![]() | #11 | |||||||||||
كاتبةفي قسم قصص من وحي الأعضاء
| ![]() اقتباس:
| |||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #14 | ||||||||||
كاتبةفي قسم قصص من وحي الأعضاء
| ![]() الإهداء إلى أبي مطلع الحكايات وسرّي الأعظم؛ أُحبك جدًا. ** المقدمة. نحن أثر الأمس وصنائع أهالينا وكل القصص التي لم تُروَ بعد. ** الفصل الأول .. اختار مخاض ميسم العمري مجيئه في أسوأ ميقات، حيث التفت ظلمة مخيفة حول الأرض ينتشر مداها مع كل صرخة وأنين أطلقته حنجرتها. طال وجعها ولم تأتِ لحظتها طوال الليل الذي امتد بلا نهاية كأن الجنين يحتجز نفسه لأقصى حد فيها قبل الفُصام. ومع ظهور نتف الضوء الشاحبة جاءت اللحظة مطبقة بسكون بُدِّدَ بصرختها الأخيرة فقد أودع رحمها الطفل في مهد اغتال حقيهما، وفي غضون لحظات من خروجه للنور تم تسليم الصفقة والحقوق تخالصت. هرول العمري بلفافة بيضاء صامتة لم يولِها نظرة واحدة حتى وصل بها بوابة الطوارئ، هناك وجد القاضي وحده في انتظاره يتكئ على فيض من غم وحسرة، أحسّ بصوت الخطوات فنهض بصره للقادم، تراكض نبضه تحسباً للقيا العمري رفيق عمره الذي طالت رفقتهما قطيعة امتدت لأشهر مضتْ. استسلمت يدا القاضي لأخذ الرضيع من يدي جده العمري الذي ناوله الطفل بكوفية لا عقال لها، كان العُمري منكساً رأسه بهوان لا يليق برجل مثله، أعطاه الصغير وبمرارة كاسحة أجهزت عليه طلب دون أن يوجه لعيني القاضي نظرة: «استروا ما رأيتم منا» ثبت القاضي الطفل بين ذراعيه جيدًا بقلب يختض رهبة متجاهلًا رغبته في النظر إليه. أحرقته هيئة العمري وعزّ عليه أن يراه فاقدًا عزته بكل هذا الذل، حاول التخفيف عنه رغم فروغه لأول مرة من رد. إلا أنه حسم كلماته: «محشوم أنت يا أحمد، لم نر منك إلا كل خير» رفع العمري رأسه في هذه اللحظة بانكسار شج صدر القاضي له، حدق به بعينين كستهما مرارة العار وخرج صوته نائحًا: «ستري ضاع يا طالب وشرفي مرغه التراب، أي حشمة بقيت لدي!» انسحب العمري من اللقاء سريعاً وأخذته خطواته لباحة المشفى، التفت لطالب الذي بقي في مكانه يراقب رحيله بهامة مجزوعة «طالب، لم أؤذن في أذني الطفل كي لا ألوثه. تركتُ المهمة لك» لقد رأى القاضي قهر الرجال وعايشه في مرات لا تحصى لكنه الآن بالكاد تحمل وزنه ولم يمل مع هدر الدماء التي ضخت بقوة داخل شرايينه، شد الطفل الذي شرع يبحث فمه عن ثدي يلتقمه فراح بحثه سُدى، فما أرضعته أمه وما مرّ عليها وجهه ولم تجرب حضنه، فقد حُرِم رائحتها واللوذ في صدرها. شد طالب الطفل إليه وضمه إلى صدره حتى زخّ صوته بفجيعة لا يدركها سواه، أخذت من عينه دمعة ومن قلبه تهتكًا لإحدى شرايينه «اللهم إني أعوذ بك من قهر الرجال» كررها دامعًا عن الطفل الذي لم يطلق صوتًا حتى الآن منذ أن لفظه رحم ميسم، طفل جاء صامتًا كأنما ثقل ما عاشه في بطن أمه أخرسه، أسرع طالب خطاه وقاد سيارته نحو منزله وهناك استقبلته زوجته لطيفة التي أخذت الأرض جيئة وذهاب تكرر بخوف ولوعة: «اللهم استرنا ..اللهم جمّلها بالستر» انخلع قلبها حال رؤيتهما، ولم تحملها قدماها اللتين تيبستا. ساقها ابناها سلطان وفضل إلى زوجها. فابنها أحمد والد الطفل نفى نفسه ورفع عنها كل ما يتعلق بابنه. ارتجت عينا لطيفة ولهف صوتها وهي ترجو طالب حمل الرضيع تحت أنظار عائلته المكتوم حسّها. «أرني إياه يا طالب ..أريد رؤيته» تحرك الطفل بين ذراعيه متململاً، فأخذه إلى عينيه طويلاً وضم تفاصيله المنمنمة، لقد قرر؛ هذا الحفيد هو من سيربيه، ويبقيه في عرينه. وهو أبوه إن لم يعترف أبوه فيه ..وهو أخوه إن لم يكن له إخوة. بل سيكون له الدنيا كلها لو أحس بوحدته وسيسخّر نفْسه ونفَسه لأجله فقط! ظل الطفل في صمته شامخًا. فرقّ قلب طالب له وتحرك داخله شيءٌ بحجم الجبال، مال لأذنيه يُكبّر فيهما وحين فرغ منه عاد إليه هامسًا: «لقد بتَ ابني ومني!..» تركز في عينيه وميض غريب حين تهيأ الاسم له وأقرّه فعاد لعينيه اللتين تنفرجان بنصف بنظرة كسول « ابني وشبلي الصغير». رفعه بين ذراعيه عاليًا فأطلق الصغير صرخته زئيرًا، ازدادت رجفة لطيفة ودرت عيناها بالدمعات كما فعل كل من كان حاضرًا، هتف طالب بصوت عالٍ خضّ أركان مجلسه: « هذا ريبال بن أحمد القاضي، ابن أخيكم الذي رفضه، وهو أخوكم منذ هذه اللحظة، فقد بات في رعايتي ولقد اتخذته ولدًا لي» ناول لطيفة الصغير، فأخذته بذراعين مرتجفتين: «أكرميه يا لطيفة.. لقد بات ابنك وأمانة في عنقك» شهقت حسنا ابنته وغطت وجهها بين كفيها وانتحبتْ، تسلمت لطيفة الصغير وضمته إلى صدرها طويلًا باكية، يهتز كتفاها وتعض على كفها كي تخفي صوتها عن طالب فيما تجفف بطرف وشاحها عبراتها كي لا يلمحها، شيعت تسلق طالب السلالم نحو غرفته منهيًا الاجتماع، ثم دارت عيناها على أبنائها فتلمح بهما بثينة ابنتها التي تلكز فضل وتحثه على الاعتراض. فلم يتأخر واندفع بهوجاء في ظل مشهد لا تنقصه اعتراضات: «ليس مؤكداً إن كان ابن أحمد يا والدي، لن نقبل به نحن دون دليل ولن نعترف به» شهقت حسنا وأغمضت لطيفة عينيها فهذا الذي كانت تخشاه وتترقبه في آن واحد.. «اخرس ..