14-06-24, 10:48 PM | #1 | ||||
| أَعِدْ إليّ بسمتي أَعِدْ إليّ بسمتي نهى الجنحاني السّلام عليكم و رحمة الله عزيزي القارئ، تخيّل معي للحظة، فتاة تركها خطيبها قبل ليلة من زفافها، ثمّ سافر مختفيا دون أن يتواجها مرّة واحدة.. ثمّ و بعد أربعة سنين.. تضيق الدّنيا بما رحبت حول هذه الفتاة، و لا تجد منقذا لها سوى هذا الرّجل... لو كنتَ مكان هذه الفتاة، هل ستذهب لتترجّاه طالبا للعون؟ و لو كنتَ مكان الرّجل، هل ستقبل بتقديم العون؟ لحظة واحدة عزيزي القارئ، لا تأخذكَ حَمِيَّةُ الكبرياء، و لا تحكم دون أن تفهم أو تسمع، فأنتَ لم تعرف بعد ما عاشته « حنين » بطلة روايتنا. و لا تتسرّع عزيزي القارئ، و يأخذك سوء ظنّك بالاثم، و تتّهم الرّجل على رحيله دون أن تفهم، فأنتَ لم تعرف بعد ما عاشه « أحمد » بطل روايتنا. فلا أنتَ شاهد على ما عانوه، و لا أنتَ مشاهد لما عاشوه، لكن إن أردت.. تعال آخذكَ معي في رحلة حكايتهم، لترى ما رأوه و تكون عليهم شاهدا، ثمّ أخبرني حين تنتهي من القراءة، لو كنتَ مكانهم، ماذا كنتَ ستفعل؟ هذه القصة جديدة وحصرية لشبكة روايتي الثقافية، ولا أحلل نقلها أو نقل فكرتها أو نشرها في أي مكان بدون علمي. المقدمة _ لتكريم مركز " شفاء" لعلاج المخدرات، يُسعدنا أن نستدعي للمنصة طبيبتنا الشابة "حنين الصادق". وقفت "حنين" تفتحُ هاتفها بآخر القاعة بينما تبحث كل الأعين عنها، أصواتُ التعجب التي تناديها لم تخترق أذنيها وهي تفكر بشخص فقط، تتّصل بأكثر شخص تمَنّت أن ترى نظرة الفخر في عينيه بتلك اللحظة، ضغطت متصلة ما بين ابتسامة تتسع ودموع تنهمر، مع كلّ رنين تنتظر ردّه حتى بدت لها ثواني الانتظار دهرا، فقد أقسمت أن لا تسمح لأحدٍ أبدا أن يقدم لها التهاني قبله، ولا حتى أساتذتها أو زملائها الذين كانوا الداعمين الأولين لها بنجاحها. _أبي. قالت حنين ببهجة ما أن رد على الاتصال، غزَت الدموع عينيها مردفة: _أعلم أنك حلمت بالوقوف معي بيوم كهذا، لقد فعلتها يا أبي، لقد تمّ تكريم مركز العلاج الذي أديره منذ قليل على مساهمته في ارتفاع نسب الشفاء من المخدّرات في البلد بالسّنة الأخيرة، لكنني لم أسمح لأحد منهم أن يهنئني قبلك. تدفقت الكلمات من ثغر حنين ما بين ابتسامة ودموع منفعلة، دموع سعادتها بنجاحها وهي تنتظر كلمات التهاني من والدها الذي لطالما حلم أن يراها تقف بموقفها هذا! لكن ما هذا الصمت؟ لماذا لا تسمع صوته الفخور؟ أهو يبكي فرحا وما عاد يستطيع النطق؟ ءأخذ زهوّهُ بها صوته؟ _أبي! سألت ناظرة نحو شاشة الهاتف بابتسامة مضطربة، قبل أن توقع الهاتف من يدها بآخر القاعة ليلتفت جميع من يبحثون عنها نحوها، بعضهم ينظر بقلق والبعض الآخر بفضول وفقط عيني امرأة متقدّمة بالسن يجلس بين ذراعيها طفل صغير تنظر بفهم وتفهّم، فقد.. فقد أغلق والدها بوجهها بدون أن يعلق بكلمة! لكن لما هي متعجبة؟ لماذا يرتعش كل جسدها يتأوّه ألما؟ ألم يُغلق الهاتف دائما بوجهها أيضا منذ سنين؟ حتّى أنه لم يكتفِ بالهاتف، بل وأغلق عليها باب بيته وصدره؟ إذا على ما تتألم؟ لما تشعر أنها المرة الأولى التي يواجهها بصمته؟ أتتها الإجابة على شكل خاطرة فابتسمت بألم، طبعا! فحنين كانت واثقة من أنه سيلين اليوم، ظنّت أنها إن حققت حلمه بعملها ليلا نهارا أنها ستكسر عناده فيفتح لها أبوابه، لكن كيف تنسى عناده وعنفوانه؟ هل بضع سنوات كانت كافية لجعلها تنسى طباع والدها؟ رفعت حنين عينيها على أصوات عديدة تناديها، منها أصوات قلقة من الدموع التي تنهمر من عينيها، ومنهم من علاهُم الاستغراب لوضعها وقد انتظر الجميع رؤيتها تحلّقُ الآن بعد أن بلغت هدفها، لكن من أين لهم أن يعلموا أن حنين بينما بلغت ذروة النجاح بلغت ذروة الفشل في نفس اللحظة؟ فمن قال إنها أرادت النجاح لأجل النجاح؟ حامت بعينيها على كلّ أصدقائها الذين وقفوا ينظرون إليها بقلق حتى توقفتا أخيرا على الصّف الأول من القاعة، فارتسمت على ثغرها ابتسامة مضطربة حين رأت نسرين أختها تنظر لها بتساؤل وقلق، ثمّ اتّسعت ابتسامتها وخفق قلبها حين رأت أحمد، الرجل الذي تحبّه يقف هناك وينظر إليها مقطبا. زاد اتّساعُ ابتسامتها وهي تمشي نحوهم دون اعتبار للنظرات التي حولها ولا لصوت المرأة المُزعج الذي يناديها من أجل التكريم، خطَت بخُطوات ساهية وتقدمت نحوهم لترتمي في حضن نسرين تتمتم ما بين ضحكة ودمعة: _ لقد نجحت! نجحتُ يا أختي! أجابتها بصوت هامس وقلق: _ نعم حبيبتي حنين لكن عليكِ أن تصعدي على المنصة من أجل التكريم! سألت مبتعدة عنها باستنكار: _ نسرين؟ فهذا ليس.. ليس صوت نسرين! _ حنين؟ ما بكِ؟ هذه أنا! ألماس! _ألماس؟ سألت حنين وهي تمسح عينيها وتنفض وجهها بقوة حتى تجلى وجه ألماس أمام عينيها، عادت إلى الخلف باستنكار تنظر إلى أحمد، لكن هذا أيضا ليس أحمد! هذه أيضا زميلها ليث! لكن.. لكنها رأتهما! يا إلهي ما الذي يحدث؟ هزّتها ألماس قليلا حنين وهي تقول: _ عودي إلى وعيك يا حنين، الجميع ينظرون إليكِ! كانت بحاجة إلى تلك الهزّة بالفعل، فقد أعادت إليها نصفا من عقلها الذي تخدّر، فنسرين ليست في حياتها أيضا، وأحمد! أحمد أيضا قد تركها منذ سنين، لماذا فقدت الحقائق معانيها بلحظة؟ ربما لأن أجمل ما في النجاح هو مشاركته مع من نحب؟ أو لأنّها دائما تخيلت هذه اللحظة وهم حولها؟ فبآخر الأمر ما فائدة تكريمنا إن لم يشاركنا سعادته أغلى من على قلوبنا؟ التفتت بانفعال شديد ناحية الصّف الأوّل من جديد متمتمة بخوف: _ أمّي؟ مراد؟ خافت للحظة أن تختفي وجوههما أيضا، فقد كانا الغصنين الوحيدين المتبقّيين من عائلتها، رمشت بقوّة حين ّخذت وجوههما تروح وتجيء، هاجمها قلق شديد، فرفعت يدها بحركة فطريّة إلى سلسال معلّق في رقبتها، فشعرت كأنّما صعقتها كهرباء قويّة، ضربت منطقة الذاكرة التي تعطّلت في عقلها! فعاد الدم يسري ببطء في عروقها، وعاد كلّ عصب يهدأ في جسدها، لتعود ذكرى السنين الأربعة التي اختفت فجأة من عقلها والتي أخذت منها جزءا لا يتجزّأ من عائلتها وقلبها وروحها... نظرت إلى الصّف الأوّل من جديد، فتوضّحت رؤيتها، واستقرّت عينيها على آخر غصنين تبقّيا من عائلتها، مطمئنّة أنّهما هنا، ينظران إليها بقلق قد وصلها، فعادت إلى وعيها لتتلافى صمتها الذي أقلق كلّ من حولها، بسرعة صعدت على المنصة آخذة نفسا عميقا معيدة بسمة هادئة على ثغرها قلّ ما تفارقها، ومسحت دموعا من عينيها استحال لأحد من حولها رؤيتها قبل يومها هذا، لتبدأ مراسيم التكريم بإعطائها شهادة بنجاح مركز "شفاء" لعلاج المخدرات الذي تديره منذ قرابة الثّلاث سنوات... **** داخل مبنى المحكمة، وتحديدا في المقهى المخصّص للمحامين، جلس أمين يهزّ ساقهُ فوقا وتحتا بتوتّر شديد، ينظر إلى أحمد الذي يجلس قبالتهُ شاردا في عشرة قصاصات صغيرات فوق الطاولة بوجه جامد خال من التعابير! هزّ أمين رأسه بيأس وهو يراقبه، فهو يشعر أحيانا أنّهُ لولا الدماء التي تسير في عروقه يكاد وجهه يخلو من أيّ دلالة للحياة، أمّا حين يغزو الشحوب وجهه يبدو حينها كالجثّة بالفعل! مال ناحية أحمد وقال بصوت خافت محتدّ: _ لقد بتّ أشعر أنّ اللقب الذي ينعتونك به في المحكمة يليق بكَ بالفعل يا أحمد! رفع أحمد عينيه بشرود ناحية صديقه أمين، ثمّ ابتسمَ ابتسامة ساخرة و هو يعلم أنّ اللّقب الذي يقصده أمين هو "الجثّة"، و كم أثار هذا اللقب سخريته حين أخبرهُ مرّة أنهم ينعتونهُ في المحكمة به كناية إلى برودهِ المبالغ الذي يكاد يكون مستفزّا، فكّر بسخرية لو أنّ أحدا من هؤلاء الذين ينادونه بهذا اللقب رأوهُ قبل أربعة سنين، حين كان شُغلُ "عَمِّهِ" الشاغل هو أن يهدّئ من ثورة دمائه و يعلّمه أخذ الأمور برويّة، لكنّ عمّهُ كان قد فقد فيه الأمل من شدّة اندفاعه، حتى أنّهُ كان يقول لهُ دائما أنه سيموت قبل أن يراهُ باردَ الدماء متّزن الانفعال.. "وقد مات بالفعل قبل أن يرى!"