشعر بها منذ وقتٍ طويل ! حتى و إن كانت سعادة غير مكتملة تمامًا..سعادة تداعى البعض منها حينما مرت صورة أخرى لأحد أحبائها في ذهنها..بل الأقرب إليها من بين كل أحبائها..كانت صورة والدها ! و تراود إلى ذهنها سؤال موجع..كم من العقبات عليها أن تتخطاها بعد الآن حتى تستطيع الوصول إلى صاحِب تلك الضحكة التي باتت تشكّ أنها خلقت لأجلها فعلًا !! أهم عقبة كانت...والدها ! و أشدها...وائل !!! لم تدرِ بأن ابتسامتها كانت قد تداعت كليًا في خضم أفكارها..إلّا حينما سمعت صوت نائل يسألها بنبرة شابها بعض القلق ؛ _هل أنتِ بخير ؟!! حينها أجفلت ترفع عينيها نحوه بسرعة..و قد كان يدقق النظر بها..عاقد الحاجبين بقلق كبير فعلًا بعد أن تداعت ابتسامته مثلها..همست تحاول أن ترسم ابتسامة جديدة بدل الأخرى ؛ _أنا...أنا بخير بالطبع !!! إلّا أن تعابير نائل لم تتغير..بل انعقد حاجباه أكثر و هو يطرق برأسه على إثر أناملها التي فارقت خاصته أخيرًا قبل أن ترفع إحدى يديها تعيد بعض الخصلات المتمردة من شعرها إلى خلف أذنيها.. ثم نظر لها مجددًا سائلًا بجدية الآن و قد استطاع عقله تخمين سبب الارتباكِ الجديد في عينيها تلقائيًا ؛ _أنتِ تفكرين بعائلتكِ..أليس كذلك ؟!! نظرت له يوليا مجفلة للمرة الثانية و كأنها لم تتوقع هذا السؤال..بينما أضاف نائل يصارحها بنفسِ الجدية التي لا تقبل الجدال ؛ _هم لن يوافقوا علي...أليس كذلك ؟!! صمت لوهلة صغيرة..ثم أضاف يخاطب عينيها بنبرة خرجت مميزة عن السابقة ؛ _خاصة والدك !! بطريقة ما..فبمجرد أن نطق اسم والدها..قفزت إلى ذهنه صورة أخرى لشاب منمق شديد الأناقة التقاه في أول لقاء لهما..ذلكٓ الشاب الذي بالكاد يتذكر اسمه فقط لكونه كان يشبه اسمه هو...و الذي يكون أخاها الأكبر ! و رغم أن يوليا لم تتحدث عنه حصرًا من قبل..و أنه لم يتعرف عليه شخصيًا..فقد استطاع أن يجزم من خبرته في البشر فقط..بأن ذلكٓ الشاب كوالدها تمامًا..لن يقبل به كشريكِ حياة لأخته الوحيدة !!! بينما أمامه..شحبت ملامح يوليا تمامًا..و كأنه قد أخرجها عنوة من أرض الأحلام للتو و أعادها إلى أرض الواقع !!! ذلكٓ الواقع المرير الذي يوجد فيه رجل وحيد فقد جميع أفراد عائلته بدون استثناء..رجل فقد عمله و تخلى عن جميع أحلامه طوعًا كما أخبرها...و امرأة جميلة حد أن تخطر في ذهن فنان فكرة تشكيل ملامحها في تمثال شمعي يتم تخليده عبر الأزمان..كرمز لا يفنى للجمال !!! و كلاهما..منجذبان أو واقعان في حُب بعضهما بطريقة غريبة..كلاهما..تكتسح عيناهما نظرة إدراك عميقة للواقع المرير..لكنهما في نفس الوقت لا يزالان مصران على عدم الالتفات إليها..أو السماح لها بتبديد روح تلكٓ اللحظة ! و قد كان هذا ما فعلته يوليا..حينما قالت تزم فمها قليلًا بجدية الآن..بعد لحظاتٍ من ضياع نفسي أمضتها شاردة في اللا شيء ؛ _موضوع عائلتي و والدي أنا سأهتم به..الشيء الوحيد الذي أحتاجه منكٓ الآن هو........ و سايرها هو في محاولاتها حينما قال يسألها مقاطعًا بثباتٍ و اهتمام ؛ _هو ؟!!! و لمح بكل بساطة أحبها ابتسامتها تعود لترتسم بتأني فوق كل ملامحها الآن..قبل أن تهمس بصدق ؛ _أن تستفيض في شرح مشاعركٓ نحوي !! حينها تراجع هو قليلًا برأسه فقط ينظر لها بحاجب واحد مرتفع..ثم قال يسألها بتبلد حقيقي..كمن تم حصره في زاوية ضيقة.. _ماذا أقول غير الذي قلته بالفعل !!! و كما توقع منها..فقد قالت يوليا تسأله و تحفزه ببساطة تتخلها رغبة حقيقية في سماع رده ؛ _هل تجاوزت مرحلة الإعجاب بقليل...أم أنكٓ وقعت في حُبي فعلًا !!! كانت نبرتها الآن جادة رغم الابتسامة التي لا تزال تتلألئ في عينيها كطيف جميل..بينما صمت نائل للحظة واحدة..قبل أن يردف بنبرة خرجت تحمل جدية أكبر من نبرتها ؛ _غالبًا..تجاوزت مرحلة الإعجاب بكثير ! لكنه لم يفهم العبوس الطفيف الذي ظهر في عينيها..ثم همست بنبرة خرجت متخاذلة نوعًا ما مقارنة بحماسها السابق ؛ _هذا يعني بأنكٓ لم تقع في حُبي بعد !!! و لم يشعر بتلكٓ الهمسة التي خرجت بدون إرادته بينما ملامحه تلين أكثر و أكثر ؛ _قريبًا جدًا...سأقع في حبكِ !! إلّا أن حتى رده هذا لم يرضيها تمامًا..فتسمرت قليلًا تنظر له مضيقة عينيها كشخصٍ يحاول أن يكشف جدية من مزاح شخص آخر..حينها لم يشعر بنفسه و هو يقول مضيفًا بجدية ؛ _أنا أقول الصدق الذي تطلبينه مني ! إلّا إذا كنت تريدين مني أن........ _لا أريد أيّ شيء !! قاطعته يوليا فجأة..فصمت فعلًا ينظر لها باستغراب و هو يراها تعود لتهمس بملامح تنم عن عدم ارتياح الآن ؛ _ما قلته يكفي و يزيد.. زفرت بعدها ببطءٍ و هي تعود لتنظر في عينيه..بدون أن تبتسم الآن..لكن بدون ذلكٓ التعبير العابس أيضًا..نظرت له فقط بحيادية لم يستطع أن يفعل أمامها إلّا أن يومئ برأسه مؤكدًا على شيءٍ مجهول.. قبل أن يرتفع حاجباه فجأة حينما أرسل له عقله معلومة كان قد نسيها..فقال بينما يرفع يده بهدوء ليدسها في جيب معطفه الجلدي الأزرق الداكن ؛ _آه..لقد تذكرت للتو.. انحرفت أنظار يوليا تلقائيًا إلى يده تنتظره أن يخرج هذا الشيء الثمين الذي جعل ملامحه تتيقظ بذلكٓ الشكل و كأنه قد نسي الشيء الأهم على الإطلاق و الذي ربما كان أحد أسباب مجيئه إلى هنا.. بما أنه أخبرها بالسبب الحقيقي فعلًا.. و قد كان..شيئًا ثمينًا فعلًا ! كان عطرها الذي صنعته غاليتها ضحى و أهدته هي له ! ذلكٓ الذي رفعه بهدوء بين يده..قبل أن يردف ناظرًا لها ببديهية ؛ _لقد أخبرتكِ في المرة السابقة بأنني لن أجربه إلّا حينما أكون معكِ !!! و كأنما يمتلكُ زرًا مشفرًا يخوله التحكم بكل ابتساماتها.. كل ما عليه أن يفعله أن يقوم بأيّ بادرة..أيّ بادرة صغيرة لأجلها..سواء تمثلت في نظرة أو ابتسامة أو حتى..وعد لطيف يفي به..لكي تعود ابتسامتها للتألق بهذا الشكل ! انتظرها بضع لحظاتٍ أن تعقب بأيّ كلمة..لكنها ظلت فقط تتأمل ما في يده مبتسمة تلكٰ الابتسامة الجميلة بإخلاص شديد..فقال ينبهها بخفوتٍ ؛ _يوليا !! رفعت يوليا عينيها نحوه فورًا ملبية النداء العزيز..فعاد يهمس غير قادر على التحكم بتعابيره الساهمة تمامًا كلما رأى ابتسامتها ؛ _هل نجربه ؟!!! إيماءتها التي منحتها له كرد بديهي بعد سؤاله الذي احتوى دفئًا غريبًا رغم بساطته..أرسلت إلى قلبه شعورًا لذيذًا من..سعادة تكاد أن تكون مماثلة لخاصتها قبل قليل..شعور لا يشبه أيّ شعور اختبره من قبل.. كان شعورًا مقترنًا بفكرة أن تلكٓ الفتاة هناك..أو ليقل تلكٓ المرأة الجذابة الفاتنة..و التي ترتدي رداء طبيًا و تقف برفقته في سطح المشفى حيث تعمل تحت إشراف أهم فرد من عائلتها التي يعلم باستحالة تقبلهم له.. قد أصبحت تعتبر إلى حد ما...حبيبته ؟! أو شريكة حياته المستقبلية ؟!! عند هذه الفكرة..وجد عقله ينتفض رافعًا راية الخطر..هل وصل إلى هذا الحد فعلًا مع يوليا ؟! تلكٓ الفتاة التي قابلها قبل فترة فقط..التي كانت تعتبر غريبة عنه تمامًا حتى قبل تلكٓ الفترة..هل سيصل إلى هذا الحد معها ؟! هل يمكن أن تكون له زوجة أخرى بعد روان ؟! هل سينجح حقًا في بناء حياة جديدة..قد تكون أشد جمالًا و اكتمالًا من حياته السابقة !! فقط لو لم يكن قد فقد زوجته و ابنته في تلكٓ الحياة !!! كان ليجزم بأن هذه اللحظات التي يقفها بجانبها..يتأملها...هي الأجمل في حياته !!! أفاق من شروده الغريب و هو يراها تفرد يدها نحوه في دعوة لأن يضع العطر في راحتها..فلم يتردّد من أن يضعه فعلًا بهدوء..ثم تنهد بخفوتٍ و هو يراقب يدها الأخرى التي ارتفعت أيضًا تدير غطائه بتصميمه الأنيق.. إلى أن فتحته..و عادت تنظر له مبتسِمة ابتسامة لمح فيها بعض الشقاوة الآن..فارتفع حاجباه يدقق النظر بها بنفس تلكٓ الجدية التي لطالما غلفت ملامحه.. كانت تمسكُ العطر بيديها الاثنتين حرفيًا الآن..حينما همست تسأله باهتمام ؛ _هل تحِب أن أرشه عليك ؟!! أراد أن يفتح فمه تلقائيًا ليخبرها فقط..بأنه ليس من الرجال الذين يحبون استعمال العطر !! إلّا أنه عاد و تراجع في آخر لحظة أمام الحماس الغريب الذي كان في عينيها..و كأن تضاعفه أو تلاشيه تمامًا يتوقف على رده ! و قد كان رده..إيماءة بطيئة..و همسة خرجت بصوتٍ متحشرج بطيء ؛ _حسنًا ! و فقط..لم تحتج لغيرها كي ترفع يدها فعلًا هامة بضغط ذلكٓ الزر برحابة..ضغطته بضعة مرات متتالية و هي ترش ياقة معطفه و عنق قميصه القطني المرتفع قليلًا.. قبل أن تنزل يدها ببطء سائلة أمام تعابيره التي لم تتغير..بل تضاعف ذلكٓ الشرود بها ليس و كأنها كانت ترشه بالعطر منتظرة ردة فعله للتو..بل و كأنها..قد وضعت ذلكٓ التمثال الشمعي المصمم بملامحها تطلب منه أن يسهب في تأمله قبل إبداء رأيه !! متناسية تمامًا أن بعض المشاعر لا تقبل أن يتم وصفها بالكلمات..و هو كانت مشاعره لحظتها..أقوى من أن يتم وصفها بكلمات !! لقد كانت مشاعره قوية كفاية لأن يشكّك في رده لها قبل قليل..حينما أخبرها بأنه تجاوز مرحلة الإعجاب بكثير..لكنه ليس متأكدًا إن كان قد وقع في حُبها فعلًا أم لا !!! _ما رأيك ؟!! ذلكٓ كان سؤالها..و الذي نجح بصعوبة في إخراجه من غيبوبة شروده بها..فطرف برموشه قليلًا و هو يشعر بذلكٓ العطر الـ...ساحر جدًا !! يتسرب عبر أنفه جاعلًا كل خلية منه تتنشط و كأنه قد اشتم رائحة قادمة من الجنة.. ربما..ربما كانت محقة حينما أصرت على رؤية ردة فعله مباشرة..أساسًا هل هناكٓ شخص في العالم يمنح عطرًا كهذا كـ...هدية !!! بدلًا من أن يحتفظ به لنفسه !! كانت يوليا تنظر له بتدقيق منتظرة رده بلهفة برزت في عينيها..حينما قال يمنحها واحدة من ابتساماته الباهتة الخلابة ؛ _إنه..إنه جيد..أقصد...العطر رائع جدًا !! اتسعت ابتسامة يوليا برضا تام..بينما تسمر هو للحظاتٍ ينظر لها بطريقة غريبة..و لم يستطع أن يمنع نفسه من الهمس فجأة بينما يرفع حاجبيه فعلًا باستغراب ؛ _لا أصدق بأنني أعيش لحظة كهذه ! همست يوليا في نفس اللحظة و هي تتأمله بتمعن ؛ _و لا أنا ! صمت جميل التزمه نائل للحظاتٍ..صمت بدا مربكًا نوعًا ما ليوليا..فرمشت ببطءٍ و هي تسدل رموشها قليلًا تتنفس ببطءٍ في محاولة فاشلة نسبيًا لاستيعاب ما تعيشه الآن.. لقد اعترفت له بحُبها ! لقد نطقت تلكٓ الكلمة التي ظلت طوال حياتها تبحث عن مفهومها لأول مرة في حياتها..