آخر 10 مشاركات
140 - سيدة الرماد - مارغريت بارغيتر (الكاتـب : حبة رمان - )           »          472 - بائع الأمل - جيني آدامز ( عدد جديد ) (الكاتـب : marmoria5555 - )           »          جراح يشفيها الحب (169) للكاتبة Jennie Lucas .. الفصل العاشر (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          369 - جزيرة الحب الضائع - سارة مورغن (الكاتـب : سماالياقوت - )           »          على أوتار الماضي عُزف لحن شتاتي (الكاتـب : نبض اسوود - )           »          بأمر الحب * مميزة & مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          قيود العشق * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : pretty dede - )           »          زَخّات الحُب والحَصى * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : Shammosah - )           »          نسل ابليس (1) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة أنفاس بعبق الجحيم (الكاتـب : علا الخالع همسات - )           »          وَ بِكَ أَتَهَجَأْ .. أَبْجَدِيَتيِ * مميزة * (الكاتـب : حلمْ يُعآنقْ السمَآء - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات القصيرة المكتملة (وحي الاعضاء)

Like Tree32Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 21-06-24, 03:33 PM   #1

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي نوفيلا: وكان جبره ثاويا *مكتملة*


بسم الله الرحمن الرحيم
شكر خاص للأخت والصديقة سميرة الحيان على مساعدتها في انتقاء العنوان..وهذا تفسيرها وشرحها له وتبسيط معانيه..
"الجبر يأتي بعد الكسر ومجازا بعد الألم والوجع خاصة الأذى النفسي، وحين يكون باستحقاق وبعد صبر فإنه يكون بمثابة الراحة التامة المريحة، فنقول ثاويا أي جعل النفس تقرّ وترتاح وتسكن في هدوء، وفي مثوى تنتهي فيه كل الهموم فنقول المثوى الأخير أي الملاذ الأخير المستقر الأخير أي النهاية، وهذا الجبر جاء نهاية للألم والوجع والعذاب النفسي للبطلة مجازا، عندنا في المغرب مثلا عند زواج العروسين نقول الله يثاويهم أي يجعل كل واحد سكن للثاني واستقرار له و بئرا يستر كل واحدا الآخر في انسجام وتلاحم..
ويقال جبر الخاطر هو المواساة بعد الحزن، وثاويا من المثوى أي المستقر أي المواساة التي تسكن الأحزان وتهدئها.."
إهداء:
إلى نفسي التي تعايش تخبّطي وتقلّب مزاجي..إلى تلك الأوقات التي تنتابني فيها ومضات يأس وفقدان شغف.. وشعور بأنني قد وصلت لنقطة النهاية ولم يعد لدي ما أضيفه..وعقلي قد بات صفحة بيضاء وفقدت كل أدواتي للكتابة.. لتتبعها تلك الانتفاضة التي تُنصف قدراتي.. تومض كمنارة مشعّة تضيء دربي..وتواكب رحلة عشقي وشغفي في انتقاء كلماتي..أنسج بها بساطًا سحريًا يحملني على أجنحته لسبر أغوار تلك المواطن التي كانت تتراءى لي بعيدة يكتنفها الغموض..مواطن تهفو إليها نفسي لأنهل منها أعبئ منها دلاءً من الشغف والإلهام..وأروي بها حروفي وأفكاري فتُزهر مورّدة يانعة.. تغمر قلبي بالانتشاء والاكتفاء و تنشر الدفء في أوردتي..إليك يا "أنا" أهدي كل انجازاتي..
***
كلمة للكاتبة:
هذا العمل هو امتداد لعمل سابق بطلته أطلّت علينا فيه وغزلت حكايتها بين أسطر هذه النوفيلا..ليس جزءًا ثانيًا لا يكتمل إلا بقراءة الجزء الأول..بل فقط امتداد له.. وأبطال العمل الأول سيظهرون في هذا العمل أيضًا..لمن يرغب في معرفة قصتهم فهي متوفرة بعنوان:

"حين لامست النجوم"
***
"تقفل الخط وهي تضعه على صدرها تتنهد بعشق تملك الفؤاد حدّ الوله، ليهتز الهاتف بين يديها معلنًا عن وصول رسالة..
ترى ماذا نسي ذلك العابث لم يقله؟
فتحت الرسالة لتجدها من وفاء وقد ابتدأتها بملصق مضحك يعبر عن تذمر طفولي متضايق بينما كتبت:
" أليس لديكما غرفة تكملان فيها وصلة غرامكما الصباحي هذا بدل الشارع؟ لقد فضحتمانا أمام الجيران.."
تضحك آية بابتهاج مضاعف بينما تنقر سريعًا وترد بملصق آخر تعبر فيه عن عدم اهتمامها وهي تعلن لها بهدوء:
" أنت تغارين فقط.."
ملصق آخر مضحك يعبر هذه المرة عن اشمئزازها وهي ترد بنزق:
" رحماك ربي!..أنا أغار؟..أتعلمين؟ قصتك مع لقمان تسبب لي الغثيان..أنا أكره الرومانسية بكل أشكالها.."
تضحك آية بمرح وهي ترد عليها بصبر:
" سنرى يا وفاء..سنرى عندما ستقعين في الحب"
يصلها ملصق آخر عبر عن ضجرها لتبتسم بسعادة غير متأثرة بمزاج وفاء المتكدر..ثم وضعت الهاتف جانبًا وتناولت مفكرتها تبدأ بكتابة فصول الحكاية التي تاقت إلى كتابتها منذ أمد بعيد..قصة حبها مع لقمان..الآن فقط ستبدأ بنسج فصولها بحبر لن يجف أبدًا..بصبر ستنهل من نبعها ترتوي وتروي حبيبها معها حد الاكتفاء."
***
نوفيلا: وكان جبره ثاويًا
***
استهلال..
ليلة مقمرة مضيئة بنجوم تناثرت على عباءة السماء كحبّات ماسية متلألئة، تحاكي تلك المفرقعات المدغدغة في صدرها، تفشي سر سعادة وبهجة طفرت وتناثرت وغمرت كل شيء حولها.. ليتحول إلى ورود وقلوب حمراء مرفرفة..
شفتاها لا تتوقفان عن تراقصهما بتلك الابتسامات المرتجفة بإثارة وترقّب ..غدًا يومها الموعود.. خطبتها على حبيب العمر..ذلك اليوم الذي طال انتظارها له..ثماني سنوات لم تكن بالهينة وانتظارها لم يذهب سدى.. فها هو القدر سيكافئها أخيرًا بما حلمت به ورسمت له أحلامًا مزدانة بالوعود والامنيات..
"مراد"..ذلك الاسم المنقوش بحروف من ذهب على جدران قلبها.. اسم حمل كل معاني قصص العشاق في الحكايا القديمة.. أول من منح الإذن بالولوج لفؤادها بعد أن اعتصم عن السماح للحب بطرق بابه..مرادها في هذه الحياة وحلمها..
تتمرغ في فراشها الوثير تخفي وجهها في وسادتها وحديثهما قبيل دقائق يرسل رجفات متتالية إلى أوصالها، وترفرف له فراشات نابضة بالحب والشوق تدغدغ الفؤاد..
" أخيرًا يا وفاء.. غدًا سألبسك خاتمي وأقيدك بي إلى الأبد..
ألا ليت الغد يأتي..
وقد نال الفؤاد من وصالها ما يشتهي"
ابتسامتها الحالمة تتراقص بجذل على شفتيها، وغزله المتجرئ يفجر بها مشاعر تختبرها لأول مرة، تأخذها وتحلق بها فوق غيوم وردية ناعمة..
"صبرًا أيها القلب.. ثم صبرًا..
مكتوب أن تجبر الخواطر جبرًا..
غدًا سنروي أشواقنا بعناق وضم..
وورود الشفاه والوجنتين نقطف..بقبل ولثم"
يزداد اشتعال وجنتيها حياءً وخجلًا وفطنتها تقودها إلى معاني كلماته ..
فتهز برأسها نفيًا وهي ترد بملاوعة وشقاوة:
" قل للحبيب أن الشوق يغالبنا..
وأن الحلال في الوصال مرادنا..
فصبر جميل حتى يجمع الله بيننا..
فننهل الشهد في بيت يضمنا.."
" ماذا تعنين؟"
يصلها سؤاله المفعم بخيبة أمل يحاول مداراتها وعدم تصديقها، لترد عليه بنفس الدلال تلاوعه:
" أعني أن الغد سيكون خطبة فقط وليس عقد قران، لهذا أنت لا تحلّ لي بعد ولا أحلّ لك..لا نريد أن نغضب الله ليتم نعمته علينا.."
" يا لك من قاسية وجامدة المشاعر، لا أعرف كيف وقعت في حبك وتعلقت بك هكذا؟.."
تضحك بشقاوة تزيد من احتراقه وهي تجيب بنفس أسلوبه:
" ويا لك من وقح متهور..كيف سمحت لنفسي بالتعلق بك هكذا؟"
يزمجر من عنده وهو يعلن لها بتهور لحظي فجائي:
" أنت تختبرين صبري وحسابك معي قد ثقل كثيرًا، ولكني لن أسكت..غدًا سأحدث والدتك وشقيقك لنعقد قراننا بعد أسبوع، وأرني عندها كيف ستمنعينني عنك"
تعثّرت أنفاسها في صدرها وتسارع نبضها من قراره الفجائي، لتسأله بتوجس تحاول تأكيد ما سمعته:
" ماذا تقول؟ ألا يفترض أن يكون عقد القران مع العرس في يوم واحد"
" أجل.. هذا قبل أن أعرف أنك تنوين التمنع علي حتى بعد خطبتنا، لهذا سأعجل بعقد قراننا ولن يقف شيء في طريقي بعدها..ها؟ هل تسمعين؟ ..لا شيء سيقف في طريقي.."
تبلّل شفتيها ومعاني كلماته يصل إليها والتي لم يتوانى عن الإفصاح عنها بجرأة أكبر واعدًا متوعّدًا:
" سأحصل على حقي منك كاملًا يا وفاء، سأتربّص بالشيخ الذي سيعقد قراننا، وما إن ينطق بجملة بارك الله لكما وبارك عليكما سأنقضّ عليك وأحصل على قبلتي التي تنوين حرماني منها..أعدك"
حرارة مداهمة تصهرها وأثر كلماته الجريئة جرأة حميميّة تذيبها..تفنيها.. لتهمس بخجل مستحكم:
" أيها الوقح!.. ألا تستحي؟"
يبتسم بوقاحة أكبر وكان بمقدورها أن تتخيل ابتسامته تلك..ابتسامة تفيض جرأة وفتنة تذيب الصّخر.. بينما يزيده حياؤها وكلماتها الرادعة له برقّة ونعومة تماديًا وجرأة:
" ولماذا أستحي؟ إنها ثماني سنوات عجاف حرمتني فيها حتى من مجرد كلمة أعبر فيها عن أشواقي و لواعج قلبي..ولقسوتك وتجبرك ترفضين إرواء ظمئي إليك غدًا ولو بقبلة.. على الوجنتين فقط أنا راضٍ.."
" كانت ثماني سنوات عجاف علي أنا أيضًا يا مراد.."
همستها الخافتة الخجولة ترتحل عبر الأثير إليه فتغمره بالرضى وتمحو كل السخط الذي كان، ليهمس لها بلهفة ولوعة:
" هل يضنيك الشوق يا قلب مراد كما أضنى فؤادي؟ فانيًا كل ذرة صبر أتحكم بها"
تتراقص شفتاها بابتسامة خجولة ويدها ترتفع تلامس تلك الحرارة التي اشتعلت لها وجنتاها وتوهجتا..ثم تغمض عينيها تتنهّد بعشق فاض وغمر بسيوله كل حصونها وهدم جدران صبرها..
تسحب أنفاسًا مثقلة هامسة بسرعة قبل أن تخونها شجاعتها:
" وكيف لا أكون؟ وأنت مرادي في هذه الحياة.."
ثم أقفلت الخط بسرعة تاركة إياه في ذهوله غير مصدق أنها قد عطفت عليه أخيرًا وعبرت عن مكنون قلبها.