اخرس» انهدرت الكلمات من فم سلطان بلا تأنٍ تزامنًا مع نغزة عنيفة ضربت جسد طالب الذي تصلبت أطرافه في مشيها، برزت عروق رقبته وجحظت عيناه فتوقف في منتصف السلالم واستدار لهم بشر، دكّ الأرض بعصاه ثم رفعها عاليًا مهددًا: «حدّك يا فضل.. حدّك هنا واعتبرني لم أستمع لما تفوهت به وإلا طردتك خارج داري.. كيف تجرؤ على التشكيك بما قلته؟» نكس فضل رأسه وحاول الاعتراض فعاود طالب الحديث وهو يرمي بعصاه فتنزلق مع السلالم أرضًا فحزم بحروفه إنهاء الجدل والظنون التي ارتمت بصدورهم. « هذا حفيدي أنا، ابن أحمد وسليل دمي أنا، أمه ميسم وأبوه أحمد.» ارتجفت سبابته بعنف وهو يرفعها: « أقسم لو حاول أحد منكم التخوين في نسبه لأتبرأن منه إلى يوم الدين وأولهم والده أحمد.» ثم ترك الحديث خلفه وأمر بلا حروف صرف أبنائه، وأكمل سيره بـ ميل طفيف في كتفيه لم تميزه سوى لطيفة التي غص قلبها فنكست رأسها لحفيدها الباكي الذي يلوذ بلسانه عند أطراف اللفافة ويبتعد. شددت عليه أكثر ومسحت بكفها طرف وجنتها، فيما تدمع عيناها لـ هامة طالب ووجع طالب، طالب الذي انحنت كتفاه لأول مرة في حياتهما الليلة . ولم تمر الليلة ..ولا الليالي التي تلتْ، وكان حمل لطيفة ثقيلًا. لم يتقبل الرضيع أثداء المتطوعات من النساء ونبذ اللبن المصنع، كما نبذ فمه صدر عمته بثينة التي ترضع ابنها سند، ولم يسكن يومًا عن البكاء فقد كانت البيادر كلها تقضي الليل على صوت بكائه وصوت لطيفة التي تهدهد عليه وتنادي : «ميسم تناديه يا طالب، ميسم تبكي رضيعها يا أبا سلطان» تبكيه وتبكي حزنه فيتعب الطفل بعد طول بكاء ويستسلم للنوم أو لتناول جرعات ضعيفة فتتوسل باكية: «ردوا الرضيع لصدر أمه، ردوه لها» وينتهي بها الحال باكية تضمه لها وطالب يربض عند رأسيهما، تتبع أنامله خرزات سبحته ويتمتم حزينًا: «لم تعد ميسم في البلاد كلها يا لطيفة..» يتردد صدى لطيفة وهي تنادي «ميسم تناديه يا طالب، ردوا الرضيع لصدر أمه» الصوت يعود ملثمًا بألف سكينة تنهال على صدر طالب «ميسم تناديه ..ميسم تبكي طفلها» اشتد الصوت والطعنات تخترق روح طالب وتشج قلبه، فيصحو من حلمه مفزوعًا ويشهق، يسترد أنفاسه ويمسح على عرقه مبسملاً، ثم يرمق الطرف البارد من فراشه، مكان لطيفة التي غادرت منذ سنين تاركة إياه في وحشة وغياب، أغمض عينيه واستقام متوضئًا لصلاته ينفض عنه حلمه الذي ما انفك عن زيارته طوال عمره بميقاتٍ معلوم بات يحفظه مقروناً بميلاد ريبال، وما يوجعه أن ما مر في منامه ليس حلمًا عابرًا ويمضي بل كانت رؤياه رأي العين. جفّف كفيه وخرج إلى شرفته ينتظر الآذان، فتعلق بصره بالضوضاء أسفله.. -والله إن لم تأخذ المعطف لأغضب منك يا ريبال.. ألا يكفي تركك لي الأسبوع الماضي . تركض حسنا خلف ريبال ويحيى بمعاطف تقيهما برودة ديسمبر؛ وكلاهما يتجاهلانها تحديدًا ذاك العصي الذي رفع يده وهو يوليها ظهره بأنه لا يريد. -يحيى أخذها مني، لماذا لا تطاوعني أنت! تستدرهما بعواطفها ويلبيان، ولا زالت تخاصمه لتركه القصر منذ فترة، التفت ريبال مرغماً وهو يرمق بجانب عينيه يحيى بنظرة سخيفة يستحقها، تقدم منها يتناول المعطف ويخبرها: -لأجلك أخذته، ثم أننا لم نعد صغارًا يا أمي. جذبته لينحني نحوها وقبّلته تهنئه بعمره: -أنت طفلي مهما كبرتَ يا عيون أمك ..! رقت عيناه لها فأخذت نظرته واحتضنتها فيما تخص يحيى بنظرة تشبهها وتطلبه التقدم نحوها، ابتعد ريبال عنها وترك المشهد الدرامي المعتاد لعمته حسنا في احتضانهما. -فقرة الجفاف العاطفي بدأت. كتم يحيى بسمته وحسنا تنهي ترقيتها إياه عقبما رقت ريبال، استخف فم ريبال الأمر برمته فأطلق تهكما لحسنا: -أراهنك ألا عين لها مصلحة بيحيى هو أداة فعّالة لرد العين. زمت حسنا شفتيها لبدء مناقراتهما فيحيى لن يتركها له ولم يتأخر في تسديدة يستحقها: -لا بأس يا أمي ..تجربته علمته التعميم. -معك أنتَ بالطبع ..هيأتك خير برهان. التفت يحيى له وهمّ بالرد لولا أن استعجلتهما حسنا بكفيها: -هيا هيا لنثر بذور القمح لا تتأخرا على أعمالكما. ** راقبهما طالب ببسمة حنون وحطت نظرته على حسنا التي وقفت تشيع سيارة ريبال التي قادها برفقة يحيى حتى غابت عن أنظارهما فأشعلت أبوته نحوها، حسنا التي فقدت أمومتها واعتكفت عن الرجال مكتفية بريبال ابن شقيقها الذي جاءها منذ لحظة ولادته، ويحيى ابن شقيقتها منار التي توفيت هي وزوجها ولم يتخط حينها الرابعة عشر من عمره فأخذته في أحضانها وضمته لريبال، واستغنت فيهما عن الدنيا. ** -أنزلني عند مثلث التنور. تجاهل ريبال طلبه وأخبره بهدوء: -لا بأس أستطيع تحملك حتى نصل. تَحملَّ كلٍ منهما تواجد الآخر بمعجزة .