و قد كانت موجهة لنائل حصرًا! الرجل الأول و الوحيد الذي نجح باقتحام قلبها من أوسع أبوابه مبددًا وحدة قبيحة كادت أن تقتلها إلى... شعور جميل بدفء بالغ غمر روحها و تلبسها من الأعماق! _أليس لديكِ عمل ؟!! سمعت صوته يسألها فجأة بهدوء..فرفعت عينيها تنظر له بنفسِ الهدوء..ثم قالت ترمق ساعة معصمها الأنيقة بنظرة خاطفة ؛ _لديّ بالطبع..لكنني في فترة الاستراحة الآن..نصف ساعة فقط و أنتهي.. رمقت بعدها المصطبة حيث كانا يجلسان قبل قليل..ثم قالت تشير بيدها التي تحمل العطر ؛ _هل نجلس قليلًا ؟!! ظل نائل واقفًا في نفس المكان بنفس الوضع ينظر لها بطريقته المربكة اليوم على نحو غير مألوف..و كأنه كان يتعرف عليها من جديد ! أو لا يزال عالقًا في محاولات واهية لاستيعاب ما يعيشانه الآن !! _ريثما...تنتهي فترة استراحتي........ همست تضيف ببطءٍ..لكنها لم تشعر بصوتها الذي شرع يتلاشى تدريجيًا في آخر كلمة..إلى أن صمتت تمامًا و أسقطت يدها تنظر له بهدوء..حينها فقط..كان نائل يهمس محفزًا بينما يشير بيده إلى نفس المكان ؛ _لنجلس ! و فعلت..اقتربت بهدوء تسير معه في نفس الوتيرة إلى جلسا في نفس اللحظة فوق المصطبة..لكن تلكٓ المرة عكس السابقة فقد ساد صمت طويل لم يفتئ فيه كل منهما عن تأمل أشياء أخرى بهدوء يحمل في طياته شعورًا داخليًا خلابًا من...راحة غريبة حتى في خضم القلق الطفيف الذي يعتريهما كل لسبب مختلف! أما عن قلقه هو..فقد كان خوفًا من أن تتحقق مخاوفه التي ذكرها و...يتسبب لها بالأذى فعلًا !! بينما كان أكثر ما يقلقها هي..موقف وائل و والدها ما إن يعلما بالأمر !! غالبًا سيكون الأمر أشبه بعاصفة مدوية لكنها ليست قوية كفاية لكي تثنيها عما تريد !! أساسًا ليس هناكٓ أيّ سبب في العالم قد يجعلها تتراجع عن تحقيق ما تريد بعد الآن !!! ليس و نائل...يقف بجانبها...في صفها هي !! كانت يدها المرتاحة فوق السطح الرمادي الرخامي بينهما قريبة جدًا من يده..و قد لمحت هي ذلكٓ التقارب و كم تمنت أن تقربها أكثر فقط..لتلمس يده مجددًا ! لتتمسكٓ بها بقوة ناسفة احتمالية أن تفارقها يومًا !!! لكنها لم تدرك بأنه كان يشاركها نفس الأمنية..فما إن عادت تشيح ناظرة أمامها بشرود..حتى كان يحين دوره هو لأن يلتفت مسدلًا رموشه إلى تلكٓ اللوحة التي شكلتها يداهما معًا..و تلملمت أنامله قليلًا و كأنه سيلمس يدها مجددًا.. إلّا أنه فقط..تنهد بحرارة و هو يعود ليرفع رأسه متأملًا الفراغ الآن.. لحظة لم تنتهي إلّا بانتهاء فترة استراحتها..و باستقبالها لذلكٓ الرقم الذي هتفت صاحبته بها تطلب منها أن تنضم إليهم لمساعدتهم في حالة جديدة حرجة لشخصٍ تعرض لحادث سير.. حينها فقط كانت تلتفت صوبه لتمنحه نظرة طويلة أخيرة..قبل أن تفتح فمها معلنة عن انتهاء زيارة اليوم.. تلكٓ الزيارة المختلفة عن كل السابقة بينهما..و التي تمنى لولا تنتهي أبدًا..لكنه اضطر لأن يمنحها وداعًا مؤقتًا تمثل في إيماءة متردّدة من رأسه.. راقبها بعدها بينما تبتعد بسرعة إلى أن اختفت عن أنظاره كليًا..و عاد هو لينخفض جالسًا في نفس المكان.. هناك حيث أمضى دقائقً طويلة ضائعًا في أفكاره..و بجانبه..هديتها الغالية تشاركه وحدته و هدوءه.. _____________________________ _هل ستساعدني إذًا ؟!! كان هذا صوت نائل الذي وجه سؤاله لصديقه معاذ الواقف خلفه في مكتبه..كان معاذ يقف مستندًا إلى طرف المكتب بظهره بينما يراقب صديقه الذي أتى بحالة فائقة الغرابة اليوم.. ذلكٓ الذي كان يقف أمام النافذة الزجاجية يدس يديه في جيبي بنطال أسود يستطيع كل من رآه أن يخمن بأنه اختاره عشوائيًا ليرتديه تحت قميص رمادي بدون ربطة عنق أو سترة اليوم..بينما ملامحه غريبة و نظراته مهتزة منذ الصباح.. حتى أنه لمح أثر جرح غائر يشق ظاهر كفه بشكل بشع..و ما فاجئه أكثر الدماء التي كانت لا تزال متكتلة فوقه تثبت بأنه لم يتعرض لأيّ علاج..متخليًا بإباء غريب عن أناقته المعهودة..و اهتمامه المبالغ به بنفسه.. قال يتنهد بقلة حيلة عاجزًا عن استفساره أكثر عن أسباب وضعه الغريب هذا بعد أن سأل بضعة مراتٍ فعلًا و لم ينل ردًا.. _سأساعدك..أخبرني ما اسم هذا المعتوه ؟!!! و مباشرة..جاءه الرد بصوتِ وائل الذي همس بنبرة باردة إلى درجة قد يظن معها الإنسان بأنها تعود لشخصٍ فارق الحياة مسبقًا ؛ _فراس الراوي.. للمرة الثانية يتنهد معاذ بغير ارتياح..لكنه قال رغم ذلكٓ يسايره في جنونه بيأس ؛ _هل لديكٓ رقم هاتفه ؟ أو أيّ معلومة أخرى ؟!! لم يلتفت وائل و هو يجيبه بنفسِ النبرة ؛ _لا..لكنني أعرف عنوان المنزل الذي كان يقطن فيه.. صمت لوهلة كانت فيها عيناه الغائرتين و المحتقنتين بتعب و ألم التصق بهما تحدقان بعيدًا..ثم عاد يهمس الآن و كأنه يكلم نفسه فقط ؛ _أو ربما لا يزال !! فهو لم يكن ليصدق كلمة واحدة ممّا قالته المرأة في الأمس..ليس حينما يتعلق الأمر برجل نذل يملكُ من الجرأة ليحاول إغواء زوجة رجل آخر...زوجته هو !! شعر بخفقات قلبه تختلج ألمًا بات مألوفًا منذ الأمس بمجرد تذكرها مجددًا..فطرف برموشه و هو يسقط رأسه قليلًا ناظرًا للفراغ بينما قبضة يده المصابة تنغلق بشدة بداخل جيبه.. قبل أن يطبق عينيه للحظة..ثم أجبر نفسه بضغط عصيب على أن يلتفت ببطءٍ إلى أن نظر إلى صديقه.. ذلكٓ الذي قال ينقل عينيه بين ملامحه المرهقة الفارغة من تعابيره المعهودة ؛ _سأستعين ببعض أصدقائي ذوي الخبرة لتحديد موقعه.. لكنني لا أستطيع أن أضمن لكٓ بأنهم قد ينجحون كليًا.. ليس بعد عدة أيام على الأقل.. بدا وائل و كأنه ليس راضيًا بهذا الرد..إلّا أنه أومأ له ببطءٍ رغم ذلك و عيناه الفارغتان تشردان في البعيد.. ربما..ربما سيضطر للاستعانة بنفوذ لقبه في حال لم تنجح جهوده و جهود صديقه كآخر محاولة.. رغم أنه لم يفعلها حتى اليوم..ربما منذ سنوات طويلة..و رغم كرهه الشديد لمجرد الفكرة..إلّا أن ذلكٓ الغضب المهيمن الذي لا يزال يشعر به في قلبه..يحرقه و يمزقه كان أقوى حتى من كرهه للفكرة و احترامه لمبادئه.. لا يعلم إن كانت غايته الحقيقية بعد إيجاده تلقينه درسًا يجعله لا يتجرأ على مجرد النظر لشيءٍ بعيد عن متناول يده ناهيكٓ عن كتابة الرسائل..أو ربما هو فقط يريد معاقبته أكثر على...موقفه الأخير.. ذلكٓ الموقف المؤلم..العصيب..له و لـ...ضحى !! و بعد دقائق معدودة..كان يسير في الحديقة الصغيرة المرفقة بالمكان..يغرق يديه في جيبي بنطاله بينما عيناه شاردتان في البعيد..غير عابئ للمرة التي لا يذكر كم باجتماع مهم في عمله بعد أن أقنع معاذ بالانضمام إليه نيابة عنه.. تصرفات لم يقم بها يومًا..عجز غريب و يأس يكبله عن القيام بواجباته اليومية كما اعتاد طوال سنوات بكل سلاسة..عجز لا ينفكّ يقوده إلى إهمال عمله الذي هو أغلى ما يمتلكه أكثر..لكنه فقط...لا يهتم !! إذا كان قد خسر ضحى..الأغلى على قلبه من نفسه و روحه !!! صوت خطواتٍ سريعة غاضبة تقترب منه نبهه فجأة.. فرفع رأسه مجفلًا بسرعة لتقع عيناه مباشرة على آخر شخص تمنى رؤيته اليوم..كان مجد !! ذلكٓ الذي هتف يرفع يديه في لحظة خاطفة لم يستوعبها نائل إلى أن..قبض على ياقة قميصه يهزه بغضب لم يشعر به غريبًا..فقط لكونه سبق و أن عاش شبيهه سابقًا! _أيها النذل السافل قليل الأدب و النخوة و المروءة !!!! كان مجد يتحدث بغضب قوي و كبير فعلًا..ربما كانت تلكٓ أول مرة يراه فيها غاضبًا إلى هذا الحد..إلّا أن حتى ذلكٓ الغضب..حتى طريقته في التمسكِ بياقة قميصه و كلماته التي كانت لتفقده أعصابه في وضع آخر.. لم تنجح بتغيير موقفه أو بجعل ملامحه تهتز من تعابيرها الفارغة..قال يرفع يديه بكل هدوء و كل غايته أن يحرّر ياقة قميصه من قبضتي مجد ؛ _هل يمكنكٓ أن ترحل فقط رجاء ؟! أنا لا أشعر بنفسي مستعدًا لخوض أيّ نقاش من أيّ نوع مع أيّ شخص !! كان قد أنزل قبضتيه فعلًا محرّرًا نفسه..بينما فغر مجد شفاهه قليلًا و ارتفع حاجباه متراجعًا شبه خطوة غير ملحوظة و هو ينظر له بما يفوق..الذهول...أو الصدمة ! حتى أنه لم يشعر بصوته الذي ارتفع يخاطبه كمن يخاطب معتوهًا فاقدًا لهوية الإدراك حينما وقعت عيناه على الجرح العميق في ظاهر كفه و استطاع أن يخمن أسبابه ؛ _ما الذي تهذي به ؟! هل أنت معتوه أم ماذا ؟!!! لم يظهر أيّ تعبير جديد على ملامح وائل..ربما باستثناء بعض الشحوب الطفيف الذي لامس ملامحه المرهقة و الشاحبة أساسًا منذ الأمس.. بينما صمت مجد ينظر له للحظاتٍ أخرى بعينيه المتسعتين قليلًا و حاجباه المرتفعان ذهولًا..لا يعلم حتى متى انتهى غضبه المشحون منذ الأمس ليتحول إلى نسخته الحالية.. قبل أن يرتفع صوته بنبرة خرجت مختلفة الآن..لا تحمل الحقد المعهود بينهما..لا تحمل كرهه و مقته و غضبه..بل ما حملته كان فقط...شعور واضح من نفس الصدمة التي تتلبسه منذ الأمس..و قد تضاعف أثرها اليوم بداخله.. _لقد صفعت ضحى أيها النذل..لقد رفعت يدكٓ على أختي فعلًا..ما الذي دهاكٓ لتفعل هذا ؟!! أيّ عذر تمتلكه الآن لتبرير هذا !!!! تسللت كلماته إلى داخل وائل محدثة أثر صفعة حقيقية.. و كأن وضعه منذ الأمس لا يكفي..و كأن كل تلكٓ المشاعر التي تتآكل بداخله منذ تلكٓ اللحظة لا تكفي..فتح فمه يريد أن يمنح تبريرًا لا يملكه فعلًا..أو ربما فقط ليسأله عنها...عن ضحى ! إلّا أنه عاد و تراجع متنبهًا لهوية من كان يقف أمامه..لقد كان مجد..ابن عمته و الذي كان خطيبًا لأخته لمدة تعدت الأربع سنوات..مدة طويلة أذاقها فيها الويلات بلسانه و تصرفاته و....... لم يشعر بصوته الذي ارتفع بنبرة شابها بعض القسوة الآن..تلكٰ القسوة المرتبطة بهذا الرجل..قال كلمات كانت غايته الوحيدة منها الآن...أن يلجم لسانه عن التحدث بعد..و أن يتخلص منه عائدًا إلى وحدته القميئة! _أتذكر بأنكٓ فعلت نفس الشيء لأختي ذات مرة !! الآن شعر مجد بأنه على وشكِ فقدان صوابه فعلًا..كم من مرة عليه أن يسمع هذا الرد نفسه في نفس اليوم !!! و كأن ذلكٓ الغضب الذي تداعى رهبة منذ قليل عاد ليتحرر كاملًا الآن..و قال يضيق عينيه يحرّر الفكرة الوحيدة التي خطرت في ذهنه ؛ _هل أصبح هذا هو مبرركٓ الآن أيها الـ........... _إياك..إياك........... ! قاطعه وائل بصوت باتر الآن رغم خفوته..قبل أن يضيف بنبرة خرجت تحمل جدية قاطعة ؛ _ما يحدث بيني و بين ضحى يبقى بيني و بينها فقط.. إياكٓ أن تظن للحظة واحدة بأنكٓ بردة الفعل هذه قد أصبحت تمتلكُ الحق في إلقاء الأسئلة أو التدخل في علاقتي بزوجتي..