05-07-24, 09:01 PM | #11 | ||||
| السلام عليكم ورحمة الله وبركاته مساء الخير على الجميع بدايه جميله ومحمسه اسمعي ياوفاء ماراح يوقف معك غير الحب الصادق جابر أما مراد أتوقع راح يتراجع مع اول عائق وهو مرض وفاء اماجابر فهو الجبر الحقيقي لكن كيف راح تسمح وفاء باقتراب جابر ومساعدته لها إذا تخلى عنها مراد أتوقع الكرامه راح تعبها ننتظرك بشوق | ||||
06-07-24, 03:33 PM | #12 | |||||
| اقتباس:
| |||||
06-07-24, 07:59 PM | #13 | ||||
| [size="4"[color="darkgreen"]]الفصل الثالث[/color] [/size] في الوقت الذي تظن فيه أنك قد ملكت كل مفاتيح السعادة.. ووصلت أخيرًا للبر الآمن الذي سعيت إليه طيلة حياتك.. وبذلت في سبيله الغالي والنفيس.. ودفعت أثمن سنين عمرك.. تأتي لحظة فارقة..لحظة انعاش لـ إدراكك وواقعيتك.. لحظة اختبار لقوة تحمّلك وصبرك.. تنسف كل ما بنيته وتجعلك تقف على شفير هاوٍ ينهار بك تدريجيًا..يجعلك تدرك أنما هذه الحياة مجرد اختبار.. مجرد دار زائلة نتحول منها لدار البقاء والخلود..فطوبى لهم أولئك الذين يجتازون الاختبار ويأتون ربهم بقلب سليم..وجعبتهم تنضح بطيب أعمالهم يجزون بها الغرفات آمنين مطمئنين.. *** بعد يومين.. تسحب نفسًا عميقًا ثم تزفره تستغفر الله على ما وصلت إليه بأفكارها.. أي مفارقة هذه التي وضعت وفاء على مفترق طرق تقف حاجزًا بينها وبين تحقيق ما صبت إليه لسنين طوال؟ هكذا هي الحياة..لا أحد يصل إلى الكمال.. والغِرّ فقط من يظن أنه قد يستطيع امتلاك كل مفاتيح السعادة في يده.. فمن هذا الذي يتحكم بقدره؟ ونحن مجرد مخلوقات لا تملك من زمام أمورها شيء.. تراقب خالتها المنكمشة في ركن في غرفة الجلوس تحرك حبّات السّبحة بين أصابعها وتستغفر الله.. ظهرها منحني بوهن وانكسار..وكتفاها متهدلان بتخاذل بينما حكى وجهها المنطفئ وجعًا مستسلمًا مسلّمًا مقاليده لخالقه، فالقلب رغم المصائب لا يزال يضج إيمانًا بعظمته وتجلّيه.. ترفع يديها ترجع شعرها للخلف وهي تتشجع لتقول بحزم: " خالتي، بالله عليك ما كل هذا الحزن والمأساة التي تجسدينهما؟ تشعرينني وكأن وفاء تعيش أيامها الأخيرة وتحتضر.. تحلي بالإيمان واجعلي ثقتك في الله أكبر من هذا.. أنت امرأة مؤمنة وتدركين أن هذا مجرد اختبار لنا سنجتازه بالصبر وحسن الظن بخالقنا " تسحب السيدة لطيفة نفسًا متقطعًا نمّ عن غصّة لم تبارح حلقها منذ تلقيها لخبر مرض ابنتها وحيدتها.. تهز رأسها حزنًا وهي تقول بوهن واستسلام: " ونعم بالله.. اللهم لا اعتراض على حكمك..اللهم إني لا أسألك ردّ القضاء ولكني أسألك اللطف فيه..الأمر أقوى مني يا نجاة.. تلك الفتاة حظّها قليل في هذه الحياة " " استغفري ربك خالتي وكوني قوية أكثر من هذا.. كيف تريدين من وفاء أن تحارب المرض وتتغلّب عليه وهي تراك منهارة أمامها؟ موقفك هذا يثبط من عزيمتها ويزيد من سوء حالتها..عليك أن تفهمي أن الطّب قد تقدّم كثيرًا، واحتمالية العلاج من المرض نسبتها تقترب من المئة، فلماذا هذا التشاؤم؟ هناك حالات كُثر وصلت لمراحل متقدمة من المرض ومع هذا لم تفقد الأمل، وناضلت وقاتلت باستماتة حتى شفيت تمامًا منه، إنه مرض خبيث يتغذى على الخوف واليأس فيجب على حالة وفاء النفسية أن تكون مستقرة لتتغلب عليه، وهذا دورنا نحن خالتي.. علينا مساعدتها بتشجيعها وتحفيزها " تناظرها السيدة لطيفة بعيون يتراقص الدمع فيهما لكنها تمنع نزوله، بينما تهمس بلوعة واحتراق: " كيف لا تريدينني أن أحزن أو أنعي حرقتي على وحيدتي يا نجاة؟.. إنها..إنها عروس لم تكتمل فرحتها..أية فرحة؟ وأية عروس؟ هل تدركين ما ينتظرها؟ لقد حلمت كثيرًا بيوم زفافها ورسمت له أحلامًا عريضة وصورًا مبهرة..أمامها سنوات من العلاج.. سيتساقط شعرها وستفقد جزءًا من أنوثتها يا نجاة..سيستأصلون الثدي.. فكيف تريدينها أن تظل ثابتة ورابطة لجأشها حتى لا تتأزم حالتها؟.. كيف؟ .." آهة خافتة موجوعة تتصاعد من ثنايا قلبها المكلوم على ابنتها، فيعتصر الألم قلب نجاة أكثر فأكثر، لكنها تأبى إلا الصمود ومجابهة حالة اليأس والتشاؤم التي يخلقها الجميع من حول وفاء فتقول بيقين: " كل هذه الأمور سابقة لأوانها يا خالتي..بالله عليك ما قلته هو بناء على تشخيص الطبيبة المبدئي ولا يجب الأخذ به..سنذهب لطبيب ثانٍ وثالث لنتأكد، ربما لن يكون هناك استئصال للثدي، فتوقفي عن تهويل الأمور بهذا الشكل.. الموقف لا يحتمل.. صدقًا لا يحتمل.. لن يرضينا أن تتأزم وفاء أكثر من هذا.. علينا مساندتها والوقوف صامدين مشجعين لها ولا نتخاذل الآن..هي تحتاج أن ترانا صامدين لتستمد قوتها منّا وتقاوم، ولا تحتاج لدموعنا وهواننا المستسلم.." ترفع السيدة لطيفة عيناها نحوها وقد زارها الأمل من جديد لتسألها برجاء: " أهذا صحيح يا نجاة؟ هل يمكن أن تكون نسبة استئصال الثدي قليلة كما تقولين؟" " بإذن الله خالتي، الورم صغير ولا يعقل أن يكون قد تجاوز المرحلة الأولى، الطب متقدم جدًا لقد بات استئصال الثدي آخر الخيارات التي يعتمدها الأطباء للعلاج من المرض، لن نيأس أو نستسلم، سنبذل كل جهودنا من أجل بثّ الأمل لنفس وفاء وإيصال أن علاجها وشفاءها من المرض أمر محتوم..أين هي وفاء الآن؟" " هي في غرفتها لم تغادرها إلا لمامًا، حتى الطعام تأكله تحت إلحاح منّا واصرار كبير، ادخلي إليها يا نجاة وحاولي بث الأمل إلى نفسها ربما تستمع لك.." تتنهد نجاة بتعب وتستغفر ربها.. الموقف يفوق طاقتها لكنها لا تملك إلا الوقوف مجابهة لكل بادرة يأس أو قنوط قد تبدر من جانب وفاء وعائلتها، فلن تتخلى عنها الآن وهي في أشد حالاتها حاجة إليها.. تدخل إلى الغرفة وهي تستعد جيدًا وقد جهزت نفسها لكل حالات الانهيار المحتملة التي قد تقابلها من جهة وفاء، تقف قليلًا عند الباب ترسم استياءً وامتعاضًا على ملامحها وعيناها تطالعان هيئة الغرفة الغارقة في ظلام دامس لا يكاد يتراءى لها شيء، بينما تتدثر ساكنتها في أغطية السرير مستلقية على جانبها الأيمن تولي ظهرها لكل شيء من حولها، والصمت الخانق يحوم من حولها ويزيد من حالتها الكئيبة البائسة.. تزفر بتعب وهي تتقدم تاركةً الباب مفتوحًا لتتنفس الغرفة قليلًا، ودون كلمة تتجه إلى النافذة بعزم وتصميم تزيح الستائر الثقيلة عنها وتفتحها تحت اعتراض وفاء وتذمرها ببضع همهمات مخنوقة غير مفهومة لم تأبه لها، تابعت عملها لتغرق الغرفة في أشعة الشمس وتشع نورًا بعد ظلام خانق، وانتقلت إليها تنفضها من فراشها وترمي الاغطية على الأرض، وهي تهدر بحنق وسخط عارمين عبرّا عن نفاذ صبرها: " هذا يكفي، ما هذا المأتم وحالة البؤس اللذيْن تقيمينهما؟ هل أنت أول امرأة تصاب بهذا المرض؟ كيف تريدين أن تتعافي منه وأنت تعطينه الفرصة ليرسخ جذوره ويتفشى بحالتك المحطمة هذه؟ هو يتغذى على ضعف إيمانك وانهيار نفسيتك، وعليك محاربته وعدم السماح له بنيل ما يصبو إليه منك.." لم تتوقف -بين كل جملة وأخرى- عن دفعها وحثّها على الانتفاضة والتحرك من مكانها حيث كانت لابثة بخنوع واستسلام مدمرين، وهالها منظر وجهها كيف بات بعد يومين من البكاء.. أين ذهبت وفاء بملامحها المشرقة والحيوية؟ من هذا الكائن التعيس والكئيب الماثل أمامها؟ هي لا تكاد تتعرف عليها.. تراقب تحركها الرتيب وهي تبحث عن الأغطية لتجرّها إليها وتعود لوضعيتها السابقة، لكن نجاة تقف لها بالمرصاد وتسحبها منها وترميها على الارض مجددًا، ثم تقف محتدّة تجابهها بنظراتها المتحدية والعنيدة تبادل نظرات وفاء الحانقة من تصرفها.. لحظة صمت وترقّب بين الطرفين قطعته وفاء أخيرًا، متمتمة بنبرة استسلام مهتز شابت صوتها وعبرت عنها بتنهيدة يائسة: " ماذا تريدين يا نجاة؟ رجاءً اتركيني بحالي.. يكفيني ما أنا فيه.." " وما هذا الذي أنت فيه؟ هاه؟ أخبريني؟ هل تنوين الاعتكاف في غرفتك ما تبقى من عمرك؟ هل هذه هي روح النضال والمقاومة اللذين عهدتك بهما يا وفاء؟ أين ذهب إيمانك وصمودك؟ ما هذا الخنوع والاستسلام اللذيْن تجسدينهما بـ إتقان أمامي؟ هل فقدت يقينك بالله وعدله عند أول اختبار يقابلك؟ ماذا تركت لضعاف النفوس بفعلك الجاحد هذا؟" سيل من الكلمات تنزل عليها كصفعات تعيدها لوعيها، بينما تقف نجاة أمامها بكل عنفوانها وحزمها تلقنها وتذكرها ما نسيته.. كيف فقدت أملها بالله بهذا الشكل؟ كيف جرؤت على التفكير -بلحظة ضعف- أن الله يعاقبها؟.. على ماذا يعاقبها؟ هل يجوز للإنسان أن ينسى كل نعم الله التي غلّفته لمجرد وقوفه أمام اختبار يختبر الله فيه إيمانه ويقينه بقدرته وقوة عظمته؟ من ابتلاها بهذا المرض أليس هو القادر المقتدر على أن يشفيها منه؟ أليس هو من قال للشيء كن فيكون؟ فكيف بها إذن أن تيأس وتستسلم لوساوس شيطانية استغلت لحظات ضعفها لتجعلها تكفر بخالقها؟.. عند هذه النقطة انهارت النفس وأجهشت وفاء بالبكاء بحرقة تذرف دموعها مدرارًا، علّها تغسل بها آثامًا وخطايا ارتكبتها بينها وبين نفسها، تتشبث بحبل الله بكل ما أوتيت من قوة حتى لا تضيع.. تحتضنها نجاة تواسيها وتخفف عنها بينما كانت هي تختض وتنتفض، وعظم ما ارتكبته من ذنب ينشر الرهبة في النفس خوفًا من خالقها.. *** بعد ساعة كانت وفاء تجلس على سريرها بعد أن أخذت حمامًا أعاد الاسترخاء إلى جسمها وارتدت ثيابها، بينما جلست نجاة أمامها تسألها بإيجاز: " والآن ماذا؟" ترفع عينيها إليها وسؤالها لا يجد الإجابة لديها لتقول بمسايرة: " لا أعرف.. أنت أخبريني" وسؤالها المرتدّ وجد الصدى الطيب لدى نجاة وكأنها كانت تنتظره إجابة لسؤالها هي، فتأخذ وقتها تتنفس عميقًا قبل أن تبدأ بالقول بهدوء واتزان: " لقد قمت ببحث طويل حتى عثرت على أكفأ طبيب أورام في المدينة كلها، وقمت بالحجز لديه وغدًا سنذهب لزيارته " أومأت وفاء برأسها بطاعة واستسلام تاركة لها تولي زمام الأمور، لتقول لها نجاة بتشجيع: " اتصلي بمراد ليكون معنا، هذا سيساعد نفسيتك لتتحسن " "مراد.." همسة خافتة باسمه تعقب بها على اقتراحها، ثم تحركت عيناها بآلية نحو هاتفها الملقى بجانب الفراش على المنضدة، ونظرة غير مفهومة مرتسمة فيهما بينما تضيف بخفوت: " هاتفه مغلق.. لم يبعث لي شيئًا اليوم.. آخر رسالة منه كانت ليلة الأمس" تتجاهل نجاة كل ذلك لتلتقط الهاتف تمده نحوها وهي تحثّها على إعادة الكرة: " اتصلي بالبيت إذن أو إحدى شقيقاته، ألا تملكين رقمها؟" " بلى.." تجيبها بتردّد لم تأبه له نجاة وهي تلتقط كفّها لتدس الهاتف فيها قائلة بحزم واصرار: " اتصلي بها إذن واسأليها عنه، هو خطيبك وقريبًا سيصبح زوجك.." تراقب وفاء التصميم الجاد في عينيها قبل أن تزفر أنفاسها باستسلام وتبدأ بالنقر على الهاتف تبحث عن اسم معين مسجل عندها، مرّرت الاتصال إليه وهي لا تزال متردّدة، فهي لم تحادث أيًّا من شقيقاته من قبل إلا مرة أو مرتين، ولم تكن تجمعها بهن أية صداقة بالرغم من تلك العلاقة التي جمعتها مع شقيقهن.. " ماذا حدث؟ هل هاتفها مغلق أيضًا؟" تسألها نجاة بعد عدة لحظات من الانتظار ويد وفاء الممسكة بالهاتف تنزلق من أذنها لحجرها بينما تهز برأسها نفيًا: " لا ترد.." عندها خطفت نجاة الهاتف من يدها تجرب بنفسها معاودة الاتصال، يصلها الرنين في الجهة الثانية قبل أن يقطع الاتصال فجأة، لتتسع عينا نجاة ذهولًا وهي تهمس بغير تصديق: "الوقحة.. لقد أغلقت الخط في وجهي.." وهذا لم يدفعها للاستسلام بل أعادت المحاولة، ولم تلبث أن انفتح الخط لتعطيه بسرعة لوفاء تشير لها بالتحدث.. "مرحبا سميرة.. كيف حالك؟" صمت قصير ثقيل في الجهة المقابلة قبل أن ترد سميرة بفتور: " بخير.. كيف حالك أنت؟ أخبرنا مراد بما أصابك.. الكل يدعو لك بالشفاء" ترمش وفاء بعبوس وهي تحمحم تجلي حلقها وتتخلص من غصة لا تكاد تفارقه بينما تهمس: " شكرًا.. عافاك الله من كل سوء" تصمت فتصمت سميرة أيضًا ويحتل الجو شحنات متوترة اجتاحت نفس وفاء، قبل أن تقول باندفاع وشجاعة قبل أن تجبُن مجددًا: " أتصل بك لأسألك عن مراد.. هل هو بخير؟ هاتفه مغلق.." صمت مريب في الجهة الثانية تبعه شعور سيء أرسل ذبذبات سلبية في النفس.. " هل ما زلت معي سميرة؟" " ألم يخبرك؟" " يخبرني بماذا؟" الذبذبات تتزايد بوتيرة مقلقة والترقب سيد الموقف في انتظار شيء لم يبدو على صوتها أبدًا أنه خيرًا.. تنفض سميرة عنها عبء ما يحدث وترفض حمل وزره، بينما ترد عليها بإيجاز واختصار: " مراد مسافر خارج المدينة" " كيف..مسافر؟..لم يخبرني" كلمات مشتّتة ضائعة انسابت من بين شفتيها بضعف، بينما تنظر لنجاة باستجداء لدعم تفتقده.. زفرة نافذة للصبر ربما -أو ضجرة- تصلها من جهة سميرة وهي ترد تنهي الاتصال بسرعة: " والدتي في طريقها إليكم لتخبركم، ليس لدي ما أخبرك به أنا.." ثم أقفلت الخط سريعًا قبل أن تتلقّى أي اعتراض من وفاء، التي بهتت وتشتّت تركيزها غير مستوعبة، وقبل أن تسألها نجاة أي شيء وصلهما صوت جرس الباب يصدح في صحن الدار، لتقفز وفاء من فوق الفراش تهتف بتيه: " لابد أنها والدة مراد، لقد قالت أنها في طريقها إلى هنا..سأذهب لأسألها عنه.." غباء وعدم فهم استولى على نجاة وهي لا تعرف بعد ما أخبرتها به سميرة، لكنها قفزت خلفها تعترض طريقها وتمنعها التسرع وهي تحثّها قائلة: " على رسلك يا وفاء، دعي والدتك ترحب بها أولًا وتقدم لها واجب ضيافتها، تصرفك هذا لا يجوز.." تطالعها وفاء بعيونها الزائغة والمشتّتة قبل أن تكمل طريقها كأنها لم تسمع ما قالته، لتتوقف أعلى الدرج وصوت والدتها يصلها من الأسفل يحمل نبرة مقلقة لها فلم تكن على طبيعتها: " لا يجوز أن تقفي عند الباب هكذا، لابد أن تدخلي يا أم مراد" صمت قصير شابته زفرة حانقة فاقدة للصبر من جهة الضيفة، وهي ترد بنبرة حملت استهانة مطلقة مقيتة: " لا داعي لدخولي، ما جئت من أجله لن يأخذ وقتًا طويلًا..لقد بعثني مراد لأستردّ مصوغات الخطبة وأخبركم أن كل شيء قسمة ونصيب، وإن شاء الله يعوض ابنتكم بشخص آخر يقدرها، فـ مراد لا يزال غير جاهز للزواج" صمت مهيب غاصت به أركان الدار بينما تسمّرت قدما وفاء وتخشّب جسدها مكانه، واذناها لا يستوعبان صدق ما سمعته.. شهقة خافتة تخترقها من الخلف حاولت نجاة -محاولة متأخرة- أن تكتمها بيدها وعيناها تجحظان بصدمة، أثبتت لها حقيقة ما تعايشه اللحظة وأنها لا تتوهم.. برودة مثلجة تسلّلت إلى أطرافها بينما يتهاوى شيء بداخلها، وصوت دويّه صمّ أذنيها معلنًا عن تحطم وانكسار لا يمكن جبره.. " أية مصوغات يا أم مراد؟ لقد كان مجرد حلقة خاتم هي كل ما جاد بها ابنكم لـ ابنتنا وقد رضينا به، لأننا أبناء كرم وجود ولم يغرِنا أبدًا بهرج الذهب ولا لمعانه الخادع " صوت والدتها يصلها يحمل انتفاضة متداركة تحفظ به ما تبقى من كرامة مهدورة، وسكين الغدر تنغرس في الظهر وتعيث فيه الجروح والأوجاع وتدميه.. " ابنك لم يكن جاهزًا للزواج منذ البداية، ولكن تربيتنا وأصلنا الكريم لم يسمحا لنا بالتجبر على من هم أقل منا رفعة، وتنازلنا تواضعًا من أجل ابنتنا، ولكن كما يقول المثل: إذا أكرمت اللئيم تجبر.." لم تشعر بذراع نجاة التي طوّقتها من الأمام كدرع لها مخافة انهيارها على الدرج أمامها، وقد بدأت الأرض تميد بها وفقدت القدرة على الشعور بما حولها حتى لم تشعر بتمايلها وترنّحها كأنما ستصاب بالدوار وتقع أرضًا، كل شيء اختفى وجوده من حولها ما عدا الأصوات في الأسفل، لا تزال تخترق أسماعها وتغرز سكاكين ثلمة في روحها.. صوت أم مراد المستهين والمنتفض يعلو بنبرة فاحت شرًّا وحبًّا للأذى، وقد مسّت تلك الإهانة التي تلقتها كبرياءها وغرورها لتقول بلؤم وسفاهة: " ابنتك الكريمة لم تجد من يعبّرها وينظر إليها وقد شارفت على الثلاثين، لهذا لم تجد أمامها إلا التشبّث بولدي كمن يتشبّث بالقشة من الغرق، وكانت مجبرة على التنازل..وبعد ما أصابها والمرض الخبيث قد استحكم في جسدها، لابد ستتشبّث به أكثر من أي وقت مضى..لكن ابني وحيدي لن يرضى أن يتزوج بنصف امرأة وقد فقدت جزءًا من جسدها وباتت مشوهة" آهة مغتصبة تصدر عن وفاء وكأنما تلقّت توًّا سكينًا أجهز على روحها، بينما جحظت عيناها بنظرات مفجوعة متألمة.. إلى أي مدى يمكن أن يصل الشر بالإنسان ليتسبب بالأذى لغيره؟ هل فرغت قلوب البشر من الرحمة؟ " أيتها الشمطاء اللئيمة .." تهمس نجاة بوعيد وغِلّ من بين أسنانها، بينما يعلو صوت السيدة لطيفة بنبرته الحازمة و الرادعة فوق نبرة غريمتها تضع حدودًا لها: " هذا يكفي، ابنك بظفر ابنتي ولا يشرفنا أن يختلط عرقنا الكريم والأصيل بعرق يحمل الغدر والخيانة في أصله، لقد أظهركم الله على حقيقتكم قبل أن تتطور الأمور وتتحول إلى زواج، ماذا تركتم لـ أولاد الشوارع والحثالى عديمي الأصل؟ عند أول أزمة تظهرون خسّتكم ونذالتكم وتنسون المعروف..أهكذا تصان بنات الناس في بيوتكم؟..هل كنتم تنوون رميها بعد أن تنالوا من شبابها وصحتها؟ أهذه هي مكارم الأخلاق عندكم؟ خسئتم وخسئ أصلكم.." تحاول المرأة قول شيء وقد احتقن وجهها سخطًا وغضبًا من كمية الإهانات التي تلقّتها، لتسكتها السيدة لطيفة بإشارة من يدها مهدّدة متوعّدة: " أبقي لسانك داخل فمك يا امرأة ولا تدفعيني للتخلي عن لباقتي معك، أنت في بيتي فـ احترمي حرمته ولملمي ما تبقى من كرامتك واخرجي..أغراضك ستصلك وأنت خارج بيتي.. فلا يشرفني أن تطأ قدم من هم عديمي المروءة والأصل أرضيته.." أتبعت كلامها بإشارة من يدها نحو الباب وعيناها ترسلان نظرات قوية حازمة لا تناقش.. تزم المرأة شفتيها غيظًا وكمدًا وقد نالها ما جاءت لتتسبّب به لهم..بينما اندفعت السيدة لطيفة تحركها حميّتها وغيرتها على ابنتها، تعطيها قوة وحافزًا للدفاع بشراسة عنها، ولم تشعر إلا وهي تتخلى عن لباقتها ولطفها المعروفة بهما وتدفع المرأة بازدراء نحو الباب، فمن مثلها لا يجوز التّصرف معهم إلا بقلة احترام وفظاظة، ثم صفقت الباب بقوة خلفها ووقفت للحظة خلفه تسترجع أنفاسها، قبل أن تندفع بتصميم جاد وجسدها المعتل قد نفض عنه وهنه، ليهبّ دفاعًا عن فلذة كبدها من أوغاد افترسوها لحمًا وسيرمونها عظمًا، ولابد من الوقوف صامدة أمام كل ما يحدث معها حتى تبثّ القوة إليها.. وكأن الفتاة ينقصها الوجع ليتكالب عليها الأوغاد ويحطموا عزيمتها أكثر مما هي محطمة.. ترتقي الدرجات وزفراتها الحانقة تسبقها، لتتوقف مسمرة مكانها وهي ترى مشهد ابنتها أعلى السلم تقف جامدة مبهوتة ووجهها قد ازداد شحوبًا عكس صدمة متجلية، أخبرتها يقينًا بأنها قد سمعت كل كلمة قيلت في الأسفل.. تبادلت النظرات مع نجاة التي أكدت لها بدورها من خلال الصدمة والذهول على ملامحها.. تتحرك وفاء من مكانها مبتعدة تناضل ضد انهيار يهدّد وقفتها الصامدة صمودًا واهيًا، لتناديها والدتها بقلق فتتوقف للحظة تقول بخفوت دون أن تلتفت: " سوف أحضر الخاتم.." ثلاث كلمات بنبرة انكسار وانهزام كخناجر انغرست في قلب والدتها ونجاة، ثم تابعت سيرها تاركة إياهما تبتلعان غصة مستحكمة في الحلق تخنقهما وتنبع لها دموعهما المسْتحية من الظهور.. عادت بعد لحظات تحمل العلبة المخملية الثمينة لقلبها تمدها إلى والدتها كأنها تنتزع قلبها معها، فتلتقطها نجاة عوضًا عنها وهي تهمس بوعيد وتهديد: " سوف أرميها لها أنا يا خالتي، لا يجوز أن تنزلي لمستواها المنحط" تركتهما وفاء مجددًا دون كلمة وانسحبت تختبئ في غرفتها، بينما نهبت نجاة الدرجات والشر المعتمل في صدرها يؤزها للتصرف بسفالة ونذالة لكن تربيتها تمنعها، فتلك المرأة تستحق صفعة بل صفعات متتالية على وجهها وركلات على مؤخرتها.. فتحت الباب بعنف لتطالعها وقفة تلك المرأة بوقاحة مثيرة للاشمئزاز، وقبل أن ترمي لها بالعلبة قالت لها بثقة: " وفاء ستتعافى من مرضها ولن تفقد أي جزء من جسدها، ولن تكون مشوهة كما تصفين، لأن المشوهة الوحيدة هنا هي أنت بروحك الشريرة المحبة للأذى، وابنك لم يكن يستحقّ فتاة ذات أصل كريم وطيب كوفاء، فالرجال تظهر مروءتهم عند الشدائد، وحاشا لله أن يكون هو رجلًا.. فالرجولة بريئة منه .." ختمت كلماتها اللاذعة وهي تقذف العلبة في وجهها ثم تقف بتحدّ تتمنى فقط أن تحاول فعل شيء ترد به اعتبارها لتعطيها ما تستحق.. تراقب باستهانة وتحقير كيف تنحني لتلتقط العلبة كأنها كنز ثمين، وتتشبث به كأنها لم تصدق أنها قد حصلت عليها وبريق الانتصار المخزي والمثير للشفقة يومض في عينيها، فتلوي نجاة وجهها باشمئزاز قبل أن تبصق على الأرض بتقزز ثم ترتد على أدبارها وتدخل وهي تصفق الباب خلفها بقوة. *** في اليوم التالي.. ببطء وبتركيز مشتّت يحاول أن يركن سيارته أمام البيت، بينما تتوالى زفراته الحانقة وملامحه تكسوها مسحة تكدر قاتمة تعكر صفحتها، رأسه يضج بهواجس كثيرة بينما تعصف بصدره مشاعر متضاربة مقيتة يكرهها، يحس على إثرها بالعجز وبالدونية من نفسه.. يدفع الباب بنزق ويخرج لتستقبله صفعة برد لفحت وجهه وعصفت بقميصه الخفيف ونشرت صقيعها عبر أوصاله .. يغلق الباب ويتأكد من إقفاله جيدًا ثم يستدير ليصطدم بكتلة بشرية ضخمة أرسلت رهبة لحظية إلى نفسه، قبل أن يتعرف على جابر بطوله وضخامته التي تطغى عليه.. يزداد تكدر ملامحه بينما تطالعه عينا جابر بنظراتهما الحادة والجسورة بمهابة، ووجهه المتصلب كأنه قد قُدّ من حجر بينما يقول بنبرة تهديد خطيرة: " هل تخبرني كيف ستصلح ما تسببت به والدتك المحترمة من أذى لبيت خالي؟" تتراقص عينا مراد إحفالًا وذلك الشر النابض من عيني غريمه أمامه ينشر رهبة وتوجسًا في نفسه.. صمت مريب من قبل مراد جعل الشك يتصاعد في نفس جابر، وهو الذي كان لا يزال يحاول ردع نفسه عن التهور والبدء بالشر، يعطي لمن أمامه مساحته لـ إثبات براءته قبل محاسبته، لكن هذا الهدوء الفاتر الذي يبديه وعدم تفاجئه يجعله يشك ويؤز شياطينه لتنهض من مرقدها.. " اسمعني جيدًا.. لازلت أحاول تصديق أن ما فعلته والدتك كان تصرفًا نابعًا منها هي فقط.. دون أن ترجع لك أو تخبرك بما نوت فعله، لهذا أثبت لي أنك رجل وانتفض لكرامة خطيبتك التي داست عليها وسحقتها دون رحمة، كما يفترض بأي شهم ذو نخوة أن يفعل" نبرته المنذرة بالشر يحاول تحميلها الحلم والتريث حتى لا يتهور، رغم أن جسده كله ينتفض بشحنات متتالية منفعلة تجعله على شفير الانجراف لـ ارتكاب أفظع الجرائم.. النِّدية والتنافس منذ أمد بعيد كانت تجمعهما معًا وهي لم تخفت في هذه اللحظة، غير أن المواقف تغيرت وبات جابر هو المتفوق عليه، بينما يكتنف مراد شعور لا يتحكم به، يجعله يبدو ضئيلًا مهانًا أمام نظرات الاتهام الموجهة إليه.. " اسمعني جابر.." حاول مراد التحلي بالصبر ومحاولة شرح موقفه، لكن جابر المندفع لم يمنحه الفرصة وحميّته وغيرته على ابنة خاله تحركه للدفاع عنها، لاغية كل تعقل ورافضة سماع أي تبريرات أو مناورات لـ إعطاء ما حصل صورة غير التي يراه بها، فينقض عليه يمسكه من خناقه هامسًا من بين أسنانه بتهديد وشر: " أخبرني أنك لم تكن تعلم ولم تكن تنوي فسخ خطبتك من وفاء..