كانت حسنا قد جهزت لهما كؤوساً ورقية تحوي قهوتهما المفضلة، صوت موسيقيٌ دافئ ورائحة قهوة وعطور لا يتفق أصحابها عليها، والمزيج موقّع بنكهة ريبال ويحيى، ربما الشيء المشترك الذي يحملانه، جينات آل القاضي، الانتماء المطلق للعائلة، وحب السيدة الأولى حسنا. عدا ذلك فنزاع وشقاق إلى يوم يبعثون. توقفت سيارة ريبال عند حد أرض جده، هبطا منها والتفتا بجدية نحو بعضيهما، لقد جاءا للإشراف على زرع بذور القمح فمحصول السنة سيكون قمحًا ولن يقتنعا بعمل أحد غيرهما. -خذ أنت الجهة الشرقية، وأنا سآخذ الغربية. هز يحيى رأسه وأخذ مكانه المعتاد، كانا قد اعتادا مهمة النثر وترتيب المحصول فيما مضى لكن وظائفهما الآن وأشغالهما تمنعهما عن قضاء أعمال جدهما، لكنهما يتفقدان العمل ولو بالإشراف. أخبر يحيى ريبال: -أبو مفلح جلب الرجال سأرى كيف قسّمهم. ثم أضاف متذكرًا: -وشهم وعون حلفا لي بالذمة أنهما سيأتيان ويجلبان شباب العائلة. هز ريبال رأسه بنصف ضحكة شاركه فيها يحيى فشهم الآن يغط في نومه ولم يخبر عون بالتأكيد -لا بأس، حضورهم سيكون شرفياً. أكد يحيى ورشف من قهوته فيما ينهيان وقفتهما التي طالت، وانطلقا يشرعان في العمل. ولم يكتفيا بتوجيه الأوامر والإشراف بل بأيديهما كانا يشاركا، وبعد أن يفرغا يعودان للقصر وينطلقان لأعمالهما في المدينة. ** | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #15 | ||||||||||
كاتبةفي قسم قصص من وحي الأعضاء
| ![]() -هيا سراب انهضي، سنبدأ بالطقوس منذ الآن. تشوشت عينا سراب مع دفق النور الذي حط فوق وجهها بغتة، فحركت جفنيها بانزعاج تحت وطأة صوت والدتها اللجوج الذي يجول في غرفتها ويناديها : -لا وقت لدينا أيتها التعيسة، لا تؤخرينا عن موعدنا. تباطأت حركة سراب في كسل فحركت رأسها عن الوسادة والتفتت لوالدتها فوجدتها تقف منتصبة عند الستائر التي سحبتها توّاً عن النافذة و بين كفيها يقبع حامل البخور الذي تفوح منه رائحة كريهة اعتادتها كل صباح، فيما تطوف به وهي توجه نظراتها نحو منزل عمتها بثينة مرددة: -ومن كيد كائد، ومن حسد حاسد! تكسرت نظرة سراب في يأس مرير تصاعد مع تمتمات والدتها تغريد وعصبيتها التي تزداد حدة مع ترديد طلاسمها. عادت والدتها لها فوجدتها في فراشها فصرخت بها: -ما الذي تفعلينه في الفراش، علينا أن نكون عند العرافة قبل شروق الشمس. اعتدلت سراب صامتة فنفخت والدتها وجاءت حيث سريرها تجلس إلى طرفه، تصنعت تغريد هدوءًا لا تملكه فيما تضع المبخرة بكل حرص جانبًا فوق الكومود وتعود بجسدها لسراب شارحة لها بكل حماس: -دلال أكدت عليّ أن يكون مجيئنا قبل الشروق. رفعت كفيها الرنانتين بالحلي في محاولة لاحتواء وجه ابنتها فتراجعت قبل البدء بفشل مريع لم يؤثر في سراب التي حجبت مشاعرها واحتفظت بعينيها ساكنتين، بللت تغريد شفتيها متجاوزة ما حدث، وعادت تقص عن أوامر دلال فيما تبرق عيناها بلمعة شقية وتضيف بارتياح: -لقد أعدّت لكِ تطبيبًا لا يتحقق شفاؤه إلا مع أول ظهور للشمس في السمّاء. مرّ خواء مريع في وجه سراب التي لم تتجاوب مع والدتها البتة، بل ارتفعت أناملها الراجفة بلا وعي نحو رأسها المدسوس في غطاءٍ بيتي بالٍ جلبته أمها من عند دلال العرافة. حركت بؤبؤي عينيها المتوترتين وأومأت في بطءٍ وسكوت حسر عن والدتها الحماس فاغتمت نظرتها في ضيق ورفعت كفها تسحب أنامل ابنتها عن حدود رأسها تؤنبها بعد زفير خشن وحوقلة: -أزيلي يديك عن رأسك؟ ماذا قالت لك دلال؟ وكم حذرتك مرة أن تتركي عنك تلمس رأسك كل حين! لا تقتربي منه أبدًا ولا تضيعي علينا كل العلاج الذي أهدرناه لأجلك. انتفضت أنامل سراب وأعادتها إلى حجرها سريعًا كمذنبة، هزت رأسها بتتابع هزيل أغضب والدتها التي تأففت وضربتها في كتفها تعجلها بالرحيل. - قومي اغسلي عن سحنتك كل هذا البؤس، وارتدي ثيابك كاملة في الداخل ولا تنسي اللثام. شحب وجه سراب ومال عن عينيها اهتزاز طفيف، ابتلعت أمر والدتها بتسليم تام واستقامت متحركة عن السرير ، مضت خطوتين صوب الحمّام ثم عادت إلى عيني والدتها الغاضبتين وأخبرتها بتردد : -أمي، لدّي اليوم محاضرة مهمة في الجامعة، لا أستطيع التغيب عنها. شوحت تغريد بكفها كمن تهش ذبابة عنها وقالت بلا مبالاة: -هذا أسبوع زفافك أيتها الغبية، أية محاضرات مهمة التي تنتظرك في الجامعة! وبترت محاولات سراب حين حسمت قرارها: - لا دوام بدءًا من اليوم حسنًا، وستجدين مبررات لأساتذتك. هدلت سراب كتفيها بلا حيلة تهز رأسها بلا أية انفعالات واستدارت تعد نفسها للذهاب إلى دلال التي أوصت بحضورهما قبل الشروق، تاركة والدتها ترمق رحيلها بزفرة حارة وحرقة صعبة لا تواريها