المقدمة،الفصل الأول والثاني... أسفل الصفحة.
الفصل الثاني، الثالث، الرابع، الخامس
الفصل السادس والأخير





التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 24-07-24 الساعة 02:49 PM
سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-06-24, 10:41 PM   #2

Habiba Banani

نجم روايتي


? العضوٌ??? » 442853
?  التسِجيلٌ » Mar 2019
? مشَارَ?اتْي » 512
?  نُقآطِيْ » Habiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond reputeHabiba Banani has a reputation beyond repute
افتراضي

بدايه مشوقه جدا في انتظار جديدك غاليتي ❤️

Habiba Banani متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-06-24, 05:23 PM   #3

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة habiba banani مشاهدة المشاركة
بدايه مشوقه جدا في انتظار جديدك غاليتي ❤️
حبيبتي تسلمي يارب اتمنى تعجبك


سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-06-24, 10:56 PM   #4

همس همسات

? العضوٌ??? » 493555
?  التسِجيلٌ » Oct 2021
? مشَارَ?اتْي » 53
?  نُقآطِيْ » همس همسات is on a distinguished road
افتراضي

الف مبروك الرواية الجديدة المقدمة جميلة تسلم ايك

همس همسات غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-06-24, 05:21 PM   #5

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي الفصل الأول

الفصل الأول
قبل شهرين..
تسير بخطوات مهرولة نوعًا ما ترفل في قفطانها المخملي الأخضر، وفي يدها هاتفها يتعالى برنين متواصل ملحّ كإلحاح المتصل يعكس تلهفه وشوقه الذي لا ينضب..
تبتعد عن القاعة بضوضائها واكتظاظ المدعوين فيها وهرجهم ومرجهم، لتبحث عن ركن منزوٍ بعيد تركن فيه لنفسها وتستقبل صوته العميق الأجش، متسربلًا إلى أعماقها وناشرًا دفئًا وأمانًا تفتقدهما في بعده..
" وفاء.."
صوت تعرفه جيدًا بنبرة آمرة تكرهها يستوقفها ويُخمد لهفتها وفرحتها المنتفضة على وجهها، فتمنح لنفسها لحظة تستعدّ فيها للمواجهة بينما لم تتوقّف شفتاها عن إطلاق لعنات وشتائم ساخطة..
تستدير بتروٍّ ترسم على وجهها كل علامات البرود والازدراء لتقول ممتعضة:
" هل تراقبني؟"
يتحرك جابر نحوها وعيناه تبتسمان بوقاحة مجيبًا بفتور:
" لمحتك وأنت خارجة من القاعة فلحقت بك"
" ولماذا تلحق بي؟ هل يجوز لك أن تختلي بي في مكان خالٍ بهذا الشكل؟..ألا تراعي حرمة البيت الذي هو بيت خالك بالمناسبة؟"
يرتفع حاجباه عاليًا بينما لم تهتز ثقته بنفسه قيد أنملة، وهو يقف أمامها بغطرسته المعهودة، يديه في جيبي بنطاله يطالع المكان حوله وهو يقول بتهكم:
" اختلي بك في مكان خالٍ؟ يا له من اتهام خطير..نحن في قاعة أفراح كبرى كما تلاحظين.. ولسنا وحدنا"
زفرة حانقة نافذة للصبر تنفثها وهاتفها يعاود الرنين، فتغمض عينيها يأسًا تتمنى أن يختفي فقط بفعل تعويذة ما لتتمكن من الرد على أليف روحها..
غافلة عنه وعن خيالاته المتلاعبة به وعيناه تطاردان تلك الخصلات الخفيفة المحيطة بوجهها تتطاير بفعل زفراتها المتتالية، قبل أن تعودا وتتركزان على تلك الالتواءة المثيرة لكل حواسه في شفتيها، بينما يجذبه ذاك العبوس الذي يعقد حاجبيها والذي توجهه نحوه دومًا دونًا عن غيره، وهو راضٍ به وكالمخبول يجذبه.. لم يحظى يومًا بنظرة لطيفة منها تروي ظمأه..أو كلمة تطفئ نيران الغيرة المستعرة في صدره بها، لكنه يظل هائمًا يدور في فلكها ينحي كل منطق في هواها..فالمنطق في عرف العاشق ظلم للمعشوق وسلب لحقوقه..
تنهيدة مجهدة تتصاعد بثنايا روحه وعيناه تتماديان في عذابه وتنسابان على طول قدها، تلتهمان روعة ذاك القفطان المحتضن له بفتنة وسحر، ثم تتوقفان بأنفاس لاهثة منصهرة عند فتحته الأمامية، حيث بزغ من خلال ستارتها بياض ساقها المتوارية خلف القماش..
حرارة مذيبة تصاعدت إلى وجهه حتى بات متوهجًا حارقًا بينما ينهر نفسه ويغض ببصره حانقًا منفعلًا، وحقد وغلّ مسيطران يجتاحانه ويدفعان به لبؤرة صراع مع أقدار تلاوعه وتفني كل ثباته..
تضع الهاتف على وضعية صامت قبل أن تنظر للواقف أمامها تهتف بحنق ونفاذ صبر:
" ماذا تريد جابر؟ اختصر فلدي اتصال مهم أريد الرد عليه"
تضيق عيناه يخفي وميض الشر الذي انتفض في قتامتهما، بينما اعترى جسده اهتزاز عابر سيطر عليه سريعًا ليسألها وهو محتفظ بهدوئه:
" من المتصل؟.."
ترفع عيناها للسماء بقنوط بينما اتخذت وقفتها المتحفزة وراحت تهز جسدها بضجر عازمة على عدم الرد، ليضيف بنبرة فاحت خطورة واجرامًا:
" هو من يتصل بك.. أليس كذلك؟"
" وما شأنك؟.."
هتفت بغيظ ليعالجها فورًا بالقول بتصميم مخيف في عينيه:
" بل شأني يا وفاء.. شأني..أنا ابن عمتك وأحق بك منه.. كيف تفضلين ذلك الغريب علي؟ ما الذي يميزه عني؟..هو لا يستحقك.. ليس أهلًا لك "
رجفة خوف تملكتها من نبرة التهديد التي فاح بها صوته وجاهدت ضدها، وتجلدت لتبدو بالقوة التي تجابهه بها دائمًا، هناك شيء في عينيه يثير ذعرها.. تخشى نزعة الشر تلك المطلة منهما فهو لم يتوانى عن التسبب بالمشاكل لها مع عائلتها..
ترطب حلقها وتدّعي الثبات لترد عليه بحزم وحدة:
" وأنا أخبرتك وأخبرك أنني لن أكون لك.. حتى وإن انطبقت السماء على الأرض فلن أفكر فيك أبدًا.. ألا تفهم؟ ألا تملك ذرة كرامة وعزة نفس عندما أخبرك أنني أرفضك؟ أرفض مجرد التفكير باحتمالية ارتباطنا..مراد بمثابة خطيبي وقريبًا جدا سيأتي لنعلن ارتباطنا للجميع"
جسده يتحفز بخطورة بينما اكفهرت ملامحه وأربدت بقتامة، وبدا مستعدًا لارتكاب جريمة وهو يهدر بانفعال:
" ليس خطيبك..حبًّا بالله! ثماني سنوات وأنت معلقة تنتظرينه وهو مسافر.. كيف ترضين على نفسك هذا؟ إن كان غير مستعد للزواج فليحرّرك وليترك الساحة لمن هو مستعد وجاهز وينتظر اللحظة التي تقولين فيها كلمة نعم ليحظى بك"
" لن أقولها..هل تسمع؟ لن تسمعها مني أبدًا..مراد سيأتي ويخطبني وتلك الشماتة والتشفي اللذين ألمحهما في عينيك سيختفيان وتحل محلهما الهزيمة.. مراد لا أحد سيأخذ مكانه لأن جذور حبه ضاربة وثابتة بهذا القلب لن تتزحزح رغم كيد الأعادي.. وأنا سأبقى وفية له وانتظره حتى آخر يوم في حياتي.."
تنهي كلامها ثم تتحرك بخطوات غاضبة محتدة تتجاوزه وتتجه إلى القاعة وقد أفسد عليها لحظاتها مع حبيبها، بينما لاحقتها نظراته وعيناه تقدحان شررًا وتتوعّدان بالشر.
***
في اليوم التالي..
اختناق مفاجئ ودموع قهر تداهمها وهي جالسة مكانها تستمع لتأنيب والدتها وكلماتها الجارحة لها، تصفها بالغبية وهي تضيع أجمل سنين عمرها في الانتظار، تقف وتتفرج على بنات العائلة كيف يتزوجن واحدة تلو الأخرى، حتى اللواتي يصغرنها بأعوام عديدة تزوجن، وليلة أمس أكبر شاهد على أنها معلقة بحبال مهترئة ستتقطع بها وتلقي بها في هوة سحيقة لا ترحم..
ابنة خالها التي تصغرها بثماني سنوات كان عرسها ليلة أمس، بينما هي لا تزال تنتظر أن يعطف عليها العريس المزعوم الذي قيّدها به دون أي رباط شرعي، فقط وعد وعهد عاهدها بهما على أن يجعلها من نصيبه بعد تحسن ظروفه..
" بالله عليك أمي! ألا تسأمين من تكرار هذا الموشح الذي لا تملكين غيره منذ سنين؟! متى ستتوقفين عن هذا التجريح والتعذيب اللذيْن تمارسينهما علي؟..ارحميني أمي أرجوك"
تهتف أخيرًا بقهر تقاطع سيل النعات والصفات السيئة من فم أمها بحق حبيبها مراد، لتنتفض هذه الاخيرة وقد ازدادت قسوة وتجبرًا وهي تهتف بدورها بغلظة وحدة:
" عندما تتوقفين عن تعنتك وغبائك هذا سأتوقف عن تأنيبك وتوبيخك.. إلى متى يا وفاء؟.. أنت تقصمين ظهري بتهاونك والتفريط في حق نفسك.. أنت على أعتاب الثلاثين..بالله عليك! إلى متى ستنتظرينه؟ هل تظنين أنه سينظر إليك عندما يذبل جمالك ويذوي شبابك؟ أفيقي يا وفاء.. الوغد يربطك بكلمة فقط.. ماذا يضمن لك أنه سيفي بها ولن يغدر بك؟"
" كفى أمي.. كفى أرجوك.. أنت تظلمينني كما تظلمينه.. الرجل يعمل ليل نهار وقد تغرّب من أجلي.. من أجل أن يوفر لي الحياة الكريمة التي أستحقها.. ويوفر كل تلك الطلبات التعجيزية التي فرضتموها عليه.. مراد لن يخون عهدي أبدًا كما لن أخونه أنا.."
تتأوه أمها بكمد ويدها على صدرها تطبطب على جرح غائر امتد إلى قلبها وأدماه، ابنتها الوحيدة تكاد تتسبب لها بجلطة بعنادها وصلابة رأسها، وصحتها المعتلّة لا تسمح، فتهتف بلوعة وكسرة:
" آهٍ عليك يا وجع قلبي.. لا أصدق سذاجتك..أية حياة كريمة تلك التي سيوفرها لك ويجتهد بها وكل أمواله تذهب لعائلته أولًا بأول؟..ألم يجهز كل أخواته البنات اللواتي يصغرنك بأعوام واجتهد في تزويجهن واحدة تلو الأخرى؟ بينما يربطك به ويماطل كمن لا أهل لها ولا عزة نفس ولا كرامة تملكها.. أليس الأجدى أن يسترك أنت ويفي بوعده لك أولًا قبل أن يقوم بواجبه مع أخواته؟..ثم إذا كان غير مستعد وظروفه لا تسمح فليحلّك من وعد عرقوب ذاك لتلتفتي لحياتك وتعطي الفرصة لغيره.."