تكلم أيها الوغد" يتلقى مراد هجومه بهجوم مماثل فينقض عليه بدوره قائلًا بـ اندفاع أهوج وسفاهة خرقاء: " ماذا كنت تنتظر مني أن أفعل؟ أنا لست قديسًا أو ملاك..وفاء أمامها سنوات من العلاج وطريقها طويل ولا يزال في بدايته..ذاك الارتباط لن يصمد طويلًا" تبهت ملامح جابر فجأة وما يلفظه فم هذا الكائن أمامه من جحود ونكران للجميل يوقعه في حيرة من أمره.. تشتد قبضتاه على خناقه وهو يهزه بعنف كأنما يبتغي أن يستفيق من هذره أو من غفلة مريضة تستولي عليه: " لا أحد ينتظر منك شيئًا أيها الوغد، بل هذا ما كان يفترض بك أن تفعل.. كما انتظرتك طيلة السنوات الماضية ورافقتك في طريقك الطويل، كان يفترض بك أن تبادلها التضحية والإيثار بفعل مماثل وتنتظرها وتساندها.. هل ستمنّ علينا إذا تصرفت بمروءتك وشهامتك اللتين تفتقدهما؟" " ثم ماذا بعد كل هذا؟ أخبرني..هل تنسى أن هناك عملية استئصال ستجريها ستتركها مشوهة؟ إن تركتها الآن أو فيما بعد.. هل سيشكل هذا فرقًا؟ ستتدمر نفسيتها بعد العملية ولن تكون رجولة مني أن أحطمها بتخليي عنها" ذهول محدق يسيطر على ملامح جابر وقد اتسعت عيناه بعدم استيعاب.. لا يصدق النذالة والخسة التي تحدث بهما.. وقاحة فجّة تنبض من عينيه يتشبث بصفاقة بموقف الحق وهو بريء منه.. ألهذه الدرجة تنحدر أخلاق الإنسان؟ ألم يكن يرى فيها إلا جسدًا يطمح لأن يشبع فيه شهوانيته الحيوانية المقرفة؟ ماذا عن الحب؟ ألم يحبها يومًا كما كان يوهمها؟.. أنفاسه تتحشرج في صدره تخنقه، وغضب أسود يزحف إلى نفسه ليحوله في ثانية واحدة إلى وحش كاسر مرعب مستعد لتحطيم كل شيء أمامه، وفي ذات اللحظة كان يرتدّ برأسه للخلف وبكل قوة يهوي بها على جبين غريمه وأنفه ينطحه مسبّبًا ارتجاجًا دماغيًا له، ويدعمها بلكمة من قبضته بثّها كل مخزون الغضب والغلّ اللذيْن سبّبتهما نذالته وقلّة أصله.. " وهل ما زلت تحسب نفسك من الرجال أيها الدنيء؟ الرجولة بريئة منك ومن أمثالك عديمي النخوة والمروءة.. قبح الله وجهك وأنزل بك لعناته" يترنح الوغد أمامه بينما يده ترتفع لتتحسّس السائل الأحمر المتدفق من أنفه معلنًا عن تهشمه، ولم يكن هناك مجال لرد الضربة وقد أُخذ على حين غرة، وبنية وجسارة جابر ستقفان حائلًا بين تكافئ الفرص بينهما.. بينما كان جابر يضيف باحتقار واشمئزاز كبيرين: " لم تخيّب نظرتي بك، لطالما شعرتك خسيسًا ونذلًا والغدر يطل من عينيك، ولم تكن تستحق وفاء، لم تكن أهلًا لها، كنتَ متأكدًا من وفائها لك فأمعنت في تقييدها بك مماطلًا تحت ذريعة واهية وحجج والدتك غير المقنعة والتي لا تنتهي..هي لم تكن موافقة منذ البداية على ارتباطك بها، لكنك نذل عديم الشخصية، لم تحاول الوقوف في وجهها وإثبات أحقيتك باختيار من سترتبط بها، وفي نفس الوقت أنانيتك ترفض منحها حريتها.. أي وغد خسيس أنت لتستغل ضعفها تجاهك؟.." احساس بالضآلة والمهانة يكتنفه وكلمات جابر ترشقه في الصميم، تصيب أهدافًا حاول مواراتها وعدم إظهارها سابقًا، وها هو يقف موقف المذلول المكسور أمام غريم لطالما شعره متفوقًا عليه في كل شيء، إلا في شيء واحد.. حب وفاء له.. كان حبًّا خالصًا له هو وحده.. لهذا كان يرى الغيرة والحسد المريرين في عيني غريمه جابر فينتشي بذلك الشعور الغامر بالنصر والتفوق .. يبصق الدماء من فمه بينما تومض عيناه شرًا ليقول بتهور، باحثًا عن ثغرة ينفذ إليه منها ليؤذيه كما آذاه: " من السهل جدًا أن تقف أمامي متقمصًا دور الرجولة والمروءة، فأنت لست في نفس موقفي.. ماذا كنت ستفعل لو كنت مكاني؟ لقد تركت لك الساحة خالية.. لِم لا تحاول الوصول إلى ما عجزت عن الوصول إليه سابقـ..؟ " لم يستطع أن يكمل بقية كلماته عندما حطّت قبضة جابر مرة أخرى على فكه، وقبل أن يتدارك الموقف كان يشده إليه ليوجه له الضربة القاضية تحت الحزام، تلوى على إثرها من الألم وخرّ راكعًا على ركبتيه وهو يضم ساقيه متوجعًا متأوهًا.. " هذه لتتعلم معنى الرجولة أيها الوغد البائس، لعنة الله عليك..بئس الذكور أنت" ثم انصرف عنه مترنحًا من الانفعال والغضب.. أنفاسه يشتد هديرها وشيء مؤلم يجثم على صدره يزيد من حنقه..بينما يتجمع شيء حارق في عينيه حمل كل قهر الدنيا وكمدها.. | ||||
11-07-24, 02:25 PM | #14 | ||||
| اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد لا تنسوا الباقيات الصالحات سبحان الله الحمد لله لا إله إلا الله الله أكبر لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم | ||||
13-07-24, 05:34 PM | #15 | ||||
| الفصل الرابع الفرار..أو الهروب.. عادة ما يتراءى لنا حلًا ناجعًا لموقف يهزمنا ولا نملك قوة لمواجهته..نختصر به معاناة ونضال لا قبل لنا به.. نبتعد لنريح ضميرًا يناوشه ذنب بـ إثمه معذب.. لكن هل نرتاح بـ الهروب؟ أم يزداد شعورنا الآثم المذل؟.. *** " من فعل بك هذا؟!" صوت سميرة المصعوق يعلو وتسبقه شهقتها المذهولة والمصدومة عندما فتحت الباب لمراد المترنح، والدماء تلطخ مقدمة قميصه بينما يحاول إخفاء الألم المبرح الذي طعن رجولته قبل أن يطعن كينونته الذكورية.. كيف استطاع جابر أن يجرّده من ادعاء النخوة والمروءة المزعومين ليعرّيه أمام نفسه ويلبسه أبشع الصفات؟ كيف؟.. " مراد بني! ماذا حدث؟ مع من تعاركت؟ هل هو من اعتدى عليك؟..شقيق تلك الوضيعة أليس كذلك؟" يتجاهلهما مراد ويتجاهل أسئلتهما الملحّة وقلقهما المحتد متجاوزًا إياهما وهو يتمتم حانقًا: " ليس مهمًّا أمي.." " كيف ليس مهمًّا؟.. يجب أن نقدّم بلاغًا بالحادثة حتى لا يتعرضوا لك مرة أخرى" يزفر نفسًا هادرًا وهو يهتف بسخط وغصب: " هذا يكفي ..يكفي يا أمي.. ألا تملّين..لمَ كل هذا الحقد على تلك العائلة؟ لم هذه الرغبة في أذيتهم؟..ألا تدركين ما فعلناه بهم؟ لقد حطّمناهم بنذالتنا وخسّتنا..كيف لنا أن نواجه أنفسنا في المرآة وملامحنا تذكرنا بقلّة أصلنا ونكراننا؟" ثم يتركهما ويتابع سيره لغرفته مخنوقًا.. لا يصدق كيف استطاعت اقناعه بسهولة..كأنه كان ينتظر من يؤيّده ويؤازره في تلك الأفكار والهواجس التي قضّت مضجعه منذ أن تلقّى خبر مرض وفاء.. كلمات الطبيبة كانت كسهام مسمومة ترشق في صدره وهي تؤكد لهما إصابتها بالمرض الخبيث.. والأسوأ.. يجب استئصال الثدي..أي جحيم ذاك الذي ألقته فيه و تلظى بنيرانه؟.. لتأتي والدته بعد ذلك تفتح عيونه على تفاصيل أخرى لم يضعها بالحسبان، وتضعه أمام الأمر الواقع وتدفع به دون شفقة أو رحمة لبؤرة عذاب ذاق قسوتها.. " هل تعلم معنى أن تصاب بذاك المرض يا مراد؟ كيف تنوي الاستمرار في إجراءات عقد القران؟ هل فقدت عقلك؟ أم أن السحر الذي ربطتك به مفعوله أقوى من أن تستطيع رؤية الواقع؟..هل لديك فكرة عن تكلفة العلاجات لذاك المرض؟ وتكلفة العملية؟ كل هذا سيقع على كاهلك.. ستتحول إلى الحمار الذي يدور في الساقية دون توقف لتلبي لها كل مصاريف العلاج.. هذا إن أغفلنا عن تبعات ما سيأتي ما بعد العلاج.. هل سترضى بعد كل هذه السنوات من الانتظار أن تتزوج بها وقد استئصل ثديها وباتت نصف امرأة؟ زيادة على شعرها الذي سيتساقط بالكامل.. هل تسمع؟.. بالكامل.. ستكون عروسك صلعاء وبثدي واحدة.. هل ستتعايش مع قدرها هذا وترضى بها؟..هل ستنتظر سنوات أخرى قبل أن ترى ذريتك بعد انقضاء فترة علاجها؟ هذا إن لم نضع في حسباننا احتمالية تأثير العلاج على امكانية الانجاب لديها.. كل هذا ستعيشه وكل خطوة ستخطوها نحو هذا الزواج ستشعر بعدها أنك تغرق رويدًا رويدًا.. والعقبات ستتكالب عليك وتنغص حياتك.. فهل أنت مستعد لكل هذا؟..مراد بنيْ.. تعقل ولا تكن مغفلًا.. لا أحد ينتظر منك تضحية كهذه.. افتح عينيك ولا تكن ساذجًا غرًّا وتصرف بواقعية.. أي شخص آخر مكانك سينسحب قبل أن يتورط أكثر من هذا..ذاك قدرها هي.. فلم عليك أن تقاسمها فيه؟" رشقات متتالية من قبلها تهدف بها إلى احداث تلك الصعقة.. صعقة الإنعاش التي ستجعله يستفيق.. ولا تعلم أنها ترمي به في هوة سحيقة مظلمة تفوح منها روائح الخسة والنذالة تهاجمه وتلبسه خصلها المقيتة.. أخرسته بل جعلته أبكمًا يكمم فمه بقناع الجبن والأنانية.. لم يحاول الدفاع أو محاولة اقناعها بأنها قد تكون مخطئة في كل ما تقوله.. آثر الاستسلام لتيار توجّهه نحوه يجرفه دون إعطائه فرصة الاستعداد.. هلع وخنوع تملكّا روحه أظهرا ضعف عزيمته ومقاومته.. لم يملك قوة أو جسارة المواجهة فآثر الهروب.. لم يتحلّ بقسط ضئيل من الشهامة ليواجه الموقف وينهي ما بدأه قبل ثماني سنوات.. لم يعارضها كما لم يوافقها على ما تقول..لم يقل أنه سيستمر رغم كل هذا..كما لم يأخذ خطوة إيجابية لـ إنهائه.. لم يعطي إجابة شافية.. لكنه مدرك أنها قد أخذت منه ما تريد.. قرأته في عينيه واضحًا.. تقهقرٌ وانسحاب لا يقوى على إنكارهما..كان يدرك أنها ستأخذ المبادرة عنه لتضع نقطة النهاية للعهد الموثق على الوفاء والاخلاص.. وتفتح بعدها فصلًا آخر لبداية الانحطاط الاخلاقي وفقدان المروءة.. *** بعد أربعة أشهر.. الحياة تمضي ولا تتوقف عند أحد.. جملة نردّدها وتتردّد على مسامعنا مرّات ومرّات.. ولم يشعر بمعناها الحقيقي إلا من وقع تحت مقصلة حروفها الحادة..