فتمتمت بغصة في إثرها: -يا إلهي!! لم تملك من حُسن عماتها ولا طلة أعمامها ذرة، حتى شقاوتي وجاذبيتي لم تأخذ منها شيئاً، يا لحظك التعس يا تغريد لم تورثيها إلا فمك الكبير وامتلاء كتفيكِ! ضمت شفتيها بعجز ونفخت في المبخرة تغلقها عقبما طافت ذرات الزيتون والتين المحترقة في غرفة ابنتها تعيسة الحظ التي أشقتها معها، سحبت من إحدى الخزائن فوّاحة عطرية ثم أوصلتها في القابس الكهربائي، زرعت داخلها إحدى سوائل المانجو فانتشر رذاذه المُعطّر مُخفيًا روائح الطلاسم التي شاركت الزيتون الاحتراق قبل مجيء الخادمة لتفقد الغرفة وتنظيفها، فهي وابنتها قد أقامتا في قصر حميها طالب القاضي هذا الأسبوع استعدادًا لزواج سراب التي سَتُزف في قصر جدها وتتم مراسم الاحتفال بها هنا كاملة. مسحت تغريد كفيها ومضت نحو الصوان تتناول عباءة حشرت جسدها المكتنز فيها ثم سحبت لثامًا أخفى وجهها جيدًا عن الأعين، تنهدت متوترة وراقبت الساعة وتأخير ابنتها فيما قررت تضييع وقتها بتأمين القصر فتسحبت بخطواتها نحو الباب تراقب تواجد أي ظلٍ في الممرات، فلم تجد أحدًا، فعادت مسرعة لابنتها الخائبة تستعجلها، لقد تأخرتْ عليها بما يكفي وهذا ليس في صالحهما، توقفت عند باب الحمام وفحت: -هل سيطول تواجدك في الداخل؟ توبيخ مرفق بصوت والدتها النافر على الدوام، نشلها من توحدها مع نفسها المثير للشفقة، تركت سراب عنها وجهها الذي غابت فيه متفقدةً ملامحه وهيئته غير المستحسنة البتة بحوارات شكاءة قطعتها مرغمة وجرّت نفسها بصعوبة عن المرآة فيما ترتدي ثيابها على عجل. -ها أنا قادمة. قالتها فيما تعبث بأزرار هاتفها وتمرر رسالة إلى آرام بكونها ستتغيب اليوم عن محاضرة الماجستير الذي انضمت لبرنامجه قبل عام. تحجرت عيناها في تعبير معتم ومكسور مع تردد رسائل آرام المكترثة والمستفسرة في اهتمام حقيقي، فتجاهلتها سراب وأكملت تثبيت اللثام حول وجهها مؤكدة لنفسها بقتامة مرة؛ أنها ما ملكت من أمرها شيئاً فما كانت يومًا في موضع خيار، بل على الدوام هي في حيز التنفيذ. دقائق مشحونة مرّت حتى خرجت لوالدتها ملثمة بالكامل فسحبتها تغريد خلفها وخرجتا من بوابة القصر مهرولتين باتجاه البساتين التي توصلهما ببيت العرافة دلال، توقفت سراب والهاتف يرن بين يديها فتمتمت لوالدتها جزعة: -هذا بلال يهاتفني، سأجيبه! تلفتت تغريد حولها بتوتر وسحبت الهاتف منها قائلة بنفاذ صبر: -لن تجيبي على خاطبك ولا على أي أحد آخر، لقد أوصتني دلال أن لا ينفخ في وجهك نفس أحد قبل نفسها، ولا يفح في أذنك صوت قبل صوتها، لذا لن تسمعي صوته ولن ترينه حتى نصل إليها. قطبت سراب وراحت أهدابها ترفرف بذهول فسألت والدتها وهي ترفع بسبابتها نحوها: -إذن لماذا تتنفسين وتنفخين في وجهي، وتتحدثين إليّ أمي؟ استشرت تغريد ولجلجت بصوتها كالمعتاد حين تضيع حجتها فنهرت ابنتها: -أنا لستُ أحداً، أنا أمك ولا تنطبق عليّ تمائم دلال! طالت وقفتهما وضاع عن إدراكهما خيوط الشمس التي بدأت تشيع وتضيع عليهما الطقوس المفترضة، فأخذت تغريد كف سراب وعاودتا الجري تحت مرأى طالب القاضي الذي يجلس في شرفة غرفته مُسبّحا في ملكوت الله وروحه هائمة في طلة النور الأولى، ذقنه مستكينة فوق رأس عصاه، وعيناه تابعتا الجسدين المهرولين بين المروج العارية، ربت على عصاه التي تطرق الأرض بخفة فيما تسلقت نظراته الجبل الذي يقابل أرضه وراحت تقتنص منزل دلال الصغير الذي يتوسطه بضبابية غامضة، استقرت نظراته طويلًا عليه حتى اكتفى، نكس رأسه و أطبق ما بين جفنيه عاجزًا عن يأس النساء فاستقام إلى الداخل مستندًا على عصاه وحكمته فيما يردد: -لقد قتل الجهل صاحبه.. ** | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #16 | ||||||||||
كاتبةفي قسم قصص من وحي الأعضاء
| ![]() «ما ينقش على الرمال ترويه دلال!» خرجت دلال قُبيل الفجر منحنية الظهر من منزلها المتهالك الذي لا يسكنه سواها، أطبقت الباب خلفها وسارت ببطء تطوف ببصرها نحو المدى. أضاءت عيناها شديدتي السواد بوميض خطر فيما تشد على عصاها الرفيعة المعقود طرفها في صُرّة صغيرة خضراء اللون لا تفارقها، رفعت العصا التي لا تستخدمها لتتوكأ عليها وغرستها في الأرض ورمت بصرها في الأرجاء راصدة كل شيء، لملمت ثوبها حولها و هبطت تفترش الرمال الباردة تحتها متربعة، شدت فمها في رضا ثم عقدت ذراعيها وانتشلت العصا بهدوء تثبتها أسفل عقدتهما؛ فأينما ولّت العصا شطرها ستتبع وجهتها وترسم بوحها لترويه! تركت عنها العصا وأخرجت من صرتها مرآة عتيقة، طالعت نفسها في إعجاب و جددت كحل عينيها الأسود الثقيل حتى ساحت مدامعها، أتمّت تزيين منظرها وأرجعت المرآة لمخبئها. عادت للعصا تتبين إشارتها فوجدت وجهتها أراضي القاضي، اشتعلت عيناها وهمست تزيح العصا : -أسرار آل القاضي كثُرت. تبسمت