إنها الشخص الوحيد الذي يملكُ رفاهية لومي أو الصفح عني لو أذنبت في حقها..و إنها الشخص الوحيد الذي يستحق أن أمنحه المبرّرات حينما أطلب الصفح !!! تسمر مجد ينظر له بفكّ احتد غضبًا داخليًا أكبر..خاصة بسماع هذه الكلمات..خاصة و قد مرت تلكٓ المعلومة التي يعرفها عن يوليا..أخت هذا الشخص في ذهنه.. تلكٓ المعلومة التي لم يكن يشعر بالاهتمام الكبير للإفصاح عنها رغم رغبة قوية داخلية انتابته طوال الوقت في رؤية ملامح يوليا ما إن يتم كشف الأمر..لكن الأمر أصبح يتخطى يوليا الآن.. بل أصبح يرتبط بهذا الرجل..و بكلماته المستفزة الآن.. لهذا فلم يتردّد من أن يفتح فمه ملقيًا بسؤال لم يخرج نزيهًا تمامًا ؛ _ألا أمتلكُ الحق في التدخل بحياة أختي ؟!!! قال وائل يجيبه بدون أن يرف له جفن ؛ _لا تملكُ الحق في التدخل بهويتها كزوجتي !! و كأنه قد نطق بالعكس..فقد ظهرت ابتسامة غريبة لونت ملامح مجد الغاضبة سابقًا لتحيل نظرة الغضب إلى... نظرة ازدراء واضحة أو...تشفي ! ثم اقترب الخطوة الوحيدة بينهما أمام أنظار وائل الذي عقد حاجبيه بتوجس من هذا المعتوه..ذلكٓ الذي فتح فمه أخيرًا يقول ببطءٍ متعمد ؛ _حسنًا إذًا..إذا كانت هذه هي المشكلة فلا بأس..أساسًا ستحل قريبًا ! انعقد حاجبا وائل ببطءٍ و هو ينظر له بعدم فهم..بينما لم يتردّد مجد من الإتمام بعد لحظة واحدة هامسًا بتشفٍ حقيقي الآن ؛ _لقد اتخذت ضحى قرارها......ستنفصل عنك! اتسعت عينا وائل بقوة و هو يشعر بقلبه يهوي تمامًا تحت قدميه..و قد كان دوره الآن ليرفع يديه فجأة قابضًا على ياقة قميص الآخر هاتفًا باندفاع أعمى ؛ _ما الذي أصبحت تهذي به أيها المعتوه ؟!! هل تستوعب ما تقوله حتى !!!! ردة فعله تلك..و كأنما أرسلت الكثير من الرضا إلى قلب مجد..فاتسعت ابتسامته ببطءٍ رافضًا أن يجيبه..بل ما فعله كان أن همس بدون أن يحاول تحرير نفسه تلكٓ المرة من قبضتيه ؛ _انتظر..لديّ مفاجأة أخرى لك.. عجز قميء شعر به وائل يمنعه عن التحدث بعد صدمته الأولى..ضحى..ضحى قرّرت أن......ماذا قرّرت ؟!!! كان يشعر بالعالم كله ينهار من حوله لا قلبه فقط..و كأن جميع الألوان قد اختفت..جميع المشاعر قد اختفت.. جميع الوجوه و الملامح و النظرات و الأصوات اختفت.. و ظل هو فقط يقف بانهيار أنيسه الوحيد...خيبته.. و نظرة الخيبة العميقة التي احتلت عينيها في الأمس بعد أن...خذلها! لقد خذلها بالفعل..حتى و إن كانت قد سبقته في خذلانه !!! و من بين كل تلكٓ المشاعر المتضاربة..من بين كل ضياعه المرير..سمع ذلكٓ الصوت السام نفسه يتحدث هامسًا كشيطان أتى اليوم بغاية نسف كل أمل ضعيف لا يزال يختلج به قلبه ! _أختكٓ المصون يوليا..المقربة منكٓ و التي لا تخفي عنكٓ أيّ أسرار...... تنبهت ملامحه قليلًا فقط عند هذه اللحظة..قبل أن يسمع نفس الصوت المقيت الذي يمقته أشد المقت.. لطالما مقته..يستأنف ببطءٍ شديد متعمد ؛ _تخفي عنكٓ سرًا عاطفيًا جميلًا للغاية !!! حسنًا..حسنًا...إلى هذا الحد و كفى !! شعر وائل بالجنون يلفّ عقله على شكل دوار احتل رأسه و إدراكه و كاد ليترنح به لولا بقية من غضب و صمود جعله يسأله من بين أسنانه بصوتٍ خرج مجهدًا الآن ؛ _هل ستتحدث بوضوح الآن أم يجب عليّ أن أحطم رأسكٓ أولًا !! لم يهتم مجد بتهديده..فقد رفع يديه بكل هدوء ليحرّر نفسه أخيرًا..ثم دفعه فجأة فترنح وائل فعلًا للحظة و هو ينظر له بملامحه الشاحبة منتظرًا تفسيرًا ما..لا يعرف على أيّ شيء لكنه كان ينتظر تفسيرًا !! إلّا أن مجد..قال يتعمد تعذيبه أكثر بكل بساطة ؛ _لا أظن بأنني أمتلكُ هذه الصلاحية..يمكنكٓ أن تسأل أختكٓ العزيزة لتجيبكٓ بنفسها !! التفت بعدها مغادرًا بخطواتٍ حازمة نسفت الأرض..و نسفت معها قوة وائل فتراجع قليلًا يتشبث بجذع شجرة قريبة مستندًا بظهره إليه..لاهث الأنفاس و الأفكار.. عاجزًا عن استيعاب الواقع..عاجزًا عن استيعاب كم المعلومات المبهمة التي ألقاها المعتوه للتو قبل أن يغادر.. لكن أسوءها و أشدها فداحة كانت جملة واحدة..جملة واحدة شعر بها تنغرس في فؤاده على شكل سهام متعددة لكل كلمة سهم... " لقد اتخذت ضحى قرارها......ستنفصل عنك! " ضحى..ضحى ماذا ؟! ستنفصل عنه !!!! ارتفعت يده المرتعشة بشدة تتقلص فوق موضع قلبه شاعرًا بقدرته على الوقوف تتداعى كليًا..بينما جحظت عيناه بشدة و هو ينقلهما حول الفراغ و معادلة واحدة في غاية التعقيد دارت في عقله.. انفصاله عن ضحى...يساوي موته !!! ____________________________ كانت أصوات الضحك و اللعب في المياه الباردة لذلكٓ البحر الممتد أمامها الشيء الوحيد الذي يصلها..بينما هي تجلس في أحد الكراسي المرتفعة التي قامت بتثبيتها فوق الرمال تحتها..و هناكٓ كرسيان آخران و بضعة أغراض شخصية مرتبة بجانبها فوق البساط الأبيض الكبير نسبيًا المفروش فوق الأرض.. لكنها لم تكن قادرة رغم ذلكٓ على الاستمتاع بكل ذلك رغم شبح الابتسامة الجميل الذي كان يحتل ملامحها دون أن يفارقها طوال الوقت..بينما هي منكبة على مجموعة أوراق تضعها فوق ركبتيها المتقاطعتين بأناقة تتفحص كل منها بدقة مستعملة القلم في يدها لتدين مجموعة ملاحظات قبل أن تختم النقطة الأخيرة أسفل كل صفحة.. كانت تلكٓ أوراق تخص آخر امتحان أجرته لتلاميذها و الذي من المفترض بها أن تقدمها غدًا..و قد كانت عازمة منذ أيام على أن تستغل يوم إجازتها الذي يكون اليوم لكي تعمل فقط..لولا أن تدخل إياد في آخر لحظة ليقنعها باستماتة مستميلًا عواطف عمر أيضًا حتى وافقت على مرافقتهما.. و ها هي ذي تكابد كل هذا الضغط مرغمة نفسها على التفكير بإيجابية..و على استمداد الطاقة من الضحكات التي تتسلل أذنيها بين كل لحظات و أخرى و النظرات التي ترمقهما بها كلما حصلت على فرصة.. ورقة أخرى سحبتها بهدوء لتدسها تحت مجموعة الأوراق الأخرى متنهدة..ثم ما إن همت بأن تبدأ في العمل على التي تليها..حتى كان صوت خطواتٍ قوية اقتربت منها تلاها صوت هتف يحثها بدفءٍ تقاطعها ؛ _ألا زلتِ تعملين حتى الآن ؟!!! رفعت رأسها لتنظر لإياد الذي كان يقف أمامها ببنطاله القصير فقط..عاري الصدر..مبلل الشعر و الجسد بالكامل ممّا يثبت بأنه غطس لمراتٍ لا تعد قبل أن يقرّر العودة إليها.. تسمرت قليلًا تنقل عينيها بدون أن تعي ذلكٓ حتى من صدره العضلي الذي هو نتاج سنوات طويلة من التمارين الرياضية القاسية التي اعتاد إياد أن يمارسها..و كأنما كانت غايته الحقيقية من وراء ذلكٓ هي تقديم نفسه للعالم على أنه الرجل الأكثر مثالية في العالم ناهيك عن وسامته التي دائمًا ما شعرت بها مفرطة ! لا تدركُ إن كان شعورًا حقيقيًا أو ربما كانت تلكٓ وجهة نظرها كـ..زوجته..و كـ...أكثر امرأة تعشقه في العالم ! إلى وجهه ذو التفاصيل الحادة بالفطرة..لولا أن هذا الرجل أمامها كان أكثر من يجيد نسف تلكٓ الحدة بابتسامته الجميلة التي قليلًا ما تفارق وجهه..ربما في تلكٓ اللحظات التي يتكبد فيها غضبًا شديدًا فتنهزم أمامه تلكٓ الملامح متشحة بشيء يشبه الجنون.. و قد كانت ابتسامته..و غضبه...كلاهما مقترنان بها !!! الحقيقة أنها دائمًا ما آمنت بهذا..أنه رجل لا يعرف للإعتدال أيّ مفهوم أو سبيل..رجل قد تصفه بالعاطفي بالإمتياز..إنسان قد يغدقكٓ بحنان العالم في لحظة..ثم في اللحظة التي تليها..تراه و قد تحول للرجل الأكثر غضبًا و تهورًا في العالم !! تسمرت عيناها في شعره الناعم المبلل تمامًا و المبعثر كليًا بشكل يزيد من...وسامته! و يفاقم من رغبة جشعة داخلية اكتسحتها في أن... تتخلى عن فكرة الطلاق تلكٓ نهائيًا فعلًا !! فلتتراجع فقط و لتعود للتمتع بنعيم حضنه و دفئه إلى الأبد !! لكنها تعود و تتذكر جانبه الآخر..جانبه المزعج..المزري الذي تكرهه..فتعود تلكٓ الرغبة لتتخاذل ببطءٍ مسلمة لإرادة المنطق..و المنطق يقول بأن إياد يحتاج لأن يصلح نفسه لو أراد لهذه العلاقة أن تستمر أكثر !!! أليست هذه هي سنة الحياة أساسًا ؟! تلكٓ التي تفرض على إنسان لا يؤمن بالتغيير على البدء في اعتكافه تدريجيًا لأجل عائلته !! شعرت بأنها أطالت في صمتها و في شرودها المرفق بنظراتها المتفحصة الغبية و الـ...محرجة! فهزت رأسها تحاول أن تستعيد تركيزها..ثم أشاحت قليلًا ترفع يدها لتبعد النظارات الطبية الأنيقة عن عينيها..و همست تهز كتفيها بتنهيدة استسلام..تحاول أن تتجاهل تلكٓ الحرارة المزعجة التي شعرت بها ترتفع إلى وجهها.. _ماذا أفعل !!! لكن إياد لمح نظراتها تلك..و رأت بعينيها اللتين احتلتهما نظرة خفية من...بعض الغيظ الذي لم يؤثر على ثبات ملامحها تلكٓ الابتسامة المتسلية قليلًا التي أخذت تشق طريقها بتمهل إلى ملامحه.. حينما قال يحثها بصوته الدافء اليوم..و دائمًا! _انضمي إلينا قليلًا ثم لاحقًا تعودين لإتمامها ! أساسًا لا أظن بأنه تبقى لكِ الكثير...ألا يمكنكِ !! كان يتحدث بلطفٍ بالغ لدرجة الغرابة..حتى أن ابتسامة جديدة رسمت لنفسِها مكانًا في عينيها و هي ترمق عمر الذي كان يلعب بالكرة يقذفها بقدمه الصغيرة قبل أن يعود ليلاحقها ما إن توشكُ على أن تلامس الأمواج.. ثم نظرت لـ-زوجها- مجددًا تهمس تلكٓ المرة بنبرة تشبه الاعتذار ؛ _لا أستطيع إياد..حتى و إن لم أكن أعمل فأنا لا أريد أن أبلل ثيابي.. رمق إياد ثيابها التي تتحدث عنها..و التي كانت عبارة عن بنطال أبيض واسع يلائم تواجدهم في البحر تمامًا و قميص قماشي أبيض واسع أيضًا بأزرار أنيقة ككل شيءٍ بها.. قبل أن ينظر لها مجددًا معقبًا بإلحاح استطاعت أسيل أن تتكهن داخليًا بأنه سينتهي بها مبللة بالكامل فعلًا ؛ _لماذا ؟! إنها مناسبة تمامًا! ثم رمق المكان حولهما بينما يضيف محفزًا أكثر بابتسامة اتسعت أكثر ؛ _ثم أنظري حولنا..المكان خال تمامًا إلّا منا...هيا! أضاف بعدها بإصرار تزامنًا مع يده التي امتدت تقبض على يدها الحرة بينما أسيل لا تزال تنظر له باعتراض ضعيف.. _هيا..عمر يتوسلني منذ أن وصلنا لكي أقنعكِ بالإنضمام لنا ! تنهدت أسيل بيأسٍ و هي تقول في محاولة أخيرة مستسلمة ليده المتمسكة بخاصتها ؛ _لا أستطيع إياد...رجاء ! إلّا أن إياد..و كما توقعت في الحقيقة..قال يتسمر تمامًا للحظة واحدة يرفع حاجبًا واحدًا متظاهرًا بصرامة غير حقيقية ؛ _هيا..و إلّا حملتكِ بين ذراعاي و ألقيتكِ في البحر قسرًا ! الآن تأففت أسيل بتعب و هي تنظر له بيأسٍ أكبر..