فلا مسار حياتنا يتوقف عند الآخرين.. ولا مسار حياة الآخرين يتوقف عندنا.. كلنا نسير غير مخيّرين في مسالك كُتبت علينا.. ولا نملك سبيلًا لـ إيقاف مُضِيّنا فيها..نحن زوّار فقط على هذه الأرض..لا نتحكم بأقدارنا..ولا نملك تغيير يومنا أو غدنا.. ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.. *** وهنٌ وتعب استحكم الاوصال.. وهواجس تصول وتجول في المخيلة الزاخرة بتصورات شتّى لا ترحم، تتصارع مع مشاهد وصور متزاحمة تعيد شريط الأحداث طيلة الأشهر الأربعة الماضية.. تتراجع للخلف تريح رأسها فوق الوسادة تسدل جفنيها المثقلين تعبًا، وحديث والدتها يصلها مع آية في غرفة المشفى التي ضمّتهن، تحاول تهدئة جموح أفكارها التي لا تستكين، وتعيدها دون إرادة لبؤرة الأحداث التصاعدية التي وكأنها قد تمردت وجمحت وانفلت عقالها من بين يديها، لتسحبها معها وتمرغ بها التراب تصدمها بقسوتها وغدرها.. " أنت متعبة يا آية وبالكاد تستطيعين التحرك، كان عليك البقاء في البيت بدل إجهاد نفسك بهذا الشكل" كانت هذه نجاة التي انضمت إليهن تعاين حالة آية ببطنها المنتفخة وهي على أعتاب الولادة، ومن خلال خبرتها العملية تستطيع أن ترى إلى أي حد يتعبها الحمل هذه المرة، حتى أنها تنهت بإعياء لمجرد مجهود بسيط تبذله وهي تستوي في جلستها.. " لا أريد أن أترك وفاء في يوم كهذا، لن يهنأ لي بال وأنا أعايش القلق في البيت" تتنهد السيدة لطيفة بيأس وهي تقول بدورها، و صوتها لم يخلو من نبرة التأنيب الذي دأبت على إلقائه على مسامعها طيلة الطريق المؤدي إلى المشفى: " بات صوتي مبحوحًا من محاولتنا المتكررة أنا ولقمان لثنيها عن المجيء، لكن رأسها أقسى من الحجر " " أخشى أن يجيئك الطلق بحالتك هذه وتدخلا معًا أنت ووفاء إلى غرفة العمليات" تمازحها نجاة فتستجيب لمزحتها وترد عليها بمزاح مماثل: " على الأقل نستأنس ببعضنا البعض.. أليس كذلك يا وفاء؟ " ترفع وفاء رأسها عن الوسادة لتنظر إليهن بعيون ذابلة وملامح رسم العلاج الكيماوي شحوبًا وسقمًا اعتلا صفحتها وأفقدها نضارتها وحيويتها، بينما تشقّ شفتيها الباهتتين ابتسامة ضعيفة وهي تقول: " لن يرضيني أن أكون السبب في ولادة مبكرة قد تداهمك يا آية، لم لا تعودين للبيت وترتاحي؟ أنت تغامرين بنفسك وبالجنين" تلوح آية بكفها بضجر من التهويل والمبالغة اللذيْن تحدثن بهما كلهن لتقول بتأكيد: " لا داعي لكل هذا الخوف والقلق من قبلكن، لن يحدث شيء.. حتى وإن حدث فلن يكون هناك مكان ليحدث فيه أنسب من المستشفى، أليس كذلك يا نجاة؟ " " في هذه النقطة أنت محقة مئة بالمئة" تضحك الفتيات بينما تهز السيدة لطيفة برأسها بقلة حيلة وشفتاها تلتويان امتعاضًا واستنكارًا، دون أن تغفل عن توجيه توبيخاتها لـ آية وتأنيبها على قلة مسؤوليتها واستهتارها بجدية وضعها.. " أخبريني.. بما تشعرين؟" تهمس بها نجاة التي انسلّت من بينهما ودنت من وفاء، تقرأ بنظرتها المتمرسة قلقًا وخوفًا مصاحبًا لـ أي حالة على أعتاب الدخول لغرفة العمليات.. تتلقى الرّد على سؤالها على شكل نظرة صامتة من قبل وفاء أفصحت عن رهبة وتردد تعايشه، لتبادرها نجاة تطمئنها بيقين عميق: " لا أريدك أن تخافي وتتوتّري، أدرك ما تشعرين به الآن، وهو شيء طبيعي.. لكني أطمئنك إلى أن عملية استئصال الورم تكون عادة أبسط من عميلة استئصال الثدي، ستكون الأمور ميسّرة فلا تقلقي" تومئ وفاء برأسها موافقة وهي غير مقتنعة ومخاوفها وقلقها لا يفارقانها، لتسألها تحاول بثّ الطمأنينة لنفس عصفت بها المخاوف: " لن تكون أكثر من عميلة استئصال ورم يا نجاة أليس كذلك؟ لن يستأصلوا الثدي كما قال الطبيب؟ " تناظرها نجاة بنظرة عتاب واستهجان وهي تهتف مؤكدة، تشد على يدها المستريحة في حجرها: " ما هذا يا وفاء؟ عليك أن تثقي بطبيبك أكثر من هذا، هل تظنينه يداهنك فقط بينما يضمر في نفسه شيئًا آخر؟ هذا لا يمكن، إنها مسؤولية لن يتقلّد تبعاتها.. لقد سبق ووعدك أنه سيبذل المستحيل ليستأصل الورم فقط والإبقاء على الثدي، وهذا ما سيحدث فـ اطمئني، وأبعدي أي قلق أو توتر قد يسيطر عليك قبل العملية، فهذا لن يكون في صالحك.. " عادت وفاء تومئ برأسها وتنهيدة مفعمة بالتعب تصدر عنها، تسترجع كلام الطبيب الذي أخذتها إليه نجاة قبل أربعة أشهر والذي أكد لها بدوره إصابتها بالسرطان، لكن تشخيصه كان أكثر رحمة من تشخيص الطبيبة الأولى، فقد أكد لها أنه لا يلجأ إلى عملية استئصال الثدي إلا في الحالات المتقدمة، ووعدها أنه سيبذل كل ما بوسعه لتقليص الخسائر، معتمدًا لها علاجًا مبدئيًا بالكيماوي لحصر الورم في مكان واحد قبل استئصاله، وها هي بعد عدة جلسات مرهقة استنزفت كل قواها وأنهكتها، تمتثل بخضوع للمرحلة التالية تحت مشاعر الرهبة والخوف، ألا وهي العملية، ورغم كل طمئنة من حولها وطمئنة بعض ممن عايشوا التجربة -سواء تجربة شخصية أو عن طريق شخص قريب لهم- إلا أن الموقف يهزم أعتى القلوب وأقواها.. *** بعد يومين.. يطلق زفرة قنوط ويأس وملامحه تنعقد بوجوم وتتكدر صفحتها بضيق لا يتحكم به، بينما يهمس بعتاب ولوم وقد اختنق صوته: " كيف تفعل هذا يا جابر؟ كان عليك الرجوع إلي أولًا" يتجاهل جابر تأنيبه ويقف بثقة أمامه يواجهه دون أن يراوده أدنى شك في ما فعله قائلًا بتأنيب مماثل: " ما بك يا لقمان؟ لماذا تعاملني وكأني غريب عنكم؟ ألست فردًا من العائلة؟" " الأمر ليس هكذا يا جابر.. أنت.. فقط.." تتقطع الكلمات من فم لقمان وقد استبد به الضيق والإحراج من نفسه، فيتململ بانزعاج مضاعف بينما يقاطعه جابر وقد احتدّت ملامحه حنقًا وكأنه قد تلقى إهانة لرجولته: " أنا ماذا يا لقمان؟ أنا ماذا؟ أنت تصر على إقصائي ووضع حدود وحواجز أمامي.. كأنك تخبرني أن لا شأن لي بكل ما يحدث معكم " تزداد زفرات لقمان الحارقة ينفثها ومشاعر حنق متفاقم تستعمر صدره بينما يقول بضيق شديد: " أنت تحرجني بفعلتك هذه يا جابر.. افهمني.. وفاء أختي ودمائي الحارة لن تسمح لي بإلقاء مسؤوليتها عن كاهلي، فأنا كفيل بتحملها وتحمل كل مصاريف علاجها لأن هذا واجبي تجاهها" يتنهد جابر بدوره باستياء متمتمًا بالاستغفار يتنازعه شعوران متناقضان: فمن جهة هو مستاء بل حانق من تهميشه وعدم اشراكه في تفاصيل ما يحدث، ومن جهة أخرى بداخله يضع ألف عذر للقمان، فنخوته الأبية لن تسمح بتسرب شعور ولو كان ضئيل إلى نفسه، يضعه في مواجهتها فتتهمه بتنصل محتمل من قبله تجاه مسؤوليته.. لكنه أيضًا ليس بليدًا عديم الاحساس ويستطيع أن يرى ما يعانيه، فحمل زوجته غير الآمن هذه المرة والذي وضعهما أمام مراقبة طبية دائمة، وفحوصات وتحاليل كثيرة قد استنزفته، لتأتي ولادتها اليوم المفاجئة والمتعسرة فتقضّ مضجعه وتشتّته، وتتركه ممزقًا بين دفع مصاريف عملية وفاء، وبين مصاريف ولادة زوجته، وقد حاول أكثر من مرة عرض مساعدته عليه وهو يراه ضائعًا والهموم تثقل كاهله، لكنه لم يكن يترك له مجالًا بل يرده فورًا، لهذا لم يجد أمامه إلا أن يضعه أمام الأمر الواقع وتكفل بمصاريف عملية وفاء دون الرجوع إليه، لتثور حمية لقمان ونخوته وهذا ليس بالغريب عليه.. يقترب منه يشدّ على ذراعيه بمؤازرة قائلًا بحزم: " ولا أحد سينكر عليك هذا الحق يا لقمان، لكن افتح مجالًا لي لأعينك على حمل هذا العبء الذي يثقل كاهلك يا أخي، اعتبره دين ترده لي بعد زوال هذه الغمة، أنا لست أعمى وأستطيع أن أرى الهموم وثقل المسؤولية الملقاة على عاتقك، فاسمح لي أن أحمل عنك بعضها يا لقمان" يراقب التكدر لا يزال يعتلي ملامح لقمان كأن كل ما قاله غير كافٍ بالنسبة له ولم يقنعه، ليقول بلؤم يحاول الضغط على نقاط لتتحول لصالحه: " أم تراك لا تزال تعتبرني ذاك الفتى الصغير عديم الفائدة الذي كنت تعطف عليه وتتذكره دومًا ببعض الدراهم من راتبك؟ " ينجح في رسم ابتسامة غيظ على شفتيه وهو يرد بحنق مفتعل: " تتحدث وكأني عجوز، والفارق العمري بيننا لا يتعدى العشر سنوات " ثم يرميه بنظراته العابسة فتصدح ضحكات جابر الرجولية، ويتردد صداها في رواق المشفى غير آبه بنظرات الاستهجان الموجهة إليه من بعض الممرضات والزائرين.. تنتقل العدوى للقمان الذي شاركه الضحك.. ضحكات رائقة مضى زمن لم يشعر بحلاوتها تجتاح صدره، كان ما مر بهم هما أثقل كاهلهم وأضناه.. بينما تنتقل يداه ليشد على عضديه بدوره قائلًا بيقين صادق: " لم تكن يومًا فتى عديم الفائدة يا جابر، بل كنت دومًا عنوان الرجولة منذ نعومة أظافرك، مروءتك وحسّك العالي بالمسؤولية كانا المحرك الأساسي لكل تصرفاتك وأفعالك..لم أحظى بأخ من والديّ لكني متأكد أنني لم أكن لأحبه وأحترمه أكثر مما أحبك وأحترمك.. " يفرك جابر أنفه وقد أصاب مدح لقمان له وتر الحياء والتواضع الرجولي لديه، فيحارب ذاك الاحمرار المباغت الذي انتفخت له أوداجه رضًا وسرورًا بينما يقول بصدق مماثل: " كنت وستظل الأخ الذي أقدره وألجأ إليه في كل أزماتي يا لقمان، وأطمع أن تفعل مثلي وتلجأ لي في أي شيء تحتاجه، هذا أقل شيء أقدمه لك " *** " هل أنت جاهزة؟ " صوت نجاة -المرافق لها طيلة الشهور الماضية كلحن رقراق يسكن مخاوفها وقلقها- يسحبها من دائرة تلك الأفكار والتساؤلات المضنية لعقلها وروحها ونفسيتها على حد سواء.. ماذا بعد كل هذا؟ وبعد كل هذا العذاب الذي خاضته وشهدت آلامه؟ أربع شهور مضنية من العلاجات خاضت خلالها معاركها الوجودية مع الحياة.. إما البقاء والقتال باستماتة.. أو الفناء باستسلام وخنوع.. ونفسها المعتلة والمحملة بجروح غدر متقرحة متأرجحة ما بين الخيارين.. لا هي ترى مستقبلًا وأملًا في الحياة يستحقان النضال من أجلهما، ولا هي راغبة في إعلان استسلامها لمجرد عثرة ومطب عرقل سير خطوها.. لكن هل كانت فعلًا عثرة طبيعية تلك التي عرقلتها؟ أم كانت ضربة قاصمة كسرت ظهر عزيمتها وبينت لها انسياقها الأعمى خلف أوهام زائلة، وتعلقها بحبال مهترئة انقطعت بها في هوة سحيقة حطمتها.. تسحب أنفاسًا مثقلة بالخيبة والخذلان لتهمس بخفوت واستسلام: "جاهزة.. دعينا نغادر هذا المكان" ترتد بنظرها عنها إلى والدتها الجالسة أمامها على الأريكة بملامحها الصامدة والثابتة والقوية.. لم تتخلف عن الحضور طيلة اليومين اللذين أمضتهما في المستشفى بعد العملية، رغم أن صحتها لم تكن تسمح بأي إجهاد أو تعب، لكنها لم تبخل بمساندتها لها وبثّ العزيمة والقوة إلى نفسها.. هل كانت ستجرؤ على الاستسلام وإعلان أن الحياة لم تعد تستحق النضال من أجلها؟ وهي ترى كل هذا الدعم والسند المتدفق دون قيد أو شرط من عائلتها.. هل هناك من يستحق أن تعود للوجود وتتشبث بالبقاء من أجله أكثر منهم؟.. طرق على الباب أعقبه دخول لقمان يسألهن: " هل أنتن جاهزات لنغادر؟ " " أجل بني، نجاة لملمت حاجيات وفاء " يهرول بخطواته مقتربًا من وفاء التي كانت تغادر سريرها فيقول لها بتأنيب: " على مهلك يا وفاء، دعيني أساعدك على النهوض" ابتسامة واهنة حانية شقّت شفتيها الباهتتين بينما تلامس ذراعه أصابعها تطمئنه بالقول: " أخي.. لقد أجريت عملية استئصال ورم فقط، وباقي جسدي لا يعاني من شيء، وأستطيع المشي والحركة بسهولة" لكنه لا يستجيب لطمئنتها وقلقه الأبوي عليها يحركه، ليحيطها بذراعها يساعدها على مغادرة السرير بينما تمسكت يده الاخرى بكفها السليمة قائلًا بحنو: " ورغم هذا عليك أن تكوني حريصة على سلامتك" " سأستغل هذا الدلال الذي تغدقون به علي أيّما استغلال، وأخشى أن تندموا على هذا لاحقًا، أنا أحذركم " تناوشه بكلماتها الواهنة تجبر نفسها على خلق جو مرح من حولها حتى تخفف من وطأة قلقهم عليها، ذراعه تدنيها منه لتستند برأسها على كتفه بينما يطبع قبلة حانية على جبينها قائلًا بحب: " أنت طفلتنا المدلّلة ويليق بك هذا، ما عليك إلا التمني ونحن هنا لتحقيق أمنياتك" تستكين للحب والاهتمام المحيط بها.. حب صامد لا يتأثر بتقلبات الزمن.. حب خالص لا مشروط يفيض صدقًا واحسانًا يغمرها ويملؤها بالاكتفاء.. تردع دمعة ترقرقت حاولت الإفلات والانسكاب على خدها لتسأله مستدركة: " كيف حال آية والصغيرة؟ " " إنهما بخير، الصغيرة لا تزال في الحضّانة لكن حالتهما مستقرة، كانت العملية متعسرة لكنها تمت بحمدالله " لتتدخل والدتهما بنوبة تأنيبها ولومها الذي لم ينتهي منذ تفاجئهم جميعًا بآية اليوم وقد جاءها الطلق، وكان يوم ولادتها المقرر لم يحن بعد لتزرع الرعب في قلوبهم جميعًا: " تلك الفتاة ستتسبب لي بنوبة قلبية وأنا أساسًا مريضة قلب ولا أحتمل الصدمات، أخبرتها ألا تجهد نفسها لكنها عنيدة ورأسها كالصخر" يغمز لقمان لوفاء بتآمر وهو يكتم ابتسامته وحالة أمهما الحانقة تحكي أنها لن تمرّر ما حدث مرور الكرام، وآية المسكينة موعودة وأمامها أيام وشهور من اللّوم والتقريع ستسمعهما حتى تنطفئ نار القلق والذعر الذي تسبّبت به لوالدتهما.. " حمدا لله على سلامتهما أخي، وأقرّ عينك بالصغيرين " تهمس له وفاء ويدها تربت على صدره، أمّن على كلامها قبل أن يلتفت لأمه يحاول تهدئة حالة الحنق التي تلبستها مجددًا قائلًا محاولًا إلهاءها قليلًا: " لقد أنهيت إجراءات الخروج يا أمي ورأيت جابر بالأسفل، جاء ليطمئن على وفاء" ينجح فعلًا في إلهائها وجذبها لتقول بدهشة: " وهل تركته بالخارج ينتظر كل هذا الوقت؟ لماذا لم تدعه يدخل؟ " تسحب وفاء نفسها لدى سماعها بـ اسم جابر وتلفتت حولها بحثًا عن الحجاب الذي باتت ترتديه، تداري به رأسها التي أضحت أرضًا قاحلة وقد فقدت كل شعرها بالكيماوي، لكن لقمان يطمئنها قائلًا: " لقد غادر، قال أن لديه عمل مهم يقوم به" تكمل ارتداء حجابها وهي تطلق نفس ارتياح لم تستطع كتمه، فلم تكن ترغب في مواجهة أي شخص ممن عرفتهم سابقًا في حالتها هذه، بالخصوص جابر، فلم تكن لقاءاتهما ومواجهاتهما المليئة بالصدامات سابقًا مشجعة..وهي ممتنة له لأنه لم يحاول رؤيتها خلال الفترة الماضية، وكان يكتفي بسؤال شقيقها أو والدتها عنها.. " هل سنذهب كلّنا ونترك آية بمفردها؟ اذهبوا أنتم وأنا سأبقى معها" تسأله والدته من خلفه وهو يسند وفاء بذراعه ويقودها لخارج الغرفة ونجاة في أثرهما، فيرد عليها مطمئنًا إياها: " انتهت وقت الزيارة أمي ولن يسمحوا لنا بالبقاء، هيا وغدًا باكرًا نأتي إليها قبل ذهابي للعمل" " هل اطمأننت إلى أنه لا ينقصها شيء يا ولدي؟ " يبتسم لقمان بحنو وذاك القلق الأمومي الذي يلمسه لدى والدته تجاه زوجته ما فتئ يزرع الرضى في نفسه ويشرح صدره، وقد تيقن من أنها قد استطاعت غرس محبتها في قلب عائلته وصنعت لها تلك المكانة التي تجعل منزلتها من منزلة وفاء في قلب والدته.. "أجل أمي هي بخير، متعبة ومجهدة، وأخبرتني أنها ستنام.. وقوانين المستشفى صارمة كما تعلمين، وقد سمحوا لوالدتها فقط بالمبيت عندها" *** وفي مدخل الحي صادفهم تجمهر لبعض الأشخاص على شكل موكب، ومن صخبهم وأهازيجهم الشعبية واضح أنه موكب" الهدية".. فاضطر لقمان لتخفيف سرعته وهو يمر بهم وعيناه مركزتان على الطريق حتى لا يقفز أحد الصبية أمامه ولا يراه.. شهقة خافتة تم كتمها بسرعة تصله من والدته الجالسة بجانبه، بينما احتلت وفاء ونجاة المقعد الخلفي.. يرتدّ ببصره عن الطريق ناحية أمه وتمرّان على الموكب، لتنخطف أنفاسه بدوره وعيناه تتعرفان على العريس صاحب الهدية المتجهة إلى بيت عروس ما.. " كيف؟.. " همسة خافتة تصدر عنه وعيناه تصطدمان بعيني أمه الكسيرتين بنظرات حزينة.. ألم يهرب ويسافر بعد فسخه للخطوبة من وفاء؟ متى عاد؟ يعود للنظر إليه يتابع تلك الابتسامة المرتسمة على وجهه، بينما تتقافز والدته وشقيقاته من حوله يتمايلن مع الأهازيج ويطلقن الزغاريد.. " هناك عرس قريب في الحي.. " تهمس نجاة بغفلة عما يدور وعيناها تتابعان فرقة الفلكلور الشعبية بصخبها وأهازيجها، تسير خلف عربة يجرها حصان وهي محملة بهدايا كثيرة تنم عن سخاء العريس وكرمه لعروسه، بينما يسير باقي الحضور خلفهم راجلين وكان واضحًا أن العروس من بنات الحي، لهذا كان الموكب راجلًا ولم تستخدم السيارات.. هي تعشق هذه الأجواء التقليدية الأصيلة وتجذبها، فتسترسل في همسها وعيناها تتابعان المشهد أمامها غافلتان عن نظرات خالتها المسلطة نحوها بتحذير تمنعها الكلام: " كنت أظن أن عادة استخدام العربات والاحصنة قد اندثرت.. أظن أن أهل العريس أحبوا أن يظهروا مدى كرمهم وسخائهم.. " كل هذا وعيناها لم تقع بعد على العريس وعائلته، فقد كانت مأخوذة بتلك الأهازيج التي تصلها بينما يتراقص أفراد الفرقة برشاقة وبوثبات خفيفة.. تنتبه أخيرًا لنحنحة خالتها المنبّهة لها لتنظر نحوها بتساؤل قابلته نظرة زاجرة منها تأمرها الصمت.. تتوتر وتتلعثم وهي لا تفهم بينما انتبهت لهما وفاء وهي توارب عينيها المغمضتين، وترفع رأسها الملقى على المسند دون أن يجذبها ذاك الصخب الذي يصلها من الخارج، فتسألهما باهتمام: " ماذا هناك؟ ما بك أمي؟.. " ترى الشحوب المعتلي لوجه أمها ولا تفهم سببه، كما ترى عبر المرآة وجه لقمان المواجه لها واجمًا مكفهرًا، ونظره مركز على الطريق يسعى للخروج فقط من هذا المكان.. " لا شيء يا ابنتي.. ارتاحي فقط" تتمتم والدتها بنبرة حملت اختناقًا مفاجئًا، بينما وجهت نظرة توبيخ وتأنيب مبطن إلى نجاة وهي ترتد عنهما وتستوي في جلستها، تخفي ما ارتسم على ملامحها من وجع على ابنتها التي خرجت توًا من العملية، ليستقبلها هذا المشهد المستفز لكل عصب فيهم جميعًا.. تدرك أنها ستعرف بالموضوع عاجلًا او آجلًا لكن ليس اليوم.. لكن القدر له رأي آخر.. يأبى إلا أن يسدّد ضربته القاضية لوفاء، فينسف كل ما بنته خلال الشهور الماضية من حصون عازلة للآلام والأوجاع ويهدمها جميعها، ويتركها عرضة لتيارات منبعثة من جحيم تلفحها.. القدر اللعوب يتسلى على حسابها ويتحالف مع أعدائها.. يأخذ بيدها ويواكبها لترى بعينيها ما لم تضعه أبدًا في حسبانها.. لقد كانت تظن أن الوجع والألم سينتهي بعد تلك الضربة التي تلقتها قبل بضعة شهور ممن ملّكته روحها وقلبها.. ضربته القاضية التي ترنّحت لها مفاهيمها لتعري عن سوء اختياراتها.. وكل منهما سيسلك سبيل مغاير لا يتقاطع مع سبيل الآخر.. ولم تضع في حسبانها أن تأتي الضربة الثانية غادرة كسابقتها ولم تستعد لها.. هل كانت لا تزال تحمل في نفسها أملًا ضئيلًا خافتًا باحتمال عودته نادمًا بعدما فعله؟.. سؤال مخزٍ ومذل لكرامتها المهدورة صال وجال في نفسها وعاث فيها الجراح متلذذًا بتعذيبها.. بينما عيناها تجمدان بنظراتهما عليه هو.. واقفًا بكل أناقته وبهائه.. يرسم فرحة مسروقة منها.. تلك كانت فرحتها.. وذاك كان موكبها هي.. كان يفترض أن يقصد بيت عائلتها لكنه غير مساره ووجهته بعد أن طمع نفسها التواقة إليه.. شتائم ولعنات خافتة نمّت عن فقدان أعصاب ونفاذ صبر تصلها من جهة لقمان، وهو يجاهد للخروج بسرعة من وسط ذاك التجمهر.. بينما عقدت الصدمة ألسنة كل من وفاء ونجاة المكتشفة توًا لحقيقة المشهد أمامها لتذهل نظراتها وتفقد كل قدرة على التعبير..بينما راحت السيدة لطيفة تحوقل وتوكل الله هو حسبها ونعم الوكيل.. وبينما تنسحب السيارة عبر بيوت الحي متجهة إلى بيتهم، كانت سيارة أخرى تتوقف على قارعة الطريق وينزل منها جابر كعاصفة هوجاء تحركه حميته ونخوته، ويتجه لذاك الوغد الذي لم يشفي غليله ذاك اليوم بضربه إياه، وعلى ملامحه ارتسم الشر ونواياه السوداء تثب وثبًا من ملامحه المكفهرة.. *** " كيف تشعرين؟ " سؤال نجاة المعاد والمكرر أكثر من عشر مرات منذ ما يقل عن النصف ساعة -وكأنها لم تقتنع بإجاباتها لها التي تؤكد لها بها أنها بخير- ينجح أخيرًا في استجلاب شبه ابتسامة واهنة على شفتيها تعزز بها ردها هذه المرة وهي تؤكد باقتناع تام: " أنا بخير يا نجاة صدقيني.. هيا اذهبي ولا تقلقي علي.. الضربة الأولى كانت موجعة أكثر واستطعت تجاوزها، وسأتجاوز هذه الضربة أيضًا، فقط امنحيني بعض الوقت" تشد نجاة على كفها المستريحة فوق الغطاء وهي مستلقية في سريرها، ثم تميل عليها وتطبع قبلة على جبينها تؤيد كلامها بثقة: " أنت أقوى مما تظهرين يا وفاء، فقط تشبّثي بعزيمتك وستتجاوزين هذه المرحلة وستبقى مجرد ذكرى واهية لن تعني لك شيئًا بعد فترة.. صدقيني.. " يقاطع استرسالها هاتفها الذي يعاود الرنين للمرة الثانية، فتتطلع إلى شاشته وأصابعها تسارع إلى فصل الاتصال بينما ظهر على وجهها بعض الارتباك والتوتر، تظاهرت وفاء بعدم ملاحظة حالتها لتحثّها على المغادرة قائلة بطمئنة: " لا تقلقي علي يا نجاة، سأكون قوية بوجود أشخاص مثلك ومثل عائلتي في ظهري يساندونني، إذهبي وكوني مطمئنة وأنا سأخلد للراحة وأنام" تجاهد نجاة لرسم ابتسامة مرتبكة تخلصها من حالتها تلك، بينما تصر وفاء على تجاهلها وهي تستوي في رقادها وتغمض عينيها، تترك لها مجالها كاملًا وفسحتها الخاصة حتى لا تحرجها بفطنتها إلى سبب ما يحصل معها، كانت تعرف من المتصل وهذا كان مفاجأة بالنسبة لها، مع أنها لم تستغرب كثيرًا ونجاة لم تتوانى عن ابداء اعجابها به.. جابر.. لكنها لم تعتقد يومًا أن يكون هناك شيء يربط بينهما.. لقد اكتشفت هذا بمحض الصدفة، ولم يكن لديها نية التجسس عندما لمحت عيناها رسالته لنجاة تظهر على هاتفها وهي داخل الحمام، تاركة إياه على السرير بجانب وفاء.. " أريد أن أراك لبعض الوقت" كانت تلك كلماته الموجزة لها وقد قرأتها غير متعمدة والتقطتها عيناها بسرعة، وهي تشعر حاليًا بالندم فهي أبعد ما تكون عن المتطفلة أو الشخص المحب للاطلاع على خصوصيات الآخرين، لهذا لم تحاول الاستفسار منها فهي تحب أن تضع حدودًا للخصوصيات يقف عندها الآخرون ولا تتجاوزها بدورها. | ||||