بغموض وقلبتها تتفحصها دون أن تغفل عن موعدها الذي ستجريه بعد وقت. تنفست بهدوء و أسندت كفها على وجنتها تحتضنها، مدت بالعصا نحو الرمال تحركها وتشكلها فوقها يمنة ويسرة ضاربة بها للأمام كيف تشاء فما ينقش على الرمال سترويه! -هيا بنا يا سراب.. لنرى ما الذي ينتظرك. رسمت الراء التي راحت تتعرج في دروب كثيرة، فلم تعبأ بترتيب حروف سراب، فقصتها متشعبة طويلة يضيع بها العقل ويتوه، حركت العصا حيث البداية و عاودت الرسم فتلاشت السين منها كالسحاب واختفت في ياءٍ طالت حدودها، أغمضت عينيها واستدعت طقوس السلام خاصتها في النقش، حاولت مع الحروف مجددًا فـ ازدردت لعابها حين تشكلت الباء بأعجوبة، انبثق هلع مريب منها فاهتزت يدها ومالت بالعصا تتحكم في رسمها فشمخت الألف وأتبعتها بلام حادة، شهقت تزيغ عيناها ويرتج صدرها في اختضاض، فنفضت العصا عنها وتراجعت تزحف بذهول: -ريبال. راح كثيرًا من وقتها في هز جسدها للأمام والخلف بحركات عشوائية، الظلمة في عينيها استحالت حُمرة وحشية، تضرب بكفيها وتطلق لعناتها للرمال الخبيثة، حتى اهتدت لإشعال النار علّها تهدأ ..وهدأت! اقترب موعدها مع تغريد، فأنفقت دقائقها في تشرب النور المتسربل إلى السمّاء بصبغات بنفسجية، سكنت خلجاتها فيما توقد جمراتها وتشرع في وضع مقلاة صدئة رشت عليها الحرمل لحرقه، تنشقت بانتشاء رائحة البخور التي شاعت في المكان وفجأة تبدى غراب حام حولها فتبسمت لرؤياه وعيناها تضربان بالحجرات المكومة أمامها، زعق الغراب ثانية فضحكت بشرور ضحكة تخصها وحدها، حام بجناحيه حولها وهي تتبعه حتى استقر فوق سلك كهربائي يمر فوق إحدى الحقول، طالعته مجددًا وعيناها تبرقان كأنما ستبوح بمكاتيب أهل الأرض فانكبت بوجهها للرمال وشرعت تهيل بحفنة منها فوق الجمرات تطفئها وصدى ضحكاتها ينتشر مستهزئًا بالفضاء: -خابت سراب وخابت أمها، ابن ميسم سرق اسمها. وكأنها استدعته من عدمٍ وتهيأ لها من فراغ، أخذتها ذبذبات حضوره والهواء الذي مرّ حوله إليه، دار عنقها ببطء مقيت وعيناها تسرقان وجوده بحذر. فعلى مفترق الأرضين استقبلته بصدر انطبقت ضلوعه رجفة؛ أعلى حافة الجزء الغربي من الأرض المقابلة لها، يقف مستنفرًا بخشونة، تتشح طلته بالسواد وعيناه تركنها بعيدًا بإهمال كآخر المخلوقات أهمية. -لقد اشترت الشهود لصالحها. نفر عرق رقبته غضبًا وهي ينهي مكالمته: -سنتلاقى في المحكمة بعد وقت. أنهى اتصاله وهو يقبض على حفنة قمح استأثرها لنفسه ومكانه الخاص الذي سيزوره عقب إنهائه العمل في الأرض. ** وصلت تغريد وابنتها السياج القابع خلف منزل دلال، أكملت جريها ثم توقفت متراجعة بصدمة: -ما الذي يفعله ريبال هنا؟ شهقت بعنف وهي ترى ريبال يتمشى أمام الشارع الترابي الذي يقع أمام منزل دلال، فضربت فخذيها متذكرة: -من أين خرج لنا هذا؟!! ..يا إلهي الشمس ستشرق وغراب البين هنا. أحاطت ابنتها وتوارت خلف أشجار الزيتون تنتظر مغادرته متأففة، استغربت سراب حالة أمها فقطبت تسأل: -من هو يا أمي، من؟ -ريبال، ريبال لا سواه. سيضيع موعدنا إن لم يتزحزح من المكان. عضت سراب شفتيها بحيرة وأحزنها تخبط أمها فاقترحت ببراءة: -نحن متخفيتان في هذه العباءات وغطاء الوجه فلن يعرفنا أبدًا، فما المشكلة؟! -غبية غبية طوال عمرك ..ريبال سيعرفنا حتى وإن كنا نمشي تحت الأرض. مدت تغريد رأسها تراقبه فزفرت بغيظ وتساءلت: -أ تراه يأتي هنا ليأخذ تمائم دلال ويستمع لها؟ طلّت شرارة من عينيها اللتين أكلهما الفضول فتمتمت بهمس: -ابن المومس ميسم يدعي فضيلة لا يمتلكها! -ماذا قلتِ أمي؟ نفضتها تغريد وهمهمت بكلام غير مفهوم، ثم جرّتها خلفها حين اطمأنت لصعود ريبال سيارته والتحرك بها، وعيناها تلمحان زحف الشمس ونوره بقهر. فانضمتا سريعًا للمنزل. -السلام عليكم شيختنا. زحفت تغريد على ركبتيها وفعلت سراب مثلها ثم جلستا أمام دلال التي ابتسمت عيناها لسراب وحفّتها بترحيب باش: -أهلاً بالعروس. ثم وجهت كلمات جافة لوالدتها: -ولا أهلا بوالدتك التي فوتت ميعادنا.. حاولت تغريد التبرير فأشاحت عنها دلال ومطت شفتيها تخبرها: -لا أريد أعذارك، أريد العذبة سراب الآن فقط. أطرقت سراب خجلة وهذا الحنان المتدفق من دلال نحوها يعبث بها، مدت دلال بكفها نحو سراب فقدمت سراب لها كفها، أخذته دلال بحنان وقلبته، حيث أصبح باطن كفها بخطوطه مواجهًا لعيني دلال التي تنهدت طويلاً : -الصبر سراب ..الصبر.. رفعت سراب عينيها لوالدتها التي تضع كفها في فمها مترقبة فطلبتها دلال برفق: -دعك من تغريد وانظري إليّ. أطاعتها سراب فمسدت دلال خطوط باطن كفها وتوقفت عند مفترق الخطوط، تنفست بعنف وصمتت طويلاً ثم أخبرتها: -الحزن في عينيك رواية يطول سردها. توجع قلبها ولم يرضها ما رأته لكنها حسمت حروفها الثقيلة: -أراكِ تسيرين على طريق ترابي، تزيلين آثار قدميك العاريتين فيما يتبدى لي ظل رجل يتبعك ويبغي أن يغازلك ، لكن ..