نفس تلك الجملة التي سمعتها ليلة أمس من ذلك البغيض الذي لا ينفك يبحث عن منافذ للإيقاع بحبيبها مراد، غيرته منه أوصلته للتصرف بنذالة واستغلال الفرصة لـ يصطاد في المياه العكرة على حسابها هي ومراد، اللعنة عليه.. الآن فقط فهمت سبب هذا الموشح الذي تستمع له منذ الصباح من أمها وهي متأكدة من كان يدعمه..
" هل كلمكم ذلك السمج اللجوج مرة أخرى بشأن تقدمه لخطبتي؟ هل هو السبب في ما تفعلينه بي الآن أمي؟"
تسأل أمها وهي تمسح دموعها بخشونة وقوة، بينما انتفضت عيناها بنظرات حازمة قوية تردع بها كل معتدٍ ينوي المساس بإيمانها ويقينها من صحة موقفها، لترد عليها أمها باندفاع وحزم:
" جابر رجل لا يعيبه شيء، يكفي أنه متشبث بك رغم صدّك وتمنّعك، ما الذي يمنعك من الارتباط به؟ هو من دمك وأحقّ بك من ذلك المستهتر غير المسؤول"
" رجل لا يعيبه شيء؟ أية رجولة يملكها وقد سمح لنفسه بالطمع في من هي مخطوبة لغيره؟.."
"أية خطوبة؟ لم تكن سوى كلمة وطلب وعد بالانتظار لأجَل غير مسمّى.."
تهتف أمها بحرقة وانفعال لترد عليها بالمثل:
"أنتم من رفض إعلان خطبتنا، ورفضتم حتى توثيق ارتباطنا بقراءة الفاتحة عندما تقدم وفاتحكم بطلبه.. فعلى ماذا تلومينه الآن؟"
" ولا زلنا نرفض.. كيف نسمح له بتقييدك بهذا الشكل؟.. لقد وافقنا على تقدمه فقط تحت إلحاحك أنت، فلم نكن راضيين عن هذه الخطوة، لكننا قررنا منحه الفرصة على أمل أن تتحسن ظروفه لكنها لا تبدو أبدًا أنها ستتحسن، فالسنين تتوالى دون أن يبذل رغبة حقيقية في إنهاء ما بدأه"
" كفى أمي أرجوك كفى"
تهتف بلوعة وقهر ثم نهضت تكتم آهاتها وتطبطب على جراحها تواسي نفسها وتحثّها على الجلد..
أكثر ما يؤلمها ويحزّ في نفسها أن كلام أمها يحمل بعض الحقائق..كيف يفرط مراد بسعادتهما بهذا الشكل لأجل سعادة أخواته؟ هل يستحقن السعادة أكثر منها؟..
دخلت غرفتها وارتمت على سريرها تدفن وجهها في وسادتها التي تضم دموعها ليالي طويلة، لا تنكر أن كل مخاوف أمها سبق وانتابتها.. بل إنها تعايشها كل يوم.. هل سيطول انتظارها لسنوات أخرى؟ وهل سيفي مراد بكلمته ويتزوجها؟ أم أنه فقط يتلاعب بها؟..
كم نسجا هي ومراد الحكايات وشيدا قصورًا زمردية لأحلامهما، منذ أن منحت الإذن لفراشات الحب لمداعبة وجودها لم يسكن القلب غيره، عاهدته على الانتظار.. وعاهدها على الوفاء لحبهما.. عهد انكتب في صك موصوم بالدموع..كان ثمنه الغربة والابتعاد عن الاحباب والوطن.. سنوات قضاها هناك يبني مستقبلًا مزهرًا لهما لينعما بالحياة الرغيدة لزواجهما.. يطوّعان الظروف القاهرة -التي تدفع بالشباب للعزوف عن الزواج بسبب الاكراهات والغلاء الذي اكتسح المجتمعات في ظل تدني الأجور والبطالة- بالعزم والمثابرة والسعي الجاد لتحقيق الذات..
كان يحارب هناك ويقاتل باستماتة لتذليل كل الصعاب، وهدم كل الحواجز والحدود للوصول إليها، ولم تكن أقل منه نضالًا، فإن كان يقاتل من أجل توفير حياة كريمة لهما هناك، كانت هي تقاتل وتناضل بشراسة تدافع عنه أمام عائلتها ومحيطها الذي كان يصفها بالهبلاء والمجنونة، إذ تنتظر وتشاهد أجمل سنين عمرها تمضي أمام أعينها وهي عاجزة لا تملك إلا الانتظار.. وثقتها بحبيبها لا تهتز.. كانت مضطرة لسماع عدة عبارات وتحمّل اللّوم والتقريع من الجميع، حتى أن والدتها بدأت ترعبها بشبح العنوسة الذي بدأ يطرق بابها في مجتمع كمجتمعها، وفي وضعية كوضعيتها وهي الفاشلة التي لم تكمل تعليمها الجامعي والعاطلة عن العمل، لم تكن تملك أحلامًا أخرى غير أحلام الزواج والاستقرار وانجاب الاطفال..
وبـ اقترابها من سن الثلاثين بدأ الضغط عليها يصبح مكثّفًا، وبات من كل أفراد عائلتها حتى شقيقها الذي كان مكتفيًا بإبداء النصح، بينما تسمعها والدتها من التقريع واللّوم كل ليلة قبل النوم، ما يدفع بالدموع للانسكاب مدرارًا مخلّفة وسادة مبتلة عند كل صباح..
لكن كل هذا لم يكن ليضعف من عزيمتها وحبيبها لم يتوقف عن مراسلتها وطمأنتها إلى أن حلمهما سيتحقق قريبًا.. لكنها تجد نفسها الآن قد فاض بها ولم تعد تملك صبرًا لتحمل كل هذا بمفردها ولابد لها من معين..
طرقات على الباب تصلها فتعتدل وتنهض جالسة وهي تمسح وجهها بيديها، قبل أن تسمح للطارق بالدخول وهي متأكدة من هويته، ملاذها الدائم والحضن الذي يحتوي كل حالاتها المتعاقبة ما بين حزن واحباط وألم..
يفتح لقمان الباب ويدخل بهدوء..يقف للحظات عنده يمنحها الوقت لتستعيد ثباتها وتعتاد وجوده، قبل أن يتحرك بنفس الهدوء والتريث ويقفل الباب ويقترب منها..
عيناها تتهربان من مواجهته.. حتى وجهها تأبى أن تريه إياه حتى لا يرى ما أحدثه به نحيبها ودموعها..
يتوقف للحظات أمامها يستغفر ربه بخفوت عقب تنهيدته الحارة، ثم يدنو ليتخذ مكانًا له على الفراش أمامها ويلتقط يديها المرتجفتين بين كفيه يغمرهما بدفئه وهو يسألها بحنو:
" هل أنت بخير يا صغيرتي؟"
تبقي وجهها مطرقًا وقد انسدل شعرها يغطيه ويحجبه عنه، بينما تحرك رأسها بإيماءة صغيرة وأنة خافتة تصدر عنها..
يحرّر إحدى يديها ليزيح خصلات شعرها ويلتقط بإبهامه دمعة عالقة على أعتاب رموشها، ثم يقول بصوته الحاني العميق:
" لا تغضبي من والدتنا، أنت تعلمين أنها تبحث عن مصلحتنا معًا، إنما تقسو عليك من خوفها فقط، ولا دافع آخر لديها"
تأخذ وقتها في تسكين انفعالاتها والتخلص من حشرجة صوتها قبل أن تجيب بحزن وشقاء:
" إنها لا تكفّ عن لومي وتأنيبي يا لقمان، لا تريد أن تصدّق أن مراد يبذل كل جهده ليتقدم ويطلبني للزواج.. فقط يحتاج لبعض الوقت"
يسحب لقمان أنفاسًا طويلة ويزفرها وعدم الرضى مرتسم على محياه بينما يقول بلطف:
" أنت تعلمين رأيي بهذا الموضوع يا وفاء، لم أكن يومًا راضيًا عن هذا الذي يجمعكما أنت ومراد تحت أي مسمى كان.. الرجل الحقيقي لن يرضى على نفسه أن يربط بنات الناس ويستغلهن بهذا الشكل..لا يجوز له أن يقيدك كل هذه السنوات دون رباط شرعي "
" أنت تظلمه أخي.. ماذا فعل لتتهمه في رجولته؟ يشهد الله أنه لم يتجاوز معي أي حدود.. ألا يكفي أنه بعيد بآلاف الاميال؟ "
يحوقل لقمان بخفوت ثم يستغفر ربه وسريرته تقوده للتحلّي باللّين واللّطف معها حتى لا تتأزم حالتها أكثر مما هي عليه، فيقول بصوته الأجش العميق:
" أنا لا أحمل أي ضغائن لمراد يا وفاء، افهميني.. أنت أعلم الناس بطبيعة شخصيتي وبمبادئي وأفكاري.. عندما اخترت الارتباط بآية قصدت بيتها ولم أحاول مشاغلتها أو التودُّد إليها قبل أن أعقد النيّة لأتزوجها، ويشهد الله علي أني حرّمت على نفسي مجرد النظر إليها رغم علمي بمشاعرها الغالية نحوي، لم استغل أيًّا من كل تلك المعطيات التي كانت متاحة لي لأفصح عما في قلبي، بل انتظرت ومنّيت نفسي طويلًا بتحقيق الغاية والوصول إليها، حتى تيسرت أموري وأصبحت قادرًا على تحمل مسؤولية إنشاء عائلة، وقادرًا أكثر أن أصونها عندي وأحفظها حتى لا أحاسب عليها إذا ما قصرت معها..لقد اتقيت الله فيها من أجلك يا وفاء.. أردت أن تلاقي نفس التقدير ممن سيرتبط بك "
تنتصب في جلستها وتتحفز كليًا استعدادًا للدفاع عنه كما اعتادت دائمًا وقالت:
" ظروفك ليست كظروف مراد أخي، أنت منّ الله عليك ومنحك من نعمه الجزيلة.. أنهيت تعليمك وتخرجت واشتغلت وعملك ولله الحمد يوفر لك تغطية كل احتياجاتك واحتياج عائلتك، بينما هو وجد نفسه مسؤولًا عن أمه وأخواته الصغار وهو صبي يافع، وكان مضطرًا للعمل ولم يجد أمامه إلا الهجرة للغرب ليحسن أوضاعه ويخرج عائلته من العوز والحاجة بعد وفاة والده.."
يمرّر لقمان كفه يمسح بها على وجهه ويمررها على لحيته المشذبة، وقد زرعت بضع شعيرات بيض فيها متخلّلة لونها العسلي، تحكي نضجًا ووعيًا خلقا معه منذ الصبا، وتزايدا مع تزايد سنين العمر المنحسر عن ربيع الثلاثين ليقف على أعتاب الأربعين بعامين أو ثلاثة..
حلمه وأناته تقودانه لوضع ألف عذر وعذر وعدم إصدار أحكام متسرعة، قد يكون تفكيره عتيقًا ولا يواكب هذا العصر الذي باتوا يعيشونه، وقد يكون الموضوع كما قالت وفاء اختلاف الظروف، لهذا كان يجب أن يضع نفسه مكان مراد، الذي ألفى نفسه مطحونًا في دوامة الحياة التي لا ترحم، وقسوة العيش في زمن كزمانهم الجائر..ومحمّلًا بأعباء أثقلت كاهله.. أدرك أنه سيقضي أعوامًا قبل أن يتخلص منها، حينها تكون الفتاة التي ملكت قلبه وأكنن حبها في قلبه قد طارت وخطفت من أمام ناظريه..