إلًا أنه ما إن همّ بأن يقترب منها بعد أن تركٓ يدها مهددًا ؛ _سأحملكِ إذًا...... حتى كانت تتحرك بسرعة لتقف متشبثة بالأوراق و نظارتها حيث وضعتها فوق الكرسي بهدوء حريصة على تثبيتها بكتاب ضخم أحضرته معها كي لا تطير أثناء همسها باستسلام ؛ _حسنًا حسنًا استسلمت.. راقبها إياد بمكر اختلط بلمعة عينيه بينما تضع النظارات أيضًا فوق الكتاب الضخم..تلكٓ النظارات التي لطالما شعر بأنها تليق بها تمامًا رغم حبه الأكبر لعينيها..إلى أن استقامت أخيرًا تنظر له عاقدة حاجبيها بعبوس.. حينها..قال بما جعلها ترفع حاجبيها بجزع لوهلة من الثانية فقط.. _على الرغم من هذا أنا مصر على حملكِ ! لأنها في التي بعدها تمامًا..كان قد أصبح جسدها منقلبًا رأسًا على عقب حينما انخفض إياد فعلًا ليحملها...لا ليس بين ذراعيه..بل ألقى بها فوق كتفه كليلة زفافهما تمامًا!! شهقت بقوة و هي تشعر به يسير بها مقتربًا من الأمواج فعلًا..فهتفت تتشبث بكتفيه فقط حتى يتسنى لها أن ترفع رأسها قليلًا لترى ما هي مقدمة عليه ؛ _لا لا لا..لا أريد التبلل إياد أرجوك..لا أريد التبلل.......... كان عمر قد لمحهما..فتوقف عن اللعب فجأة و هو يقترب من والده هاتفًا بسعادة..بينما قال إياد يخاطب أسيل بينما ينظر لسعادة عمر بقلب اختلج بشعور دافءٍ لم يختبر شبيهه منذ وقتٍ طويل ؛ _لماذا ؟ ألم تقولي للتو بأنكِ استسلمتِ ؟!! هتفت أسيل بيأس و هي تطبق عينيها متشبثة به أكثر ؛ _نعم..لكنني كنت أخطط لأن أداعب البحر قليلًا بأطراف قدماي و يداي فقط..لا أحِب التبلل........ كانت معلومة يعرفها إياد مسبقًا..و هو أن زوجته لا تفضل كثيرًا السباحة كهواية رغم أنها تجيدها ببراعة كما تجيد العديد من الرياضات الأخرى التي عجز عن عدها الآن.. قال يغمز لعمر الذي كان يسير بشكل عكسي أمامهما و ابتسامته البريئة الجميلة تكاد أن تصل إلى أذنيه لتصرح للعالم أجمع بمدى سعادته.. _أعلم هذا..و أعلم أيضًا ما سيكون رد فعلكِ بعد التبلل.. _ماذا سيكون ؟!! قالت أسيل و هي تستند بمرفقيها إلى ظهره العريض مثبتة شعرها للوراء بيأس شديد..ربما لم يكن عليها أن تتساهل إلى هذا الحد..ألم يكن بإمكانها أن ترفض الانضمام لهذه النزهة منذ البداية !! تبًا لها !! _ستغرقين في نوبة ضحكٍ هستيرية لكنكِ ستستمرين بشتمي من بينها رغم ذلكٓ بينما تتشبثين بكتفاي مرة تلكمينني و الأخرى تضمينني كطير صغير يشعر بالبرد الشديد و السعادة معًا..ثم بعدها ما إن نصعد بسيارتنا في طريقنا للمنزل ستنظرين في عيناي و تشكرينني على اليوم الجميل !!! لانت ملامحها قليلًا و عقلها يستعيد مواقفًا لا تحصى على مدار سنواتٍ عاشتها كزوجته..و ردود فعل كالتي وصفها للتو..إلى أن همست توبخه بنفسِ النبرة ؛ _لكنكٓ نسِيت الجزء الأهم ! _ما هو ؟!!! قال يسألها إياد فورًا باهتمام بالغ تزامنًا مع ملامسة أقدامه الحافية للحافة المنخفضة للشاطئ..فهتفت و هي تعود لتسقط يديها بيأس و غيظ ؛ _سيتدمر ترتيب شعري بالكامل..ستتبلل ثيابي و تلتصق بجسدي بشكل كارثي أمقته ممّا سيجعلكٓ مضطرًا للتخلي عن النزعة بأكملها و العودة للمنزل..هل تريد هذا الآن ؟!!! لم تكد تنهي كلامها حتى كان صوتها يعود ليرتفع هاتفة في نفس اللحظة مستوعبة بأنهما أصبحا يقفان في عرض البحر بالفعل ؛ _يا إلهي توقف..أنزلني حالًا و إلّا أقسم بالله سأتراجع عن هذه الفرصة الغبية و ليحدث ما سيحدث بعدها لا أهتم... و كأنما ضغطت زرًا حساسًا جعله يتوقف فجأة..بينما تسمر إياد للحظة ينظر أمامه بملامح سقطت عنها الابتسامة فجأة..لكن ما حل محلها كانت نظرة صارمة في غاية الخطر.. كانت لحظة واحدة انتشر صمت تام في المكان تأملت أسيل أن يتراجع بعدها هذا الرجل المزعج..لكنه لم يتراجع..بل ما حدث كان أن نسخة مصغرة من هذا الرجل قد شرعت تقفز هاتفة بحماس شديد ؛ _ألقي بها في البحر..ألقي بها في البحر..ألقي بها في البحر..ألقي بها........... _عمر !!! هتفت أسيل غير مصدقة لطفلهما الذي كان يقف بجانبهما على بعد أمتار ملحوظة بينما المياه قد ارتفعت تكاد أن تلامس صدره..و هو يراقبهما من مكانه مبتسمًا بحماس فائق سرعان ما تلاشى مع صرختها الغاضبة.. قبل أن تزفر بقنوط هامسة بحذر ؛ _إياد !!!! لكن آخر ما توقعته..تلكٓ الحركة المفاجئة التي صدرت من إياد و التي شهقت لها للمرة الثانية مباشرة فور نطقها لاسمه..فقد ألقى بها في البحر فعلًا..في عرض البحر !!! حتى أن جسدها قد اختفى لوهلة تحت الأمواج المرتفعة و هي تسمع صوت ضحكات جديدة تحرّرت بقوة..قبل أن تتمالكٓ نفسها بسرعة مخرجة رأسها من الماء..هناك حيث وقعت عيناها على إياد الذي كان يقف في عرض البحر يضحكُ بقوة هستيرية.. عبست بشدة و عيناها تدمعان كواحدة من المرات النادرة أمام الضحكات المستفزة من حولها..و الوضع المزري الذي كانت خائفة طوال الوقت من أن تقع فيه..و قد أوقعها المعتوه فيه..أنزلها فعلًا كما طلبت منه تمامًا! و بهذا يصبح قسمها باطلًا !!! لم تستطع أن تتحكم بنفسِها بعد لحظة الاستيعاب الأولى و بعد أن رفعت يديها إلى شعرها المبلل تعيد ترتيبه نحو الوراء..فاقتربت منها تلكم صدره فعلًا كما توقع قبل قليل..لكن بدون أن تضحكٓ تلكٓ المرة.. فقد ارتفع صوتها تهتف فقط بما يفوق الغيظ أو الغضب ؛ _أيها الأحمق النذل السخيف..هل تظن بأنكٓ قد خدعتني الآن ؟! أقسم بالله سأتراجع عن هذه الفـ........... لم تستطع أن تكمل تهديدها فقد ارتفعت أنامل إياد تكمم فمها بسرعة..حينها تسمرت تنظر له بعينيها الغاضبتين غضبًا صادقًا..بينما ارتفعت يده الأخرى يلمس بها جانب وجهها و بعض خصلات شعرها المبللة تمامًا و التي فقدت ترتيبها كما توقعت سابقًا لكن بشكل زادها جمالًا و فتنة كما توقع هو !! و التصقت ثيابها بجسدها الرشيق بشكل كارثي...لقلبه هو فقط !! همس بصوتٍ أجش خافت و هو ينقل عينيه بين عينيها شاعرًا بخفقاتِ قلبه حيث ارتاحت أناملها المرتعشة بشدة تداعب بشرته مباشرة تفقد كل توازنها المنشود..حالة اختبرها سابقًا لآلاف المرات !! جميعها بسببها و لأجلها !! _إياكِ أن تكملي..إياكِ...هل تريدين قتلي أم ماذا ؟!! لم يتلاشى الغيظ من عيني أسيل رغم الضعف الدخيل الذي لامس ملامحها الجذابة لعينيه بالفطرة..قالت تلهث أنفاسها بتهور ؛ _ليتكٓ تغرق !! لم تكن تقصد جملتها فعلًا..علم هذا من نظرة عينيها التي لانت قليلًا حتى و هي تحاول أن تخفي ذلك..قال يطوق وجهها مداعبًا بشرتها الخمرية و خصلات شعرها المبللة الجميلة ؛ _أنتِ لا تقصِدين هذا فعلًا !! الآن لمح طيف ابتسامة حقيقي يحتل عينيها فقط..ثم قالت تخاطب عينيه النافذتين إلى أعماقها بنفسِ صوتها اللاهث ؛ _ما أدراك! ربما أنا أخطط الآن في عقلي لطريقة تخولني إغراقكٓ بدون أن تدركني قبل ذلك !! كان موقفًا غريبًا..هدوء تام استوطن أعماقهما و المكان و كأن العالم كله قد قرر اعتكاف الصمت و مشاهدتهما فقط..ذلكٓ الهدوء الذي حافظ عليه إياد و هو يهمس لها بصوتٍ خرج بعيدًا كل البعد عن المزاح الآن ؛ _ما هو الشيء المخيف تحديدًا في فكرة أن أدرككِ قبل أن تنجحي ؟!! و كان آخر ما توقعه..تلكٓ الهمسة التي خرجت من بين شفتيها المرتجفتين بردًا و اختنق لها صوتها الذي دائمًا ما اعتكف الثبات و الهدوء ؛ _حينها سأغرق أنا ! صمتت للحظة تنظر له فاغرة الشفاه..لعينيه تحديدًا..قبل أن تهمس مضيفة بصوتٍ خرج أشد خفوتًا..أشد عمقًا و... صدقًا ! و كأنها كانت تخاطب نفسها فقط بتلكٓ الهمسة اللاهثة لا يدرك بفعل الإرهاق أو...العاطفة ! _لقد غرقت أساسًا!..أنا غارقة منذ وقتٍ طويل !!! تسمرت عينا إياد يرمق حاجبيها المنعقدين بنظرة تشبه الضياع..أو الحيرة..و كأنها كانت تتعرف عليه من جديد.. و كأنها المرة الأولى التي يكون فيها قريبًا منها إلى هذا الحد.. أساسًا كل مرة جديدة..هي مرة أولى بالنسبة لها..لهما معًا !! شعر بقدرته على التحمل تتداعى تمامًا..فتحركت يداه تحرران وجهها لكن لا لشيءٍ إلّا لتحاوطان خصرها الآن إلى ان أصبح جسدها ملتصقًا بجسده..و انتظر للحظة أن يسمع منها أو يرى أيّ دليل على رفض كان قد بدأ يعتاده منذ فترة بائسة.. إلّا أنها ظلت فقط تنظر له لاهثة الأنفاس بنفسِ الطريقة.. بل ما حدث أن وضعها ازداد سوءًا و ملامحها تزداد ضياعًا..حينها..كان يلتفت قليلًا ليرمق عمر الذي كان لا يزال يلعب بعيدًا نسبيًا مرة بالكرة و مرة يداعب المياه بدون أن يتعمق بداخلها كما أمراه سابقًا.. _عمر !!! هتف يلفت انتباهه فجأة فرفع عمر رأسه نحوه رافعًا الكرة يحتضنها بين يديه الصغيرتين..فهتف إياد آمرًا من مكانه ؛ _أمكٓ تبللت تمامًا..اذهب و أحضر المنشفة بسرعة !! التفت عمر مبتعدًا نحو مكانهما بطاعة فعلًا..بينما عاد هو ليلتفت نحو أسيل..و قد كانت لا تزال تحدق به مقطبة حاجبيها بنفسِ الطريقة..حينها همس و هو يحرّر يدًا واحدة لمس بها وجنتها المبللة برقة ؛ _سأقبلكِ ؟!!! خرجت كلمته تلك مبهمة ما بين سؤال عالق أو ربما كانت مجرد معلومة يخبرها بها قبل أن يشرع في التنفيذ..بينما طرفت أسيل برموشها ببطءٍ و هي تفغر شفتيها أكثر و كأنها محاولة منها للتعقيب..أو الإعتراض.. لكنها...كعادة ميؤوس منها..فقد استلمها العجز مكبلًا أطرافها و صوتها ككل مرة تكون فيها قريبة منه لهذا الحد الخطير..فعادت تلتزم الصمت زافرة نفسًا ثقيلًا.. قبل أن تغمض عينيها مجبرة حينما شعرت به يقترب منها فجأة ليعانق أنفاسها المتهدجة بأنفاسه التي كانت للعجب تحمل نفس التهدج..و قبلها..بطريقته التي تذهب عقلها في كل مرة..بذلكٓ الدفء الذي اعتاد أن يتفنن في إغداقه على كل حواسها.. دفء اكتسح يديه أيضًا و اللتين عادتا تعانقان خصرها في عناق كان ليصبح أبديًّا لولا ضرورة محتمة أجبرتها على الإبتعاد فجأة شاهقة بثلاثة أحرف ؛ _عمر !!!! نظر لها إياد باستغراب حقيقي متسائلًا إن كانت قد سمعت أمره السابق لعمر..إن كانت قد استطاعت تمييز أيّ شيءٍ في خضم ضياعها به.. قبل أن تلتفت في نفس اللحظة معه لترى عمر الذي كان لا يزال يقف بعيدًا عنهما يبحث في الحقيبة السوداء الصغيرة كما طلب منه قبل قليل.. نظرت لصاحِب الأمر الخبيث ذاك مجددًا بنفس الضياع الذي يرفض مفارقة عينيها اليوم..فهمس إياد يحتوي جانب وجهها للمرة الألف و كأنها طريقته المبتكرة في لفت انتباهها و في عناقها ؛ _لم يرى أيّ شيء..اهدئي.. نظرت له أسيل بغير ارتياح رغم ذلك..