لكن توقفت مقطب جبينها وقالت بمعضلة: - هناك حمل على ظهره، لقد جاءكِ يجلب ماضيه فوق ظهره ويكومه بعقدة خُرطت بالأسى .. حارت في رسم حروفها المنطوقة فأردفت: -ليس بسيطاً مثلك، فبعض الناس لا يمكنهم التخلص من الآثار القديمة بسهولة. استهجنت تغريد هذا الهراء فتدخلت : -وبلال ..أين بلال! ضربتها دلال بالعصا على قدميها فتأوهت تغريد وقد آلمتها الضربة، عادت دلال لكفي سراب وقالت بضيق: - بين كفيك تحملين منديلاً متسخاً تحاولين فيه مسح يديك ووجهك، ولم تدركي للآن أن وجهك ملطخ بالطين. ارتعبت سراب وأمها فأضافت دلال بإقرار: -إحدى صديقاتك تغار منك ولا تتمنى لك الخير بل وتحاول منع السعادة عنك.. فاحذريها. -هذه آرام ..آرام الغيورة لا سواها. عاتبتها سراب بنظرة، ودلال تزجرها لمقاطعتها فهددتها: -إن لم تصمتي سأطلقهم عليكِ. تراجعت تغريد ورفعت كفها لفمها تكممه فعاودت دلال: -هو تائه أكثر منك.. ضائع ويحقد عليكِ، وساعات يفقد نفسه في مشاعره نحوك! ضاع ذهن تغريد في حديثها فبلال يعشق سراب بل يقدس خطاها، سايرت العجوز الخرفة، فهي قد جاءت لتمائم الزفاف التي لم تتأخر حين حسمت دلال الجلسة إذ لديها موعد هام: -لن يراها أحد قبل بلال إياك وإن يسبقه أحد لرؤيتها. ** | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #17 | ||||||||||
كاتبةفي قسم قصص من وحي الأعضاء
| ![]() *** صفّ سيارته أمام المقبرة، ترجّل ريبال منها وأغلق الباب خلفه، عبر الممر الحجري وولج إلى البوابة، غشاه الخشوع في ظل هيبة المكان الساكن، مسح الشواهد من خلف زجاج منظاره الشمسي فانقبضت كفه المحشورة في جيب سرواله وتهذبت نظرته المدججة بالشموخ، شدّ خطاه وتوغل بين القبور نحو وجهته المحددة حيث مجموعة قبور متراصة تنتمي لعائلة القاضي، انكسرت عيناه وانحرف حنينها حيث قبر جدته لطيفة التي سيمر بها عقب الانتهاء لما جاء لأجله، وهناك حيث الزاوية وصل لمبتغاه؛ قبر يحوي عمر سنينه! توقفت خطواته تواجه النصب الرخامي بثبات، عيناه يتقلص تأثيرها الجامد حد منحه نظرة ضبابية تغور معانيها، انقبضت عضلة في فكّه كلما طالع اسمها هكذا بلا معنى، فـما المفترض به أن يحسّه وهو على عتبات البوابة الوحيدة التي توصله بـ أمه التي ما عرفها يومًا! ميسم أحمد العمري المرأة التي أوهبته الحياة وارتحلت ليمزقه غيابها، ميسم التي لفظت شهقتها الأخيرة في ظل شهقته الأولى لـ أكسير الحياة. حوار مهزوم، ممل، رتيب جدًا و كثيراً ما ردده على مدار سنونه، وفي كل حضورٍ له إليها. استدار حيث الشّاهد يمسح عليه بلا عاطفة محددة، رقق خشونة لمساته حين استشعر قسوتها فأمه تستحق اللين، ثم رفع كفيه يتلو أدعيته المعتادة التي يخصها بها وحدها، ورغمًا عنه تهشّم شيء حاد داخله لا تنكسر قشرته سوى هنا، أنهى دعواته وتناول حفنة من بذور القمح ينثرها فوق السطح الرخامي فيما يكرس لحظاته للاختلاء بها، تهادت الحمائم والعصافير مع حركة كفيه، فعبأ دوارق المياه في المكان وراح يسقي الشجيرات، استشعرت حواسه حفيف خطوات تنتمي لـ شجرة صفصاف قادمة نحوه فتجاهلها فيما يسوي الشجيرات المتراصة حول الشاهد، ازدادت حركة الصفصاف حوله فاختطف حضور القادم إليه بنظرة لطمتها المعرفة التي ضربته على حين دهشة، فالعرافة دلال خلفه! الشبح الأسود، بسواد ردائها وقتامة عينيها وخطوط وجهها الحادة. سيطر على دهشته بحضور شبحها إلى المكان ولحاقها به، عاد للشجيرات ورمى بوجودها بعيدًا محاولًا إنهاء ما يفعله فباغتته بصوتها الرقيق: -رحم الله ميسم وطيّب ذكرها. توقفت كفاه لحظة ثم عاودت لملمة الزوائد عن الحفر وتمشيطها، عاودت دلال تُتمتم بحروف لم يتعنَ التقاط سمعها. أحرقها تجاهله فـ تقدمت منه أكثر تحفر بعصاها فوق البلاط، واجهته وتجاهلها، رققت نظرتها واستجدت نظرته فلم يفعل، فشنّت حروفها: -يموت جاهلًا من لم يعرف يا ابن ميسم. نفض كفيه عن التراب وأولاها نظرة هازئة أججت غضبها، مسحت على فمها بصبر وعادت تخبره بهدوء: -لقد زارني طالعك اليوم وجئت أخبرك به. اشتدت قبضة كفه التي يضغط عليها، تحرك فمه بسخرية، ولم يحاول إخبارها برفضه فعيناه فعلتا، لكنها هزّته وصوتها يخترق أذنيه: -أول المعرفة خيط أنتَ تتجاهله، لستَ بجاهلٍ يا ابن ميسم، بل موهوم وقدرك معقود بالوجع. أصابته وفعلت، فاختل ثباته واختلجت حواسه بالحيرة، ارتدى منظاره الشمسي على عجلٍ حاسمًا لحظة تيه سيطرت عليه، فيما يتجاوزها آمرًا بقسوة وعنجهية: -اخرجي من هنا أيتها العجوز وإياك أن أراكِ حولي. ارتعشت عصاها في كفها وانكمشت، بحلقت في ظهره تعض على شفتيها غيظًا وهمّت بالرد عليه فنهرها وخطواته تصل للبوابة. اغتاظت و أبّت أن تخضع لأمره فنادت عليه تطلبه : -أسعى بغير أرض يا ابن ميسم ولا تتوقف ،طوافك هنا لن يجديك نفعًا. قاطعها بصرامة: -طلاسمك أبعديها عن قبور عائلتي قبل أن أنفيكِ من البيادر .. خلفت خطواته الرماد في أعماقها، أبصرت انفعاله ووصوله إلى البوابة غاضبًا فقد قطعت عليه خلوته مع جدته لطيفة التي نواها عقب زيارة والدته، شتم دلال وشؤمها وصعد إلى سيارته يهاتف سالم مفرغاً فيه غضبه: -حسابك فيما بعد لتصرفك أيها الخفيف. ثم حرّك سيارته التي خلّفت زوبعة غبار جلبت السعال لدلال التي راقبت رحيله عن المكان قائلة: -ستعود إليّ راكعًا يا ابن ميسم ولن أعطيك خيط معرفتك. *** | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #18 | ||||||||||