ماذا كان عليه أن يفعل؟ أن يغامر ويسافر مراهنًا على أن تكون هي كذلك تبادله نفس المشاعر وتنتظره رغم أنه لم يبح بشيء؟ أم يتشبث بها ويطلب وعدها بأن تكون له ولو بعد حين؟ ماذا كان سيفعل لو كان مكانه؟..
يتنهد باستياء وأفكاره تكدّر روحه وهي تأخذه لمنحى لم يخطر بباله مسبقًا، كان دائمًا ينظر لقصة وفاء ومراد من منظوره هو، وهو واقف في موقعه حيث كل الأمور كان يجد الطريق إلى تذليلها وتطويعها لتتماشى مع قناعاته، لكنه لم يجرب أبدًا أن يغير ذلك الموقع الذي يحتلّه ويختبر موقعًا غير موقعه ليعرف كيف كان سيتصرف..
لطالما كان متأكدًا من أن حبه المكنون في قلبه تجاه آية سيتكلّل في الأخير بالزواج، فقد كان متأكدًا من مشاعرها البادية للعيان، كما أن أحواله المادية لن تكون سببًا أو حائلًا بينه وبين الوصول إليها، غير أنه الآن من خلال معايشته لقصة وفاء ومراد -وموقف هذا الأخير بالخصوص والذي يصفه الجميع بالأناني- يجد نفسه يتخذ وقفة مراجعة مع ذاته ويتساءل:
هل كان سيتصرف بأنانية مثل مراد؟ أم أنه سيبقى محتفظًا بمبادئه وقناعاته التي يؤمن بها ولا يحيد عنها؟
" قد تكونين محقة يا وفاء، لا أحد سينكر أن مراد يمتلك نصيبه من الشهامة والرجولة، وأنا بداخلي أُكنّ له احترمًا مطلقًا، فقد أثبت تحمله للمسؤولية برعايته لوالدته وأخواته وكان جديرًا بذلك المقام الذي يحتله في بيتهم، وربما هذا ما يشفع له عندي ويزيد له الفرص التي أمنحها إياه، مذعنًا وراضيًا أمام وفائكما لبعضكما، لهذا سأمنحه فرصة أخرى يا وفاء وأتمنى أن يكون جديرًا بها"
يرى الترقب مرتسمًا في عينيها وانتظارًا لما سيقوله، فيتنفّس عميقًا قبل أن يقول برزانة وهدوء:
"فليتقدم لخطبتك رسميًا، أخبريه أني سأنتظره لنعلن خطبتكما ونخرس كل الألسن التي لا تكف عن النهش بسيرتكما معًا"
"لكن يا أخي.. أنت تعلم بظروفه..والبيت الذي سنسكن فيه لا يملك بعد ثمنه"
تهمس بانشداه لتقابلها نظرته الصارمة والحازمة والتي عكست اصراره وتوصله لهذا القرار الأخير، فيعززه بالقول الجاد والذي لا رجوع عنه:
" الحياة لا تمضي كما نريد بل علينا بذل بعض التنازلات الصغيرة لنحقق الأحلام الكبيرة..بيت عائلته سيفي بالغرض.. ألا تذهب كل أمواله لإعادة اصلاحه وبناء طابقين فوق الطابق الذي يسكنون فيه؟ وتلك الاصلاحات لم تنتهي بعد.. وهي تحتاج لاموال طائلة أخرى، إذن فالبيت الذي تنويان شراءه لن تملكا ثمنه ولو انتظرتما لثماني سنوات أخرى، توكلّا على الله واعقدا زواجكما واسكنا مع والدته واختيه المتبقيتين، وعندما ييسر الله اشتريا بيتًا مستقلًّا وانتقلا إليه"
تزدرد ريقها وحالتها المشدوهة لا تزال تتملكها والتخبط يفعل بها أفاعيله..
تجمدها الجدية والحزم المرتسمين في وجه لقمان ويقينه من كل كلمة نطق بها جعلتها تراجعها وتسترجعها ..
" هل هذا رأيك أخي؟"
تسأله بحذر وبعض الشك لا يزال يراودها من جدية تلك الخطوة، لينهض لقمان واقفًا يجيبها بثبات ويده تملس على لحيته:
" ويجب أن يكون رأيك أنت أيضًا ولا رأي آخر بعده..ما يحدث بينكما لا يجوز شرعًا ولا دينًا فلا رباط شرعي يجمعكما حتى مع وجود نية الزواج، اتصلي به وأخبريه أن هذه فرصته الأخيرة ويجب أن يستغلها"
ثم انسحب بهدوء تمامًا كما دخل..
تنهض جالسة وتلتقط هاتفها لتمرّر الاتصال إلى الاسم المحفور في قلبها قبل عقلها، ولم يطل الرنين ولا انتظارها إذ سرعان ما جاءها صوته الدافئ العميق، يتسربل إلى أعماقها فيُسكن كل هواجسها ومخاوفها التي أثارتها والدتها..
" اشتقت إليك.."
تغمض عينيها تصارع تلك الغصّة التي استولت على حلقها ترفض السماح لصوتها بالخروج.. أنة خافتة تصدر عنها قبل أن تهمس بحشرجة غلفت صوتها:
" وأنا أيضًا.."
" ما بك يا وفاء؟ صوتك مختنق..هل كنت تبكين؟"
تكتم أنة أخرى تصاعدت بثنايا روحها تغمض عينيها وتعصرهما تمنع انهمار دموعها لكنها تفشل، فيطول صمتها ويزداد قلقه ليسألها مجددًا بلطف وحنوّ:
" وفاء.. هل أنت بخير؟ ..أنت تثيرين خوفي وقلقي عليك"
تسحب أنفاسًا طويلة تحاول التحكم بمشاعرها ونفسها، لتهمس بضعف وهي تمسح دموعها بكفها:
" لا تقلق.. أنا بخير.."
" صوتك يقول العكس.. قولي لي ماذا يبكيك؟..ومن هذا الذي تسبب بالحزن لهاتين العينين الجميلتين لأمحوه عن الوجود؟ "
تسحب أنفاسًا متقطعة تحاول التحكم بذلك النحيب المكتوم الذي يخنقها، قبل أن تهمس والقلب يئن بجرح غائر مُدمى:
" لم أعد أتحمل يا مراد..هذا الضغط يفني روحي"
كل حواسه تتيقظ من البحة المجروحة المغلفة لصوتها، وروحه تتأهب للدفاع والتصدي لمن تسبب لها بهذا الشقاء المتجلي من نبرتها..يعرفها جيدًا.. لا تشكو أو تعلن استسلامها إلا عندما تكون قد فاض بها واستهلكت كل طاقتها على النضال..
" احكي لي ياروح مراد.. فأنا هنا لأحمل عنك ما يُثقل كاهلك"
تعود لوصلة نحيبها الخافت تأخذ وقتها كاملًا لتهدأ بينما يسايرها ويعطيها ما تريد..
تهدأ قليلا فتعود وتمسح دموعها بيدها وهي تقول:
" لم أعد أستطيع الوقوف في وجه هذا الذي أتعرض له.. أمي لا تتوقف عن اللوم والتقريع.. والجميع لا يتوقفون عن انتقادي، ولتكتمل الصورة فإن ابن عمتي جابر يستغل كل هذا ليظهر في الصورة ويدفع الجميع إلى الوقوف بصفه بدناءته وقلّة مروءته..عليك أن تجد حلًّا وتنقذني مما أنا فيه"
يتنهد مستغفرًا ربّه وكلامها لم يكن خافيًا عليه، كان مدركًا للضغط الذي تتعرض له ولكنها لم تكن تشتكي، وأنانيته تجعله يتمادى أكثر ويدفعها لتحمل المزيد، وهو مدفون هنا غارق حتى أذنيه في بناء ذلك المستقبل الذي يطمحان إليه معًا ويجمعهما..
" أنت تعلمين أنه لا أحب علي من جعل يوم اجتماعنا أنا وأنت في بيت واحد اليوم قبل الغد، ولكنك أيضًا أعلم الناس بظروفي.. أنا أتحمل الغربة ومرارتها لأجلك..لأجل أن أكون جديرًا بك "
تنتصب في مجلسها بعزم وقد أفضى بها كل ما تمر به إلى قرار لن تتراجع عنه لتجنب نفسها مهانة تحمل كل ذلك اللوم والتقريع.. تسحب أنفاسًا طويلة لتقول بحزم:
" تقدم لخطبتي في أقرب وقت يا مراد.. على الأقل لنجعل خطوبتنا رسمية ونسكت أفواه من يسعون لتفريقنا عن بعضنا..لقد بدأت أفقد طاقتي على النضال والدفاع عن علاقتنا.."
" لكن يا وفاء.."
حاول قول شيء لكنها تقاطعه بحزم أكبر:
" اسمعني مراد.. لا أريد شيئًا مما تسعى للحصول عليه.. حتى ذلك البيت الذي تسعى لشرائه من أجلي لنستقل به عن السكن مع عائلتك أنا أعفيك منه.. سأرضى بالسكن معهم إلى أن ييسر الله لك وتشتري لي بيتًا يضمنا أنا وأنت.. لا أطلب شيئًا سوى خاتم خطبة وتجمع عائلي صغير نحتفل خلاله بارتباطنا .."
ترقب من جهتها وصمت في الجهة المقابلة.. تدرك أنها تتنازل عن أشياء تعتبرها أساسية في عرفها..ذلك البيت الذي حلمت به معه يضمهما يشع بحبهما واهتمامهما ببعضهما..كان أقصى أحلامها..بيت لا تتشارك به مع أحد تكون فيه سيدة نفسها.. مملكة خاصة تديرها بمفردها..لكنها لا تجد أمامها سوى التنازل قليلًا لتتخلص من الضغط المحاط بها من كل جهة..
" هذا رأي لقمان أيضًا "
همستها الخافتة تصله وتزيد من حيرته وقلقه.. كان يظنها مجرد انتفاضة راودتها عبّرت بها عن يأسها واحباطها، لكن بذكر اسم لقمان فالموضوع قد بات جدّيًا ووصل لنقطة اللارجوع ولا مجال للتحايل والمراوغة..
"ماذا عن السكن هنا يا وفاء؟ أنت تعلمين أنني في سكن جماعي مع مغتربين مثلي، ولن أستطيع احضارك إليه.."
"سنؤجل سفري حتى تتيسر كل الأمور.. المهم الآن هو أن نعلن ارتباطنا رسميًا وأي شيء آخر سيأتي مع الوقت"
زفرة حارة تحكي عذابًا واشتياقًا يضاهيان ما لديها تصلها عبر الأثير، يتبعها صوت مراد يهمس بلوعة واستياء:
"ذاك الزواج الذي يعتبر زواجًا مع وقف التنفيذ وأنت في مكان وأنا في أبعد بقاع العالم عنك لا يعد زواجًا ولا يستهويني يا وفاء.. لقد انتظرنا كثيرًا وتحملنا ولا أريد أن أتزوجك بعد طول عذاب وأنأى عنك بهذا الشكل..أريد أن أتنعم بقربك وأعوضك على كل ما قاسيناه وأدلّلك وأنت معي بين أحضاني..تركك هناك وسفري وحدي يعد عذابًا لن أطيقه"
تغمض عينيها ووقع كلماته تجد صدى داعمًا بداخلها.. كلما قاله تشاطره الاحتياج إليه.. لكنهما مرغمان على التنازل وإخفاض رأسيهما لتلك العاصفة التي تواجههما حتى تمضي..
يتحشرج صوتها ببحة مجروحة وهي ترد:
" أنا أريد كل هذا أكثر منك يا مراد.. إنه الحلم الذي زرعنا بذرته معًا ورويناه بصبرنا وأشواقنا وراقبناه يكبر..لكننا مرغمان على إبداء تنازلات لنستطيع تحقيقه "
تنهيدة أخرى حارة مفعمة بالإحباط من جهته، تلتها واحدة أخرى تحكي عذابًا ويأسًا واستسلامًا من جهتها، ليحزم أمره وغريزة الدفاع عنها تتحرك بداخله نحوها فيقول بحسم:
" فليكن إذن كما قلت يا وفاء.. لن أرضى أن تنامي دامعة العين وأن أردك خائبة بعد أن لجأت إلي..فلتقرّي عينًا فلن يكون إلا ما أردته"



سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-06-24, 05:26 PM   #6

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة همس همسات مشاهدة المشاركة
الف مبروك الرواية الجديدة المقدمة جميلة تسلم ايك
الله يبارك فيك حبيبتي يسلم لي عمرك


سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-06-24, 04:18 PM   #7

منى محمد السعيد

? العضوٌ??? » 511632
?  التسِجيلٌ » May 2023
? مشَارَ?اتْي » 29
?  نُقآطِيْ » منى محمد السعيد is on a distinguished road
افتراضي

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم

منى محمد السعيد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-07-24, 11:37 PM   #8

بت الجوف

? العضوٌ??? » 381739
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 641
?  نُقآطِيْ » بت الجوف is on a distinguished road
افتراضي

السلام عليكم
بدايه موفقه وننتظر المزيد لكي التحية والتقدير.


بت الجوف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-07-24, 12:03 PM   #9

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي الفصل الثاني


الفصل الثاني

في حمامها الصغير وأمام مرآتها كانت تقف، بينما تصلها ثرثرة ابنة خالتها من خلف الباب دون توقف، فتتنهد بإنتشاء وهي تلتقط منشفتها وتبدأ بتجفيف جسمها بعد أخذها لحمام دافئ بعث الاسترخاء والراحة لكل أوصالها، وقد نال منها التعب مبلغه هذا اليوم..
كان يومًا حافلًا متعبًا..تعبًا لذيذًا مثيرًا.. تلك الابتسامة المتألقة والمشعة لا تزال تحتّل شفتيها.. دليلها الدامغ على أن أحداث يومها ليست من نسخ خيالها الجامح.. أو حلمًا من الاحلام التي راودتها لسنين طويلة..
ثماني سنوات كانت أشبه بثماني عقود بالنسبة لها.. لا تزال غير مصدقة أن اليوم كان خطبتها..ترفع يدها تطالع الخاتم المرصع المزين لخنصرها والانبهار والتأثر لا يزال يحتلها..
تدير كفّ يدها لتعرض صورته المبهرة أمام المرآة، فينعكس فيها بريقه ويغشي بصرها بتلألئه الفاتن..
ليس حلمًا..بل حقيقة .. كالحرير تخشى أن يتسرب نسيجه من بين يديها وتسقط في هوة ستكون محطمة لكل آمالها..
ترتجف ابتسامتها بسعادة وهي ترمي المنشفة جانبًا وتبدأ بارتداء منامتها القطنية المريحة، بعد أن غيرت قفطانها الملكي الذي ارتدته في هذا اليوم المبارك، وتوّجت به ملكة على عرش السعادة..كم كانت كل الامور متيسرة هذا اليوم دون عقبات.. كان كل شيء على أحسن ما يكون.. تكاد تختنق من فرط السعادة وقلبها سيتوقف لا محالة..
عيناها تغيمان بالعشق وصورته تقتحم خيالها وهو بكامل أناقته ووجاهته، يجلس برجولة وهيمنة بجانبها يغمرها بحرارة قربه، ويرسل رجفات متتالية مدغدغة إلى قلبها الولهان..
لمسة أصابعه لكفها وهو يلبسها خاتمه ويربطها بحبه بثّت الدفء إلى أوردتها.. همساته الحارة المتغزلة بها تذيبها خجلًا وتشعل حمرة خديها.. وأخيرًا ذلك التهور الوقح والجرأة الواثقة وهو يدنو منها يبارك لها، ويلثُم جبينها مغرقًا إياها بكتلة أنفاس حارة ألهبت كيانها، ويده المتسلّلة الجريئة تضغط على خصرها خفية بعيدًا عن أعين الجميع، يبثها احتراقًا وشوقًا فاضا بالروح فأطلق سراحهما وأغرقاها..
" أمازلت تتمنعين علي ولن تمنحيني شيئًا هذه الليلة؟.."
همسه الجريء الحار قرب أذنها ألهب حواسها، لتنصهر بالحرارة التي نشرها بها وهي تزجره بالهمس الخجول، وتعض على شفتها السفلى تحاول اخفاء امتقاع وجهها عن أعين المراقبين:
" ألا تستحي أبدًا يا مراد؟"
تأوه خافت يصدر عنه يكتمه سريعًا فيعض على طارف فمه بلوعة وهو يهمس باحتراق:
" ويح مراد وهو يغار من حروف اسمه كيف تنعُم بضمّ شفتيك"
ترتجف ابتسامتها وقد استطاع ككل مرة التأثير عليها بغزله المشبع لأنوثتها، فتسدل أهدابها تظلّل الخفر اللذيذ على الوجنتين، فتزداد تنهيداته الحارة وهو يرتدّ عنها ويستوي في جلسته محاولًا اخفاء تطلّبًا واحتياجًا خائنين، باغتاه وهاجما كل دفاعاته فجأة وتركاه عرضة لتيارات شوق عصفت به وأنهكت قواه..
بينما كانت هي تسترد أنفاسها المتثاقلة في صدرها وابتسامتها المتراقصة خجلًا تفضح ثورة المشاعر المحتدمة بداخلها..
تعود من تلك الذكرى المثيرة لأحاسيسها فترتفع يداها تلقائيًا تخففان من حرارة الوجنتين وكأنما تعايشها اللحظة.. لا تصدق كمية العاطفة المندفعة والمتدفقة التي يوجهها نحوها تضربها وتعصف بها.. كيف ستستطيع ردعه عنها بعد عقد قرانهما؟ وهي تقرأ في عينيه ذلك الوعيد والتهور الضاري الذي لا ينوي ترويضه، بل سينجرف معه ويجرفها ليغرقا معًا..
تتنهد وهي تقنع نفسها أن ذاك الاحتياج لبعضهما البعض يتقاسمانه معًا، لقد صبرا طويلًا والشوق قد بلغ منهما مبلغه وفاض وما عاد ممكنًا مداراته، وهي على يقين أن ذاك التهور نفسه الذي تقرؤه في عينيه سيكون رادعًا له، فهي مؤمنة أن خوفه عليها دافعه حتى لا تتعرض لأي أذى قد ينالها من تصرفاته بين عائلتها..
تنهيدة أخرى تتصاعد بداخلها وعيناها تنحدران بشرود عبر المرآة نحو جسمها تحت منامتها القطنية -وتحديدًا صدرها- وقد تذكرت شيئًا لمسته أثناء استحمامها..
تزيح المنامة جانبًا ونظراتها تعودان للإرتكاز على ثدييها، كان هناك شي غريب تلاحظه من خلال شكلهما.. ترفع ذراعها اليمنى فوق رأسها ثم تمد أصابع يدها اليسرى و تدور وتتحسس على جانب ثديها الأيمن، بحثًا عن شيء ناتئ كان ظاهرًا من خلال ملمس الصابون..
ينعقد جبينها بتركيز وأصابعها تتلمس طريقها حتى وجدته..
" وفاء!.. أين أنت؟! هل نمت في الحمام؟"
صوت ابنة خالتها يعلو من خلف الباب بتذمر ساخط مصاحب لطرقات عليه لترد عليها بشرود:
" سوف أخرج حالًا"
" إن لم تفعلي فسوف أغادر، خالتك لا تتوقف عن الإلحاح للمغادرة"
أسرعت ترتدي منامتها مجددًا ثم خرجت وهي تقول بحيرة علت ملامحها فجأة:
" نجاة.. أنت ممرضة، ربما أجد لديك تفسيرًا لهذا الذي وجدته تحت إبطي.."
سؤالها جاء مباغتًا لنجاة التي عقدت حاجبيها بتساؤل وهي تنهض من مكانها وتقترب منها متسائلة:
" ماذا وجدت يا وفاء؟ أنا لا أفهم"
تعود وفاء لـ اتخاذ نفس الوضعية التي جرّبتها في الحمام، تفحص تحت إبطها وهي تقول بوجوم:
" لا أعرف ما هو كأنه ورم صغير.. انتظري..ها هو! مدي يدك وتحسسيه"
تهتف فجأة عندما عثرت عليه أصابعها مجددًا، فتلتقط يد نجاة وتضع أصابعها على ذلك الموضع فتتجاوب معها هذه الأخيرة وتبدأ بالاستكشاف، فتشعر بشيء ناتئ صغير على جانب ثديها الأيمن..
تعقد حاجبيها باستغراب وهي تسألها باهتمام:
" أجل، هناك شيء أنا أشعر به.. منذ متى اكتشفت وجوده؟"
ترخي وفاء ذراعها وترتب منامتها وهي تجيب بحيرة لم تفارقها:
" اليوم فقط أحسست بوجوده لم أنتبه له سابقًا، كما أني لم أتعمد فحص ذلك المكان، لقد شعرت به مصادفة وأنا أدلّك جسمي بالصابون الذي ساعد على ظهوره..هل تظنينه شيئًا خطيرًا؟"
تبتسم نجاة تحاول تخفيف قلقها وهي تجيبها:
" بإذن الله لن يكون.. أخبريني.. موعد دورتك الشهرية متى تكون؟"
" بعد أربعة أيام"
عندها ربتّت نجاة على ذراعيها معًا مطمئنة إياها قائلة بلطف:
" إذن لا تقلقي، عادة ما تكون السبب في ظهور تلك الأورام الصغيرة، لكنها تختفي بمجرد انقضائها بأسبوع..لكن هذا لا يمنع من الفحص للتأكد"
تهز وفاء رأسها بشرود وأفكارها لا تزال تتقاذفها، بينما تضيف نجاة تؤكد عليها بحزم:
" غدًا سأمرّ عليك لـ اصطحبك إلى المستشفى حيث أعمل، توجد به طبيبة نسائية ممتازة ستفحصك وتطمئننا.. اتفقنا"
" حسنًا..كما تريدين"
ترد عليها وهي لا تزال واجمة وكأنها حاضرة بجسدها فقط بينما عقلها غائب..