قبل أن تهمس كشخصٍ بالكاد استوعب ما حدث للتو ؛ _ماذا فعلت ؟!!! همس إياد بثباتٍ عجيب و هو يسمح لطيف ابتسامة مشرق بأن يلامس شفتيه ؛ _قبلتُ زوجتي...بموافقتها !! رفعت أسيل حاجبها الأيمن مكرّرة بتوجس ؛ _بموافقتها ؟!! فقال إياد يهمس بنفس النبرة غير شاعر بذرة من تردّد ؛ _نعم..لقد سألتكِ و أنتِ بقيت صامتة تمامًا..كما أنكِ نظرت لي بطريقة........ صمت فجأة و علمت أسيل بأنه تعمد أن يصمت..فقالت تحثه ببطءٍ ؛ _بأيّ طريقة ؟!!!! و قد منحها الرد..رد مرفق ببريق قوي اكتسح ابتسامته ؛ _و كأنكِ تتوسلينني أن أقبلكِ !!! و فقط..و كأنما انتهى سحر اللحظة كليًا..عبست أسيل فجأة و هي تتراجع متملصة منه مكرّرة باستنكار ؛ _توسلتك ؟! أنا ؟!!!! تراجعت بعدها تهم بالمغادرة..بينما لم يستطع إياد أن يكبح ضحكة كبيرة اكتسحت كل ملامحه..ثم قال و هو يحرك يديه نحوها بدون أن يلحق بها ؛ _لحظة..لحظة...ليس هذا ما قصدته تحديدًا..أسيل....... كان عمر يقترب منهما راكضًا بعد أن وجد المنشفة أخيرًا..و توقف تزامنًا مع وصولها إلى الضفة حيث استلمت منه المنشفة لتلف نفسها بها قبل أن تنخفض إليه أيضًا تحمله بين ذراعيها مدرفة بحزم ؛ _حسنًا..هذا الحد يكفي و يزيد لهذا اليوم..دعني أجففكٓ ثم نذهب.. تعبير واضح من الإحباط رسمته ملامح عمر و هو يقول متوسلًا ؛ _دعينا نبقى قليلًا بعد ماما..قليلًا فقط.. إلّا أن أسيل قالت بنبرة قاطعة صارمة ؛ _و لا ثانية إضافية أخرى..أساسًا تأخرنا في البقاء.. حينها...زفر عمر و هو يتشبث بعنقها مستسلمًا للأمر الواقع..ناظرًا لوالده الذي كان يقترب أخيرًا بهدوء..لكن حتى ذلكٓ الهدوء تخلله بعض القلق الدخيل حينما وقعت عيناه على مجموعة من الشبان كانوا يقتربون بحماس بالغ من المكان.. شبان يبدون من طبقات أدنى..حتى أن معظمهم كان يسير بدون قميص علوي و كأنهم قد خرجوا من المنزل بهذا الشكل..لم يشعر بنفسه و هو يقترب بسرعة من عائلته الصغيرة.. إلى أن توقف يرى أسيل تجثو بجانب عمر بينما المنشفة الأخرى الإضافية في يدها حيث كانت تنقلها بين صدره و وجهه و شعره تجففه بذلكٓ الحزم الأمومي الذي لطالما كان صفتها الأعظم.. حينها فقط تذكر قلقها السابق من فكرة التبلل..فزم فمه يشتم نفسه داخليًا و هو يرى الشبان يقتربون أكثر إلى أن توقف بعضهم على بعد مسافة أمتار من مكان وقوفه..بينما استمر الآخرون بالركض باتجاه البحر إلى أن انتهى بهم المطاف و قد اختفت أجسادهم مصطدمين بموجة قوية.. حينها لم يشعر بنفسه و هو ينخفض ليمسكٓ بالحقيبة و كل غايته أن يجد قميصه الضخم الإضافي الذي أحضره معه..ثم قبض على ذراع أسيل يجعلها تقف بعد أن وقف هو الآخر.. لم تكن أسيل قد لمحت الشبان أو ربما فقط لم تهتم.. الشيء الوحيد الذي لمحته و اهتمت له بشدة هو القلق الطفيف الذي ظهر في ملامحه الجادة..و في صوته الذي ارتفع يجيب نظرة الاستغراب في عينيها ؛ _لقد بدأ الجو يصبح أشد برودة..ستمرضين ! لقد كان...يهذي نوعًا ما !! كيف قد يؤثر بها الجو بعد الآن و هي مبللة بالكامل !! التفتت قليلًا ترمق الشبان الذين كانوا قد احتلوا مساحة كبيرة بعضهم جالس باسترخاء و بعضهم مستلق و البعض يسبحون..قبل أن تنظر له مجددًا عاقدة حاجبيها حينما دس إياد القميص فوق رأسها فرفعت يديها ترتدي الأكمام أيضًا سامحة له بأيّ كان ما يود فعله.. حسنًا..لقد كانت تلكٓ المرة الوحيدة ربما التي تجد فيها العذر لمشاعر الضيق التي ارتسمت في ملامحه و قلقه من شكلها الـ...مزري بالنسبة إليها! و الشديد الفتنة و الإغراء بالنسبة إليه !!! لهذا..فقد لانت ملامحها قليلًا فقط..و زمت فمها تتأمل تفانيه المبالغ به في تعديل أكمام القميص..ثم تحرير شعرها الذي اختفى جزءه السفلي تحت القميص..ثم.. تفانيه الأكبر في عدم النظر في عينيها و كأنه يخشى أن تسيء فهم مبادرته.. أو...يضطر لمواجهة إحدى نوباتها اللائمة بعد كل موقف مشابه..أو يظن هو بأنه مشابه !! _لقد حذرتكٓ مسبقًا !! قالت فجأة فتوقف إياد ينظر لها بعدم فهم..حينها أكملت هي بنبرة خرجت مشوبة بـ...تعاطف غريب! _من أن شكلي سيصبح كارثيًا تمامًا لو أجبرتني على السباحة !!! نظر لها إياد باستنكار حقيقي..لا..ليس لتعقيبها على تعابيره التي خرجت عن سيطرته..بل لوصفها الغبي لشكلها على أنه...كارثي !!! قال يتأمل شكلها الـ...خلاب إلى درجة مبالغ بها باستنكار حقيقي فعلًا ؛ _هل تظنين حقًا بأن شكلكِ كارثي ؟!!! أومأت له أسيل راسمة ابتسامة شبه ملحوظة..ابتسامة كان ليقبلها مجددًا لو كان في وضع آخر..بالطبع بعد أن يأخذ الموافقة منها !! فهز رأسه بيأسٍ و هو يشيح بعينيه منخفضًا بجانب عمر الذي كان يحاول عقد حزام حذائه عبثًا ككل مرة..تولى عنه تلكٓ المهمة بسرعة..بينما التفتت أسيل تتكفل بتوظيب الأشياء الأخرى.. لولا أن عينيها تجمدتا تمامًا حينما وقعتا بداخل عينين وقحتين لأحد الشباب الذي كان يجلس فوق الرمال عاري الصدر..يمد أقدامه أمامه مستندًا إلى يديه أيضًا بكل راحة..و قد كان منهمكًا في التحدث إلى أصدقائه و رمقهم بنظرات فضولية في نفسِ الوقت.. إلّا أنه ما إن رأى وجهها هي مباشرة..و وقعت عيناه في عينيها حتى كان يتحرك مستقيمًا قليلًا في طريقة جلوسه..قبل أن يفعل شيئًا جعلها تتجمد فعلًا توشكُ على إسقاط الأوراق التي كانت تهم بإدخالها في الحقيبة المربعة الخاصة بها ليس توترًا و لا ارتباكًا.. بل غضبًا داخليًا..و قلقًا مألوفًا استفحل قلبها من فكرة تواجد إياد بجانبها..و الذي لن ينفكّ عن الانقضاض عليه لو رآه يرمقها بطرف عينيه..فماذا لو تجرأ و......غمزها!! لقد غمزها فعلًا ذلكٓ الشاب الوقح و هي زمت فمها بقوة تريد أن تحطم أسنانه..فقط لو لم يكن إياد بجوارها !!! أشاحت بعينيها بحزم و هي تستأنف جمع أغراضها بسرعة أكبر..إلى أن وقفت أخيرًا و وقف إياد الذي كان قد ارتدي قميصه الأبيض الخفيف بأكمامه التي تنتصف ذراعيه.. رمقها بنظرة شابها نفس التعابير السابقة التي مزجت ما بين قلق و ضيق..نفس التعابير التي تناقض ابتسامته تمامًا و تجعله يشبه رجلًا آخر مختلفًا عن ذلكٓ المبتسم.. كان قد حمل الحقيبة في يد بينما مد الأخرى يتمسكُ بيدها هي مطبقًا على أناملها..و قال يوجه أمرًا جديدًا لعمر ؛ _احمل الكرة و تقدم أمامي.. نفذ عمر بالفعل و هو يرمق البحر بنظرة أخيرة شابها بعض التخاذل..بينما لم يستطع إياد أن يبعد أنظاره عن المجموعة هناك حتى أثناء تقدمهما مغادرين المكان.. كانت أسيل تشعر بنفس القلق..قلق غير مطوع..قلق لطالما كرهته من قلبها و كان سببًا وجيهًا لطلبها الطلاق سابقًا..همست تنبهه بخفوتٍ ؛ _إياد !! فطرف إياد و هو يلتفت مجفلًا مرغمًا نفسه على النظر أمامه..لكنه لم يستطع رغم ذلكٓ أن يمنع ذلكٓ الشعور القبيح..شعور أشبه بـ..وساوس قهرية كانت تجعله عالقًا في مجرد فكرة أن يكون أحدهم أو جميعهم قد استغلوا فرصة التفاته لـ.......... لم يشعر بنفسِه و هو يلتفت في حركة مندفعة سريعة..و بالفعل فقد وقعت عيناه على نظرات ذلكٓ الشاب الذي كان يتأمل مغادرتهما مبتسمًا بمكر رافقته كلمات كان يهمسها لأحد أصدقائه الجالسين بجانبه.. لكنه استدار بسرعة متظاهرًا بالاعتيادية بمجرد أن التفت إياد..هذا الأخير الذي احتد فكه قليلًا و هو يتحرك فجأة يهم بالإقتراب منه بنفسِ الغضب الذي تعرفه جيدًا..لولا أن امتدت يد أسيل في نفس اللحظة تتمسكُ بذراعه.. نظر لها إياد بملامحة المحتدة..فقالت تعترضه بجدية ؛ _لا تفعل إياد..أرجوك...لقد وعدتني بأنكٓ ستحاول تغيير نفسك !! بدا و كأن إياد..ككل مرة..عاجز عن استيعاب منطق ما تقوله..قال من بين أسنانه بانفعال يصعب التخلي عنه ؛ _لقد كان ينظر لكِ النذل..لقد كان ينظر لكِ !! إلّا أن أسيل قالت تتشبث بذراعه أكثر مصممة على موقفها بصوتٍ خرج الآن يحمل بعض الرجاء ؛ _و إن يكن! لا يمكننا أن نعاقب الناس على النظرات إياد..حتى القانون لا يفعلها..كم مرة أخبرتك..كم مرة سأخبرك..أنت لا يمكنكٓ أن تتحكم في تصرفات العالم.. الشيء الوحيد الذي تملكُ رفاهية التحكم به هو ردة فعلكٓ أنت..و تلكٓ الحدود التي سترسمها بكل تعقل لو حاولوا التمادي !! كانت ملامح إياد تحتد أكثر بعد كل كلمة و كأنه يسمع نواقض ما تقوله هي فعلًا..حتى أنه زم فمه بقوة كشخصٍ يعاني ضغطًا عصيبًا..ذلكٰ الضغط الذي حاول التحكم به..إلّا أنه عجز نسبيًا ففتح فمه يهمس بصوتٍ مشتد بائس ؛ _أنت تطلبين مني الكثير..تطالبينني بما يفوق طاقتي أسيل..و أنا لا أستطيع تحمل هذا..لا أظن بأنني أستطيع ! قالت أسيل تنظر بداخل عينيه بانفعال هادئ ؛ _بل تستطيع..إنه موقف بسيط أساسًا إياد..إنه نفس الموقف التي تتعرض له كل امرأة في هذا العالم مرة في كل يومين على الأقل..سواء كانت بمفردها أو لا.. صمتت للحظة واحدة..ثم قالت بصوتٍ شابه بعض الإرهاق الآن ؛ _لقد وعدتني إياد..لما تنازلت لهذه الفرصة لولا هذا..ألا تستطيع التراجع عن انفعالكٓ بسبب موقف سخيف للغاية لأجلي ؟! لأجل عمر..أنظر إلى عمر !!! كانت قد التفتت في آخر كلمة تنظر إلى عمر فعلًا..ذلكٓ الذي كان يقف أمامهما يرفع رأسه صوبهما محدقًا بينهما بعينيه الواسعتين البريئتين المترقبتين..و اللتين شابهما بعض القلق الآن و كأنه يخشى من أن يتحقق خوفه الأعظم...و يتشاجران !! نظر له إياد هو الآخر..لكن تعابيره لم تتغير..مجرد أن لانت قليلًا و غامت عيناه بعض الشيء..قبل أن يسحب ذراعه من يده و يشيح بوجهه هامًا بـ..تجاهل الموقف السخيف كما وصفته فعلًا ! و قد كان سيتجاهله..كان سيتجاهله فعلًا..كما تجاهلته أسيل سابقًا بحزم و قد كان أكبر دافع لها هو تواجدها معه..أي أنها حرفيًا تغاظت عن جرأة ذلكٓ الشاب الوقحة لأجله حرفيًا..لأجل إياد.. ألا يمنحها هذا الحق الأكبر بأن تستعين بمكانتها لإثناءه عن أيّ كان ما يود فعله من غباء !! و قد شعرت ببعض الراحة فعلًا حينما استمع لها..حتى أنها زفرت نفسًا طويلًا تحمد اللّه على مجرد فكرة أن يمر هذا اليوم الجميل بسلام حتى نهايته..مضطربة من فكرة أن تفقد ذكرى أخرى جميلة بسبب اندفاعه ! همت بأن تلحق به بحيث كان هو و عمر قد تجاوزاها ببضع خطواتٍ ملحوظة لكن صوتًا مقيتًا ارتفع من خلفها جعلها تعود لتتوقف جاحظة العينين..حينما هتف نفس الشاب يخاطبها هي الآن مستغلًا ابتعاد إياد ؛ _لا تحزني أيتها الجميلة..لا يزال بإمكانكِ أن تنضمي إلينا ! و فقط..