14-07-24, 10:43 PM | #19 | ||||
| الفصل الخامس من لطف الله الخالق بمخلوقاته أن زرع النسيان في نفوسهم.. وعلمهم سُبل التجاوز وتخطي المراحل في حياتهم.. هناك من يعتبر النسيان نقمة، لأنه يمحو كل شيء ولا يفرّق بين الأشياء الجميلة التي نحب تخليدها والإبقاء على ذكراها.. وبين الأشياء السيئة التي عكّرت صفو حياتنا وذقنا معها مرارة أيامنا..هو يأتي على كل شيء ويجرفه معه دون تمييز.. لكن الأكيد أنه لولا النسيان لظللنا واقفين عند كل ذكرى موجعة نندب حظنا ونتساءل عن السبب -والسؤال هنا لا مكان له من الإعراب- فكل شخص وكل انسان يتعرض لتجارب واختبارات في الحياة تقوي إيمانه بخالقه.. إذن فالنسيان نعمة تجنبنا الوقوف والتطلع دائمًا لما خلّفناه وراءنا.. حافز ومحرك لنا لنتقدم ونتجاوز ونبدأ من جديد.. *** بعد عامين.. لكل بداية نهاية.. جملة منطقية تحمل يقينًا عميقًا أن دوام الحال من المحال، كل صفحة نبدأ بكتابة أسطرها في هذه الحياة لابد أن يأتي عليها وقت نطويها فيه لننتقل للصفحة الموالية، صفحة نأمل أن تحمل بين سطورها هذه المرة فرحًا نطمس به حزنًا ذبلت له أرواحنا وتكدر عمق قلوبنا.. وكل صفحة نخطّها تتراءى لنا من عمق الوجع المخطوط فيها أنها لن تنطوي، وستظل ملازمة لمسار حياتنا..عنوانًا لكل أيامنا.. فنذهل بعد مضي وقت بتلاشيها في بوابة النسيان، وتواريها خلف ذاكرة المشاغل الحياتية الصاخبة.. إنها سُنّة الحياة.. يقين عميق واقتناع يغزو روحها وهي جالسة في ذلك اليوم الربيعي الندي إلى طاولة في مقهى مطل على منظر طبيعي خلاب.. بتلذذ وتروٍّ تستطعم رشفات القهوة بالكريمة كما تحبها، وتعبئ أنفاسًا معطّرة بنسيم الصباح محملة بروائح الزهور العبقة في الأرجاء، بينما تهديها الشمس أولى خيوط أشعتها فترسل لمسات دافئة مداعبة لوجهها، لتستكين لها تغمض عينيها تتشرب أوردتها ذاك الدفء الساري فيها، وتتقبلها بامتنان وحمد، فكل يوم تستيقظه متنعمة بالصحة تشكر الله عليه.. تنهيدة مفعمة بالإيمان تتصاعد بصدرها والسلام يغزوها وينشر رايات الأمل في نفسها، هكذا هي الحياة، تمضي ولا تبقى على حال.. ذاك يقينها الذي أخذ بيدها حتى تخطت كل تلك العراقيل والمراحل التي أبطأت سير حياتها لفترة من الزمن، يقين مترسخ أمدّها بالقوة والشجاعة على الكفاح والنضال ضد عدو غزا جسمها دون إنذار.. لم تكن العلاجات سهلة.. بل قاسية في كل مراحلها، مصاحبة بالآلام والأوجاع المضنية.. كم من وخز إبر تحمل جسمها؟.. وكم من ضربة مشرط علّمت عليه؟ وكم من سمّ وعلقم تشرّبته أوردتها ليميت ذاك الغازي المحتلّ لجسمها، فتموت معه كل خلاياها ويغدو جسدًا بلا لون ولا حياة، وها هي بعد معاركها المحتدمة تنتصر، وتجلس إلى نفسها في لحظات استرخاء لا تبخل بها عليها، تهنئها وتحثّها على الجلد وتمدّها بالعزم كل مرة، إنها "نفسها" الوحيدة التي تستحق نيل شرف كل انجازاتها ولها تعيش أيامها، كل ألم شعرت به كان دافعًا لها لتنهض بعده وتقاتل طامعة بغدٍ مشرق تحياه والرضى عن نفسها يغزوها، لأنها استطاعت محاربة العدو وأفنته في أرضها.. ابتسامة متألقة تنبثق من شفتيها تهدي امتنانًا واطمئنانًا لتلك القادمة نحوها، تشق طاولات المقهى وتجذب المقعد المقابل لها قائلة بحبور وحماس، وهي تجلس و تضع هاتفها وحقيبتها أمامها على الطاولة: " هل انتظرتي طويلًا؟ طرأ أمر جعلني أتأخر عنك" " لم أنتبه لتأخرك، استغليت الوقت في الغوص في تأملاتي، أنت تعلمين" تبتسم نجاة بينما تتعلق عيناها بذاك النقاء والصفاء الروحي المتجلي على صفحة وجهها، موجة ارتياح واطمئنان تجتاحها كل مرة تنظر فيها إليها، وتقرأ ذاك السلام الساكن لروحها فتسعد بقوة إرادتها التي ساعدتها على تخطي كل تلك العقبات التي صادفتها.. " أخبريني إذن.. هل أنت جاهزة ومستعدة للتطوع واعطاء كل ما لديك؟ لا أريد أن أسمع أي نواح أو شكوى حول التعب أو قلّة النوم" ترتسم نظرة مشاكسة في عيني وفاء وهي ترد عليها بمراوغة ودلال: " وهل تهون عليك حبيبتك وابنة خالتك؟ دمك أنا يا نجاة " تطالعها نجاة من بين رموشها المتوعدة وهي تقول بحزم: " وقت الجد لا أفرق بين القريب والغريب، الكل سواسية عندي.." كانت جادة في كلامها ولا تمزح، فهذه ليست المرة الأولى التي تشارك معها فيها وفاء في أعمال التطوع مع فريقها، وهذه المرة الحملة الطبية التي تجوب بعض المدن ستصل أيضًا القرى البعيدة، ليستفيد سكانها من فحص وعلاج مجاني، ونجاة تصر على أخذها معها لتندمج وتستفيد، فالتطوع في الخير يطهر الروح ويحيي الإنسانية في القلوب.. " أنا جائعة جدًا لم أفطر بعد، سأذهب لأغسل يدي وأعود بينما تطلبين لي فطورًا شهيًا.. اتفقنا؟ " تنفذ وفاء فورًا وهي ترفع يدها تشير للنادل بالحضور بينما تنسحب نجاة للحمام، وما كادت تختفي حتى انطلق هاتفها في رنين متواصل، وشاشته تضيء وتعلن عن اسم مضى زمن لم تلتقي بصاحبه.. جابر!.. أما زالا على تواصل؟ تتساءل بفضول شقّ نفسها فجأة وذاكرتها تعود لذلك اليوم الذي قرأت فيه رسالته لها من هاتفها، لم تفاتحها أبدًا بموضوعه ولم تأتي يومًا على ذكر أنها تتواصل معه، وقد عزت ذلك إلى أنها ربما تجنب مشاعر الاحراج لكليهما بحكم أنه كان متقدمًا لخطبتها هي قبلها. *** بعد يومين.. تخرج تبحث بعينيها عن زاوية خالية لتركن فيها إلى نفسها قليلًا، ترنو إلى هاتفها تستكشف الرسائل الواردة إليها وكلها-طبعًا- من والدتها ولقمان وآية، الكل لا يزال يقتله القلق عليها واهتمامهم بها لا يتوقفون عن إظهاره بشتى السبل، حتى بعد شفائها وعودتها لحياتها الطبيعية بشكل عادي، لا بل هو أكثر من عادي، سابقًا كانت حياتها شبه روتينية لا تملؤها بأي شيء، كانت تحصر نفسها في خانة الانتظار..انتظار تحقيق أحلامها.. ولم تعرف معنى السعي وراءها..معنى أن تنطلق وتنتزعها رغمًا عن أنف الزمن، بينما الآن وهبت نفسها لعمل أي شيء تقدر عليه لتكسب نفسها وذاتها، تشارك في الأعمال التطوعية وتساعد الآخرين، والأهم، قررت العودة لصفوف العلم والمعرفة تغني رصيدها بما يفيدها، وتنهي دراستها التي أهملتها كسلًا وخمولًا، أملًا في تحقيق مراتب لم تصل إليها سابقًا.. " كيف حالك يا وفاء؟ " صوت عميق بنبرة غير خفيّة تجذب انتباهها المركز على شاشة الهاتف.. لحظة سكون وتفكير تَطّلبها إدراكها قبل أن تهتدي إلى رفع عينيها، تستكشف ذاك الواقف أمامها مخيمًا عليها بطوله الفارع.. لطالما أحسّته يشكل خطرًا عليها، ربما بسبب طوله وضخامته، لكنها باتت أفكارها تتخذ منحى آخر مختلف، باتت ترى من خلاله سعادة ابنة خالتها نجاة، تلك السعادة التي تنطقها عيناها وتشع بها ملامحها، تحكي أن هذا الضخم أمامها هو صاحب الفضل بها.. ابتسامة تلقائية ترتسم على شفتيها عكست أفكارها.. ثم نهضت ترسم سماحة وترحيب لم يعتدهما من قبل منها، ورقة صوتها ولطفها يزيدان من حيرته: " جابر! كيف حالك؟ يا لها من صدفة سعيدة لقاؤنا هنا" كلمات تلقائية صادقة ألقت به في دائرة صدمة وسكون للحظات، لم يلحظ خلالها يدها الممدودة نحوه بمصافحة أخوية.. يتخلص من جموده اللحظي ليقترب أكثر تحدّه الطاولة وتفصل بينهما، يده تلامس يدها قبل أن تسحبها سريعًا وابتسامتها المتألقة لا تزال تزين شفتيها بينما يقول: " أنا بخير.. شكرًا على سؤالك.. " ثم تريث لحظة يشملها فيها بنظرة تركيز واهتمام يقرأ بها ما يمكن أن تخفيه إجابتها وتداريه عنه وهو يسألها: " كيف حالك أنت يا وفاء؟.. أراك بخير.. أعني.. " لم يختل توازن ابتسامتها بل ازداد بريق عينيها المشع وهي ترد بفخر تكمل كلامه: " المرض لم يقضي علي كما كنت أظن، بل أنا من قضيت عليه.. " أنفاسه المحشورة في صدره يطلق سراحها ليحل محلها موجة ارتياح غمرته بالرضى، وهو يرى اليقين والإيمان العميقين المزينين لصفحة وجهها المشرقة وكلماتها تعكسهما بعمق.. كان يخشى هذه المقابلة.. يعترف بهذا..لولا الحاح نجاة عليه لطيّ صفحة عمّرت طويلًا وآن آوان وضع نقطة النهاية فيها وترك كل ما مضى خلفه.. عامين تقريبًا مضيا لم يرها فيهما خوفًا من أن يقرأ استسلامًا من قبلها أصابها، لكنه كان مخطئًا.. لم يكن يعرفها بهذه القوة لتواجه ما حدث معها بصمود، وتظل شامخة بثبات لا تتزعزع ولا تتأثر بزوابع تحاول اقتلاع صمودها.. لا يكاد يتعرف عليها.. يعترف أنه قد وقف للحظات ذاهلًا عندما وقعت عيناه عليها جالسة في هذا المكان، بدت وفاء أخرى غير التي كانت، كل شيء تغير بها، حتى طريقة ارتدائها لثيابها.. وأيضًا.. عيناه تتريثان مع سيل أفكاره عند حجابها الملتف حول وجهها وعنقها: " تحجبت.. " لم يكن سؤالًا بقدر ما كان اقرارًا مصاحب بلمحة فخر سكنت نبرة صوته لم تخطئها، فتومئ برأسها مجيبة وأصابعها ترتفعان تلقائية تعدل حجابها: " الحمد لله، كانت خطوة خشيت دومًا اتخاذها، لكن الله ثبتني عليها " " مبارك عليك يا وفاء، يليق بك" تهز برأسها وحمرة الحياء تزين وجنتيها فتسأله بعفوية وتلقائية: " كيف عرفت أننا هنا؟ هل نجاة من أخبرك؟ " تندم فورًا على سؤالها وهي ترى التوتر الذي تراقصت به نظراته كأنما افتضح أمر يخفيه، فتعضّ على شفتها السفلى ندمًا توبّخ نفسها على عدم حذرها.. " أجل، كان لدي عمل في المدينة وبالصدفة علمت منها أنكما هنا، لهذا أتيت لأرا.. لأراكما معًا وأطمئن عليكما" تهز برأسها أيضًا وقد تمكن منها التوتر والخزي من نفسها لأنها أحرجته بهذا الشكل، وفضحت معرفتها بتلك العلاقة التي تجمعهما والتي أكدتها لها نجاة قبل يومين، عندما علّقت هي على تلك اللمعة المتألقة التي تسكن عينيها منذ بعض الوقت فتسألها بمشاكسة: " هل تخبرينني من له الفضل بهذه السعادة الناضحة من عينيك، وتشرق لها ملامحك بحيوية ونضارة بهذا الشكل؟..أهو فارس الأحلام المنتظر؟ " " هناك شخص أعرفه منذ فترة ليست بالقصيرة، اتفقنا أن نعطي لـ أنفسنا فرصة للتعرف على بعضنا البعض، وأن نتريث ولا نتسرع، أنت أول شخص يهمني أن تقابليه وتعطيني رأيك خاصة وأنه.. " صمتت وقد ازداد توهج وجنتيها حياءً، قبل أن تضيف وهي تطلق أنفاسًا مكتومة بـ احراج: " ينوي التقدم لخطبتي قريبًا" تعود من تلك الذكرى ليواجهها نفس الارتباك الذي سيطر على نجاة ذلك اليوم مسيطرًا على جابر، بكل ثباته وصلافته السابقة تتجلى عليه هزيمته أمام الموقف، تتذكر أنها ناوشت نجاة ذلك اليوم واتهمتها بالتكتم وأنّبتها قائلة بتذمر: " أيتها المحتالة المخادعة، تعرفينه منذ زمن دون أن تبوحي لي أو تفضفضين بلواعج الغرام الذي يؤرقك ليلًا، ما هذا يا خائنة؟ ما هذه الصداقة المغشوشة التي تجمعنا؟.. " لم تلقى اجابة على كلامها لكن تلك الضحكة الرائقة الخجولة والمختلجة بسعادة نابضة فضحتها، وكشفت عن صدق المشاعر التي تحملها في صدرها للفارس الغامض.. يليقان ببعضهما البعض.. تبتسم بحنو ولأول مرة تعترف أن جابر لم يكن بذلك السوء الذي كانت تراه به سابقًا، فكما يقولون: مرآة الحب عمياء، وهي كانت مطموس على عيونها لم تكن ترى سوى.. عبست بنفور واستنتاجاتها تقودها لذكريات محتها من صفحة وجودها ورمتها في مكب النسيان غير نادمة، بل هي نادمة لأنها خُلقت من الاساس.. تلمح نجاة قادمة كطوق نجاة فعلًا ينقذها من هذا الموقف المحرج الذي وضعت نفسها فيه، لتسارع الى الانسحاب وإخلاء الساحة لهما قائلة بلطف ولباقة: " ها هي نجاة قادمة، لقد سعدت بلقائك، أتمنى أن تأتي لزيارتنا عندما تعود لمدينتنا، بعد إذنك، فلدي عمل أقوم به.. " انحناءة خفيفة من رأسها دون أن ترفع عينيها المطرقة بتهرب، تلاها انسحابها الفوري قبل أن يرد وداعها له تاركة الفرصة لهما لينفردا ببعضهما. *** " لم تفارقك عيناه منذ أن جلسنا" تعلق نجاة بمكر وضحكة تسلية تغالبها، لتنظر إليها وفاء بـ اجفال تراقصت له عيناها لم ينطلي على نجاة ودهائها: "ماذا؟.." تضيق نجاة عينيها بشك وهي لا تصدق عدم الفهم الذي ترسمه لتجيبها بجرأة أكبر: " أعني كمال.. لم يتوقف عن ملاحقتك بعينيه منذ أول يوم، حتى أنه سألني إن كنت مرتبطة" تلوي وفاء وجهها بعبوس وهي تزجرها قائلة: " توقفي يا نجاة ولا تكوني سخيفة، أنا أعلم أنه لم يسألك عن شيء" تضحك نجاة بغبطة وكأنها وجدت ضالتها وهي تقول بمداهنة: " إذن فأنت تلاحظين نظراته إليك والاهتمام البادي نحوك؟ هيا اعترفي" زفرت وفاء بتأفّف بينما تكدرت صفحة وجهها بـ استياء عارم، وتلك المنطقة التي تحاول نجاة جرّها إليها تشكل منطقة حساسة بمواضيعها وترفض الخوض فيها. لا تنكر أنه لم تفتها نظرات اهتمام الرجل منذ أول يوم، لكنها أيضًا تتعمد تجاهلها فهي لا تزال تناضل من أجل العيش لنفسها والاكتفاء بها، واحتمال دخول شخص ما لحياتها بهذه الفترة غير وارد، هي لا تعرف عنه شيئًا وهو أيضًا لا يعرف.. يكفي أنه لا يعرف شيئًا عن مرضها الذي حتى وإن تراجع حاليًا، إلا أنها لا تزال تواضب على العلاج والمراقبة الطبية واحتمال عودته لا يزال واردًا، وهي لا تريد أن تدخل لـ أي تجربة خاصة وأن تجربتها الأولى والوحيدة تركتها محطمة زاهدة في كل شيء.. يطول صمتها وعينا نجاة تلاحقان اختلاجاتها وتعاقب تعابير وجهها لتسألها بلطف: "ما بك يا وفاء؟ لماذا تضايقت بهذا الشكل؟ لقد كانت مجرد مزحة" تطلق تنهيدة مفعمة بـ الاسى وهي ترد عليها قائلة: " لم أتضايق منك أنت يا نجاة.. أنا فقط.. أنا لا زلت أحاول العودة لحياتي السابقة، وأي شخص سيحاول الدخول إليها الآن سأكون مذنبة وآثمة بحقه، وأنا لا أريد أن أظلم أحدًا، فرجاء مثل هذه المواضيع لا أريد الخوض فيها سواءً كانت دعابة أو جدية" " لماذا تقولين هذا يا وفاء؟ أي إثم وأي ظلم؟ هل تنوين دفن نفسك والعيش وحيدة ما تبقى من حياتك؟ " " كمال ذاك.. هل يعرف بمرضي؟ " تسألها وفاء فجأة بحزم وتحدٍّ تجابه أي مناورة منها لإخفاء ما لا يمكن إخفاؤه، فتطالعها نجاة بعدم فهم وكأنها تحدثت بالالغاز وهي تسأل: " لماذا تتكلمين وكأن مرضك معدٍ أو يشكل خزيًا وحرجًا لك، إنه مجرد مرض ككل الأمراض الأخرى، وأنت بحمد الله قد تعافيت منه، فلماذا تصرين على جعله عقبة تعترض سير حياتك؟ بينما يجدر بك نسيانه والالتفات لحياتك ومستقبلك" " لست أنا من يعتبره عقبة.. " تغمغم بعبوس تلتقط هاتفها تدفن فيه وجهها لتهرب.. تهرب من موقف ومواضيع تجلب لها الاوجاع والاحزان، لكن نجاة كانت لها بالمرصاد وقد أقسمت أن تجعلها أقوى من أي موقف تتعرض له: " ماذا تعنين؟ هل ستطلقين أحكامك المسبقة قبل التجربة؟ " زفرة حارة مفعمة بوجع مدفون سببه جرح متقرح لم يندمل.. وكيف يندمل؟ وهو يشق الروح ويبتر الكرامة وعزة النفس.. ناشرًا مشاعر خزي وخذلان أنهكا كاهلها المثقل.. " أي تجربة يا نجاة؟ أي تجربة؟ إذا كان الشخص الوحيد الذي تعلق به قلبي ومنحته كل وجودي، مانحًا إياي وجوده كذلك وكل كينونته، مقسمًا قسمًا ويمينًا ألا يتخلى عني مهما كانت الظروف، قد اعتبر مرضي عقبة في وجه سعادتنا، فكيف أصدق أن شخصًا غريبًا بالكاد أعرفه سيكون أكثر تفهمًا وعميقًا بتفكيره؟.. بربك يا نجاة" تراقب نجاة انتفاضتها بهدوء واحتواء كبيرين، متفهمة لما يصيبها من نوبات عصبية تتملكها، فما مرّ بها ليس بالهيّن أبدًا وهي فخورة بها لـ أنها استطاعت تجاوز تلك المرحلة من حياتها.. تطلق أنفاسها بهدوء وهي تقول بتروٍّ وصبر: " وفاء ألم تفكري قبلًا أن الله قد أراد لك الخير عندما أظهره على حقيقته؟ هل تدركين أن تلك العلاقة التي جمعتكما لثمان سنوات دون ضوابط الخطبة الشرعية محرمة وقد نهى الله عنها في كتابه الكريم؟ وتعتبر بابًا من أبواب التجاوزات الشرعية المحرمة التي قد تحصل بين الرجل والمرأة، من يرضى على نفسه أن يعرض الفتاة التي سيرتبط بها لمثل هذه التجاوزات لحسابه الشخصي فليس رجًلا، ولن يكون أمينًا عليها ولن يصونها كما يجب..لم أخبرك بهذا سابقًا ليقيني أنك لن ترضي أن تسمعي أي كلمة قد تسيء إليه، كما أنني لم أرغب في التسبب بالحزن لك، لكني لم أرضى يومًا عما يحدث بينكما.. كنت أراه يستغلك وأنت راضية" لم تظهر وفاء تفاجؤها من كل ما قالته فقد أدركته متأخرة، ما حدث معها جعلها تدرك حقائق ومفاهيم كانت غائبة عنها، جعلها تغوص وتقرأ كتب الفقه والدين وأحكام الشرع في ما كان يجمعها بمراد، لم تكن تأخذ كلام لقمان لها سابقًا عن حكم الشرع في تواصل الفتاة برجل أجنبي عنها على محمل الجد، كانت تضع لنفسها حجج وذرائع واهية حتى وجدت نفسها ممن يتهاونون بالمحرمات، فيستبيحون صغائر المعاصي غافلين عن أنهم بهذا سيرتكبون رويدًا رويدًا كبائرها.. " اسمعيني جيدًا يا وفاء..نحن لا نكيل الناس بمكيال واحد.. ليس معنى أن هناك أناس يتمتعون بقدر وافر من النذالة والخسة تسببوا لنا بالآلام أن يكون كل البشر مثلهم.. كل شيء في هذه الحياة يوجد فيها الصالح والطالح.. والحمدلله فالخير قد خلقه الله في هذه الحياة وخلق معه الأمل.. فلماذا نيأس من رحمته؟ كمال فاعل جمعوي عايش حالات كثر لمرضى السرطان وغيرها من الأمراض، وهو شخص مثقف وواعٍ ولن يفكر بتلك الطريقة الرجعية المتخلفة التي تصفين، هناك حالات كثيرة من مرضى السرطان تعافوا من المرض وعاشوا حياتهم بشكل عادي، هناك من تزوج وأنجب الأولاد.. فقط ضعي ثقتك بالله ولا تيأسي، وتوقفي عن هذه الأفكار التشاؤمية الغبية" تطالعها وفاء معجبة -رغم كل أفكارها السوداوية- بذاك اليقين والثقة اللذيْن تجيد بثّهما في نفسها دائمًا، لن تستطيع إنكار فضلها على ما وصلت إليه من بعد الله، فلولا وقوفها بجانبها ومساندتها لكانت ربما استسلمت وأعلنت هزيمتها، لكن هذه الفتاة القوية أمامها لم تترك لها الفرصة لذلك. لم تعقب على كلامها.. لم تقتنع به لكنها أيضًا لم تجد القدرة على نقاشها ومحاولة افهامها لوجهة نظرها. *** بعد أسبوع.. تجلس في غرفتها وشعور كاتم بالضيق والاختناق يحتلها، أنفاسها تتثاقل في صدرها وتأنيب ضمير وندم يناوش عزيمتها ويضعفها.. كيف سمحت بهذا؟ كيف طاوعتها نفسها لتنصاع وترضخ في الأخير وتمشي في هذه المهزلة -كما أسمتها نفسها العليلة- المدبرة بحقها؟ هي لا تعرف.. وهل كانت تملك خيارًا آخر؟ ووالدتها ولقمان قد استلماها ومارسا عليها كل أنواع الضغط العاطفي الذي يتقنانه وتضعف لهما أمامه..ونجاة تلك.. رأس الحية المدبرة.. تقسم أنها ستجعلها تندم.. كيف ذلك؟ هي لا تدري.. لم يمضي سوى يومان على عودتهما للبيت حتى فاجأتها بما تضمره لها في نفسها.. "عريس يريد التقدم لخطبتك.." جملة ألقتها عليها وفرّت كأنها ألقت قنبلة موقوتة انفجرت عليها وفجّرتها، وتركتها لوالدتها ولقمان يلملمان أشلاءها.. " قابليه فقط وتحدثي معه، لا أحد سيجبرك على شيء" "أعطه فرصته يا وفاء، هذا حقه المكتسب، ما دام قرر طرق باب الاصول ودخل البيت طالبًا الحلال" " لن نستطيع رده " وغيرها من العبارات المبتزّة والملغّمة والتي تجرّدها من أسلحتها الدفاعية وتتركها عرضة للضعف والاستسلام.. كانت أشبه بالفريسة التي تقترب من المصيدة وروح المؤامرة والمكائد تعبق روائحها من حولها، كلهم تحالفوا عليها.. كانت ترى تلك النظرات الصامتة بينهم والمليئة بكلام كثير لا يفهمه سواهم، يحيطونها بغلالة الجهل والغفلة عما يدبرونه لها، وها هي تنصاع في الاخير وتقرّر تنفيذ مطلبهم، ونفسها تُضمر انتفاضة أخيرة لها تثبت بها أحقيتها في اختيار الطريقة التي ستعيش بها حياتها.. " هيا يا وفاء، الرجل ينتظر" صوت نجاة الهاتف وهي تدلف لحجرتها يخرجها من لجّة تلك الهواجس والافكار التي تقض مضجعها، فيزداد عبوسها ولا تتوانى عن توجيه نظرات غيظ واتهام لها وبداخلها تتوعدها ألا تمرّر لها فعلتها هذه بسهولة.. تمرّ بها وهي تقرأ روح الدعابة والمشاكسة التي تلبستها وكأنها مغتبطة بهذا المأزق الذي حضّرته لها، فاكتفت بتنبيهها واعدة متوعدة: " لن أسامحك على هذا" لم تؤثر بنجاة وهي تهز بكتفيها بخفة، فهي مستعدة لفعل أي شيء لتخلق السعادة لها حتى وإن كلفها هذا ابتعادها عنها.. " وأنا لن أطلب أن تسامحيني يا وفاء..لم أفعل ما فعلت إلا لـ أني أحبك" تفحمها بردها ويقينها من صدقها، فتتجاوزها تخشى على حنقها منها أت يخفت قبل أن تأخذ حقها منها.. تقف أمام مدخل غرفة الضيوف تمنح نفسها فرصة أخيرة لمراجعة قرارها، وكأنها تملك البثّ فيه وهي أساسًا مساقة وقد أخذت على حين غرة وزجّ بها هنا في لحظة غدر.. كانت شبه متأكدة من يكون العريس، لكنها لم تعتقد أبدًا أن يتهور ويتسرع بطلب يدها في مثل هذا الوقت القياسي، وهو بالكاد تحدث إليها بضع كلمات موجزة على سبيل التحية.. لابد أنه مندفع أهوج وهذه النقطة ستساعدها في إبراز أسباب رفضها.. تسمي بـ الله ثم تتحرك بخطوات متمهلة هادئة ورأسها مطرق إلى الأرض، لا تنوي منحه أي فرصة لـ اظهار أي نوع من الشفقة أو التعاطف اللذيْن باتت تكرههما، فما تنوي اخباره به لن يأخذ وقتًا طويلًا، فهي متأكدة من أن أيًا من عائلتها قد أخبره بمرضها، وبمجرد أن يعرف هذا سيقرر الانسحاب من تلقاء نفسه.. " السلام عليكم.. " ألقت التحية بنبرة حملت بعضًا من نفاذ صبرها ولم تنتظر أن يكمل تحيته محمحمًا يجلي صوته، لتبادره بالقول دون مقدمات: " هل أخبروك عن مرضي والعلاجات التي لا زلت آخذها" صدى أنفاس متلاحقة بتفاجؤ تتمازج مع أخرى محتدّة من قبلها تحكي انزعاجًا وعصبية لا تكاد تتحكم بهما.. " لست بحاجة لـ أن يخبرني أحد بشيء يا وفاء، فما يصيبك ينفذ مباشرة إلى روحي وقلبي يصيبهما ويشاركانك آلامك وأوجاعك" كلمات سلسة عميقة تخترقها.. عيناها تجمدتا في محجرهما جاحظتان بصدمة وعدم تصديق.. تلك النبرة.. ذلك الصوت.. تشهق ذهولًا وعيناها ترتفعان لتقابلها وقفة جابر الواثقة.. يتصدى لتفاجؤها وصدمتها بعنفوان وخيلاء صامدين.. يهديها أكثر من مجرد دليل على عدم تلاعب خيالها بها.. يهديها يقينًا راسخًا مترسخًا أنه على العهد باقٍ.. حتى وإن كان عهدًا بطرف واحد مع تعنتها وصدّها الدائم له.. تتراجع لا إراديًا خطوة للوراء ودوار مداهم يتملكها، بينما يغشى ضباب خفيف الرؤية لديها.. " جابر!.. " همسة بـ اسمه انسلخت وانفلتت من بين شفتيها كـ إقرار لحقيقة تواجده وليست تتوهم، فتتجاوب معها نفسه التواقة وكلمات تلقائية من صميم روحه المدلهة تنساب وتغرقها: " ويح جابر! أي حظ كتب له أن يسمع أخيرًا وقع اسمه كيف يكون ممن ملكت كيانه؟ " صدمتها لا تزال تسمرها مكانها بينما تغزوها كلمات تغزله بها السلسة، فتخترقها اختراقًا تزيد من تشتّتها وضياعها.. " كيف؟!.. " همسة أخرى تطلقها دون تفسير لها، فيسارع إلى الرد بما أسعفه به قلبه الولهان: " ألا ليت هذه الشفاه التي تعطّفت على حروف اسمي تضمها بين ثناياها.. تتعطف على هذا الملهوف بصدري تمنحه الحياة بـ إعلانها الرضى والقبول" غزله يستفيض ويفيض بين جنبات صدره يغمرها.. ورده فاق توقعها.. خارق لكل منطق في عرفها.. ونجاة؟!.. لم تطرح تلك الـ كيف إلا كسؤال على هذا.. هي تعرف بحضوره؟ كيف ذلك؟ ضباب وتشوش طغى على كل تفكير لديها حتى باتت لا ترى أمامها أي شيء، الموقف هزمها ولم تستطع الصمود أمامه طويلًا فهربت.. لاذت بالفرار لأنها أحست بنفسها محاصرة.. اندفعت تخرج من غرفة الضيوف بخطوات متعثرة.. وشت بكمية التخبط والمشاعر المزعزعة المرتجة بكيانها.. تلاحقها عيناه بلوعة وحسرة ووجيب قلبه يفضح زلزال المشاعر بصدره عبّر عنها بتنهيدة حارة محترقة .. زوج من العيون المترقبة تلاحق هرولتها وخطواتها الناهبة للدرج بوجهها الشاحب كأنما رأت شبحًا، فيتنهد لقمان متبادلًا نظرات احباط مع والدته قبل أن يتحرك نحو القاعة يستطلع الوضع من جابر.. جابر الذي كان لا يزال واقفًا مكانه، ملامحه المبهوتة تحكي أنه لم يتوصل للتحدث معها حتى، ليحاول إقناعها بصدق مشاعره.. يدنو لقمان منه مربتًا على ذراعه بمؤازرة وهو يقول بلطف: " امنحها الوقت لتستوعب، أنت أصريت على ألا تعرف هويتك حتى لا ترفض مقابلتك" واصراره لم يأتي بأي منفعة، فها هي تلوذ بالفرار وتقطع عليه الطريق الذي مهّده طويلًا دون طائل.. نفسه تسخر منه وتستهزئ وقد كان يظن أنه سيستطيع احتواء صدمتها وجعلها تسمع ما لديه، لكنه كان متفائلًا بزيادة.. ابتسامة جامدة ترتسم على شفتيه وهو يلتفت للقمان يؤكد له بقين عميق: " سأمنحها العمر بـ أسره يا لقمان فقط لترضى، وأنا لن أستسلم بهذه السهولة، لا يزال هناك جولات ومناورات.. لن أمكنها من رؤية استسلامي وانسحابي بتلك السهولة، بل إن استسلامي وانسحابي في عرفي يعد سقوطًا ما بعده قيامة، وهذا القلب الصامد كل هذه السنوات لن يتنازل عن فرصته ولو على فنائه.. " *** باندفاع تدلف الى غرفتها لاهثة بملامح مصدومة كأنما رأت شبحًا.. تناظرها نجاة بحاجبين مرتفعين وحالتها تسترعي انتباهها وتثير حفيظتها: " كيف لم تخبريني؟.. " سؤال مشتّت ضائع يصدر عنها لتزداد حيرة نجاة فتسألها: " أخبرك بماذا؟ " تساؤلها وحيرتها يثيران الشك في نفسها.. هل تعلم حقًا أن العريس هو جابر؟.. " جابر.. تقدم.. لخطبتي.. " تتقطع الكلمات من بين شفتيها بتلكؤ تنتظر أن ترى دليلًا يؤكد لها أن ما اعتقدته طيلة الفترة الماضية لم يكن من نسج خيالها.. تلهث وعيناها شاخصتان إليها تقرأ ذاك الالتواء الممتعض على شفتيها، وتلك النظرة الناقمة وهي ترد بنزق وغيظ: " لا أعرف ماهية تلك اللعنة التي أصابته ليتشبث بك بهذا الشكل.. هل أنت متأكدة أنك لم تلجئي للسحر الأسود لتوقعي به؟ " كلمات نزقة تحمل دعابة بين طياتها لم تستوعبها لتهمس مبهوتة: " أنت تعلمين؟.. كيف هذا؟ لقد كنت أظن أنكـ.. " تبتلع بقية كلماتها بينما تناظرها نجاة بتوجس وشك تسألها: " كنت تظنين ماذا؟ " " أنك وجابر.. " تركت الجملة أيضًا معلقة دون تفسير لم تكن نجاة بحاجته لتدرك ما تعنيه، فتنطلق في ضحك عابث مجنون غير مصدقة المنحى الذي اتخذته بـ أفكارها.. " أنا وجابر ماذا؟.. لا أصدق.. " تستغرق في ضحكها مجددًا لتهتف بها وفاء بـ اندفاع تملكها لثانية من الزمن: " أنت بنفسك أخبرتني أن هناك شخص بحياتك" توقف نجاة ضحكاتها وتناظرها بحاجبين مرتفعين دهشة وتسألها: " ولماذا تفترضين أن ذاك الشخص هو جابر؟ " " أنت على تواصل معه.. أنا أعرف.. " تتلاشى الكلمات من فمها وتخفت تدريجيًا بينما تطرق برأسها حرجًا وخزيًا وقد كشفت تلصّصها على هاتفها ذاك اليوم، فتباغتها نجاة الاستجواب وهي تضيق عينيها فيها بشك تسألها بشر نابض من عينيها: " وكيف عرفت؟ هل كنت تتجسّسين يا وفاء؟ " تنكس وفاء برأسها تخفي خزيها بينما تعبس ملامحها وفمها يلتوي ممتعضًا وهي تقول بـ اعتراض: " لم.. لم.. كيف تتهميني هكذا؟ لقد.. رأيت اتصاله بك بالصدفة.. ثم.. لقد.. جاء لرؤيتك ذاك اليوم.." عينا نجاة تضيقان أكثر وأكثر وهي تتحرك نحوها، يتلبسها دور المحقق الباحث عن دلائل واستفسارات.. " أولًا من سابع المستحيلات أن يحدث شيء بيني وبين جابر، ليكن هذا في معلومك، لأنه ببساطة رجل وفيٌّ لمشاعره الصادقة.. الحب عنده شيء مقدس لا يمس.. عقيدة يتشبث بها ولا يحيد عنها.. وأنا لست مجنونة لـ أتعلق بشخص كل شيء فيه يفصح عن الفتاة الوحيدة التي ملكته بكل جوارحه ولن تحتل غيرها مكانها..ثانيًا وهذا هو الاهم.. لماذا لم تتحدثي معي بهذا وتسأليني لـ أدحض لك كل ظنونك وشكوك؟.. هل شعرت بالغيرة؟" تنفرج شفتاها وتتسعان استنكارًا تؤازرهما ملامحها المستهجنة وهي تنظر إليها تهتف بغير تصديق: " الغيرة؟! ولماذا أشعر بها؟ " تهز نجاة كتفيها ببساطة وتقول: " ربما تشعرين في قرارة نفسك أن جابر ملكية خاصة لك، تعلقه الشديد بك ومحاولاته المستميتة لنيل رضاك تجعل عقلك يستسلم طواعية إلى أنه لن ينظر لغيرك .. " شهقة عدم تصديق تطلقها وفاء بينما تتوقف نجاة أمامها تواجهها بنظرات ثاقبة تستشف كل دليل يؤكد كلامها.. " لم يأتي لرؤيتي ذلك اليوم كما تزعمين.. بل قطع كل تلك الاميال ليراك أنت.. ولم يكن لديه أي عمل بالمدينة حينها.. بل قد سافر خصيصًا لعلمه أنك فيها.. هل هناك شيء آخر تريدين معرفته؟ " تدفعها دون رحمة أو شفقة تلقي بها في طوفان معلومات خافية عنها تغرقها.. حقائق مطموسة تتكشف لها تخرسها بصدمة وينعقد لها لسانها.. بينما نظرات نجاة المتفحصة والمستكشفة لا تفارقها تبحث عن شيء لن تهنأ قبل أن تجده، فتستمر في استدراجها لتسألها بغتة دون مواربة: " صدقًا يا وفاء.. أريد أن أعرف ماذا كان شعورك عندما اعتقدت أن هناك ما يربطني بجابر؟ " تبادلها وفاء نظراتها المستكشفة بواحدة أخرى تائهة وحائرة عكست ما بداخلها.. بماذا شعرت عندما اكتشفت أنهما على تواصل؟ لا شيء.. أو ربما شعرت لكنها لم تبالي به، فهي لم تضع في حسبانها أبدًا أن يكون جابر لا يزال متشبثًا بها بعد كل ما حدث.. " هل شعرت بالغيرة؟ " تعيد طرح سؤالها كأنها تبحث عن الدليل في مواطن خفية تجيد إخفاءها، فتتلقى نظرة منتفضة من عينيها حملت رفضًا وعدم تقبّل، فتتعمق في البحث أكثر وهي تسألها بتحذير مبطن: " أم تقبّلت احتمال علاقتنا بسماحة نفس وإيثار غبيان؟ " تصلها زفرتها المنزعجة وهي تطرق بعينيها تأكيدًا لسؤالها، فينتفض الغضب في نفس نجاة من جحودها ونكرانها.. " هل أنت عمياء وغبية؟ أم تدعين هذا فقط لـ أنه بجلب الراحة إلى نفسك وضميرك؟ ألا زلت غير مدركة لعمق المشاعر التي كان يكنّها لك جابر ولا زال؟ أيتها الغبية.. ألم تلاحظي تعلقه بك منذ أن كنّا صغارًا أطفالًا نلعب سويًا؟ لقد اتهمته بـ التخاذل والخنوع لـ أنه كان يتركك تضربينه بـ ادعاء أنك أكبر منه، ألم يخطر لك أنه كان يضعك في منزلة أعلى من أن تُمس؟ كان يتشاجر بعنف مع الجميع ويأتي عندك ويتحول إلى شخص آخر مسالم وهادئ..ألم تسألي نفسك عن السبب؟ أم أنك كنت معمية على بصرك لم تلاحظي أي شيء من هذا؟ هل لديك علم بما فعله بالوغد مراد انتقامًا لك منه؟.. لقد تم توقيفه من قبل الشرطة لأنه اعتدى عليه بالضرب، قام بضربه مرتين.." توقف سيل التوبيخات والاتهامات تقتطع وقتًا ترفع فيه إصبعيها السبابة والوسطى علامة اثنين قبل أن تنطلق مجددًا بتحفز أكبر: " مرتين اثنين..من أجل ماذا فعل كل هذا؟ من أجل جحودك وعدم تقديرك لكل ما يقدمه لك..من أجل طفلة حمقاء معتوهة لم تقدر قيمة مشاعر نقية ثمينة قلّت في هذا الزمان وأصرت على نكرانها وعدم الاعتراف بها.. رغم كل قسوتك وجبروتك معه سابقًا لا يزال وفيًا مخلصًا لحبك في قلبه.. وأنت ماذا فعلت مقابل كل هذا؟.. لا شيء.. تتقبلين احتمالية ارتباطه بغيرك ببرودة أعصاب مستفزة.. أي جاحدة أنت؟.. أنت لم تضعيه في اعتبارك أبدًا وهو قد اعتبرك كل وجوده وكينونته" تنهي نجاة ما لديها وتستقطع وقتًا تلتقط فيه أنفاسها المهتاجة غيظًا واستفزازًا، وملامحها تحكي فقدانها لآخر ذرة صبر تملكها على تصرفات وفاء.. وفاء المبهوتة والمشدوهة بصدمة متجلية على وجهها تقف بجمود، تتلقى كل ذاك اللوم والتقريع فيتسربلان في نفسها ويحدثان التأثير الذي تسعى إليه نجاة.. من أين لنجاة أن تعرف بكل هذا وهي جاهلة له؟ هل كانت هي الوحيدة التي ترى جابر من منظور يسيء إلى رجولته ومروءته بينما الجميع كان يراه عكس ذلك؟ هل كانت مشاعره الصادقة والقوية نحوها متجلية لهم بينما هي كانت تراها شيئًا آخر مهين لشهامته.. لا تعرف تحت أي مسمى يندرج.. حب للأذى ربما..أو محاولة لـ افساد علاقتها مع شخص آخر.. ألهذه الدرجة كانت عمياء البصر والبصيرة؟. | ||||
17-07-24, 09:06 PM | #20 | ||||
| مرحباً سعيده انير تشرفت فيكِ يا حلوووه ❤ نوفيلا جميله جداً ولذيذذذه وممتعه ومفيييده فعلاً فيها دروس وقيم❤ بصراحه ما قرأت روايتك السابقه والتابعه لها ،انما قرات النوفيلا منفرده وجداً اعجبننني ما خطت يداكِ وهذا الشي يشجعني ويخليني اروح ادور رواياتك السابقه ❤ معك معك حبيبتي للنهاية النوفيلا المميزه وبرواياتك القادمه بإذن الله❤ | ||||
مواقع النشر (المفضلة) |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|