، فكّر أحمد بقلب اعتصرهُ الألم ككلّ مرّة يتذكّر فيها عمّه، لكنّهُ نفض مشاعرهُ بعيدا محاولا التركيز مع أمين الذي وعلى ما يبدو فقد أعصابهُ أمام بروده وقد احتدّ من جديد مشيرا إلى قصاصات فوق الطاولة: _ ستذهب إلى الشرطة وتخبرهم بأمر رسائل التهديد هذه يا أحمد، توقّف عن هذا البرود يا رجل، لديكَ عدوّ واحد قادر أن يفعل هذا، وأنتَ أكثر من يعرفُ مدى خطورته! أنزل أحمد عينيه إلى الطاولة من جديد، ينظر إلى عشرة قصاصات صغيرات مرقّمات من العشرة إلى الواحد، ومرسوم في قفاها صورة جمجمة يخرج من رأسها عظمين، وصلتهُ في العشرة الأيام السّابقة بطريقة متتالية، مرّة يجدها في سيّارته، ومرّة في مكتبه، ومرّة في جيب سترته، واليوم وجد على عتبة بيته قصاصة تحمل الرقم "صفر"، ممّا يعني انتهاء العدّ التنازليّ، وهذا ما جعل أمين ينظر حولهُ كأنّ أحدهم سيقتحم المكان في أيّ لحظة ويغتاله، إلا أنّ أحمد نظر إلى أمين قائلا بهدوء: _ أيّا من كان يلعب هذه اللعبة معي فعلى ما يبدو سيكشف أوراقهُ اليوم. أجابهُ بغيظ شديد: _ هذا ما أخشاهُ يا أحمد، هذا ما أخشاه! لم تتغيّر تعابير أحمد الفارغة، فأردف أمين بحدّة: _ أحيانا أشعر أنّك تنتحر بتصرّفاتك! كأنّك ترمي نفسكَ من خطر إلى خطر عمدا عسى تصاب في إحداها، أنت لم تكن هكذا من قبل، نعم! كنتَ مجازفا، لكنّك كنتَ تحسب خطواتكَ جيّدا، منذ أتيت من سفرك وأنا أكاد لا أتعرّف عليك! نظر إليه أحمد بصمت وبلا تعبير، فتنهّد أمين بيأس قائلا برجاء قلق: _ أنا حقا قلق بشأنك، لو سمحت توقّف عن تصرّفك الانتحاريّ هذا، طالما جازفتَ بالوقوفُ بوجه رجل "كأَسَدْ الأَسْمَرْ" فعلى الأقلّ خذ حذركَ كما يجب! وقف أحمد من مكانه دون أن يجيبه، ملتقطا القصاصات من فوق الطاولة وداسّا إيّاها في جيبه، ثمّ التقط سترته مرتديا إياها، فسألهُ أمين بانفعال واقفا بدوره من مكانه: _ إلى الشرطة؟ _ إلى البيت، أجابهُ أحمد بهدوء، ثمّ ابتعد على الفور خارجا بابتسامة جانبيّة وهو يعرفُ أنّ أمين يمسكُ نفسه بصبر يفوقه كي لا يشتمه على الملأ. سار أحمد برواق المحكمة نحو الخارج فانصبّت نظرات فضول خفيّة نحوه، كأنّما كان لغزا متحرّكا يستفزّ من ينظر إليه إلى تحليله وفكّه، فقد كانت نظرة واحدة إليه كافية لتعكس مدى بُعْدِهِ بعينيه شديدتي العمق، كأنك إن اخترقتهما ستغرق في بئر لا قاع له، ولعلّ هذا كان سرّ جاذبيّته، فهو لم يكن رجلا ذو وسامة خاصّة، بقدر ما كان رجلا ذو روح خاصّة، تحيط سريرته ثقة جذّابة يحيطها برود غريب، كأنّه غارق في عالم داخليّ لا يخترقه العالم الخارجيّ، حتى يكاد يُشْعِرُكَ أنّكَ إن فجّرتَ نفسكَ للفت انتباهه، لن يلتفت لينظر مرّتين. سلّم عليه مجموعة من الواقفين، فالتفت بسرعة رادّا السلام، ثمّ عاد لسيره مع لمعة سخرية زارت عينيه وقد قرأ من بين نظراتهم اللقب الذي ينعتونه به: "الجثّة". فكّر أحمد بسخرية: " لعلّهم محقّين"، فقد كان يشعر أنّهُ سلّمَ روحهُ بالفعل قبل أربعة سنين وأصبح جسدهُ خاليا منها، أوليس ذلك هو التعريف الصحيح لكلمة "جثّة"؟ ركب أحمد سيّارته، أراح يديه على المقود قليلا آخذا نفسا عميقا، يشعر بنفس الثّقل على صدره ككلّ مرّة يتوجّهُ فيها إلى بيته منذ عودته من سفره قبل أشهر، كأنّما سيتوجّه إلى بيت غير بيته، إلا أنه سرعان ما تنهّد مشغّلا المحرّك، نظر إلى المرآة الأماميّة لثوان، ثمّ انطلق سائقا باتّزان. أوقف السيّارة بعد دقيقتين أمام ساحبة نقود في الشارع المجاور للمحكمة، ثمّ قال بصوت بارد ناظرا إلى المرآة الأماميّة من جديد: _ آلات سحب النّقود مجهّزة بكاميرات مراقبة كما آملُ أنّكَ تعلم، لذلك إن كنتَ ستهاجم ففكّر مرّتين، أمّا إن كنتَ تريدُ الحديث فهنالك طرق أكثر تحضّرا من من هذه! نظر أحمد بعينين باردتين من المرآة الأماميّة إلى الجسد الذي ارتفعَ على مهل من المقعد الخلفيّ للسيّارة، ليقابلهُ وجه متخفّ، يضع نظارات شمسيّة سوداء كبيرة تبتلع وجهه، وشاحا قطنيا يصل إلى أنفه، وقبّعة موصولة بسترة كبيرة رجاليّة، لذلك لم يلاحظ أحمد سوى تشنّجا صغيرا في جبينه، ثمّ ودون أن يجيبه أخرج محفظته وفتحها أمامه ليلتفت أحمد قارئا بوضوح: "شهاب الضّاوي، فرقة مكافحة المخدّرات" ثمّ تكلّم أخيرا بنبرة ثابتة: _ حضرتكَ مراقب، لذلك لم أجد طريقة أشدّ تحضّرا من هذه لنتحدّث! رفع أحمد حاجبيه، ولأنّهُ كان يعرفُ أنّهُ بالفعل مراقب من رجال عدوّه، لم يحتج أن يستفسر، بل نظر إلى الطريق من جديد، ثمّ دعس على البنزين وانطلق. الفصل الأول وقفت حنين على المدرج وقد عاد اللون إلى وجهها بعد تكريمها، وهي تنظر إلى كل أفراد المركز الجالسين أمامها، الذين أصبحوا بالسنين الأربعة الأخيرة كعائلة بالنسبة لها، حنين البالغة الثلاثين من عمرها، وقفت بفستانها الطويل وحجابها الذي يحيط بوجهٍ مليح الملامح، بشرة بلون القمح وحدقتين بلون العسل، ينفتح لونهما بانعكاس الإضاءة عليهما، تظلّلهما أهداب بنيّة غامقة وكثيفة، أنف دقيق مرتفع بشموخ يتجانس مع وقفتها الشامخة، وابتسامة هادئة تزيّن ثغرها المتورّد. طبيبة نفسية، أنشأت مركز العلاج من المخدّرات خلال ثلاث سنين حُفّت كدّا وكفاحا، لتقف اليومَ حاصدة ثمن جهدها مثبتة للجميع أنها ابنة أبيها، "يوسف الصادق" الذي اشتهر بتضحياته الجسيمة في خدمة قطاع الطب على حساب نفسه وعلى حساب عائلته. _السلام عليكم جميعا، قالت حنين مبتسمة، فالتفت إليها الحضور بانتباه، بينما رفعت الإعلاميّة التي أتت لتصوير الحدث الكاميرا أمامها، فالتمعت دموعٌ في عينيها حاولت اخفاءهم وهي تُمَنِّي نفسها أنّ والدها قد يتفرّجُ "حتى من باب الفضول" على هذا اللقاء، لذلك أضافت مبتسمة بألم: _ أظن أنّ أغلب الحاضرين هنا تعرفون والدي، الطبيب الجراح يوسف الصادق. ابتسمَ الجميع مهمهمين بالإيجاب، بينما سمعت حنين أحد أساتذتها يهنّئها بأنها أثبتت أنها ابنة أبيها، فاتسعت ابتسامتها قائلة: _لقد قال لي أبي مرة: "هنالك يا ابنتي من يرى الطب ويختاره مهنة، وهنالك من يراه انقاذ حياة، فأّما من يراهُ مهنة، قدّمَ علمهُ لساعاتِ دوامه، وأمّا من يراهُ انقاذ حياة، قدّمَ حياتهُ لعلمه" كذلك أريد شكره على نصيحته هذه، فبفضلها عملتُ لتحقيق هذا النجاح في هذه الفترة القصيرة، لكن طبعا، سيكون من الجحود أن آخذ فضل هذا النجاح وحيدة وقد عملت معي جنبا إلى جنب أياد عديدة، فإن كان مركز "شفاء" لمحاربة تعاطي المخدرات اليوم قد أعلن الأول في بلدنا من حيث نسب الشفاء، فهذا بفضل اللّه أولا ثمّ بفضل أياد كثيرة سهرت معي ليلا نهارا من أجل تحقيق هذا الهدف، ولذلك سأدعوهم إلى هنا لينالوا التكريم الذي يستحقونه، ابتسمت حنين ناظرة أولا إلى أخيها قائلة بفخر: _ مراد الصادق. مراد: أخُ حنين، أسمر الوجه مليحُ الملامح، متوسّط القامة، مستقيم الظهر، ذو جسد نحيف رغم تناسقه، بنيته هشّة، وعيناه غامقتا اللّون وغائمتا الرّوح، يرتدي عليهما نظّارات طبيّة دائريّتين، طبيب أعصاب، تقدّمَ نحو حنين بابتسامة لم تصل إلى عينيه، وقف بجانبها لتقدم له شهادة تقدير تحت تصفيق الجميع، في حين بدى هو كأنّما يقف خارج القاعة، وأنّ التصفيق حوله لا يمتّ له بأيّ صلة، صوّرتهما الصحافية التي أتت للكتابة عن الحدث، ثمّ وقف بجانب حنين بعينين شاردتين ملولتين. ما أن انتهت، حتى نظرت حنين إلى ألماس وقد تعمدت أن تناديها من خلف مراد: _الدكتورة ألماس الأزهري. ألماس: فتاة قد أخذت من اسمها نصيبا وافيا، ألماسة من الخلق والأخلاق، امرأة بوجه طفلة، وعينان تشعّ منهما الحياة، خطيبة مراد، وتكفي نظرة واحدة إليها وهي تتقدّم نحوهما أن يفهم المرء أنها لا ترى من هذا المكان ومن هذا النجاح ومن هاته الضوضاء سوى مراد نفسه، قدّمت لها حنين شهادتها بابتسامة صدوقة فأجابتها بابتسامة أشدّ صدقا. نظرت حنين من ثمّ إلى ايلين منادية إياها بابتسامة: _ ايلين السّامح. ايلين: طبيبة من أنجح وأفضل الأطباء من بين من رأت حنين، امرأة قوية، تعرف ما تريده ومتى تريده وكيف تحصل عليه، وبالرغم من أنها تختلف مع حنين طول الوقت وبكلّ شيء تقريبا، إلاّ أن حنين تحترم قوّة شخصها وتقرّ بأنها من أفضل الأطباء بالمركز، وما أن تقدمت لتقف بجانب ألماس حتى أضافت حنين: _ وأخيرا وليس آخرا، ليث عبد المجيد. ليث: ليث الطبيب الأخير الذي بالمجموعة، منشرح الملامح، مبتسم الثّغر، عسليّ الشّعر والعينين، ذو طاقة ايجابيّة متحرّكة كأنّما تعلّم ألّا يرى من الحياة سوى جانبها المضيء. نظرت حنين إليهم بابتسامة فخر، فأصرّ الجميع عليها أن تقوم بإلقاء الكلمة، فتقدمت أمامَ مكبّر الصوت، أخذت نفسا عميقا ثم أردفت: _اليوم، و يا للأسف قد أصبحنا نرى متعاطي المخدرات ينتشرون وبجميع الأعمار ممّا يثير في أعماقنا القلق على الجيل القادم من أبنائنا، أطفال كانت يجب أن تكون حياتهم مُختصرة ما بين الدراسة واللعب، إذ بِنا نلقاهم في سنّ الزهور مُدمِنين على هذه السموم التي تأكل من طفولتهم، لا تتفاجؤوا! فقد أصبحنا نعالج حتى الأطفال تحتَ سن العاشرة من هاته السموم! مُراهقين كان يجب أن يكونوا قد بدأوا برحلتهم نحو النضوج، لكننا نجدهم يسرقون وينهبون من أجل شراء المخدرات، فتيات وفتيان بأوائل العشرينات وبريعان شبابهم، نراهم اليوم يرمون سنين شبابهم بألسنة من النار من السموم التي يتعاطونها، لقد تساءلتُ دائما، لماذا تخلى أبناؤنا عن طفولتهم وأرادوا الهرب؟ لما تخلى المراهقون عن براءتهم واختاروا التعب؟ لماذا حرق الشباب طموحهم واختاروا هاته السعادة المزيفة؟ بداخل كلّ منا يا سادة طفل صغير يخاف الحياة ويتمنى الهرب.. بداخل كل منا ألم يتمنى أن ينساه أو يتناساه، المخدرات، قد يراها أغلبكم وسيلة للمتعة المزيفة، لكنها في غالب الأمر وسيلة هرب، وسيلة للهرب من ألم، وواقع مرير، وفشل متكرر، وصدمات، وفقر، وخوف، وغضب، من منا لم يختبر على الأقل ألما من هذه الآلام بحياته؟ جميعنا اختبرنا منها طبعا! لكن ليس الجميع قادرين على مواجهتها، ففي الشدائدِ دائما يبقى أمامنا خيارين، إما المواجهة أو الهرب، طريق المواجهة طريقٌ كُتِبَ أعلاهُ "صبر"! طريقٌ طويلٌ ومُتعب لذلك بشّر اللّه سالكيه أجرا عظيما، وطريقٌ آخر يا ساده كُتِبَ أعلاه "هرب".. طريق قصير ومُغر يهرب سالكيه بالتعاطي عن آلام الحياة بلذة وهمية سرعان ما تختفي.. فيصبح المرء عبدا لهذه اللذة عسى تُنسيه ألم واقعه، لكنه لا يعي أنه قد هرب من المُرّ إلى الأمَرّ إلا وقد أخذه الطريق إلى الإدمان ومن ثمّ الهلاك.. نحن نعلم أن الحياة صعبة، ولا أحد لا يتمنى ولو لمرّة بحياته أن يختفي ويهرب من كل آلامه وأحزانه ومشاكله.. ولكنّ طريق "الهرب" بالكاد يأخذنا من الشديد إلى الأشدّ.. لذلك هدفنا نحن أن نأخذ سالكي طريق "الهرب" إلى طريق "الصبر"، فقد كذب من قال أنّ طريق المخدرات لا عودة منه، بلى، إنّ عملنا بهذا المركز هو أن نأخذ بيدِ سالكي طريق الهلاك لنسير بهم نحو النجاة، برفقة زملائي وبالثقة التي مُنحت لنا اليوم بتكريمنا كأفضل مركز للعلاج أعد أننا سنواصل على هذا المنوال إن شاء اللّه. أنهَت حنين حديثها تحت تصفيق الجميع وتشجيعهم، فابتسمت لهم شاكرة، بينما أنزلت الصحافية الكاميرا وقد انتهت من تصويرها، وما أن همّت حنين بالنزول من المنصة حتى قاطعها صوتُ صراخٍ جعلها تتجمّد مكانها وجعلَ السكون يعمّ المكان للحظات طويلة، صوت رجل لم يدرك أحد من أين دخل وكيف وصل بالقرب منهم: _ قتَلَــــة! أنتم لستم إلا مجموعة من القتلة على ما يكرّمونكم؟ عمّ القاعة صمت ثقيل لثوان، ثم بدأ تهامس غريب بين الحضور ملتفتين إلى الرجل الذي اقتحمَ المكان بلا استئذان، رجل يبدو بأواخر الخمسينات بشعره الذي اختلط لونه ما بين السواد والبياض، أنيق الثياب، متوسط الطول، نظرته المتغطرسة والمتكبرة تؤكد أنه صاحب مال وجاه. تجمّدت حنين تنظر إليه متفاجئة بظهوره، متعرفة على هويته من لمحة واحدة، بينما رفعت الصحافية الكاميرا من جديد لتصور ما يجري عندما واصل الرجل صراخه دون توقف: _ قتلة! أنتم مجموعة من القتلة، قتلتُم ابني! ابني مات بسببكم وأنا لن أهدأ قبل أجعلكم تدفعون الثمن، صوّري يا امرأة، قال مشيرا إلى الصحافية ومضيفا: _ دعي الجميع يعلم أنني سأغلق هذا المركز الذي تكرمُونه، لقد رفعتُ عليكم قضية سيدة حنين الصادق ولن يهدأ لي بال قبل أن أنتقم لابني، هذا المركز الذي بقي ابني فيه يا سادة قد مات بسبب إهمالهم ولم تسمع أرواحهم فهل ستؤمنونهم أرواح أبنائكم؟ تقدم مراد بخطوة نحو الرجل، إلا أن حنين همست له بسرعة: _ اهدأ! الصحافية تصوّر. تمالك مراد نفسه بصعوبة بينما عم الضجيج المكان، اقتربت الصحافية من الرجل وقد لمست عنوانا جيدا لها سيجلب القراء، في حين رُُفِعَتْ على الفور الهواتف تصوّر ما يجري، في حين أضاف الرجل قال بخشونة: _ كما سمعتِني أقول يا سيدة، هؤلاء الأطبّاء مسؤولون عن قتل ابني، وإن كنتِ مهتمّة بالتّفاصيل فلكِ أن تُتابعي القضية التي رفعتها على المركز لتعرفي باقي التطورات. ثمّ خرج من المكان دون النظر وراءه، تاركا الضوضاء تلتهم الصمت الذي عمّ بحضوره، آباء المرضى قد بان على وجوههم الخوف والجزع على أبنائهم، وعاملي المركز قد اغتيلت فرحتهم التي عملوا من أجلها ليلا نهارا، أما حنين التي لطالما انتظرت هذا اليوم بعد كفاح قاتل فقد نظرت إلى الضوضاء حولها بذهول وصمت. وقفت أمامها الصحافية من جديد وقد أصابتها السعادة لحصولها على خبر رائع كهذا: _ هل لكِ أن تخبريننا عن ادعاءات هذا الرجل دكتورة حنين؟ وهل مات هذا الطفل حقا بسبب الإهمال؟ دكتورة حنين! هل ما يقوله هذا الرجل صحيح؟ كانت جميع الأعين قد اجتمعت حول حنين التي بدأت تسمع طنينا بأذنيها وهم ينتظرون ردها بتأمل، فأدركت حنين رغم حرج الموقف أنه ليس الوقت المناسب للانهيار الآن، فإن تصرفت بانفعال أو انهارت ستزرع الشكوك أكثر حولهم، لذلك أخذت نفسا عميقا مجمّعة أعصابها، وبما تبقى من القوة التي عندها رسمت نظرة واثقة، ثم نقلت عينيها بين الجميع بقوة وثقة، لتعيد النظر من جديد إلى الصحافية قائلة: _ مثلما قال هذا الرجل سأقول لك سيدتي، تابعي القضية بنفسك لتعلمي أننا بريؤون من جميع الاتهامات التي ألقاها هذا الرجل، وقد وصلنا إلى ما وصلنا إليه اليوم بإنقاذنا لأرواح وليس بقتلها! كانت حنين تشعر أنها تحاول إنقاذ سفينة قد غرق أكثر من نصفها، فالشك قد هاجم عيون الجميع، وكلماتها الواثقة قد حسّنت من الوضع، إلا أنها لم تقتل شكهم تماما، أبدت الصحافية تعبيرا يدلّ على التشكيك، بينما زاد الضجيج بين الحضور والأطباء وهم يرددون أن لا دخان يصعد بدون نار، إلا أن حنين لم تخفض رأسها، حافظت على رباطة جأشها وهي تعي توتر زملائها، ثم قالت بصوت أعلى: _ يا ســادة! التفت الجميع نحوها من جديد فأضافت بصوت قويّ: _ عليكم أن تعلموا أن جميع من يدخلون مركزنا ليعالجوا هم أبناؤنا! و "وليد"، وليد رحمه اللّه كان ابنا لنا، وصدِّقوا أنه لو مات بسبب اهمالنا لكنتُ أغلقت المركز بيدي هاتين، لكن هذا غير صحيح، وأنا لن أسمح لأحد أن يتهمنا بموت ابننا وإن كان والده نفسه، لذلك لكُم أن تتابعوا جميعا القضية التي فُتحت بحقنا، كما أنني أظن وقوفنا اليوم هنا لتكريمنا هو أفضل إثبات على حسن عملنا، أنا قلت ما عندي ولن أجيب عن أي سؤال آخر بخصوص هذا الاتهام الباطل. أنهت حنين كلامها مُشيرة إلى زملائها المنفعلين بجانبها، لينزلوا جميعا من المنصة، وهكذا نزل فريق العمل بعد أن تم تكريهم، مطقطقي رؤوسهم، وحاملي شهاداتهم بأيديهم، وخيبة هزت فرحتهم بقلوبهم، بينما قامت حنين رغم رغبتها الشديدة بالانعزال بمسايرة كل من أتى من الأطباء الجالسين هناك ليهنئنها ويسألونها بفضول عن ماهية الحادثة... **** وقفت حنين بأعلى غرفة في المركز فاتحة نافذتها، فلسعتها نسمة باردة أسرت الرعشة بجسدها، و حرّكت مشاعرا دفينة داخلها، نظرت أمامها لتتجلى أمام عينيها أضواء العاصمة، فابتسمت بألم على الرغم منها، فهي تشعر دائما بصغر حجمها أمام هذه المدينة الكبيرة التي ابتلعتها منذ أتت للعيش فيها منذ سنوات تاركة بلدتها الجميلة الهادئة، و على الرغم من انزعاج حنين من ضوضاء هذه المدينة، إلا أنها تبتسم في كل مرة أمام ملايين الأضواء التي تتحدى ظلمة الليل في لوحةٍ رائعة، لتشعر عندما تشاهدها أن ملايينا من الأسرار و الجهار، و من الآلام و الأفراح تختبئ خلف كل ضوء اشتعل أمامها.. وما ضوءُ مركزها هذا إلا كنجمة خافتة وسط سماء عجّت نجوما.. فإن انطفأ لن ينقص شيء من روعة المشهد الذي المرتسم أمامها، فما مدى تأثير عشرات المصابيح أمام الآلاف حولها؟ فكرت حنين: "بالفعل! إن انطفأت هذه المصابيح لن يتغير شيء من هذه المدينة الكبيرة، لكن بالتأكيد سينطفئ النور من حياتي وتسكنها العتمة من جديد!" شعرت حنين بالاختناق من أفكارها السوداء، حرّكت رأسها محاولة نسيان ما حدث هذه الليلة، حاولت التفكير بشيء آخر، فأتتها ذكرى ما حدث لحظة تكريمها، فهاجمت ذكرياتها المكبوتة عقلها من كل فجّ، أتتها صُوَرُ أناس تنَاستهم حتّى صَدّقَت نِسيانهم! حاولت طردهم من البيبان فاخترقوا عقلها من الشبابيك: يوسف، نسرين، وأحمد! يوسف، نسرين، وأحمد! تحسّست حنين مثلثا صغيرا متساوي الأضلاع في يدها معلّقا في سلسال ذهبيّ، مرّرت يدها على حوافّه الحادّة، أهداهُ إياها والدها يوم كتب كتابها، ولأنها تعرفُ أنّ والدها مثلها يحبّ الهدايا الرمزيّة أكثر من الشكليّة، سألتهُ على الفور بابتسامة تعرف أنها ستلقى جوابا عميقا: _ ما معنى هذا؟ ابتسمَ يوسف على الفور وقد كان ينتظر سؤالها، وأشار إلى المثلّث قائلا: _ مثلّث متساوي الأضلاع، ومتساوي الزوايا، ميزته أنّ الأضلاع الثلاثة هم قواعده، والحوافّ الثلاثة هم قِمَمُه، هذا المثلّث، هو مثلّث حياتكِ اليوم! مرّرت حنين أصابعها على الحواف مجدّدا متذكّرة كلماته وهو يشير إلى القمم تباعا: _ الأوّل حياتكِ العائليّة، أي نحن، والثاني حياتكِ العمليّة، أي الطب، والثالث حياتكِ الزوجيّة، أي أحمد، ثلاثتهم قواعد لمثلّث حياتك، وثلاثتهم هم قممك! ثمّ أشار إلى الخطوط الخارجة من كلّ زاوية من زوايا المثلّث، تنتصف كلّ زاوية بالتساوي، لتلتقي الخطوط الثلاثة في منتصف المثلّث عند نقطة زيّنت بفصّ صغير لامع، أوقف والدها عندهُ اصبعهُ فقالت على الفور: _ مركز ثقل المثلّث. _ بل مركز ثقل حياتكِ! وهو نفسهُ مركز الدائرة التي تمرّ بقمم المثلّث الثلاثة، والتي تمثّل عجلة حياتكِ التي تدور حول مراكز حياتكِ الثلاثة. سألت باهتمام: _ وإن لم يكن مركز الدائرة هو العائلة، أو العمل، أو الزواج، فماذا يمثّل إذن؟ ابتسمَ مجيبا بثقة: _ علاقتكِ باللّه طبعا! قطبت حنين مبتسمة، فأردفَ يوسف بجديّة مشيرا إلى المراكز الثلاثة: _ مثلّث حياتكِ لن يبقى دائما متساوي الأضلاع يا حنين، الحياة ستضرب دائما مراكز حياتكِ وتغيّر موقعها، قد تواجهكِ مشاكل في العمل، وقد تواجهين مشاكل في زواجك، وقد تواجهين.. قاطعته حنين قبل أن يكمل: _ أنتم ثابتون! العائلة دائما ثابتة! _ لا أحد ثابت في هذه الحياة الفانية، ما لم تأخذهُ منكِ المشاكل قد تأخذهُ منكِ الحياة بطبعها الفاني، ثمّ أشار إلى مركز المثلّث من جديد قائلا: _ اللّه هو الثابت الوحيد فيها، لذلك ستضعين قلبكِ هنا في النقطة الوحيدة الثابتة، ومنه سيتدفّق الحبّ والتعلّق باتّزان إلى مراكزكِ الثلاثة. سكنت حنين تنظر إليه لثوان، ولولا أنّها تعرف أنه لا يعرف تفاصيل حياتها الخاصّة، لشكّت حينها أنّهُ يقصد تعلّقها الكبير بأحمد والذي فاق حدّ الاتّزان، لكنّهُ أردف بجديّة: _ اللّه هو من وهبكِ العائلة، وهو من وهبكِ عملك، وهو من وهبكِ زوجك، وهو فقط من يملك أخذهم من حياتكِ أو ثباتهم فيها، فإيّاكِ يا حنين، إيّاكِ يوما أن تتخلّي عن نفسكِ لكسب نعمة من نعم اللّه، لأنّه هو وحدهُ من يعطي وهو وحده من يأخذ، ونحن ما علينا سوى الأخذ بالأسباب والاجتهاد في الحفاظ على هذه النعم وتقديرها حقّ قدرها بالشّكر. سكنت حنين تنظر إلى السلسال للحظات قصيرة، ثمّ ابتسمت مرتدية إيّاه وقد شعرت بأنها حصلت على نصيحة حياتها في أجمل ليلة في حياتها، لكنّها نظرت إليه مازحة: _ ألم يكن من الأجدر أن تحضر لي سلسالا فيه قلب تعبّر فيه عن حبّك كالآباء الآخرين، ما الداعي لكلّ هذا التعقيد؟ أجابها مبتسما ومشيرا إلى السلسال الذي أحضرهُ لها أحمد: _ حينها كنتِ ستفضّلينهُ على سلسالي، لكنني أعرفُ أنّكِ بعد اليوم لن تنزعي هذا من عنقكِ أبدا! فضحكت حنين حينها وقد كان محقّا بالفعل، فهي لم تنتزع ذاك السلسال من عنقها منذ تلك الليلة أبدا، لكنها لم تنجح بالعمل بتلك النصيحة أبدا، ربما لو فعلت! ربما لو فعلت لما خسرت حياتها، لما خسرت أحلامها، لما خسرت عائلتها، لما خسرت زوجها، بل وقبل كلّ شيء، لما خسرت نفسها! أغمضت حنين عينيها بألم شديد لم يزرها منذ سنين، ثمّ أدارت عينيها نحو مكتبها، وسارت ببطء شديد فاتحة الدّرج الأخير منه الّذي قلّ ما تفتحه، والتقطت إطار صورة منه، صورة طفل رضيع لم يكمل السّنة، شعرت بحشرجة ألم تزور حنجرتها و بنغزات ألم شديدة تزور قلبها، ولم يخرجها من بئر أفكارها سوى صوت الباب الذي انفتح، التفتت متفاجئة فوجدت مراد يدخل عليها. قطبت حنين ناظرة نحوه في حين نظر هو إلى الصّورة في يدها. لملمت صوتها وسألته بقلق: _ هل حدث شيء يا مراد؟ لماذا أتيت؟ اليوم دوري بالمناوبة! _ أعلم، أجابها متفحّصا إياها بقلق ومضيفا: _ فقط لم أرد ترككِ وحيدة بعد الذي حدث الليلة! كما.. سكت قليلا، ثمّ أشار إلى الإطار في يدها مضيفا بنبرة لم تخلُ من الألم: _ كما توقّعتُ أنّكِ قد تفتحين درج الماضي من جديد اللّيلة. ابتسمت حنين بألم وبطء رامية إياه بنظرة شاكرة، ثمّ نظرت نحو الصّورة من جديد تقاوم دموعا مناشدة، لكنّها قاومتها بضراوة وتقدّمت جالسة على الكنبة يجلس مراد بجوارها، ثمّ وضعت الإطار أمامها، ونظرت من جديد إليه حين سألها: _ هل أنتِ بخير؟ تنهّدت حنين شابكة يديها في بعض، ثمّ ابتسمت بانهزام ورفعت كتفيها هامسة بصدق: _ لا أعلم! لا أعلم حتى بما أشعر! الشعور الوحيد الذي يخالجني الآن هو ال.. الفشل! قطب مراد باستياء لم يخلُ من التفهّم، ثمّ مال ناحيتها ناظرا إلى عينيها وقائلا: _ أنا أكثر من يعلم كم عملتِ من أجل هذا اليوم، لقد حقّقتِ نجاحا أكبر حتّى من حجمكِ وفي وقت قياسيّ يا حنين، وما حدث الليلة لا ينقص من نجاحكِ شيئا! ابتسمت حنين ابتسامة جانبيّة ناظرة إلى يديها المشبوكتين بصمت دون أن تجيبه، فهزّ مراد رأسه بيأس قارئا ملامحها، ثمّ أردف بإقرار وحزن: _ لكن كلّ هذا لا يعني لكِ شيئا طبعا! لأنّكِ لم تعملي يوما من أجل أن يكرّمكِ أحد، ولأنّ ما أردتِ حصده اليوم ليس التكريم أبدا. زادت حنين الضّغط على يديها حتى ابيضّت أصابعها وقد أصاب الحقيقة تماما، فسألها: _ لم يجبكِ أليس كذلك؟ اجتمعت الدّموع في عينيها قسرا، ثمّ هزّت رأسها بالرفض هامسة: _ مثل كلّ مرّة، استمع ثمّ أغلق الخطّ! تضاعف الوجوم على وجه مراد، لكنّه قبل أن يجيبها قاطعه طرق الباب، فمسحت حنين دموعها بسرعة، بينما التفت مراد بانزعاج نحو الباب الذي انفتح، ليتضاعف انزعاجه ناظرا إلى ايلين وألماس تدخلان بوجوه واجمة: _ ألماس؟ ما الذي تفعلينه هنا؟ اضطربت ألماس للحظة من ردّ فعله، ثمّ قالت مخفية إياه: _لم أستطع الذهاب إلى البيت بعد الذي حدث، وأردت أن أطمئن على حنين. اغتصبت حنين ابتسامة شاكرة، حاول مراد ابتلاع ضيقه، بينما احتدّت ايلين على الفور: _ أمّا أنا فما كنتُ لأنام قبل أن نتناقش بما حدث يا حنين! رغم أنّ حنين لم تكن تشعر أنها في حال يسمح لها بالنّقاش أبدا، وخاصّة مع ايلين، إلّا أنها هزّت رأسها مشيرة إلى الطّاولة المربّعة في ركن الغرفة وقائلة: _ حسنا، فلنجلس هناك. رمت ايلين الإطار الّذي على الطّاولة أمامهما بنظرة طويلة غريبة، ثمّ هزّت رأسها بصمت تابعة إياهم نحو الطّاولة الكبيرة. جلس الجميع، لكن قبل حتى أن ينطق أحدهم قاطعهم انفتاح الباب ودخول ليث، فابتسم الجميع عدى ايلين عند رؤيته داخلا، بينما وقف هو مصدما ينظر إليهم مجتمعين، ثمّ سأل باندهاش: _ ماذا تفعلون هنا جميعا؟ _ تعال دكتور ليث، أتيتَ في الوقت المناسب. قالت حنين مبتسمة بتعب ومشيرة له بالجلوس: _ لم يستطع أحد العودة إلى البيت بعد الذي حدث بحفل التكريم. _ وهل بقي تكريم لأجل اللّه؟ أصبح اسمه تشويه سمعة وليس تكريم! قالت ايلين بحنق منفعلة على الفور، لتضيف بغضب شديد كتمته طول الطّريق وازداد برؤية ليث هنا: _ أنتِ من أقحمتنا بهذا المأزق يا حنين والآن أخرجينا منه إن استطعت! نظر مراد إلى ايلين بحنق، فغمزت حنين له بأن لا يكترث، بينما قال ليث معاتبا: _ ماذا تقولين يا ايلين؟ اليوم لو لم تلملم حنين الموقف محافظة على رباطة جأشها لازداد موقفنا سوءا هناك! تضاعف انزعاج ايلين من مدافعة ليث عنها فقالت: _هي من أتت بذلك الطفل من الشارع، وأصرّت على معالجته دون قيد ودون أن نبلغ الشرطة عنه، والآن تفضلوا، ها قد توضّح أنه ابن شخصية تبدو مهمة! قالت ألماس بانفعال مجيبة إياها: _ فليكن هذا الرجل من يكون، لو كان أبا جيدا لماذا سيخفي "وليد" عنا وجوده ويخبرنا أنه يتيم الأمّ والأب؟ أجابت ايلين صارخة: _ وما دخلنا نحن يا ألماس بعلاقته بوالده؟ نحن أطبـــاء! أطباء! نقوم بعملنا ونعالج المرضى فحسب! لكن بفضل السيدة حنين نسينا دورنا الحقيقي وأصبحنا نلعب دور الأبطال! قال مراد بحنق: _ توقّفي عن الصراخ، نحن نبحث عن حلّ وليس عن كبش فداء، فإمّا اقترحي حلا أو اصمتي فجميعنا مختنقون بما يكفي! تقابلت أنظار مراد وايلين في غضب كما هو الحال كلّ اجتماع، فأردفت ايلين بغضب من جديد: _ ليس لديّ حلّ ولستُ أبحث عن كبش فداء، أنا فقط أطلب مِن مَن وضعنا في هذا المأزق أن يُخرجنا منه. خرجت حنين عن صمتها مُجيبة ببرود: _ حسنا! بالرغم من أنّني يا ايلين لستُ أندم أبدا على احتضان وليد هنا وعن عدم الاخبار عنه، لكن بالرغم من هذا معكِ حق، أنا من أقحمتكم بهذا وأنا من سأجد الحل. قالت حنين بثقتها وبرودها الذين اعتدوه منها الجميع بالرغم من أنها كانت بعيدة تماما عن تلك المشاعر في تلك اللحظة. استطرد ليث بضيق: _أنتم تنسون مشكلتنا الأساسية! المحكمة اقتربت ونحن إلى الآن لم نجد محاميا يتولّى قضيتنا! _ ليس لم نجد! قال مراد بانفعال ومضيفا: _ لكن كلّ محام يقبل تولي القضية يتصل بنا باليوم التالي ليتراجع عن ذلك بدون أن يقول السبب، بالأمس فقط تراجع المحامي السابع عن هذه القضية! قالت ألماس: _من الواضح أن هذا الرجل من يقف وراء هذا، ألم تروا كيف يبدو؟ أيّد ليث: _من الواضح أنه صاحب سلطة أجل! أغمضت حنين عينيها بتعب، هنالك حلّ واحد يخطر على بالها منذ فترة، لكنها حاولت بكل ما تستطيع أن تتركه ليكون الحل الأخير. قاطع صوت ايلين الحانق تفكير حنين: _ ولم يكتفِ بهذا فأدخل الصحافة بالأمر اليوم أيضا، الفيديوهات الّتي تمّ تسجيلها لدخول ذلك الرّجل منذ قليل نزلت جميعها على مواقع التّواصل الاجتماعيّ، وحقّقت مشاهدات بالآلاف في ساعتين فقط، من الغد ستصبح كلّ القنوات والرّاديوهات تتحدّث عنّا وينبشون وراءنا، وكأنّ هذا لا يكفي.. توقفت متردّدة، فرفعت حنين رأسها سائلة وقد تعجبت رؤية ايلين مترددة: _ ماذا؟ بدت ايلين متململة على غير عادتها، ثمّ خرجت عن تردّدها بحسم وأردفت بقوّة مشيرة إلى الإطار الّذي يحمل صورة طفل فوق الطّاولة الصّغيرة: _ وإذا نبشت الصّحافة في أمرنا أكثر واكتشفوا بأن مديرة هذا المركز كان لها طفل غير شرعيّ فسندخل "التْرِنْدْ" في يومين، ولا أحد سيأخذنا من فم الصّحافة لأسابيع، وأوقفوهم ان استطعتم! عمّ السكون المكان إثر كلماتها، اتّسعت الأعين وتجمّد الكل مكانه، شعرت حنين بالبرود يسري في جسدها مجمّدا إيّاها، بينما شعر مراد بعقله يرتجّ وبالنار تنجرف في كلّ عرق من عروقه، فكان أول من نطق منصدما بصوت مختنق: _ أنتِ! م.. ماذا قلتِ؟ أنتِ.. أنتِ هل تعين على نفسكِ ما تقوليــــن؟ _ أنتَ تعرف جيّدا عن ماذا أتحدّث يا مراد! _ ايلين! تمتمت ألماس بشحوب تنظر إلى مراد الذي بدى غاضبا كما لم تره يوما وإلى حنين المتجمّدة: _ أنتِ ما هذا الذي تقولينه لأجل اللّه؟ إن كنتِ تتحدّثين عن علاء فهو ابن مراد من طليقته! في حالة أخرى كانت ايلين لترتجّ بعض الشّيء من نظرات الجميع نحوها، إلا أنّ الغضب قد أخذ منها مأخذه بعد الذي حدث اليوم فانفجرت بحدّة: _ لستُ أنا من أقـــول، الجميع يتحدّثون عن هذا يا مراد، الجميع من خلف ظهرك يتحدّث بأن علاء ليس ابنكَ، والجميع يقولون أنّ علاء ابن حنين وأنّكَ تستّرا على أختك نسبته لنفسك، وأنّها لهذا السّبب على خصام مع والدها منذ سنين! رمش مراد بعينيه للحظات غير مصدّقا لما يسمعه، ثمّ تغيّرت ملامحه فجأة كأنما دعست على عرق جنونه بكلماتها: _ هل جننـــتِ؟ أنتِ هل جننـــت؟ هل تعينَ نفسكِ بما تتفوّهيــــن؟ صرخ ضاربا الطاولة بقوّة ووقف مسقطا الكرسيّ الجالس عليه بعينين أصبحتا كالجمر احمرارا، بينما وقف ليث بسرعة ممسكا بذراع مراد وصارخا بانفعال: _ مراد اهدأ لو سمحت، ايليـــن ماذا تهذين أنتِ؟ _ لستُ أهذِ! صرخت ايلين بقوّة نافضة يد ألماس التي وقفت بدورها ممسكة بذراع ايلين تحاول اسكاتها، إلا أنّ الأخيرة فقدت اتّزانها منفجرة من جديد: _ لن أصمت يا مراد لأنني حتى إن صمتّ أنا فالناس لا يفعلون، وصدّقني لا يهمّني أبدا علاء ابن من يكون، لكن مثلما وصلت هذه الشّائعات إلى أذني فبنفس الطريقة من الممكن أن تصل إلى الصّحافة وحينها سيزداد الوضع سوءا على سوء، أنا لم أجد سمعتي في الشّارع لأفقدها هنا بعد سنين من العمل والدّراسة! نظرت ايلين من ثمّ إلى حنين، التي وللعجب ما تزال جالسة مكانها دون حراك، مردفة بقوّة: _ أنتِ أساسا من أوقعتنا في هذه المصيبة، وأنا لن أدّعِ عدم سماع شيء يتحدّث فيه الجميع وأترككِ تأخذيننا جميعا إلى الهاوية معكِ كما فعلتِ اليوم، لم أستطع أن أنظر إلى وجه أحد اليوم وهم يسألونني إن كنا مسؤولين فعلا على موت وليد، وحالتنا بسبب القضيّة لا تتطلّب فضائح أخرى! رفعت حنين المتجمّدة وجهها ببطء شديد نحوها، بوجه أبيض وبارد كالعاج، وبعينين مظلمتين أخرستا ايلين للحظة. وقفت على مهل، اقتربت منها إلى أن أصبحتا وجها لوجه، نظرت مباشرة إلى عينيها نظرة أثارت اضطراب ايلين رغم بأسها وجعلتها دون وعي تعود إلى الخلف، فهي للمرّة الأولى تراها على هذا الحال حتّى في أقسى نقاشاتهما، لكنّ نظرتها هذه كانت مختلفة جدّا، كأنّما لمست بكلماتها مكانا مظلما ومدفونا في نفسها جعلها تكاد تخرج عن عقلنتها تماما! أخذت حنين نفسا عميقا ململمة ما تبقّى من سيطرتها على نفسها، ثمّ قالت بتهديد صريح: _ ايّــاكِ! ايّاكِ أن تذكري اسم "علاء" ثانية على فمكِ ولو عرضا، وإلا أقسم باللّه العظيم، أنني سأهدّ هذا المركز الذي تخافين عليه وسمعة من فيه بيديّ هاتين! بالرغم من قوة ايلين وحدّتها إلا أنها للمرة الأولى تتراجع بالصمت أمام حنين وقد بدت مختلفة تماما هذه المرّة، برودها خرج عن كونه برودا وقد كانت تهدّد كأنّما تعني تماما ما تقول. أخذت حنين نفسا عميقا آخر كأنما تكبت رغبتها في افتعال تصرّف لا عودة منه، ثمّ قالت من جديد بجمود: _ كما أنّ لكِ أن تطمئني دكتورة ايلين من ناحية الصحافة، فإذا ما قاموا بأبحاثهم سيكتشفون أنني كنتُ متزوجة قبل أربعة سنين، لذلك لا تقلقي لهذا الشأن، وترفّعي قليلا كي لا تكوني أداة بعد اليوم لناقلي الشّائعات الرخيصة. قالت حنين كلماتها تلك، ثمّ خرجت تاركة الجميع -عدى مراد- في حالة من الدهشة، فصحيح أنّ جميعهم يعرفون حنين منذ سنين، لكنّهم لا يعرفونها أيضا، لأنها لا تتحدّث أبدا عن حياتها الخاصّة أو عن أيّ شيء عن ماضيها قطّ، كأنّها ولدت قبل أربعة سنين! لا يعرفون قبلها أن كانت متزوّجة، أو عازبة، أو مطلّقة، أو مرتبطة، لا يعرفون عنها شيئا سوى كونها طبيبة ناجحة تعمل معهم، وابنة جرّاح شهير مسافر خارج البلد، وأنها أخت مراد الذي كان أشدّ غموضا منها، وهذا ما أشعل الشّائعات والتكهّنات حول اثنيهما، فالناس يتعطّشون لاكتشاف كلّ ما هو مخفيّ، وأمّا حنين بطبعها المُتباعد فلم تحاول يوما أن تروي فضولهم، فما زاد هذا من نار شائعاتهم إلا اشتعالا! بعد خروج حنين عمّ صمت غريب أرجاء الغرفة وقد استقبل كلّ منهم ما سمعه بطريقته. فأمّا عن ايلين، فقد كان سبب اغتياظها الحقيقيّ من حنين مغايرا تماما لما يبدو في الحقيقة، لم يكن لا سمعتها كطبيبة، ولا سمعة المركز، ولا حتى القضيّة يعنونها، بل كان "ليث"! كانت ايلين تحبّ ليث، وكانت تعلم أن ليث يحبّ حنين، لذلك قبل حتى أن تستوعب ما سمعت نظرت بسرعة إلى ليث، فوجدت وجهه قد شحب تماما متجمدا مكانه دون أن ينطق بكلمة، فسقط وجه ايلين محتدّا أكثر فأكثر.. ألماس، كانت أكثرهم قُربا لحنين وكانت دائما تشعر أنّها عرفتها أكثر من الجميع، خاصّة لكونها خطيبة أخيها، إلّا أنها الآن فهمت أن معرفة حنين شيء أقرب إلى المستحيل، تماما كما هو الوضع مع مراد! أمّا عن مراد فقد كان أوّل من خرج عن بئر الصمت الذي وقعوا فيه بعد خروج حنين متوجّها إلى ايلين بحنق شديد: _ هذه المرّة تجاوزتِ كلّ الخطوط الأخلاقيّة يا ايلين، وأنا لن أتجاوز عن قلّة الاحترام التي قمتِ بها تجاه ابني وأختي اليوم أبدا! همّت ايلين بالاحتدام من جديد مفرغة فيه جرعة غضبها الجديدة لكنّ ألماس أسرعت ممسكة ذراعها بقوّة شديدة قائلة بحزم: _ هذا يكفي! يكفي ما قلته إلى الآن يا ايلين فلا تزيد خطأكِ خطأ، هيّا فلنذهب من هنا فورا، ثمّ أضافت ناظرة إلى مراد برجاء: _ لو سمحتَ يا مراد، فلتنتهي هذه الليلة على خير لو سمحت! نظر مراد إليهما وقد بدى فاقدا لعقله من الغضب، لكنّه التزم الصّمت بالفعل أمام نظرة ألماس الراجية، وتابعها بعينين مشتعلتين تسحب ايلين سحبا إلى أن أخرجتها من هناك، وما أن خرجتا حتى سقطت دفاعاته على الفور، شعر بساقيه يتهاويان للحظة فأمسك بسرعة الطّاولة بجانبه. أخذ أنفاسا عميقة شاعرا بالاختناق، ثمّ مشى بخطوات مضطربة نحو الطّاولة الصّغيرة المجاورة ينظر إلى وجه الطّفل المبتسم في الإطار، الّذي صعد ملاكا إلى الجنّة قبل أن يتمّم من عمره عاما.. اقترب بخطوات قصيرة ومتهاوية إلى أن وصل إلى الإطار، حمله بيدين مرتعشتين، نظر إليه بعينين شديدتي الاحمرار تحملان جبالا من الألم تجاورها جبال من الحنان، اجتمعت في عينيه دموع قهر، دموع لا يذكر متى كانت آخر مرّة زارت عينيه، ربّما منذ أربعة سنين؟ وضع يده على الصّورة كأنّما يلمس شعره القصير الأشقر، ووجهه شديد البياض تزيّنه قبلات من الشّمس عند أنفه ووجنتيه... **** وقف أحمد أمام سيّارته مقطبا، ينظر إلى الشّرطيّ الذّي اقتحم سيّارته يدقّ على باب أزرق قديم في شارع فرعيّ خال من الضّوء والبشر، وقد أمضى طول الطّريق معه بصمت لم يخترقه سوى ليدلّه على الطّريق، وليؤكّد له أنّه رجل مأمور بأن يحضره فقط، وأنّه سيفهم ما يريدونه منه حين يصلون إلى وجهتهم. انفتح الباب أخيرا، ليطلّ منه رجل صغير الحجم مقارنة بشهاب الضّاوي، يرتدي زيّا رسميّا يخفي وجهه، ولا يظهر منه سوى عينين ثاقبتين تبرقانه بطريقة أشعلتا مصابيح الارتياب عنده، وحرّكتا عنده غريزة الحذر، إلّا أنّ الأخير سرعان ما فتح الطّريق قائلا بصوت ذو نبرة غريبة زادتا من شعوره الغريب غرابة: _ تفضّل سيادة المفوّض. نظر شهاب خلفه نحو أحمد الذّي ينظر إليهما مقطبا، ثمّ قال بهدوء: _ أعلم سيّد أحمد أنّ الوضع يبدو مريبا، لكنّك ستفهم كلّ شيء بعد دقائق، تفضّل رجاءً. وقف أحمد مبادلا إيّاه النّظر لثانيتين فقط، ثمّ تقدّم من خلفه داخلا، ومارّا بجانب الشّرطيّ المتخفّي راميا إيّاه بنظرة أخرى شاملة، ثمّ تجاوزه داخلا ليجد نفسه في مقهى عتيق، يبدو أنّه مغلق منذ مدّة من الزّمن، وفي احدى الطّاولات في الرّكن رأى رجلين جالسين، أحدهما يقابله بوجهه والآخر بظهره. تقدّم أحمد مدقّقا أوّلا في الوجه الّذي يقابله، وقد استطاع أن يفهم من نظرته الحادّة وثيابه شديدة الرّسمية، أنّه إمّا وكيل نيابة أو قاضي تحقيق، وقد وقف يبادله النّظر إلى أن أصبح بجانب الطّاولة قائلا: _ أهلا بك سيّد أحمد، أرجو أن لا تؤاخذنا أن أحضرناكَ إلينا بهذا الشّكل! اقترب أحمد الخطوة الأخيرة من الطّاولة يقابله النّظر بطريقة مباشرة، لكنّه قبل أن يجيبه نظر بفضول إلى جليسه، لتتّسع عينيه بشدّة وهو ينظر إلى الرّجل السّبعينيّ الّذي ينظر إليه بغضب شديد امتزج بشوق حقيقيّ وهو يخاطبه بحنق: _ أهلا بطالبي عديم الوفاء وقليل الخير! _ عمّي "العكرميّ"؟! قال أحمد متفاجئا بشدّة ومسقطا في نفس الآن كلّ تحفّزه برؤيته، في حين وقف الأخير على مهل وقد بدى يجد صعوبة في الحركة قائلا بتوبيخ شديد: _ وهل مازلت تذكر عمّك العكرميّ يا قليل الخير والوفاء؟ لملم أحمد تفاجأه وابتسم بألم شديد، وقد تدفّق الحزن إلى قلبه للحظة كأنّه يرى عمّه رحمه اللّه واقفا أمامه: _ ماذا تقول يا عمّي! قال بصوت محشرج مسلّما عليه بدفء شديد، وناسيا للحظة كلّ تساؤلاته عمّا يدور حوله سائلا باهتمام حقيقيّ: _ كيف حالك يا عمّي؟ كيف حال صحّتك؟ _ لو كانت تهمّكَ صحّتي لكنتَ سألتَ عنّي يا قليل الوفاء! أجابه "العكرميّ" بغضب رافضا السّلام عليه، رغم أنّ الدفء ارتسم على كلّ خطوط وجهه وهو يردف بتوبيخ: _ أربعة سنين؟! أربعة سنين لم ترفع حتّى سمّاعة الهاتف لتتأكّد إن كنتُ حيّا أو ميّتا؟ ثمّ اظلمّت عينيه أكثر فأكثر وغامتا مردفا بخيبة وغضب شديدين: _ لكن ماذا سأنتظر غير هذا من جاحد لم يحضر حتّى جنازة عمّه الّذي ربّاه؟! تجمّد أحمد مكانه كأنّما تلقّى طعنة قاتلة في أضعف منطقة في روحه، فسقطت عنه كلّ دروعه، وأشاح بسرعة عنه بعينين غامتا واحمرّتا على الفور، حتّى كاد يندم العكرميّ على ما قاله رغم غضبه الشّديد منه، في حين نظر إليهما الرّجل الآخر مقطبا بغير فهم ومحافظا على صمته. قال العكرميّ أخيرا بصوت محشرج: _ اقترب وسلّم عليّ يا قليل الخير، تعال! مالت شفتي أحمد بمرارة، واقترب مسلّما على رفيق درب عمّه كأنّما يحتضن عمّه نفسه الّذي حرم من توديعه. تنحنح العكرميّ بعد ثوان معيدا دموعا كادتا تخرجان من مخبئهما، ونظر نحو أحمد مربّتا على كتفه بقوّة إشارة لأن يستعيدوا جديّتهم، فهزّ أحمد رأسه من فوره وقد كان ذلك أكثر ما يجيده، معيدا في ثوان كلّ مشاعره إلى سجنهم من جديد، ثمّ نظر إلى العكرميّ ليجد سمات القاضي قد عادت إلى ملامحه من جديد، ناظرا إلى الرّجل الواقف أمامهما وقائلا بصوته الجهوريّ: _ أعرّفكم، سيادة وكيل النيابة "عماد الزّالي"، ثمّ أشار إلى أحمد مردفا: _ محامي التّحقيق "أحمد الأكرميّ"، ابن زميلي القاضي الشّريف المرحوم "كرم الأكرميّ"، ورَبِيبُ أخي وصديقي ورفيق دربي، عمّه "رضا الأكرميّ" رحمه اللّه رحمة واسعة. تصافح أحمد مع الوكيل بجديّة ووقار، في حين أردف العكرميّ بنفس النّبرة: _ وقبلهم جميعا طبعا، طالبي المميّز الّذي رغم كونه قليل خير، إلّا أنّه من أفضل من تخرّج على يدي ومن أشرفهم. قال وكيل النيابة باحترام: _ تشرّفنا جدّا سيّد أحمد، سمعنا عنك طبعا من قبل، تفضّل رجاءً. هزّ أحمد رأسه بشكر جالسا بالفعل، فأردف النّائب قائلا: _ لا تؤاخذنا أن أتينا بكَ بهذه الطّريقة، لكن كما لا بدّ أخبرك السيّد المفوّض "شهاب" فحضرتك مراقب. هزّ أحمد رأسه قائلا ببساطة: _أخبرني نعم، وأنا واع أساسا بهذا منذ مدّة، ضيّق وكيل النّيابة عينيه رافعا حاجبيه، ثمّ سأله: _ إذن لديك فكرة طبعا عن الشّخص الّذي يراقبك؟ _ فلنقل لديّ تخمين! أجابه أحمد يميل برأسه قليلا، ثمّ أردف بثقة: _ لكن طالما أنتم قد وعيتم بذلك فلا بدّ أنّ الإجابة الصّحيحة عندكم، وطالما أنّني هنا، فلا بدّ أنّكم تعرفون السّبب وراء وضعي تحت المراقبة أيضا. نظر وكيل النّيابة إلى العكرميّ الّذي مالت شفتيه بابتسامة صغيرة رافعا يديه، ثمّ نظر إلى أحمد من جديد بابتسامة صغيرة قائلا: _ صحيح! كما لا بدّ أنّك تخمّن، رجال أسد الأسمر يراقبونك، ونحن نعرف أنّكَ خلف هذا الرّجل منذ فترة، وأنّه قد وصل إلى يدك بعض الوثائق الّتي قد تثبت تجارة هذا الرّجل للمخدّرات. قطب أحمد زامّا على شفتيه للحظة، ثمّ هزّ رأسه موافقا وقائلا: _ لو كان لديّ ما يكفي من الأدلّة لكانت عندكم أساسا إن كنتم أتيتم بي من أجل هذا. هزّ "عماد" رأسه بالرّفض قائلا: _ بل أتينا بك من أجل شيء آخر، أو بالأصحّ شيئين. سكت عماد قليلا ناظرا إلى العكرميّ ثمّ إليه، ثمّ أردف بجديّة تامّة: _ نحن قد بدأنا قبل فترة بالتخطيط لعمليّة سريّة للإيقاع بتجارة هذا الرّجل وإثبات الجرم عليه، لذلك نريد أن نجمع جهودنا، أي نجمع الخيوط الّتي عندك والّتي عندنا ونعمل سويّا على هذا الملفّ، بالمقابل طبعا، نحن سنقوم بحمايتك أنت وعائلتك، لأنّك مع الأسف سيّد أحمد، لستَ الوحيد المهدّد و المراقب. قطب أحمد وقد وضع عماد أمامه على مهل ثلاث صور فوق الطّاولة جعلت وجهه حادّ التّعابير يزداد جمودا وحدّة، وهو ينظر إلى صور لوالدته تثبت أنّها وضعت أيضا قد تحت الرّقابة. ضغط أحمد على فكّه ناظرا إلى عماد و العكرميّ للحظة، في حين سحب عماد ملفّا واضعا إيّاه فوق الطّاولة ومردفا: _ أمّا ثانيا، فهنالك قضيّة خطرة جدّا على وشك الاشتعال في أروقة المحكمة في القريب العاجل، والبطل الرّئيسيّ فيها طبعا هو أسد الأسمر. قطب أحمد ناظرا إلى الملفّ الّذي كتب فوقه: «قضيّة مركز شفاء للعلاج من المخدّرات»، في حين أردف النّائب: _ وهذه القضيّة لها علاقة بالسيّد العكرميّ أيضا. نظر أحمد مقطبا إلى العكرميّ، فرفع كتفيه قائلا: _ دخلتُ كمستثمر في مشروع مركز العلاج هذا قبل ثلاثة سنوات، أي كنتُ أحد مموّلي هذا المشروع عند نشأته. ازداد تقطيب أحمد حدّة، في حين أردف النّائب: _ طبعا، جميع المحامين يفرّون من حمل هذا الملفّ، ولا يعتبر أنّهم غير محقّين! لذلك لن أطلب من حضرتك حمل هذا الملفّ، فلا هذا من حدّي ولا هذا من عملي، لكن إذا أخذنا بالاعتبار عدم العدل أيضا في كون الطّرف الّذي ضدّ أسد الأسمر لا يجد محاميّ دفاع يقبل بتولّي القضيّة إلى يومنا هذا! فأقلّ شيء أستطيع فعله هو أن أضع الملفّ أمامك لتدرسه جيّدا وأترك القرار إلى حضرتك بالقبول أو بالرّفض، فما قولك سيّد أحمد؟ قطب أحمد ينظر إلى الملفّ بصمت طويل، ثمّ رفع عينيه إلى العكرميّ الّذي رفع حاجبيه إشارة لكونه لن يتدخّل في قراره، فهزّ أحمد رأسه مفكّرا للحظات، ثمّ نظر إلى النّائب من جديد قائلا: _ بالنّسبة إلى ما أجمّعه من أدلّة حول أسد الأسمر، فأنا على كلّ حال لا أجمّعها لنفسي، بل أجمّعها من أجل العدالة في آخر الأمر، وكون الشّرطة قد بدأت في تنظيم عمليّة سريّة لإثبات تورّط هذا الرّجل، فهذا أساسا كان هدفي الأوّل الّذي من أجله أقوم بهذا، ثمّ نظر إلى العكرميّ مردفا: _ وإذا كان عمّي العكرميّ يشهد فيكم الثّقة، فأنا أثق بكلمته كأنّها كلمة عمّي رحمه اللّه، وجاهز أن أشارك معكم كلّ ما عندي من وثائق. هزّ العكرميّ رأسه إشارة تأكيده على أنّه أهل ثقة، فهزّ أحمد رأسه على الفور رأسه إشارة الموافقة، ليهزّ النّائب رأسه إشارة الاتفاق... أردف أحمد بجديّة مشيرا إلى ملفّ القضيّة: _ أمّا بالنّسبة لهذا الملفّ، فطبعا إن كان من هم ضدّ أسد الأسمر أصحاب حقّ، فسأحمل هذه القضيّة بلا أدنى شكّ! فقال العكرميّ بتوبيخ وبنظرة أثارت ريبته: _ لا تتسرّع! اقرأ الملفّ أوّلا وتعرّف على القضيّة وعلى موكّليك ثمّ قرّر! هل هكذا علّمتك أنا وعمّك؟ مالت شفتي أحمد ابتسامة صغيرة قائلا: _ أنتَ وعمّي علّمتماني أن أكون مع المظلوم أينما كان وكيفما كان وبلا مساءلة، فهل تعلّمتُ خطأ؟ مالت شفتي العكرميّ بحزن رجل عجوز فقد رفيق دربه، لكنّه أبعد عينيه عنه بصمت دون أن يعلّق، فاستطرد النّائب بجديّة _ حسنا إذن، سنترك الملفّ عندك لتطّلع عليه وتدرسه جيّدا، والمفوّض شهاب سيخبرك كيف تتواصل معنا عند الحاجة بعيدا عن الهواتف والأعين. هزّ أحمد رأسه راميا نظرة سريعة على شهاب، ثمّ قطب ساحبا القصاصات المرقّمة من جيبه وواضعا إيّاها فوق الطّاولة وسائلا: _ بالمناسبة، هل لهذه القصاصات علاقة بكم؟ قطب النّائب وقد وضعها أحمد أمامه مرقّمات بالترتيب مردفا: _ أتتني في العشرة الأيّام الأخيرة بالتّرتيب، واليوم قد انتهى العدّ. فهزّ النّائب رأسه بسرعة إشارة الرّفض مستنكرا: _ وهل نحن عصابة! طبعا ليست من عندنا، أليس كذلك؟ سأل ناظرا إلى المفوّض والشّرطيّ بجانبه، فقال شهاب على الفور بعد أن رمى نظرة إلى رفيقه: _ لا، لا صلة لنا بها! فقال النّائب على الفور: _ اتركها هنا وسنقوم برفع البصمات عنها، ولا تقلق سيّد أحمد، سنزيد الحراسة حولك وحول عائلتك هذه الفترة. أخذ أحمد أحد القصاصات عنده داسّا إيّاها في جيبه، وترك الآخرين قائلا: _ فقط قوموا بوضع حراسة على عائلتي وهذا يكفيني! **** استيقظت حنين فجرا، بدأت يومها بأجمل ما في الدنيا وما فيها، بصلاة الفجر، ثم ذهبت وحضرت قهوة الصباح متجهة بها إلى الشرفة، إلا أنها ما أن مَرّت أمام مكتبها حتى توقفت للحظة بتردد، ثم دخلته وهي تخاطب نفسها بأنها إن لم تُقدم على هذا الآن بعد الذي حدث بالأمس لن تقدم عليه أبدا. توقفت طويلا وهي تنظر إلى دُرجِ مكتبها لكنها فتحته أخيرا متمتمة: _ وكأنّ هنالك حل آخر.. أخذت حنين "التابليت" فاتحة رسائل وصلتها قبل شهر من اليوم ولم تكن تنوي فتحها لولا الذي حدث بالأمس، ثم أخذت فنجانها وتوجهت نحو الشرفة من جديد. جلست على الكرسي وفتحت الرسائل بالتابليت أمامها وهي تتمتم: "لا أعلم ما تريده مني يا سيد "عمر الأكرميّ"، لكنني أعلم أنّني يا للأسف قد وقعت للحاجة إليك"، خاطبت نفسها وهي تفتح أول رسالة: " مرحبا حنين، لقد مرت سنوات طويلة منذ آخر مرة رأيتك فيها، أتمنى حقّا أن تكوني بخير، أو على الأقلّ أفضل ممّا تركتكِ، أعلم أنك مندهشة أن راسلتكِ، فقد كان آخر طلب منك لي قبل رحيلكِ هو أن أبتعد عنكِ، وأنا قد احترمت طلبك هذا طول هاته السنين لكن.. لكن مع الأسف يا حنين وقعتُ في الحاجة لكِ. على كلّ، الأمر ليس ببسيط لأشرحه برسالة، أنا الآن مسافر بعمل وسيستغرق أمري شهرا لذلك أردتُ إعلامك أنني سأحاول الوصول إليك حال عودتي من السفر" قرأت حنين الرسالة مرارا وقد أصابتها بحيرة كبيرة، خاصة أنه قد أعاد فيها نفس الكلام في بقية الرسائل إنما بطرق مختلفة، كأنما يؤكد لها بهذه الطريقة جديّته، ولكنها احتارت أكثر تُفكّر بما قد يحتاجها "عمر الأكرميّ" لدرجة أن يبعث لها بأربعة رسائل بعد سنين ليبلغها بزيارته لها بعد سفره. كانت حنين قد فكرت منذ أن بدأ والد "وليد" يُضايقهم ويَسحَبُ المحامين اللذين توكلهم بالاتصال بعمر، فهو يدير مكتب محاماة، لذلك فهو أفضل من يستطيع أن يوجّهها إلى محاميّ قادر على تولي قضيتها، نظرت حنين إلى التاريخ الذي ذكر أنه سيعود فيه ليزورها لتنفعل بدهشة: _ يا إلهي اليوم! استنكرت حنين في مكانها لكن صوت مراد فاجأها أكثر: _ ماذا هنالك اليوم؟ نظرت حنين إلى مراد الذي دخل وألماس إليها سويا حيث تجلس، بينما لاحظت بسرعة النظرة الفاترة والفضولية التي توجهها لها ألماس خِلسة، ابتسمت حنين مجيبة: _ صباح الخير لكما. _ صباح النور، أجابها كليهما في نفس اللحظة، ثمّ كرّر مراد سؤاله من جديد: _ ماذا هنالك اليوم؟ نظرت حنين بلا وعي إلى التابليت فلمح مراد اسم عمر فيه، فقطب جبينه سائلا: _هل قرأت الرسائل؟ _ نعم. سأل بصوت طغى عليه الاستهجان: _ وما الذي يريده السيد عمر الأكرميّ؟ _ يقول إنه وقع في الحاجة. _ من؟ عمر الأكرميّ وقع في الحاجة؟ في حاجتك أنت؟ _ هذا ما يقوله، أنا أيضا اندهشت في الحقيقة. _ وما قولك أنتِ؟ سأل مراد مُقطبا بتحذير، فأجابته بصدق: _ لا أعرف لكنني سأعلم، فقد كتب بالرسائل أنه سيزورني اليوم. _ هل أنتِ جادة؟ سأل مراد بتوتّر، فأجابته مؤكدة: _ نعم كلّ الجد، وأساسا يا مراد، إن لم يراسلني هو كنت أنوي أن أتصل أنا. _ حنين! نتحدث عن نفس العمر أليس كذلك؟ سأل بتحذير جعل الفضول الذي في عيني ألماس يتزايد، بينما وقفت تستمع في صمت للحديث الذي لم تفهم أبعاده. أجابته حنين مستنكرة: _ لا تفعل يا مراد! لا تتصرف كأنك لا تدرك الوضع الذي حُشِرنا فيه، كما أن الأمور ستزداد تعقيدا بدخول الصحافة في الأمر بالفعل، وأنت تعلم جيدا أن لا أحد غير السيّد عمر يستطيع وجود محاميّ يقبل قضية كهذه قد يتعرّضُ من يتولاها إلى التهديد! _ فلتذهب الدعوة إلى الجحيم إذن يا حنين. صرخ مراد بطريقة مفاجئة جعلت ألماس تهتز وتزداد ارتيابا، بينما أردف صارخا من جديد: _ فليذهب كل المركز إلى الجحيم، أنتِ كيف تفكّرين بإدخال أيّ أحد من تلك العائلة إلى حياتكِ من جديد؟ نظرت حنين إلى مراد مُقطبة باستياء، ثمّ إلى ألماس التي وقفت بإحراج لا تدري أتخرجُ أم تبقى، بينما بدى أن مراد قد تذكر وقوف ألماس معهم عندها فقط، فقالت بسرعة ما إن نظر إليها بحدة: _ أنا سأترككما وحيدين. _هذا أفضل! أجابها بحدّة، فقالت حنين بإصرار تنظر إلى مراد شزرا على طريقة كلامه الفظة مع ألماس: _ لا! لا تذهبي إلى مكان، ثمّ التفتت إلى مراد قائلة: _ فلنتحدّث فيما بعد يا مراد لو سمحت. نظر إليها مراد بغضب، فكرّرت برجاء: _ لو سمحت! فهزّ رأسه بسخط يُؤكّد أن حديثهما لم ينته، ثم خرج من الشرفة بسرعة تاركا ألماس وحنين وحيدتين. نظرت حنين إلى ألماس التي وجهت لها نظرات فاترة ومستغربة في الآن نفسه، فقالت حنين مشيرة إلى الكرسي بجانبها: _ ألن تجلسي؟ بدت ألماس غير راغبة في الجلوس لكنها اقتربت جالسة تهربُ بعينيها عن النّظر إلى حنين، فابتسمت حنين على الرغم عنها، فأجمل ما تحبّه في ألماس هو شفافيتها النادرة هذه، فأردفت بلا لفّ ولا دوران: _ أعلمُ أنكِ مُمتعضة مني.. _ ممتعضة نعم! لكنني لا أريد الكلام عن هذا. قالت تهرب بعينيها إلى الحديقة من جديد، فقالت حنين بهدوء: _ كنتُ أظننا كأصدقاء نواجه بعضنا بما يسوئنا في بعض يا ألماس. نظرت ألماس إلى حنين مُقطبة جبينها، ثمّ انفعلت بغضب: _ أنا بِتّ أشك أننا أصدقاء يا حنين! لأن الأصدقاء يثِقون في بعضهم ويتحدثون في كل شيء، أنا فهمت بالأمس أنني حتى لم أعرفك يا حنين، بينما أحدّثكِ أنا عن كلّ صغيرة وكبيرة بشأني منذ طفولتي إلى يومي هذا، أجد نفسي لا أعرف شيئا عنكِ أبدا كأنّ لا ماض أبدا لكِ، ثمّ أكتشف أن أقرب صديقة عندي والتي أعتبرها بمقام أخت لي كانت متزوجة منذ سنين وأنا لا أعرف عن هذا حتّى! _ معكِ حق. أجابت حنين ببساطة وأسف أربكا غضب ألماس، ثم اقتربت منها، نظرت إلى عينيها وأضافت بهدوء وصدق: _ الحديث والفضفضة لا يكونان دائما دواء للروح يا ألماس! خاصة عندما يكون ما نُخفيه في أنفسنا ماض مسموم بالذنوب والآلام، حينها يكون التحدث فيه هو فتح للجراح لا مداواتها، أنا لم أنغلق على نفسي لأنني لا أثق بك، بل لأن حديثي يعني أن أعيش ذلك الماضي من جديد، وأنا كنت قد محيته من حياتي تماما كي أستطيع أن أقف بقوة كما ترينني الآن. قطبت ألماس جبينها أمام نبرتها التي بدت خارجة من أعماقها صدقا، ثم سألتها باستهجان: _ألهذه الدرجة؟ ألهذه الدرجة ما عشتهِ لا يحكى؟ أجابتها بصدق: _ ماضِيّ هو نقطتي السوداء التي أتمنى محوها يا ألماس، ارتكبتُ فيه أخطاءً كبيرة، ودفعتُ فيه أثمانا كبيرة، قالت بصدق وحُزنٍ اختبأ في مكان بعيد في أعماق عينيها، جَعلَ ألماس تتأثّرُ لَهُ مُرغمة وقد رأته للمرة الأولى في عيني صديقتها، لذلك أشاحت عينيها بضيق، ثمّ قالت بصوت خافت: _ حسنا، على كلّ حال أنا لن أجبرك على ما قد يؤذيك. همّت ألماس بالوقوف من مكانها، إلا أنّ حنين قاطعت قِيامها حين قالت فجأة بصوت محشرج: _ اسمه أحمد. نظرت إليها ألماس مقطبة، فأضافت: _ أحمد الأكرميّ. _ طليقكِ؟ سألت ألماس، فابتسمت حنين ابتسامة ساخرة طغى عليها الألم: _ ليس تماما، كان مكتوب كتابنا، ثمّ.. ثمّ تركني واختفى قبل الزفاف بليلة. اهتزّت عيني ألماس دهشة وهي تنظر إلى حنين التي حافظت على وجهٍ بارد خال من المشاعر، فباتت ألماس واثقة بعد الذي قالته أنّ البرود المرتسم على وجهها الآن من غير الممكن أن يكون حقيقيا، إلا أنها سألت باختصار وهدوء: _ "الأكرميّ"؟ أليس نفس اسم العائلة التي حذّركِ مراد للتو من التعامل معها؟ _ بلى، أجابتها حنين بنفس الهدوء والبرود، بينما هبّت رياح قوية على أبواب ذكرياتها تحاول خلعها عندما فكّرت بالتحدث، فتحركت معهم عواصِفُ ألم عجيبة بصدرها أخافتها، لذلك قررت حنين ترك تفاصيل الذكريات جانبا مُحافظة على نفس البرود، لتتحدث كما لم تفعل يوما، وبالقدر الذي يحافظ على ألمها مخبأ حيث اختبأ: _قبل سنوات، عندما كنت ما أزال طالبة في بداية تخصصي في الطب النفسي، كانت قد انتهت المدّة القانونية التي تخولني للعيش في السكنِ الجامعيّ مما جعلني أبحث عن بيت للاستئجار، وتعلمين جيدا كم أن وجود سكن جيّد في العاصمة بإمكانيات محدودة أمر عسير خاصة إن لم يشاركك أحد فيه. هزت ألماس رأسها موافقة وقد أرهفت السمع إلى حنين التي قلّ ما تتحدث عن نفسها، بينما أردفت الأخيرة: _ في تلك الفترة، كان قد أتاني عرض لسكن جيّد مع عائلة محترمة، وذلك بأن أسكن في ملحق البيت، فقط على أن أهتم بابنتهم المريضة في أوقات فراغي، وقد قبلتُ بالأمر بعد تفكير عندما نفذت الحلول من يدي. سألت ألماس وقد اتسعت عينيها اهتماما: _ عائلة الأكرميّ؟ _ نعم، أجابتها بنصف ابتسامة توسّطت وجهها، ثمّ نظرت إلى الرسالة في التابليت مضيفة: _السيد عمر قاض سابق، استقال من القضاء بعد وفات والده -العمّ رضا رحمه اللّه- من أجل أن يدير مكتب المحاماة التي تركه له. رجلٌ مُحترمٌ لا أنسى فضله عليّ أبدا! اهتممت بابنته "جنّات" التي كانت مريضة عندي في بيتهم، حتى أصبح لها ولأخيها "جان" في قلبي مكانة كبيرة جدّا، عشتُ في ذلك البيت لفترة ليست بالقصيرة، أصبحتُ فيها بطريقة ما جزءا من تلك العائلة الصغيرة، التي لم تكن إلا جزء من عائلة أكبر، فبجانب ذلك البيت الذي قطنت في ملحقه، يوجد بيت عم السيد عمر رحمه اللّه، الذي يقطنه ابنه وزوجته. سكتت باختناق، ثم أردفت بكل ما استطاعت من الهدوء: _ أحمد وأمّه السيدة خديجة. وقد كانوا يعيشون جميعا كعائلة واحدة وكبيرة رغم انفصال كل بيت منهما عن الآخر، وكانوا قد قبلوا بي جميعا بينهم كجزء من العائلة بصدر كبير ورحب. سألت ألماس مقطبة باهتمام حقيقيّ: _ ما الذي حدث إذا؟ ارتعدَ فم حنين للحظة حتّى شكّت ألماس أنها ستبكي، إلا أن وجهها سُرعان ما غزته ابتسامة غريبة حين أضافت: _ بالرغم من أن أحمد كان رجلا أبعد ما صوّرته لنفسي ليكون زوجا لي، إلا أنّني وللعجب سرعان ما وقعت في حبه. لمحت حنين التعجّب الذي لم تستطع ألماس اخفاءه من تحدثها عن الحب بهذه الطريقة، فأضافت مبتسمة بلطافة: _ أعلم أنّني أبدو للجميع مجرّدة من المشاعر، إلا أنني كغيري لا سلطان لي على قلبي، ويوم تمرّد عليّ لم أستطع المسك بلجامه، حتى حين اختار شخصا بعيدا كل البعد عمّا صورتهُ لنفسي. قطبت ألماس سائلة: _ لماذا؟ هل كان رجلا سيّئا؟ ابتسمت حنين بألم تهزّ رأسها بالرفض وقائلة: _ لا! بل كان رجلا رائعا. قطبت ألماس بحيرة سائلة: _ لماذا كان بعيدا عمّا صوّرته لنفسك إذن؟! اتّسعت ابتسامة حنين المتألّمة مجيبة: _ شخصيّته هي التي كانت بعيدة عما صوّرته لنفسي، فقد كان يشبه أبي بشدّة! رفعت ألماس حاجبيها بصدمة، فأردفت حنين مبتسمة بألم: _ جميعكم تسمعون عن الدكتور يوسف الصادق، تعرفون أنه رجل شهم بذل حياته لعمله وعلمه، وهو كذلك بالفعل، لكن ما لا تعرفونه، أنه كان رجلا شديدا لا يقبل الخطأ، لا يقبل الزّلل ولا يعرف ألوانا ما بين الأبيض والأسود، ولا يؤمن بوجود أرقام بين الواحد والصفر، أنا أحبّه كثيرا وأحترم خصاله مثلكم وأكثر، لكنني كنتُ دائما أقول إنني حين سأختار زوجا سأحرص على ألّا يكون مثله، لأنني كنتُ أحتاج رجلا يكون صديقا لي قبل كلّ شيء، لا أخاف أن أعرض أخطائي أمامه، كنتُ أحتاج رجلا أشعر معه بالأمان الذي كنتُ أفتقده مع أبي. سكتت ألماس تنظر إليها بحيرة، بينما أردفت حنين بألم كأنما عادت سنينا إلى الوراء: _ ربما لهذا هربت بكلّ جهدي حين شعرت أنه يحمل مشاعرا نحوي، حافظتُ على مسافتي به لفترة لا بأس بها، لكنها لم تمنع قلبي من الخفقان، ثمّ.. اختنقت مع ابتسامة مريرة زارت ثغرها مضيفة: _ ثمّ عند أول حادثة جعلتنا نحتكّ ببعضنا أسقط حصوني بسهولة غريبة، ثمّ أخبرني أنه يحمل في قلبه ما أحمله وطلب فورا التعرّف على أبي، ثم حدث كل شيء بسرعة عجيبة. توقفت مختنقة، ثم أضافت وقد صاحب ابتسامتها ألم مكبوت: _ وانتهى بنفس السرعة أيضا، كل شيء كان سريعا كالحلم! _ كيف؟! سألت ألماس بصوت منخفض، فاهتزّ وجه حنين للمرة الأولى بطريقة مكشوفة لألماس أمام سؤالها. شعرت بغصّة في حلقها لم تشعر بها منذ زمن بعيد، تشوّشت تماما، لم تعرف كيف تشرح أو من أين تبدأ، فقالت بضياع: _ كان السيد عمر أب مريضتي، عرفته قبل أحمد بكثير، وفي فترة علاج جنّات كان ينفصل عن زوجته.. و.. وأصرّت زوجته في تلك الفترة أنّه ينفصل عنها لأنّه يخونها.. اختنقت حنين، ثمّ أردفت بارتباك: _بعدها.. السيّد عمر من أدخلني إلى ذلك البيت لأهتمّ بابنته حيث تعرّفتُ على أحمد، ونَمَتْ علاقتنا هناك كما شرحتُ لكِ.. قطبت ألماس ترى حنين للمرّة الأولى مرتبكة ولا تجمّع الكلام بهذا الشّكل، وقد بدى الذّنب جليّا في نظراتها حين أردفت: _ ف.. في فترة.. تصادف أن كان السيّد عمر الوحيد الذي علِمَ بسرّ عن أختي، لا يعرفه أحد غيري، وترجّتني ألّا أخبره لأحد، خاصّة لأحمد لأنّه كان قريبا جدّا من مراد في تلك الفترة، وطلبتُ استشارة السيّد عمر ومساعدته حينها.. اختنقت بشدّة، ثمّ أردفت بعدم اتّزان: _السيّد عمر، ابن عمّ أحمد وابن خالته في نفس الوقت! لكنّه كان أخا لهُ في الحقيقة، اعتبرته.. اعتبرتهُ كالأخ الكبير بالنسبة لي تماما كما كان يعتبره أحمد، لم أعرف كيف! كيف.. توقّفت حنين عن الحديث غير قادرة على المضيّ أكثر، فضاقت عيني ألماس أكثر من أي وقت مضى، تلملم كلّ ما قالت من كلام غير مرتّب، ثمّ سألت بعدم تصديق: _ هل.. هل شكّ في كونكِ كنتِ المرأة الّتي تسبّبت في طلاق السيّد عمر؟ أو في وجود شيء بينكما؟ شعرت حنين بقشعريرة مرّت في جسدها، إلّا أنها ابتسمت بارتعاش مجيبة: _ لا أعلم.. ربّما الاثنين.. أنا نفسي إلى الآن لا أعرف بما شكّ بالضبط لأنّه اختفى منذ ليلتها ولم يكلّف نفسه بأن يشرح لي، لكنّ الحقيقة لا تخرج عمّا قلتِ! بدت الصّدمة والحيرة في عيني ألماس، فسألت: _ كيف لم يشرح؟ ألم تتواجها؟ هزّت حنين رأسها بالرّفض مجيبة باختناق: _ لا! فقد رحل مختفيا منذ تلك الليلة مع والدته ولم نجد لهُ أثرا، عرفنا أنّه سافر بعدها. رفعت ألماس حاجبيها بعينين شاخصتين، بينما أردفت حنين بحزن بارد غريب: _ أساسا بعد فترة توقّفتُ أنا نفسي عن البحث عنه، ومنذ ذلك الحين لم أسمع منه أو عنه خبرا! نظرت ألماس إليها تحاول إخفاء صدمتها، فهي لم تظنّ للحظة واحدة منذ أن عرفت حنين أنّها قد تكون تحمل في داخلها ألما و ذنبا كبيرين كالذي رأتهما في عينيها الآن، و لا أن تحمل في ماضيها قصّة كهذه، دائما رأتها كالجميع باردة، تستقبل كلّ الصعاب و الصدمات بابتسامة و هدوء يحسدونها الناس عليها، لكنها الآن و لأول مرة فهمت أنّ ذاك البرود لم ينتُج إلا عن براكين من الحمم صهرت فؤادها، فحين يعايش الانسان درجة يلمس فيها قاع الألم، يصبح بعدها قادرا على تقبّل الصدمات و الألم بهدوء أكبر، فيراه الناس باردا، بينما بروده في الحقيقة يشبه برود الرماد بعد حريق جارف جرف كلّ شيء معه. نهاية الفصل لمن أعجبه الفصل، سأضيف توضيحا تحته للمواعيد ولكلّ تفاصيل نزول الرّواية، وموعدنا الجمعة القادمة إن شاء الله. روابط الفصول المقدمة والفصل الأول أعلاه. الفصل الثاني الفصل الثالث الفصل الرابع الفصل الخامس الفصل السادس الفصل السابع الفصل الثامن الفصل التاسع الفصل العاشر الفصل الحادي عشر الفصل الثاني عشر ج١ الفصل الثاني عشر ج٢ الفصل الثالث عشر الفصل الرابع عشر الفصل الخامس عشر الفصل السادس عشر الفصل السابع عشر الفصل الثامن عشر الفصل التاسع عشر الفصل العشرون الفصل الواحد والعشرون الفصل الثاني والعشرون الفصل الثالث والعشرون الفصل الرابع والعشرون التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 11-11-24 الساعة 12:59 AM | ||||
الكلمات الدلالية (Tags) |
رومانسيّة، اجتماعيّة، بوليسيّة |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|