***
يزفر نفسًا هادئًا وهو ينسحب بخطوات مكتومة بإتجاه الباب ثم يقف عنده..يلقي نظرة أخيرة يتأكد من استغراق الصغير في النوم قبل أن يسحب الباب خلفه ويغلقه بهدوء، ثم يكمل طريقه إلى غرفته..
يفتح الباب برفق خشية أن تكون آية قد استغرقت في النوم فيزعجها، فقد كان اليوم مرهقًا لها ولحالتها رغم أنه حثّها على الراحة وعدم إتعاب نفسها، لكنها أبت إلا أن تشارك بهذا اليوم المميز لصديقتها وأخت زوجها..
تترقّق نظراته بالحب والمودة وصورتها تطالعه وهي تتكىء على الفراش تنتظره وقد أنهكها التعب، والحمل هذه المرة يضنيها وقد أمرها الطبيب بالراحة وعدم بذل أي مجهود قد يضرّ بصحتها..
تبتسم له بوهن وجفونها تغالب النوم والتعب تأبى الاستكانة لهما، قبل أن تتكحل عيناها برؤيته والاطمئنان إلى أنه قد نام وخلد إلى الراحة..
" ألم تنامي بعد حبيبتي..اخلدي للراحة فجسمك لن يتحمل كل هذا الإرهاق"
يقول لها بحب ما فتئ يتزايد في قلبه لها، فترفع يدها إليه قائلة:
" كيف أنام وأنا أرى هذا القلق الذي يكدر ملامحك الحبيبة..ماذا يشغل بالك يا حبيب العمر؟.."
يحاول رسم ابتسامة رائقة يفك بها تلك التقطيبة المحتلّة لجبينه، بينما يقترب ملتقطًا كفها بين يديه يلثمها وهو يجلس بجانبها على الفراش قائلًا برقة ولطف:
" لا تشغلي بالك بأي شيء ما عدا صحتك وصحة هذا الجنين المشاغب الذي ببطنك.. كان الله في عوننا، منذ الآن يتعبنا بشقاوته وشغبه.."
ترفع كفه تبادله قبلته بواحدة أخرى تفيض امتنانًا للاهتمام والدلال الذي يغدق بهما عليها، فتقول تناور محاولته لـ الهائها عما يقلقه:
" إن لم أشغل بالي بك يا لقمان فبمن عسايا أشغله؟ ماذا يقلقك، ألم يمضي كل شيء على ما يرام؟ ومراد أثبت أنه رجل ووفى بكلمته معنا ونفّذ كل ما طلبناه منه"
يرفع ذراعه يلفّ بها كتفيها مريحًا رأسها على كتفه، يميل عليها يطبع قبلة على جبينها وهو يجيب بتنهيدة متعبة:
" الحمدلله مرّ كل شيء بسلام، ومراد أثبت تشبّثه بوفاء كما تمنينا.. لكن.."
" لكن ماذا يا لقمان؟.."
تسأله بعد أن ترك تلك الـ لكن معلقة وتقطيبة قلق ووجوم تعلو جبينه لـ يجيب:
" لقد طلب أن يعقد قرانه عليها الأسبوع المقبل.."
ترفع آية رأسها بتثاقل وإعياء عن كتفه لتنظر إليه تقرأ انزعاجًا وعدم اقتناع لتسأله باستغراب:
" وبماذا يضايقك هذا الامر يا لقمان؟ أنت تحيّرني.. ألست أنت من طلب من وفاء أن يسرِّع موعد ارتباطهما، درءًا لألسنة الناس التي لم تكف عن نهش سيرتهما وقصتهما التي اسطالت"
يبقى الوجوم معكرًا لصفحة وجهه الوسيمة والحبيبة إليها وقد ازدادت رجولة ووقارًا، وخط العمر بضع خطوط دقيقة عليها تحكي نضجًا ووعيًا أكسباه جاذبية مهيبة..
يستجيب لـ لمسة أصابعها المتحسسة لشعيرات لحيته المشذبة بعناية، فيسند جانب وجهه إلى راحة يدها يتلمس الاحتواء والتفهم الذي لا تبخل بهما عليه، فيتنعم بهما وهو يجيب بـ نبرة استياء رقيق غلفت صوته:
" سيعقد قرانه فقط يا آية بينما العرس لا يزال موعده مجهولًا ومرهون بظروفه التي ستتحسن..أنت تعلمين رأيي بموضوع كهذا، وأحبذ كثيرًا أن يتم عقد القران بنفس يوم العرس، أو على الاقل يكون بينهما فترة زمنية بسيطة
..كـ شهر أو شهرين مثلًا، وليس عام أو أكثر ربما.."
يزداد تكدر روحه فتترجمه ملامحه بتجلي واضح، وتحكي عنه تلك الزفرة الحانقة والحارة المنبعثة من صميم قلبه، فتسأله وهي تحيط وجهه بكفيها معًا تحاوره بالاهتمام الفياض من عينيها:
" أنت تخفي ما هو أكبر من هذا يا حبيب روح آية..احكي لي وأفرغ لي قلبك.. ألم أعد ذلك الصدر الذي يحتوي همومك ويشاركك بها؟"
يدير وجهه قليلًا ليقبل راحة كفها وعيونه تبادلان عينيها كلامًا لا يدرك عمقه سواهما..
" لا أحد يستطيع أن يفهمني كما تفعلين يا روح لقمان..أنت محقة..لم يعجبني ما قرأته في عينيه من نوايا متهورة.. ربما لم يظهر غايته من عقد القران، لكني أستطيع قراءة الدافع وراء هذا التسرع المفاجئ..وهذا لا يعجبني..أنا رجل ذو أفكار عتيقة وتقليدية ولا يلائمني هذا..قد أتهم بأني رجعي ومتخلف لكن.."
" تششش.."
تقاطعه برقة وهي تلامس شفتيه بأناملها تلاطفه وتهادنه هامسة بحب:
" أنت لست كذلك.. قطع الله لسان من يرميك بلفظ كهذا لا يرتقي لمقامك.. أنت رجل حرّ ذو دماء حارّة تغلي في عروقك وتفور لها رجولتك ونخوتك، وفاء شقيقتك، مسؤوليتك التي تقلّدتها بعد وفاة والدك، ويحق لك أن تخاف عليها ولن يحاسبك أحد على ذلك ..أنت ولي أمرها ولك الحق كاملًا في أن تقبل أو تعارض عقد القران ذاك، إن كنت غير مقتنع به فلا تقبل به.."
يطلق زفرة أخرى أشد حرارة وهو يشعر بنفسه أشبه بالمربوط بين نارين تلفحانه ليقول باستياء:
" أخشى أن تحزن وفاء إن فعلت، لقد باتت حساسة جدًا من كل ما يحدث "
تجذب إليها وجهه تلثم لحيته برقة قائلة بلطف:
" وفاء ستتفهم خوفك وقلقك عليها.. صارحها أولًا بما في صدرك من مخاوف، ثم اقترح عليها تأجيل عقد القران حتى يتحدّد موعد العرس"
ينظر لعينيها المشعّتان يقينًا عميقًا وثقة بوجهة نظره، فيتسرب الارتياح والاطمئنان إلى صدره يغزوه ويثلجه وقد وجد من يتفهم خوفه وقلقه ويشاركه إياه، لتشق فمه ابتسامة صغيرة خفّفت من تكدّر ملامحه وهو يقول:
" ماذا كنت سأفعل من دونك؟ أنت كالبلسم الذي يداوي كل همومي.."
تتأفف بتعب وهي تتراجع بظهرها وتتكئ على الوسائد بإنهاك، تعلن بانزعاج وضيق:
" أنا أشعر أني مقيدة وهذا الحمل يشلّ كل قدراتي، فخذ أنت المبادرة وتعالى قبلني قبل أن أنام"
يضحك من تعبيرات وجهها المتذمرة بينما يميل عليها هامسًا من بين شفتيها بإغواء:
" هل تنوين إثارة مواطن شوقي واحتياجي إليك لتتركيني بعدها أتعذب بينما تخلدين أنت إلى النوم؟ هذا ليس عدلًا.."
تضحك بوهن وهي تستسلم للخدر الخفيف المتسلّل إلى أطرافها جرّاء التعب، بينما يضيف وشفتاه تلامسان فكها وأنفاسه تتشبع بعطرها:
" قبلة واحدة لن تكفيني.. أنا أحذرك.."
ترفع يدًا كسولة لتغرز أناملها في نعومة شعره بينما ترد عليه بعبوس واستياء:
" وهل تراني راضية بهذا الوضع يا لقمان؟..أنا مستاءة ومتضايقة أكثر منك.. أشعر أني مقصرة معـ.."
يقاطع استرسالها المتذمر وهو يلثم شفتيها برقة ونعومة، وينتقل إلى خديها يوزع قبلات متفرقة على بشرتها هامسًا بحب:
" لست مقصرة بشيء.. وأنا لست بليدًا خاليًا من الاحساس حتى لا ألاحظ حالتك المتعبة من الحمل..تعالي إلي سأحتضنك حتى تنامي"
ينهي كلامه وهو يتخذ مكانه بجانبها، يستلقي ويجذبها إلى صدره يغرزها بين أحضانه فتستكين للدفء المشع والمنبعث منه، فتتنهد باكتفاء وابتسامة حالمة ترتسم على شفتيها لم تمنعها من التعليق بأول شيء خطر ببالها:
" ربما عليك أن تستحم قبل أن تنام"
يضحك وهو يشدّ ذراعيه من حولها وقد فهم ما ترمي إليه قائلًا بعتاب:
" لم تكن رائحتي تزعجك سابقًا"
همهمت بالإيجاب وهي تعلن باستياء وحزن:
" كنت مولعة بها في حملي الأول.. لا أعرف ما بي يا لقمان.. أنا أكره هذا الذي يحدث معي"
" تششش.."
يهادنها بلطف وهو يطبع قبلة حارة على شعرها هامسًا بحنو:
" لست مضطرة للتفسير..أنا لست غرًا حتى لا أتفهم ما يحدث معك يا قلب لقمان.. سأتحمل نوبات جنون هذا الصغير في بطنك تمامًا كما تتحملينها..نامي الآن أنت متعبة"
***
صوت نفير السيارة يصلها وهي تهبط الدرج في اليوم التالي، فتهرول في خطواتها نحو الباب مودعة والدتها الجالسة في صحن الدار تحتسي شاي الصباح، وتخرج لتجد نجاة قد ترجلت من سيارتها تنوي طرق الباب بعد تأخرها عنها..
" لقد كنت أنوي الدخول وجرّك من غرفتك.. ما هذا التأخر؟ ألا تتغيرين أبدًا؟.."