التفت إياد كالزوبعة بعد أن سمع الجملة فعلًا مقتربًا من التجمع هناك و من الشاب الذي كان يتحدث للتو مستغلًا تجاوزه السابق لها..ذلكٓ الأخير الذي اتسعت عيناه بسرعة جزعًا و تحركٓ فجأة يقف بسرعة تزامنًا مع اقتراب إياد.. ذلكٰ الذي ما كاد أن يصل إليه..حتى كانت قبضته ترتفع عاليًا موجهًا لكمة قوية أصابت فكه و ارتد لها جسده النحيل..ثم لم يشعر بنفسه و هو ينكب عليه بلكمة ثانية و ثالثة أوقعته أرضًا.. كانت أسيل تراقب هذا المشهد الكارثي..مشهد مألوف بات يتسلل إلى قلبها بتأثير كابوس مريع..لكنها تلكٓ المرة..و كعدة مرات أخرى سابقة..لم تتحرك من مكانها.. لم تقترب أو تحاول إثناءه أكثر و هي ترى الشبان الذين تجمعوا حول ذلكٰ الكائن المخيف يحاولون إبعاده عن صديقهم عبثًا..فقد بدا إياد و كأنه قد فقد كل تعقله.. فقد ظلت فقط تقف مكانها..تراقب ذلكٓ الكابوس بعينين زاغت عنهما الرؤية تمامًا للحظات..بخفقات قلب اضطربت وتيرتها بشدة..و بكتفين متهدلين يأسًا.. قبل أن تزم فمها بقوة غضبًا..ثم التفتت ترفع عمر من الأرض هاتفة بأنفاسٍ حملت نفس الغضب ؛ _دعنا نذهب.. لكن عمر..و كعادته فقد هتف يسألها بجزع لم تستغربه ؛ _لكن..بابا...هل سنذهب بدونه........... قالت أسيل مستمرة في السير بثباتٍ و حزم ؛ _سيلحق بنا..لا تقلق.. كان إياد قد انفض عن الشاب فعلًا..بإرادته تلكٓ المرة مستجيبًا للأيادي التي كانت تتشبث به بقوة..قبل أن ينفض ذراعيه متحرّرًا منهم بنفسِ الغضب الأعمى.. بتعابير كانت لتكون كافية على ردع جميعهم من مجرد فكرة الاقتراب من رجل كهذا.. كانت عيناه لا تزالان مستقرتان في نفس المكان..ملامح الشاب الذي تحرك يسعل بقوة..بوجه دام مكدوم كليًا.. اشتدت أنامله في قبضتين متشنجتين قويتين..قبل أن يطرف برموشه مرغمًا نفسه على الالتفات أخيرًا.. لكن عينيه اتسعتا قلقًا و هو يلمح المكان الفارغ كليًا.. باستثناء تلكٓ الحقيبة التي كان يحملها..تسمر مكانه لاهثًا بشدة..غير عابئ بالأصوات التي كانت ترتفع من وراءه للشبان الذين تجمعوا حول صديقهم يحاولون أن يساندوه للوقوف.. لقد...رحلت أسيل !! لقد رحلت برفقة عمر و تركته وحيدًا مع ذلكٓ المشهد البائس السابق..رحلت غير مبدية ذرة من اهتمام أو قلق أو غضب حتى و كأنها كانت تترك خلفها رسالة بالغة المعنى..رسالة حملت فحوى كلماتها له ذلكٓ اليوم.. " أنت لن تتغير إياد..لا يمكنكٰ التغير.. " و هو يشكّ بأنه سيستطيع التغير بعد مهما حاول..إذا كان هذا هو التغيير الذي تقصده !! أن يقف صاغرًا يتظاهر بانعدام الشعور بينما تتعرض زوجته للإهانة..لقد تأكد الآن..هو...ليس رجلًا من هذا النوع..لن يستطيع التغير مهما حاول...لن يستطيع !! لكنه لا يستطيع أيضًا تحمل فكرة أن تتراجع عن قرارها الأخير بمنحهما فرصة أخيرة !! ليس بعد أحداث اليوم.. ليس بعد نظراتها..كلماتها..و...تلكٓ القبلة الساحرة !!! ليس و صوت ضحكاتهما لا يزال يتكرّر في أذنيه باعثًا في روحه رجفة من الأمل و الرغبة الهستيرية في أن يحافظ على تلكٓ الضحكات.. و أن يحظى بفرص أخرى لا تعد للنهل من ابتسامتها..و ارتشاف أنهار العشق من عينيها و أنفاسها بكل سخاء !! لهذا..فقد زفر بقوة و هو يتحرك بسرعة ليحمل الحقيبة الصغيرة نسبيًا متوجهًا إلى حيث كان قد تركٓ سيارته..إلًا أنه و كما توقع..لم يجد أيّ أثر لها..حينها تراجع قليلًا يستند بظهره إلى الجدار الرمادي للمرآب.. لا يشعر بذرة من خيبة أمل..بل ما كان ينتابه هو شعور واحد فقط...الغضب من العالم..و من تلكٓ النزعة المجنونة التي تشكل هويته !! و التي بات متأكدًا من استحالة قدرته على التخلي عنها !!! _________________________ طوال الطريق..كانت عيناه شاردتان بلا هدف..هناك شعور غريب من...ضياع كبير يكتسح عقله و قلبه..عالق تمامًا في تلابيب ذلكٓ المشهد الذي عاشه قبل قليل..هل اعترفت له يوليا بالحب حقًا ؟! تلكٓ الإنسانة الجميلة..و التي اقتحمت حياته السوداوية الرتيبة حاملة بين يديها باقات من الأمل و الابتسامات التي لم يكن يعلم بأنه قد يستشعر طعمها يومًا في ملامحه أو قلبه.. تلكٓ الفتاة ذات الابتسامة المنعشة القادرة وحدها على أن تتسرب لروح رجل مثله و تجعل خفقات قلبه تختلج من جديد..بمشاعر و أحاسيس يشعر بأنها مرته الأولى في تذوقها رغم حقيقه كونه قد تذوق طعم الحُب قبلًا.. فأنى لمشاعره الآن أن تعتنق مثل هذا التميز و التفرد و الاختلاف..كشاب صغير يرتشف كأس الحُب لأول مرة.. كرجل وحيد يختبر شعور الألفة لأول مرة.. تلكٓ المرأة بصوتها العذب..بكلماتها العميقة في تفائلها.. المتصالحة مع ذاتها ضد كل معضلات حياتها التي أصبح يعرف جزءًا كبيرًا منها..و ربما يعرفها كلها! هل..ما يشعر به نحوها حُب حقًا ؟! تلكٓ اللهفة التي تصاحب قلبه مع نهاية كل لقاء لهما أملًا في لقاء جديد قريب..ذلكٰ الهوس الغريب الذي بات يكتنفه و يمنعه عن النوم أحيانًا و هو يستعيد تفاصيل ملامحها في ذهنه و كأنه في كل مرة يشكل لها لوحة جديدة بتفاصيل جديدة.. مع العلم أنه يشكّ بأن تتوقف تلكٓ الملامح عن مفاجئته في كل مرة بتفاصيل جديدة يلاحظها في كل مرة...و كأنها كانت تملكُ وجهًا متجددًا.. تلكٓ النزعة المجنونة التي باتت تتملكه لـ...حمايتها! يريد أن يحميها رغم أنه لا يعلم ممّا تحديدًا !! أن يحافظ على ابتسامتها و على ذلكٓ الوميض بعينيها كلما رأته غير سامح له بالتداعي أبدًا..أن...يحتوي قلبها الجميل..الحنون..أن يلمس وجهها أحيانًا و في أحيان أخرى...يدها! الأدهى من ذلكٓ هو رغبة مجنونة انتابته اليوم في...احتضانها بشدة! ثم ليرفع يده بكل هدوء يمنحها تربيتات حنونة على ظهرها و شعرها..أن يمسح دموعها ثم يتوسلها فقط أن...تتخلى عنه! أن تتغاظى عن مشاعرها التي رأى انعكاسها في عينيها و بالكاد تمكن من استيعابها و لتعد إلى حياتها فقط مبتعدة عن رجل مثله ! رجل بائس عاجز عن ترميم نفسه..كيف عساه أن ينجح في ترميمها ! رجل متبلد الشعور و الرغبة في العيش..كيف عساه أن يمنحها تلكٓ الحياة التي تستحقها ؟!! رجل يجد في نفسه قلقًا غريبًا و فكرة ترفض أن تفارقه منذ سماعه لاعترافها أنه...قد يتسبب لها بالأذى !! لقد تسبب لها بالأذى فعلًا حينما استسلم لضعف كسير مرير و رفض أن يتركها..حينما لاحقها ذلكٰ اليوم في نفس المقبرة حيث ترقد ابنته و زوجته يطلب رقم هاتفها..قبل أن يقرر منهزمًا لنزعة داخلية تأمره بذلكٓ أن يتصل بها !! لكن حتى ذلكٓ الأذى لا يمكنه أن يفسر شعوره غير المطوع في هذه اللحظة..و الذي بات يخشى أن يتحول إلى هوس..حدسه الداخلي بأنه سيفشل..هو سيفشل و... سيؤذيها..حتمًا سيؤذيها.. و سيكره نفسه بعدها للأبد !! أطبق عينيه بقوة يحاول تنظيم وتيرة أنفاسه شاعرًا بخفقاتِ قلبه تنتفض بهستيرية غريبة..بينما قرّر عقله في تلك اللحظة الغريبة أن يرسل له مجددًا ذكرى زوجته.. مصرًا على وضعه في داخل مقارنة غريبة.. ما بين شعوره الأولي الذي كان يراه أجمل شيءٍ حينما وقعت عيناه على ملامح زوجته للمرة الأولى..و شعر بأنه وقع في حبها ! و بين شعوره الآن نحو...يوليا! شعور مجنون يجعله يشكّ بأن يكون قد تجاوز حدود الحب فعلًا..و ربما كان عجزه الشديد أمامها قبل دقائق أن يسلم لتلكٓ الحقيقة التي تبدو بعيدة عن منطقه الخاص.. فتصبح احتمالية التراجع بعد..عن أذيتها...مستحيلة !! الفرق الوحيد بين الماضي و اليوم..هو تلكٓ السلاسة التي تبنتها مشاعره يومها و تبناها هو في تفسير مشاعره..تلكٓ السلاسة التي تقبلت بها زوجته مشاعره مبدية شعورًا متبادلًا بالإنجذاب.. تلكٓ السلاسة التي رافقت علاقتهما كاملة..التي اتخذ بها قراره الطبيعي بطلب يدها..و التي نفذ بها هذا القرار ناظرًا في عينيها..متأكدًا واثقًا من ردها قبل أن يناله.. تلكٓ السلاسة التي انتقل بها من هويته كرجل عازب..إلى رجل متزوج يعشق حياته و يعشق زوجته التي التقى بها مؤخرًا فقط..ما يجعله يستوعب كم كان رجلًا بسيطًا فعلًا! بينما هو يشعر بنفسه الآن غارق في قوقعة عظيمة من الأفكار المتضاربة المتناقضة المجنونة حيال امرأة واحدة لا غير..تناقضات لم يشعر بها طوال حياته التي عاشها كذلكٓ الرجل البسيط.. امرأة عمليًا قابلها قبل شهرين..لكنه عاش برفقتها طوال هذين الشهرين ما يكفي لكي يجعل مجرد فكرة أن يستمر في حياة بدونها...مستحيلة كاستحالة تراجعه بعد الآن عن موقف اليوم..عن ردة فعله.. و عن ذلكٓ الوعد الذي منحه لعينيها !! بدون تلكٓ اللقاءات الجميلة الهادئة التي باتت تشكل له مثل إدمان..بدون تلكٓ الأحاديث الطويلة التي شكلت رونق علاقتهما..بدون ابتسامتها و صوتها و عينيها.. لا يتذكر بأنه عاش شعورًا مشابهًا من قبل برفقة زوجته.. لا يتذكر بأنه خاض معها حديثًا عميقًا من أيّ نوع طوال علاقتهما التي امتدت سبع سنوات..لا يتذكر بأنه جلس بجانبها طويلًا يتأملان الأفق و أنفاسهما الرتيبة تتحدث نيابة عنهما.. لا يتذكر بأنه قد نظر في عينيها يومًا و بكى بدون سبب..لا يتذكر بأنها اعترفت له بالحُب بحرارة يومًا.. باستثناء تلكٓ اللحظات البديهية بقدر دفئها.. لا يتذكر...بأنه قد أمضى ليلة واحدة يتقلب فيها في الفراش عاجزًا عن اعتكاف النوم و السبب...ملامحها ! لقد كان يحِبها نعم..كان يعشق ملامحها و يحِب تأملها.. خاصة في بداية علاقتهما..لكنه لا يتذكر بأنها قد تمكنت يومًا من أن تنشئ به مثل هذه التناقضات المخيفة..أن تنقله من وضعه الطبيعي إلى رجل فاقد لهوية المنطق و العقل في محاولته لمجرد تحليل...ابتسامة !! أو تفسير شعور مجنون اجتاحه في أن يرسم تفاصيل ملامح رآها بالصدفة..قبل أن تصبح رؤيتها...إدمانًا يحِب أن يستسلم لتأثيره السادي..الجميل على روحه !!! لقد كانت تلكٓ مشاعرًا اختبرها معها فقط..مع يوليا! كما عجز عن تفسيرها الآن و عقله يرسل له سؤالًا شديد الصرامة..هل يعقل أن تكون تلكٓ المشاعر التي تملكته من الداخل نحو يوليا خلال هذه الفترة القصيرة..أقوى ممّا كنها لزوجته التي عاش برفقتها سنوات طويلة !!! تنبه بشكل مفاجئ حينما كاد أن يصطدم بسيارته التي لا يعرف حتى كيف استطاع أن يتحكم بها ليقودها طوال الطريق كلبًا كان يمر من أمامه..فتحرك بقوة ينعطف بها جانبًا تزامنًا مع صوت نباح الكلب المرتفع من وراءه.. نفس ثقيل سحبه إلى داخله و هو يتراجع قليلًا بدون أن يتوقف عن التمسكِ بالمقود إلى أن عاد يستند إلى طرف الكرسي بظهره و رأسه..