تأففت وفاء وهي مضطرة لسماع توبيخاتها ولن تسلم منها مهما حاولت التهرب لترد عليها بخشونة:
" بل أنت من لن يتغير.. دائمًا مستعجلة تركضين.. ستقضين حياتك كلها في الركض والهرولة.. ارحمي نفسك"
تنفرج شفتا نجاة استنكارًا غير مصدقة كيف قلبت عليها وفاء الطاولة لتغدو هي المخطئة، بل وتعاني من خلل أيضًا! لتهتف بسخط:
" يا لك من مدلّلة ومزعجة.. لكني أستحق ما يحدث لي، أنا من أزعجت نفسي بالاستيقاظ باكرًا والمجيء لأقلّك.. كان علي تركك تتدبرين أمورك بنفسك"
تنفخ وفاء أنفاسها ضجرًا بينما تتجاوزها وتتجه للسيارة وهي تقول بنزق:
" وكأنك كنت ستفعلينها.. أنت تتقمصين دور أمي وتمارسين علي جانبك الأمومي المتسلط ببراعة تفوقت فيها على أمي شخصيًا.."
تقف نجاة مشدوهة مصدومة غير مصدقة وقاحة ابنة خالتها، فتستدير إليها وهي تهتف بغير تصديق:
" أقسم أني أعاني فعلًا من خلل في دماغي لأني أقف هنا وأستمع لجحودك ونكرانك للجميل.. لساني عاجز عن الرد عليك يا جاحدة"
تهز وفاء كتفيها بلا مبالاة وهي تكمل سيرها وتفتح باب السيارة..
هدير سيارة تمرّ بموازاتها وتتوقف قريبًا منها، جعلت الفتاتان تنظران مباشرة نحوها تطالعان ذاك الذي ترجل منها بهدوء ورزانة، فتلوي وفاء فمها بامتعاض وانزعاج وهي تراقب تلك الخطوات المستفزة لها، كيف تسير بثقة وغرور تمقته ويثير بها كل مشاعر النفور الممكنة..
" السلام عليكم"
يلقي جابر التحية بأنفة وتكبر بينما يقف بشموخ عنده يطالعهما من خلف نظارته السوداء، لتسارع نجاة للرد ولمحة ارتباك مهيمنة تسيطر عليها سببها حضوره الطاغي:
" وعليك السلام ورحمة الله تعالى وبركاته..كيف حالك استاذ جابر؟"
يومئ برأسه متكلفًا ابتسامة صغيرة مجاملة لها وهو يرد بنبرته الباردة:
" الحمدلله بخير.. كيف حالك أنت آنسة نجاة؟"
تبتلع ريقها وهي تومئ برأسها جاهلة تمامًا لهذا الارتباك الذي يسببه..شخصيته تفرض وجودها على من أمامه بهيبة مسيطرة..
" الحمدلله بخير، سلمت من كل شر"
يرتدّ ببصره عنها ناحيتها هي.. وفاء التي كانت تنفخ أنفاسًا ضجرة حانقة ووجودها معه في مكان واحد يتنفسان نفس الهواء يسبب لها حالة اختناق لا إرادية..
جسمها ينتفض ويقشعّر نفورًا ورفضًا وهي تسمع اسمها كيف ينطقه يغلفه بنبرة خاصة مغيضة لها:
" كيف حالك وفاء..مبارك خطبتك، أتمنى أن تحظي بالسعادة التي تستحقينها "
حاجباها ينعقدان بعبوس وهي مضطرة لرد مجاملته فتومئ برأسها تتمتم بإيجاز:
" شكرا لك.. العقبى لك إن شاء الله.."
تشمخ بذقنها عاليًا بأنفة وتعال توصل له حجم المسافات بينهما، وتستكثر عليه مجرد نظرة منها حتى لا يعكر صفو يومها وفرحتها، يدها تدفع شعرها المسترسل الطويل عن كتفها بكل عنفوان، ودون أن تكلّف نفسها عناء الاستئذان للانسحاب تندس داخل السيارة، قبل أن تعطيه الفرصة لفتح باب حديث طويل معها..
يعقّب على هروبها بتنهيدة خافتة يستغفر الله على إثرها، بينما يصله سؤال نجاة المهادن مهوِّنًا عليه فعلتها:
" هل جئت لترى خالتي؟.."
يومئ برأسه إيجابًا وهو يجيب بنبرة شجن غلفت صوته فجأة:
" جئت لأودعها.. أنا مسافر بعد غد للشمال.. تلقيت عرض عمل أفضل وسأنتقل للعيش هناك بصفة دائمة.."
تنطفئ ملامح نجاة ويكسوها لمحة حزن وتعاطف وقد تأكدت من عمق مشاعره تجاه وفاء.. هل سيرحل كليًا بسبب رفض وفاء له؟..هل انكسر قلبه ليلة أمس عندما تأكد من أنها لن تكون من نصيبه كما كان يتمنى؟..
تتعثر الكلمات من فمها وهي تحاول إيجاد شيء ترد به وتجبر بخاطره:
" أتمنى أن تحقق النجاح في عملك وتحظى بالسعادة في حياتك"
" شكرًا لك.. بعد إذنك"
ثم بهدوء وبخطواته الواثقة ينسحب ويتجه للبيت، بينما تشيّعه نجاة بنظرات أسف وأسى يتصاعد في نفسها..
تنهيدة مفعمة بالضيق والانزعاج تصدر عنها وهي تفتح الباب وتدخل للسيارة، تأخذ بضع لحظات لها مع نفسها تستجمع ثباتها قبل أن تدير المحرك وتنطلق وهي تقول لوفاء بنزق:
" سيرحل إلى مدينة أخرى بعيدة، ولن تري وجهه بعد الآن.."
تزفر وفاء أنفاسها الحانقة وهي ترد بحدة وخشونة:
" كان عليه أن يفعل هذا منذ أمد بعيد ويريحني من سماجته وغروره"
تتنهد نجاة مرة أخرى وتستغفر ربها تناضل ضد ذلك الانزعاج الذي سببه لها ردها المجحف والخالي من أي تسامح:
" لا أعرف لماذا تعادينه وتحقدين عليه بهذا الشكل؟ حقًا لا أفهم"
" ألا تفهمين حقًا يا نجاة؟ بربك!"
تستدير نحوها وفاء وقد شعّت عيناها نقمة وهي تضيف:
" ألا يكفي كل ما فعله في سبيل التفرقة بيني وبين مراد؟"
" وما الذي فعله؟ أخبرني؟ أ لأنه كان متمسكًا بك حتى آخر لحظة؟ لم يتجاوز أية حدود معك ولم يتجاوز حدود الاعراف والتقاليد.. طلبك للزواج ما إن أصبح جاهزًا له ولم يستسلم من صدك ورفضك الدائم له"
يتسع فم وفاء استنكارًا واستهجانًا وهي تسمع كلمات ابنة خالتها المدافعة عنه، كيف جاءت هادئة ومتزنة وكأنها تتحدث عن شيء منطقي ومقبول، لتهبّ في وجهها معارضة بقوة وهي تقول:
" آه لا أصدق ما تقولينه!.. هل الزواج أصبح بالاجبار؟ أخبرته أنني لا أريده.. فلماذا ظل مصرًا على نيل رضايا عن شيء لن أرضى عنه مهما طال الزمن؟ ثم كيف تقفين بصفه هكذا يا نجاة؟ لقد كان يستغل ظروف مراد ليضغط على والدتي فتضغط علي بدورها لأوافق عليه.. كيف تتحدثين عنه بهذه الطريقة وكأنه حقًا شهم وذو مروءة وهو مفتقد لها؟.."
لم تقتنع نجاة بكلامها رغم ذلك التحفز الذي تحدثت به كأنها تثبت عليه تُهمًا لا يراها غيرها، لكنها تعذرها.. قلبها ممتلئ حد التخمة بحب رجل آخر وترفض اقتراب أي منافس له ..
ترفع أصابعها تدلّك جبينها بـ إرهاق وقصة جابر معها تحزّ في نفسها كثيرًا، لتطرح سؤالًا خطر ببالها بغتة:
" لو لم يكن مراد في الساحة يا وفاء، هل كنت ستقبلين بجابر زوجًا لك؟"
سؤالها المفاجئ جمّد الاخرى وبهتت على إثره..لقد سبق وطرحت هذا السؤال على نفسها ولكنها كانت تجد دائمًا ردًا واحدًا:
" لا.."
جاءت "لا" قاطعة جعلت نجاة تنظر إليها باهتمام بينما تكمل باندفاع لحظي:
" لم أكن لأوافق عليه أبدًا.. يكفي أنه يصغرني بعام كامل، كيف تريدين مني أن أتزوج بولد غرّ أنا أكبر منه في السن؟ من منا سيكون المسؤول عن الآخر؟ أنا أم هو؟ لا شكرًا، أنا أريد رجلًا مسؤولًا ناضجًا يهتم بي ويرعاني.. فأنا كما تعلمين مدلّلة لا أجيد الاعتناء بأحد"
تطالعها نجاة بدهشة قبل أن تنفجر ضاحكة متهكمة وهي تهز برأسها بقلة حيلة بينما تردد باستهزاء:
" ولد وغرّ وغير مسؤول؟ هل أنت جادة؟ كل هذه البنية الضخمة والرجولة والنخوة التي تنضح رزانة وجدية ترينها ولدًا غرًا؟..للعلم فقط.. الرجولة لا تقاس بالعمر يا ابنة خالتي.. أنت تفهمين الحياة بشكل خاطئ، وجابر لا تنقصه أيًّا من تلك المواصفات النبيلة التي تجعل منه رجلًا مسؤولًا، ولا يقل بـ إنش واحد عن حبيبك مراد الذي يكبره بعدة أعوام، على العكس، فقد برهن على أنه شخص يعتمد عليه وقادر على انشاء عائلة.."
تستدير نحوها وفاء كليًّا تطالعها وتدقّق النظر إليها بشك وتوجس، وهي لا تفهم سبب هيئة الدفاع هذه التي شكّلتها ضدها لتدافع عن شخص لا تعرفه جيدًا، ولم تتعامل معه إلا في مناسبات قليلة، لتقول لها فجأة باندفاع أهوج:
" أرى أنه يعجبك جدًا يا نجاة، لم لا تحاولين استمالته إليك؟ أنتما تليقان ببعضكما جدًا، إنكما بنفس العمر تقريبًا، ربما يكبرك بعام أو عامين.."
تشخر نجاة ساخرة وهي تنهرها بنزق:
" اخرسي يا وفاء، وانشغلي بمشاكلك مع خطيبك ودعي مشاكل غيرك .."
ربما كانت لتتأمل من إمكانية حدوث شيء كهذا، لكنها متأكدة أن قلبه ملك لهذه الغبية التي لا تقدر كل تلك المشاعر النبيلة التي يحملها إليها..