قبل أن يطرف برموشه ببطءٍ..ثم تحرك ينقل عينيه حول المكان ليستوعب بأنه لم يكن قد وصل إلى منزله فعلًا...بل تخطاه بأمتار عديدة !!! حينها وجد نفسه يزفر بقوة يائسًا من نفسه..قبل أن يجبر نفسه على أن يستقيم أكثر في طريقة جلوسه ثم يقوم بتشغيل السيارة عائدًا إلى وجهته الحقيقية..نزل بعدها بدقائق ليقترب من منزله بخطواتٍ سريعة تحمل لهفة من نوع خاص.. و قد كانت وجهته غرفته التي هرع إليها بمجرد إغلاقه للباب..اتجه مباشرة إلى السرير قبل أن ينخفض على ركبتيه حيث رفع الشرشف الأبيض عن جانبه باحثًا عن شيءٍ بعينه.. ذلكٓ الشيء الذي لم يكن سوى حاملًا خشبيًا طويلًا بعض الشيء..أخرجه بسرعة ليقوم بتثبيته في جانب معين من الغرفة..ثم اقترب من الخزانة حيث رفع يده يخرج مجموعة أوراق بيضاء كبيرة تبدو قديمة من فوقها.. كان هناكٓ غلاف بلاستيكي شفاف يغلفها..غلاف غطته ذرات الغبار..لكن نائل لم يهتم بذراتِ الغبار أو الغلاف نفسه..فقد دس أصابعه يمزقه كاشفًا عن الأوراق التي كانت ملكه في وقتٍ ما...أو ملكهما!! نظر لها للحظة في يده لاهث الأنفاس..قبل أن يقترب من الحامل و غايته الوحيدة أن يثبت إحداها في وضعية الإستعداد للـ...الرسم !! اقترب بعدها من الخزانة نفسها و التي كانت تحتل هذه الغرفة الشبه فارغة من الأثاث ربما باستثناء الخزانة الكبيرة و السرير..و مقعد جلدي أسود وحيد كان يحتل جانبًا معينًا في مقابل النافذة.. فتحها بسرعة شارعًا في البحث عن شيءٍ معين ليس متأكدًا إن كان قد أحضره معه بعد انتقاله إلى هنا أم لا..بحث في كل درج و كل طبقة تقريبًا..كان يخرج الثياب بسرعة ليلقي بها فوق السرير عشوائيًا غير عابئ بأيّ شيءٍ سوى رغبته في إيجاده.. إلى أن توقف أخيرًا لاهث الأنفاس حينما تراءت له.. مجموعة أقلام ملونة للرسم محفوظة هي أيضًا بداخل كيس بلاستيكي..شبح ابتسامة لا يمت للسعادة بصلة لامس ملامحه و هو ينخفض بسرعة ليحملها.. ثم اقترب من نفس المكان حيث كرّر نفس الحركة السابقة..مزق الكيس مخرجًا تلكٓ الأقلام ينظر لها بداخل يده للحظات بملامح غير مفسرة..قبل أن يلتفت ملقيًا جميعها في الدرج العلوي الذي أصبح فارغًا من الخزانة.. باستثناء قلم واحد احتفظ به و كان في لون رمادي داكن نوعًا ما..ثم رفع عينيه أخيرًا يقرب يده من اللوحة حيث شرعت أنامله في رسم خط قصير قبل أن ينعطف به مشكلًا رسمًا واضحًا لفكّ أنثوي جميل..شديد الجمال! برقت عيناه داخليًا و هو يميل برأسه قليلًا بينما أنامله تتحرك بسلاسة غريبة مشكلة عدة خطوط أخرى..حتى أن حاجباه انعقدا قليلًا مستوعبًا لأهم حقيقة..عن كونه لم يحمل أيّ قلم و لم يرسم منذ وقتٍ طويل جدًا.. و رغم ذلكٓ فها هو يراقب يده كيف تتحرك بمنتهى السلاسة و الاحترافية و كأنه لم يتوقف يومًا عن الرسم.. و كأنه كان يرسم كل يوم..و كأنه رسام محترف !!! أفكار تجمعت في ذهنه لكنها لم تؤثر به بأيّ طريقة و لم تجعل أنامله تتوقف عن التنقل بين اللوحة أمامه بسرعة و ثبات..دقائق طويلة استغرقها في الرسم..دقائق من سلام نفسي غريب مع نفسه و مع تلكٓ التفاصيل التي لم تنفكّ أنامله الفنانة عن تشكيلها.. إلى أن انتهى به المطاف بعد وقتٍ طويل..يتراجع بهدوء شديد..فاغر الشفاه متسع العينين يحدق بتلكٓ اللوحة الـ...الخلابة فقط ؟!!! لقد كانت لوحة...لها! كانت تلكٓ ملامحها..تفاصيلها التي احتلت قلبه و شغلت ذهنه ليال متتالية يحاول فهمها و تحليلها..ارتعشت عيناه و هما تمران حول كل إنشٍ من تلكٓ الملامح.. قبل أن تتسمران على عينيها..ثم شعرها..ثم فكها..ثم غمازتيها ثم...ابتسامتها التي لم ينسى تشكيلها بعناية في لوحته و تلكٓ الخطوط العميقة التي تحدّد تلكٓ الابتسامة كـ...أول لوحة حقيقية تخطها أنامله !!! أول لوحة ترسمها جوارحه و كانت لها !! المرأة التي داهمت حياته و قلبه كزلزال قوي عاث بهما فسادًا !!! كانت اللوحة مرسومة كلها بلون رمادي..و هو لم يفكر حتى في منحها ألوانًا أخرى شاعرًا بأنه اكتفى..اكتفى من ذلكٓ الضياع الذي أنشأته بقلبه و هي لا تزال هكذا...غير مكتملة بعد !!! لكنه بطريقة ما فقد شعر بها مكتملة فعلًا..كيف لها أن لا تكون مكتملة حينما تكون صاحِبتها هي نفسها من تملكُ أجمل ابتسامة في الكون !!!! شعر بنفسه غير قادر على الوقوف بعد..فتراجع ببطءٍ يتحسّس طريقه بدون أن يلتفت عن تلكٓ الملامح إلى أن سقط بكل ثقله يجلس فوق الكرسي الأسود.. لا يزال يحدق في نفس المكان..يتمسكُ بنفس القلم حول قبضة منغلقة بشدة..بينما الشيء الوحيد الذي خطر في ذهنه أنه...قد كان يكذب..لقد كانت تلكٓ كذبة كبيرة.. كذبته الأعظم كانت جملته التي أخبرها بها قبل دقائق.. حينما سألته إن كان قد تجاوز حدود الإعجاب فقط أو بدأ يحِبها ! و الحال أنه يشعر بنفسه الآن و قد أوشكٓ على تسليم كل خلية تنبض بالحياة بداخله قربانًا صادقًا لعينيها.. بل هو يجد في نفسه عزيمة غير مطوعة على...التمسكِ بيدها فعلًا و السير في ذلكٓ الطريق غير عابئ بأيّ شيءٍ قد يعيقه بعد..حتى لو كان هذا الشيء هو نفسه.. هو عقله العصي الذي لا يتفانى عن رفع الحواجز أمام قلبه محفزًا إياه على التراجع..هو قلبه المتألم خوفًا أن تتحقق أعظم هواجسه..فهو لن يهتم بعد.. لا يجدر به أن يهتم بعد..ليس حينما تكون هي نفسها قد أبدت استعدادًا أكبر لخوض الطريق معه..ليس حينما يكون مقابل هذا التهور أن يحظى بصاحبة تلكٓ الملامح لتكون قريبة منه...لتصبح جزءًا متصلًا به !! لتصبح ذات يوم..زوجته الوحيدة لا الثانية..فهو لا يمكنه أبدًا أن يتحمل مجرد فكرة أن يصِفها بتلكٓ الكلمة البشعة و التي لن تليق بها أبدًا.. إنها امرأة خلقت لتكون الأٓولى و الأُولى بكل شيء..تلكٓ مرتبتها الأسمى التي لن يتهاون يومًا في الحفاظ عليها بداخلها تحت أيّ ظرف !! ____________________________ لقد كانت فكرة الدخول و رؤيته أصعب من أن تستطيع تنفيذها على أرض الواقع..رغم رغبة داخلية اكتسحتها في رؤيته فعلًا..تريد أن تراه..أن تضمه و تطمئن عليه.. لكن و كأن روحها لا تزال مكبلة بحواجز وهمية عصيبة فقد عجزت تمامًا.. فلم تشعر بنفسها إلًا و هي تتسمر مكانها تراقب بعينين متسِعتين قليلًا ابتعاد آدم نحو المقر..قبل أن يتوقف هذا الأخير فجأة..ثم استدار ينظر لها بحاجبين منعقدين استغرابًا بعد أن تأكد بأنها لم تكن تسير معه فعلًا.. حينها..تلكأت ميرنا تنظر له بتردّد..قبل أن تبتلع ريقها ببطءٍ..ثم فتحت فمها تحثه دون أن تتحرك من مكانها بصوتها المضطرب ؛ _يمكنكٓ أن تذهب أنت..إنها زيارتك ! نظر لها آدم عاقدًا حاجبيه أكثر..قبل أن يحث الخطى مقتربًا منها إلى أن وصل أمامها و امتدت يده يتمسكُ بيدها مردفًا بحزم ؛ _مستحيل..ستدخلين معي ! إلّا أن ميرنا رفضت أن تتحرك من مكانها..و رفضت أن تترك يده أيضًا..فقالت تطبق عليها في حركة و كأنها تحفزه بها أو ربما كانت غايتها أن تتوسله أن يذهب فقط متخليًا عن فكرة الضغط عليها أكثر.. _اذهب أنت آدم..أنا أقطن في نفس المدينة و أستطيع أن أزوره في الوقت الذي أريد ! بدا آدم غير مقتنع بأيّ من أعذارها..فتسمر للحظة يزم فمه على نظرة توجس ظهرت في عينيه..ذلكٓ التعبير الذي ظهر في صوته أيضًا..حينما قال يسألها مضيقًا عينيه قليلًا بشكّ ؛ _و هل زرته من قبل ؟!!! الآن بدا تردّدها واضحًا أكثر..بينما قال آدم يضيف بنفس النبرة ؛ _أقصد بعد مجيئكِ الأول لاصطحابه..هل زرته بعدها و لو لمرة واحدة ؟!!! تنهدت ميرنا بلا صوتٍ و هي تنظر له بعجز..لقد كان آدم يعلم بشأن علاقتها المعقدة بوالدهما..لكنها لم تسمح له يومًا بمعرفة أيّ تفاصيل باستثناء الأشياء التي يعلمها فعلًا بحكم هويته كأصغر فرد من عائلتهم الغريبة.. الكئيبة !! قالت تحاول أن تقنعه بإرهاق ؛ _آدم..رجاءً...لا تضغط علي.. شعرت بأنها على وشكِ فقدان أعصابها المضطربة أساسًا و هي تنظر لآدم الذي ظل واقفًا مكانه يرمقها بنظراته التي تكاد أن تخترق جميع دفاعاتها الواهية ضد نفسها أكثر..مستوعبة بأنه لن يتزعزع أبدًا.. و قد أكد لها بأنه لا ينوي التزحزح حينما فتح فمه يسألها بنبرة خرجت بطيئة غريبة الآن ؛ _أنت لم تسامحيه بعد..أليس كذلك ؟! لا تستطيعين مسامحته !!! _ما أدراك !!! قالت بدون أن تشعر الآن بنبرة خرجت يتخللها بعض الانفعال..بينما هز آدم رأسه قليلًا ينظر لها ببعض الأسى.. قبل أن يهمس بنبرة رغم خفوتها فقد شابها بعض الاستنكار ؛ _ما أدراني! ألا أعرفكِ جيدًا !!! أرادت أن تفتح فمها لتجيبه بكل أسف.. " أنت لا تعرف أيّ شيء..لا تعرف أيّ شيءٍ آدم..لا يمكنكٓ أن تعرفه ما لم تكن في مكاني..ما لم تعش ما عشته و تشعر بما شعرته ! " إلّا أنها عادت و زمت فمها تلتزم الصّمت المرهق..بينما غاب ذهنها للحظاتٍ يحاول أن يجد الإجابة لنفس السؤال..هل سامحت والدها ؟! هل هي تملكُ صلاحية اتخاذ قراره مسامحته أساسًا !!! الحقيقة أنها حاولت من قبل..حاولت أن تسامحه..حاولت أن تتجاوز الأمر مقنعة نفسها بأنها كانت تبالغ..و ربما كانت لتنجح فقط لو...سمح لها والدها! لو لم يستمر في التمادي مستسلمًا لإدمان مرير..محيلًا حياتها هي و أمها إلى جحيم من الترقب و القلق الدائم !! كانت ستتجاوز تلكٓ اللحظات من الماضي..تلكٓ اللحظة مصمّمة على البدء من جديد كما حاولت لمراتٍ لا تعد و كان هو يقف حائلًا مدمرًا كل محاولاتها بعزيمة غريبة.. لقد وصل بها الحد أن جلست مع نفسها أحيانًا تفكر في احتمالية قدرتها على التخلي عن تلكُ الحياة التي بالكاد وضعت بعض أسُسها..ثم تعود إلى حياتها القديمة المزرية صاغرة..مستسلمة لفكرة أن الأمل في التطور..بل في التغيير هو أمر مستحيل تمامًا !! لكنها تعود و تأخذ نفسًا عميقًا نابذة كل تلكٓ الأفكار الغبية..هي لا تستطيع..لا يمكنها أن تعود إلى حياتها القديمة..إذا كانت تشعر بالرهبة لمجرد تخيل الفكرة !! لقد أصبح الخوف من أن تخسر كل شيءٍ معتكفة نقطة الصفر من جديد مثل هاجس يرعبها..و كان والدها أكبر محفز لذلكٓ الحافز !!! كيف تنظر له إذًا ؟! بعد أن أجبرها بنفسه بتصرفاته على أن تودعه في مركز للعلاج !! كيف يمكنها أن تتحمل نظرات عينيه الحزينة المنطفئة و العتاب الصامت بهما لو هو حاول أن يعاتبها !! لقد كانت تشعر بروحها تتمزق حتى و هي تقف في هذا المكان فماذا لو دخلت ؟! ماذا لو انهزمت أمام لحظة ضعف و ارتكبت ما لا يحمد عقباه !! لهذا لا..هي لن تراه بعد الآن..لن تراه إلّا بعد أن تنتهي فترة علاجه خارج هذا المكان !! حينها قد تتسنى لهما الفرصة من جديد للتعرف إلى بعضهما..حينها قد تتسنى لها الفرصة من جديد لاحتضان والدها القديم !! ذلكٓ الذي كانت تغرق بين أحضانه غير عابئة بكل مخاطر العالم !! قبل أن يتحول حضنه لاحقًا إلى مكان يذكرها بكل مآسيها..يحصرها و يسجنها في خانة من...استسلام موجع فتخر إرادتها تريد التخلي عن كل شيء! قبل أن تعود لتقف بإرادة حازمة مصرة على الإتمام في طريقها..لا تهمها الوتيرة..المهم أن تصِل ذات يوم !! _آدم !!! همست تنطق اسمه مجددًا برجاء أكبر..فزفر آدم نفسًا مرهقًا ناظرًا لها بيأس..قبل أن يتراجع ببطءٍ محررًا يدها أخيرًا..ثم قال ينظر لها باستسلام مشوب بقلق استطاعت تفهمه ؛ _لن أتأخر طويلًا.. التفت بعدها يغادر باتجاه المقر الكبير..بينما تنهدت هي للمرة التي لا تعلم كم و هي تثبت أقدامها فوق الرصيف و التفت رأسها قليلًا تتأمل اللا شيء في انتظار عودته.. ليته يعود بسرعة فقط ! ______________________________ هل يمكن للإنسان أن يموت بينما لا تزال لديه خفقات قلب ؟!! بينما لا يزال لديه صوت و قدرة على الوقوف !! هذا ما كانت تعيشه تحديدًا !! كمن سلبت منه روحه و قلبه عنوة..كمن فارق الحياة مسبقًا إزاء جريمة قتل شنيعة ارتكبت بذلكٓ القلب..و ما ظل فقط..عقل مشوش التركيز..و كبرياء قرّر أن يقدم سلاحات دفاعه أخيرًا..لكن بعد فوات الأوان! لا تعلم كيف استطاعت أن تفعلها..أن تستيقظ صباح هذا اليوم الفارغ كليًا لتتجه بعد دقائق لم تهتم بحساب عددها من شرود و شحوب مخيف فوق السرير إلى حمام غرفتها و غايتها كانت لتبدو غريبة على نفسها أيضًا!! لقد جهزت نفسها فعلًا متجهة إلى العمل !! و كأن أيّ شيء لم يكن..و كأنه مجرد يوم إضافي آخر حيث تستيقظ على نفس الروتين الرتيب المتكرّر..لولا أن ملامحها التي قابلتها في الجزء الصغير السليم المتبقي من مرآتها المنكسرة إلى شظايا..بعد أن ارتدت كامل ثيابها التي ستذهب بها إلى العمل تهم بترتيب شعرها أيضًا..لم تكن توحي بما حاول عقلها أن يقتنع به ! لقد كانت ملامحها..ميتة كليًا! لقد كانت ملامحها..مختلفة و غريبة كليًا حتى أنها تسمرت تنظر لنفسها..لعينيها و كأنها تنظر إلى امرأة غريبة..امرأة بائسة وحيدة..امرأة سلمت نفسها لحُب مرهق منذ وقتٍ طويل..و إذا بذلكٓ الحب يرسم خطوط نهايتها بيده !! و إذا بذلكٓ الحب يطعنها ببطءٍ..يميتها بعد أن استنزف منها سنوات طويلة..كانت لتكون ثمينة جدًا من عمرها! و إذا بذلكٓ الحُب الذي سلمت كل مقاليدها له..يتركها وحيدة تصارع نفسها في غيهب النسيان! و إذا بذلكٓ الحُب..ينظر في عينيها..يتهمها بالخذلان.. بالخيانة التي هي أعظم ما يمكن أن تنطقه شفاه تحِب على قرار عاجز ما اتخذته إلّا خوفًا من فقدانه! حينها..و بتلكٓ الأفكار..لم تعرف كيف..لكن ملامحها الفارغة الشاحبة منذ ساعات..عانقت دمعة هادئة..ثم أخرى..ثم أخريات انسابت بتمهل باعث للسخرية لتحرق روحها أكثر..و تؤكد لها بأنها لم تمت بعد ! بل هي لا تزال تكابد في هذه الحياة المريرة المزرية..تكاد أن تراودها أمنية في الموت في كل لحظة..لكن عبثًا أن تناشد أيّ من أمنياتها الواقع يومًا! قبل أن تشرع مستندة إلى تلكٓ العزيمة الخائرة في انتقاء ما تحتاجه من مساحيق من الطاولة أمامها..تلك التي أعادت ترتيب كل شيء فوقها كما كان ليلة أمس..و كأنها كانت تخدع نفسها تحاول أن تقنعها بأن لا شيء تغير.. أو أنها باستعادة ترتيبها قد تستعيد وتيرة حياتها الرتيبة الجميلة سابقًا..و لا..هي لم تكن تقصد حياتها مع وائل.. بل حياتها القديمة..قبل أن ترتكب ذلكٓ الخطأ بحق يوليا.. قبل أن تقرّر السفر..قبل أن يموت والدها و قبل أن يتخذ خالها قراره الظالم بحقها هي..و وائل! ما فعلته بعدها..أن رفعت نفس اليد تضع من تلكٓ المساحيق فوق وجهها بتمهل غريب..كمن يضع قناعًا زائفًا يخفي به وجهه الحقيقي! و ها هي ذي تجلس في منتصف اجتماع يضم أربعة أشخاص..امرأة وقورة تشتغل تحت إشرافها منذ وقتٍ طويل...و رجلين مرسلين من طرف إحدى الشركات التي استعانت بخدمات شركتها ! كانت ملامحها تبدو جادة و صارمة و هي تنقل عينيها بين ثلاثتهم في كل مرة يرتفع صوت أحدهم مبديًا رأيه حيال موضوع نقاشهم..قبل أن تصدق عليه أو تعقب بثباتٍ كاذب كليًا..و دفاعها الوحيد ذلكٓ القناع الذي وضعته قبل أن تغادر المنزل صباحًا! ذلكٓ القناع الذي ظلت متشبثة به غير عابئة..أو تتظاهر فقط..بعدم الاهتمام بالنظرات الفضولية التي انسابت بمجرد مجيئها صباحًا على تلكٓ الآثار الواضحة نسبيًا بعد أن لم تستطع حتى تلكٓ المساحيق إخفاءها كليًا على جانب وجهها..كانت آثار...صفعته! تلكٓ الآثار التي لم تغير بداخلها شيئًا بقدر ما فعل بها ذلكٓ المنظر الذي قابلته بمجرد وصولها لمكتبها و تقدمها أول خطوة..فقد كانت جميع الملفات المرتبة في الخزانة سابقًا ملقاة فوق الأرض عشوائيًا.. منظر توقعت رؤيته نوعًا ما..و رغم ذلكٓ فقد وجدت نفسها تتسمر مكانها للحظات و كأن عقلها يعرض لها صورًا واضحة تراها أمامها لكيف تحول هذا المكان إلى هذه الفوضى.. قبل أن تغلق الباب بهدوء يدعو للسخرية..ثم تقترب بنفسِ الهدوء إلى أن جلست القرفصاء بجانب الملفات..و شرعت أناملها تلتقط واحدًا تلو الآخر تعيدهم إلى ترتيبهم بصمتٍ باعث للرهبة.. كانت تقف بين كل لحظاتٍ و أخرى لتضع مجموعة منها في مكانها المخصّص..قبل أن تعود لتنخفض بنفسِ الوضعية ترتب الباقي..و قد كانت توشكُ على الانتهاء منها جميعها.. حينما تسمرت قليلًا تزفر نفسًا ثقيلًا و عيناها تقعان على...أثر دماء !! لقد كان أثر دماء واضح لطخ بعض الملفات هناك..أبرزها ملف تعرفه جيدًا..و هو نفسه الملف الذي تم اقتحام هذا المكتب لأجله! آثار دماء واضحة جعلتها تتسمر مجددًا شاعرة برعشة غريبة تسري على طول عمودها الفقري و تمتد إلى رموشها ثم يدها التي امتدت تغلقها جميعها و ترفعها بتردّد.. قبل أن تسقط رأسها أكثر تنظر لها في يدها بملامح لم تعكس أيّ شعور واضح باستثناء تلكٓ الرعشة..فقد اكتفت بعد لحظاتٍ من التصنم و التحديق الصامت..بأن رفعتها هي الأخرى جميعها تضعها فوق مكتبها.. و قد بدت أشبه بإنسانة مريضة نفسيًا و هي ترفع خرقة بالية صغيرة كانت تمتلكها هنا..لتقترب بها من الحمام المرفق بهذا المكتب و الموارب في مكان جانبي غير ملحوظ..بللت أطرافها هناكٓ قليلًا فقط.. قبل أن تعود لتجلس فوق أحد المقعدين الملاصقين لمكتبها شارعة في...مسح أثر الدماء التي جفت كليًا من الملفات !!! عملية استغرقتها بضعة دقائق قبل أن تقرّر أن تلقي بالخرقة في سلة المهملات..نفسها التي ألقت بها الرسائل الملعونة التي لم تعد ملعونة بعد في الأمس..و اقتربت تأخذ نفسًا عميقًا لتتخذ مقعدها الرئيسي منكبة على العمل.. أو ما فعلته حقًا..أنها جلست هناكٓ تتظاهر بالعمل ! أمام نفسها لا غير فلا أحد هنا سواها !!! بعدها بدقائق..تفاجئت بالسكرتيرة تدخل إليها..لتخبرها بتردّد أشفقت عليه ضحى عن مجيء -زوجها- ليلة أمس للمقر و حالته الغريبة التي بدا عليها! حينها..و لأول مرة منذ ساعات..ترسم ابتسامة..ابتسامة بائسة مريرة لونت روحها لا وجهها..قالت على إثرها تخاطب الفتاة هناك بخفوتٍ ؛ _لا بأس..لقد كنت أعلم بمجيئه ! كان تظاهرها يبدو واضحًا..استطاعت أن تشعر بهذا بداخلها..لكنها فقط..استمرت في محاولاتها اليائسة و هي تلقي عليها سؤالًا آخر حيال مواعيد اجتماعات اليوم بالضبط !! قبل أن تتراجع في مقعدها ببطءٍ بمجرد مغادرتها متخلية أخيرًا عن قناعها الزائف..مفصِحة عن ضعف مهيمن برز أثره في عينيها فقط..و انتقل تأثيره إلى ملامحها الشاحبة ليزيدها شحوبًا.. انتفضت من شرودها القبيح فجأة حينما انفتحت أبواب غرفة الاجتماع الثالث لهذا اليوم على مصراعيها..بينما انتفض الثلاثة المتواجدين معها في هذه الغرفة يلتفتون صوب الباب في نفس اللحظة.. قبل أن تعلو وجوههم نظرة استغراب شديد حينما وقعت أنظارهم على ذلكٓ الشاب هناك..ذلكٓ الشاب الذي لم يعبئ بتواجدهم..لم يرمقهم بأيّ نظرة.. فقد تسمرت عيناه تحدقان في وجه واحد لا غير و هو يشعر بأنفاسه تهوي ببطءٍ.. . أما صاحِبة ذلك الوجه فقط..انهارت ! انهارت داخليًا فقط و هي ترمش ببطءٍ تحدق به بنفسِ الطريقة ليس و كأنها كانت في اجتماع مهم للتو..بل و كأنها كانت و لا تزال تجلس بمفردها وحيدة في عالمها الخاص الذي يشملها هي و شخص واحد..ذلكٓ الرجل في مقابلها! قبل أن تطرف برموشها ببطءٍ..و تتحرك بعدها مباشرة مجبرة نفسها على الوقوف بصعوبة..و ووقفت فعلًا تستند إلى قدمين هلاميتين..وقفت بالكاد تحاول أن لا تخضع لذلكٓ الثقل الذي جثم فوق قلبها يحثها على السقوط مجددًا في مكانها.. _وائل... !! همست فجأة من بين أنفاسٍ لاهثة بشدة..بدون أن تفارق عينيه أبدًا أو تحاول الالتفات متنبهة للنظرات من حولهما و التي بدأت تراقب هذا الموقف ببعض الترقب..و كيف زاد هو من فداحة الوضع ؟! فتح فمه ليقول فجأة بصوتٍ خرج يناقض وضعه المزري..صوت خرج ثابتًا..حادًا كالشفرة و يحمل في طياته نوعًا من...اللوم !! _هل ستنفصِلين عني ؟!!! هل كان يسألها فقط ؟! أم...يلومها!!! على ماذا يلومها تحديدًا ؟!!!! ____________________________ مساء الفل..كيف حالكم اليوم ؟! | |||||||
30-01-25, 03:03 PM | #39 | ||||
| فصل موجع للثنائي ضحى و وائل في لحظة غضب كسر شي عميق في علاقتهم اما الثنائي المحبب لقلبي نائل و يوليا أخيراً اعترف و لو اعتراف صغير المهم بين مشاعره الخوف من عائلتها أحس ماراح يتقبلوه ختاما فصل راااائع و مبدعة جد كاتبة محترفة جدا ❤️❤️❤️ | ||||
30-01-25, 09:40 PM | #40 | |||||
| اقتباس:
أولا: الحمد لله على سلامتك، وعافيتك؛ رغم أنها متأخرة قليلاً.. ثانيًا: قلمك: مبدع، وسردك: مميز… ولا نقول: مقابل ما سيدره علينا من: "تحف" سوى: أهلاً، وسهلاً بالمزيد.. أنا وعدتك بأنني: سأقرأ روايتك الحالية، ولكن بعد الاكتمال بإذن الله… وأعدك أيضًا أن أبقى معك أثناء إنزال: روايتك الأخرى؛ التي أجزم من الآن بأنها ستكون أفضل، وأفضل.. ثالثًا: أحب أن أشيد بالتزامك، واستمرارك، رغم قلة التفاعل؛ الذي أراه ظالمًا، ولا يليق بطرحك المميز. | |||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|