تستدير عنها وفاء تطالع الطريق من نافذتها الجانبية والعبوس والحدة يكتسيان ملامحها المتكدرة من الاساس، لم يكن ينقصها أبدًا أن ترى جابر اليوم ليزيد من تكدرها، بعد أن تنفست الصعداء وحمدت الله كثيرًا عندما تغيب عن حضور الخطبة ليلة البارحة، وكانت تتمنى أن يستمر في حرمانها من طلّته البهية حتى تغادر الوطن كله وتسافر إلى حبيبها مراد بعد الزواج، لكن أمنيتها اندحرت في أرضها قبل تحقيقها..
" ألا يكفي أنني كنت أضربه ونحن صغار؟.. لطالما كان متخاذلًا عن الدفاع عن نفسه ويستسلم بسرعة لواقع أنني أكبر منه "
تتمتم بتجهم وعبوس كأنها تكلم نفسها بينما ترمقها نجاة بنظرة جانبية تترفع عن الرد عليها، وتكتفي بإطلاق زفراتها الحانقة والمستاءة بطريقة لا تفهمها..
حقًا مدلّلة غبية وجاحدة لدرجة لا تطاق..
***
بعد أسبوع..
في غرفة الانتظار في المستشفى كانت تجلس رفقة مراد الذي كان يحاول تبسيط الأمور وتهوينها ليخفف من حدة قلقها، بينما تجلس نجاة إلى جانبها في الجهة الثانية تؤيد كل كلمة ينطق بها مراد وتقول:
" حاولي ألا تفكري في الاسوأ يا وفاء، لقد أخبرتنا الطبيبة أنه ربما سيكون ورمًا حميدًا لا خوف منه.."
ترفع وفاء عينيها المليئتان خوفًا وقلقًا رغم كل ما سمعته لتتمتم بابتهال:
" هذا ما أتمناه.."
غير أن داخلها يغلي وما مرّت به هذا الأسبوع المنصرم كفيل بأن يزرع الرعب والخوف في نفسها كما زرعه في نفوس عائلتها ومراد.. فبعد فحص الطبيبة لها أخبرتها أن ورمها مشكوك به ويجب عمل تشريح مختبري له للتأكد..كلامها أثار القلق في نفسها وجعلها تفكر في التراجع قبل الدخول في شيء مجهول لا تعرفه.. هل ستكون حِمل سماع خبر هو بمثابة نهاية حياة بالنسبة لها؟ كيف ستتقبل أنها تحمل ذلك المرض الخبيث في جسمها دون أن تفقد صوابها؟..
جبن وتهاون تملكّاها كانت على استعداد للتراجع على إثرهما، لولا تحفيز نجاة لها ووقوفها في طريق أي تراجع أو هروب قد تفكر فيه.. أخذتها فورًا للمختبر وأجرت لها التحاليل المطلوبة للورم..تحملت نوبات بكائها وكانت الصدر الذي احتوى الوجع الذي عانته وهم يأخذون العينة من الورم ليبعثوها للتشريح..ورغم أنهم قد قاموا بتخدير موضعي للمكان الذي أخذت منه العينة لكن الألم والوجع كان مصاحبًا له وخاصة بعد زوال مفعول التخدير ..ثم جاء بعد ذلك جحيم الانتظار والترقب.. أسبوع كامل من حرق الاعصاب والتفكير في اسوأ الاحتمالات والسيناريوهات..وجهل تام بحيثيات وكيفية التعامل مع المرض إذا ما حدث وتأكد وجوده..لم تكن تملك أية خلفية عن رحلة علاجاته ونسب النجاة منه.. كان كل ما تعرفه وما يصلها عنه أنه مرض خبيث فتّاك يقضي على صاحبه ولا أمل له بالشفاء منه..
أسبوع كامل كان المدة التي سيستغرقها الفحص والتشريح ونتيجته لن تظهر قبل مضيه..وها هي جالسة تنتظر كأنما يأبى هذا الانتظار أن يرحمها..
***
ينزوي في نقطة بعيدة نسبيًا متخفيًا عن الأعين يراقب الباب الذي دخلت إليه قبل دقائق رفقة خطيبها ونجاة..ملامحه المكفهرة بقتامة تحكي مشاعر حنق عارم متضاربة بداخله ..كانت حالتها الشبه محطمة تتمسك بجلد وثبات لا تملكه قد أثارت في نفسه رغبة ملحة في تحطيم كل تلك الحواجز التي تضعها بينها وبينه..كيف يستطيع الوقوف هنا مكانه يراقب خوفها وقلقها يكادان يفتكان بها وهو عاجز عن التخفيف عنها..تنفيه بعيدًا عن محيطها وهو مستسلم لنفيها الجائر له..اللعنة عليه وعلى قلبه الاخرق هذا الذي يسحبه قسرًا نحوها دائمًا.. كيف واتته الجرأة أن يأتي بنفسه ويطمئن على نتائج تحاليلها؟ وكان من الممكن أن يتصادم مع خطيبها ولن يتوانى هذا الاخير عن افتعال مشكلة لإثبات قوته وأحقيته بها..كيف يسمح لمشاعره أن تحركه بهذا الشكل وتجعله يتخلى عن كل منطق في سبيل الاطمئنان عليها؟..
يهبّ معتدلًا في وقفته وهو يلمح الباب يفتح وتخرج منه نجاة تسند وفاء المنهارة على كتفها تبكي بحرقة وقهر، بينما يتبعهما خطيبها بوجهه الشاحب مبهوتًا مذهولًا كأنما لا يعي أي شيء حوله، حتى أنه لم يرى استنجاد نجاة به ليحاول معها تهدئة تلك المنهارة بين ذراعيها..
جسده المشحون انفعالًا يتحفز وينتفض مبارحًا مكانه ليتقصّى ما حدث، لكنه عاد وتراجع وقد شعرها خطوة متهورة جدًا لن يؤيده فيها أي شخص من عائلته، ليلمح نجاة في تلك اللحظة تسحب وفاء معها إلى أحد المقاعد وتجلسها عليه ثم تقول شيئًا لمراد قبل أن تهرول مبتعدة..
وهنا استغل الفرصة ولحق بها إلى آلة بيع المشروبات حيث اقتنت قنينة مياه لتأخذها إليها.. شهقة فزع ودهشة تصدر عنها عندما رأته ماثلًا أمامها قاطعًا عليها الطريق بملامحه القاتمة وعيناه يعصف بهما القلق فتبوحان بالكثير..
تزدرد ريقها تحاول التحكم بتسارع أنفاسها من المفاجأة لتسأله بذهول:
" أهذا أنت حقًا؟ ماذا تفعل هنا؟ ألم تقل أنك مسافر؟"
يرفع يده يغرز أصابعه في شعره المشعث ولم تكن تلك المرة الاولى التي يقوم فيها بتلك الحركة، ليرد بوجوم واقتضاب:
" أجّلت سفري.."
ثم أضاف وعيناه تشتدّان قتامة:
" ما بها وفاء؟..ماذا كانت نتيجة التحاليل"
" ألهذا أجّلت سفرك؟..لتطمئن عليها؟"
تسأله مباشرة تواجهه فلم يتأثر بنظرات الاتهام المرتسمة في عينيها، دون أن يؤكد سؤالها كما أنه لم يحاول نفيه..
تطلق نجاة نفسًا منهكًا وحالة هذين الاثنين تستنزف قواها كليًا..لا تصدق أنه قد أجل سفره من أجل الاطمئنان على نتيجة التشريح.. ألهذه الدرجة قلبه متعلق بها؟..
" أنت تعلم أن تواجدك هنا لا يجوز.. لسنا بحاجة لصدامات ومواجهات لا تجدي ولا تنفع أحدًا في شيء.."
" فقط أخبريني ما بها وفاء؟ لماذا كانت تبكي؟"
يقاطع استرسالها في تأنيبها المبطن وعيناه تعكسان صرامة وحزمًا، تخبرانها أنه لن يتقهقر الآن قبل أن يطمئن..
ترفع أصابعها تدفع غرتها عن جبينها وتفركه بتعب وقنوط وقالت:
" نتيجة التشريح جاءت إيجابية.."
ألقت كلماتها تدعي الهدوء فلن تملك التصرف إذا ما أثارت حفيظته بتهويلها للأمور..
ليطالعها باهتمام وتقطيبته الواجمة على جبينه تحكي عدم استيعابه لمقصدها:
" إيجابية؟..ماذا يعني هذا؟.."
تطلق أنفاسها بتنهيدة مفعمة بالضيق والقهر، وطبيعة عملها تحتم عليها البقاء محتفظة بثباتها فلا فائدة من انهيارها:
" تم تشخيص حالتها على أنها سرطان في الثدي، ولك أن تتخيل حالتها كيف ستكون.. البكاء والانهيار الآن أبسط شيء قد تمر به.."
تحجر كامل استولى على ملامحه بينما اختفى اللون من وجهه وبات قاتمًا بتهديد مرعب.. عيناه تراقصتا بصدمة متجلية قرأت فيهما تحفزًا وتهورًا ردعتهما فورًا وهي توصيه بحزم وقوة:
" إياك أن تحاول الاقتراب منها الآن..خطيبها هنا والموقف لن يتحمل أي فضيحة.. فرجاء غادر المشفى قبل أن يلاحظ أحد وجودك.."
ثم رمقته بنظرة أخيرة شاملة تقرأ وقع الخبر الصادم على كل إنش فيه، قبل أن تهز برأسها يأسًا ويقينها يترسخ أكثر وأكثر أن هذا الشخص أمامها وفيّ لمشاعره.. إذا أحب.. أحب بصدق وبكل عنفوان الرجولة والشهامة..واستفحل حبه عشقًا يذوي به داخليًا حتى يفنيه..


سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-07-24, 12:05 PM   #10

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة بت الجوف مشاهدة المشاركة
السلام عليكم
بدايه موفقه وننتظر المزيد لكي التحية والتقدير.
وعليك السلام تسلمي حبيبتي اتمنى تكون عند حسن ظنك

قلب من ورق likes this.

سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:06 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.