كاتبةفي قسم قصص من وحي الأعضاء
| ![]() دخل مرعي منزله على عجل ليبدل ثيابه ويلتحق بعمله الثاني، خلع حذاءه وعلّق معطفه على المشجب منادياً: -نوال الحقي بي إلى حجرتنا. خرجت نوال من المطبخ مشمرة عن كميها فيما تستقبله ببسمة محبة: -حاضر، اسبقني سأوافيك حالاً وأجلب طعامك. اطفأت قابس الموقد وتركت عنها تقطيع الخضروات وخرجت تهتف براوية التي أغلقت على نفسها منذ ساعات: -راوية تعالي إلى المطبخ وأكملي عملي. تجاهلت راوية طلب والدتها، وأكملت لطخ وجهها بإحدى أقنعة البشرة، غلفته بالكامل وكثفت المزيج حول الحبوب المفاجئة التي لا تظهر سوى في المناسبات، رفعت حاجبيها المنمقين مهمهمة لنفسها: -حفل زفاف سراب هذا الأسبوع. مطّت بجسدها تتفقد جبينها من أية شوائب مؤكدة بثقة: -ولن أخرج منه بلا عريس لقطة. ابتأست ملامحها وهي تعي محدودية المتاح لديها فكزت على أسنانها ساخطة. -ومع ذلك لم يتفضل عليّ أحد واشترى لي ثيابًا للحفل. زمت شفتيها وحركت كفيها نحو وجهها تفركه بعنف وغضب تعدد على مسامعها: - الآنسة آرام سيبتاع والدها الثياب لها من أضخم الماركات العالمية، وطالب القاضي يصنع لسراب حفلاً لا مثيل له وأنا سأذهب للحفل بثياب قديمة. حجمّت نقمتها على حياتها فيما تدفع عن عينيها عبرات أوشكت على الهبوط، ووعيها يلتمع بإدراك مؤلم: -ولا أحد يهتم أو يعتني براوية. زحفت إلى قلبها غصة مريرة تضخمت حتى أتعبت أنفاسها، تأملت وجهها الفاتن بحسرة طويلة حتى أوقف عنها النحيب والبكاء رجة عنيفة في صدرها، انتفضت تتحسس الهاتف الصغير الذي يقبع في حمالتها الصدرية، ازدردت لعابها واستدارت نحو الباب المغلق ملتفتة بحذر، وبمهارة عالية أدخلت أناملها تصمت الرنين. أقفلت الهاتف بحرفية وزمن قياسي دون مداهمة والديها اللذان لا يعرفان طرق الأبواب، زفرت مرتاحة وعادت تبلل قطنة وتمررها على وجهها تمسحه بضربات قلب عنيفة، قطع عنها استكمال عملها صراخ والدها وشجاره مع والدتها حولها، تجعد جبينها وجفناها ينطبقان برد فوري لسماع صوته: -أين الطعام؟ لماذا لم تكمل صنعه راوية؟ استمعت لتبرير والدتها بصوتها المرتجف -يبدو أنها لم تسمعني، لا بأس سأجهز لك طعامك. عادت خشونة صوته تفسد رقة والدتها وهو يصرخ : -ابنة الـ*** لم تجهز طعامي! والله ما رأيت في وقاحتها . شعرت بدبيب خطواته نحو حجرتها لإفراغ عنفه فيها، فركضت نوال تقف بينه وبين الباب تتوسله الغفران والترفق، شقّ عليها ترجي والدتها وكادت تخرج إليه عوضًا عن إهانة أمها لولا أن شعرت بابتعاد خطواته وصوته: -لا تدافعي عنها نوال لقد طلبتِ منها أن تأتي مكانك وتتم عملك ولم تأتِ قليلة التربية رغم علمها بمجيئي هنا لتناول السم ومغادرة المنزل نحو عملي الثاني. حاوطت نوال جذعه وقبّلت كفه مراضية: -ربما انشغلت في شيء ولم تسمع صوتي، لا عليك أنا سأكمل عملي لم يكن كثيراً أساساً. هدأت عاصفته فرد بغير رضا ومعدته تقرقر جوعًا: -لم يفسدها سوى طبعك ودلالك.. نوال أنت المسؤولة عن ضياعها. هزت نوال رأسها وتكفلت بكافة أخطائها التي أقرّت بها وعيناها تضيعان في ترقب ابنتها. رحمها مرعي حين زعق بها بنبرة حادة زلزلزت منزلهم : -راااااااوية أين أنتِ أيها الغضيبة؟ تعالي إليّ. رفعت كفيها تحجب عن أذنيها سماع صوته الذي تكرهه و تبغضه فلكم يثير نفورها ولوقعه في حواسها نشاز يؤجج غضبها ويقذف الرعب فيها، لملمت غضبها و أجابته يحشرجة: -ها أنا قادمة.. بللت خصلاتها وأوحت لوالدها غيابها في قضاء استحمام عادي، تلقت توبيخًا صارمًا منه مع تعهدٍ بإصلاحها من جديد و تقبلت ذلك على مضض، أنهت تواجدها معه بلثمة كف ووعد بالتغيير ثم انسلت لوالدتها تساعدها، فحت لها نوال فور دخولها. -أين كنتِ؟ توقفت راوية جانب والدتها التي تعصر الليمون فوق زيت الزيتون وأجابتها بفظاظة: -كنت أرطب بشرتي لأجل زفاف سراب أم تراك نسيتِ حفلها أمي؟! ناظرتها نوال بنظرة زاجرة وأخبرتها فيما تسكب المزيج الذي أضافت له دبس الرمان فوق الخضار المقطعة: -لم أنس بالطبع لكن مواقيتك سيئة مثل حظك تمامًا. ابتلعت راوية الحقيقة القاتمة بمرارة؛ فهي سليلة والدتها بنقص الحظ وضياع بختها الذي لم يحقق لها أمنية ترجوها . تنفست بعنف وتحركت تناول أمها شرائح الخبز المحمص فيما تخبرها : -أمي أنا لم أشتر ثياباً حتى الآن وأنتم تتجاهلون الحدث، كيف سأحضر زفاف سراب وأجلب عريساً من آل القاضي كما تريدين! مطت نوال شفتيها وأجابت بيأس منها: -لم أتجاهل الحفل لكن لدي فكرة ستعجبك بدلاً من شراء ثوب جديد لن تستخدميه سوى مرة واحدة. استهجنت راوية الفكرة فحثت والدتها على التوضيح وهي ترش السماق أخيرًا على طبق الفتوش فأخبرتها نوال: -ستذهبين إلى آرام أو سراب وتأخذين واحداً من أثوابهن الكثيرة وتحضرين به الزفاف. قاطعتها راوية مستهجنة : -ولماذا لا أشتري أنا بدلاً من طلبي أثوابًا مستعملة. تأففت نوال بقلة صبر وكزت على أسنانها تدلي بقتامة الحقيقة: -لا أموال بحوزتنا نجاري فيها ثيابهن أيتها المغفلة. فغرت راوية فمها بصدمة وتوقفت مخذولة، فجّرتها نوال التي أكملت رص الأطباق على الطاولة وأقنعتها: -لا داعي لهذه النظرة، لا تنسي أنك صاحبة قامة أفضل منهن وجسدك مرسوم بشكل أجمل، ستكون أثوابهن عليكِ بشكل مختلف وقد تغير نظرتك البائسة هذه. رغمًا عن انتفاخها وبذور الغرور التي تزرعها والدتها عنوة داخلها، نفت باعتراض واهن: -سراب مستحيل هي في قصر جدها الآن برفقة والدتها لن أذهب مهما كان.. وآرام مشغولة مع والدها في متجر العطارة . -يا حمقاء هذه فرصة للذهاب لآل القاضي، ربما يراك أحد شبانهم وتعجبينه. هزت راوية كتفيها برفض تام، وتحججت ببواقي كبرياء: -لا أمي، صعب جدًا. دارت عينا نوال بحيرة، وضعت كفا فوق أخرى بورطة وفكرت بصوت عال: -ما الحل إذن، لن أقبل أن تكوني أقل منهن في الحفل بل ستكونين الأفضل. استدارت فجأة وقد التقطت فكرة تحث ابنتها بها: -هاتفي آرام وقومي بزيارتها وخذي أحد أثوابها ..أليست صديقتك؟ عليها أن تتخلى عن مشاغلها لأجلك. برقت عينا رواية برضا فأسرعت لهاتفها تمرر رسالة إلى آرام «دقائق وأكون في منزلك ..لا تتأخري علي» ** مطت آرام شفتيها ببسمة كسول مع وصول الرسالة إليها، أرجعت رأسها للخلف وبدأت بتمسيد عنقها بعد جلسة طويلة على الحاسب الرئيسي في عطارة والدها بعد تثبيت برنامج جديد لنظام المحاسبة، تناولت الهاتف وردت عليها: -اسبقيني راوية، سألحق بك بعد قليل. تمطت قليلًا في كرسيها الذي ربطت نفسها به عقب دخول مجموعة زبائن. وفجأة احتل وعيها نفوراً مباشراً مع هبوط ظل فوق رأسها فانتصبت واقفة تسأل مهند الذي جثم فوق رأسها بطريقة إيحائية: -ما الذي تفعله هنا؟ برقت عيناه حين ناولته وجهها الغاضب يمشّطه ويتملّى فيه كيفما كان، عينان مسحوبتان للأعلى بطلّة استثنائية، بشرة خمرية حاثة للمس، مرفقة مع لوحة عذاب متمثلة بشفتين مهلكتين لا تكفيهما كل قصائد نزار مجتمعة، رمشت أعصابه فهمس لها بصوت خطر : -حسبتك نائمة، وجئت أطمئن عليك. تحركت بعنف وباعدت المسافة بينهما حين رأت تفحصه لها: -لا يصح بك أن تتصرف هكذا في العطارة التي تعج بعشرات العمال، لا أسمح لك مهند بالتمادي معي هل فهمت؟ اقترب بهدوء فتصنمت بوقفتها كأنما تتحداه أن يقترب بخطوة إضافية فابتلع كراهيتها وهمس بحزن: -أسلوبك معي لا يساعد أبدًا. انطوى في عينيها شعور مرير بالانكسار، فأخبرته وهي تتحاشاه بنصف تلعثم: -أخبرتك أن تمهلني بعضًا من الوقت. تنفس بعنف ودار حوله غاضبًا فيما يسألها بمرارة: -إلى متى آرام؟ كم مضى من الوقت؟ لقد أردتك منذ زمن، لماذا المماطلة؟ صرّف جسدها مشاعره التي لا تتعنى إخفاءها، فلغة جسدها ونظراتها التي تحلق بعيدًا عنه تكفلت في ذلك، كلها تشي إليه بأنها لا تريده ولكنه يصر عليها، تمكنت من صرف نظره عنها حين جاء إليه أحد العمال، فتهربت نحو الخزائن لإخراج مكونات خلطاتها، استدارت بقدوم حركة نحوها، فلاقته بخجلٍ مصطنع وهي تطلب منه التأني: -أنت ابن عمي، وعليك تحملي قليلاً، لن أتأخر عليك. زفرت بثقلٍ حالما تجاوزته ونحّت عنها أي غصة قد تستحكمها، فقصتها مبتورة دون تتمة، وتقليدية لا تثير سمعًا ولا تحث لاستكمال. مسمّاة لابن عمها الذي أرادها منذ زمن، ووافقت عليه تحت رجاء والدها الحبيب؛ استثناءها و خطها الأحمر العريض الذي تموت ولا ترفض له طلبًا وبذلك وافقت مرغمة، لذا الارتباط به يكبلها ويرعبها وحتى هذه اللحظة لم تبدِ قبولاً تجاهه بل يتضخم داخلها بغضًا له لحرمانه إياها تجربة المشاعر أو معرفتها، فهي وإن زعموا حريتها؛ حمامة مربوط جناحيها به! عادت للحاسب تلملم حاجياتها وتتأكد من توصيل الكاميرات به، انشغلت قليلاً عن المقاطع المرئية حتى فاجأها دخول طالب القاضي إلى العطارة، تبسمت وتركت الجهاز نحو خزانة مخصصة اعتنت بأغراضها وقد آن أوان محصولها أن يخرج. ** «قبل هذا الوقت» توقفت سيارة سلطان القاضي أمام عطارة الآغا التي يقصدها الناس من كل فج عميق، هبط طالب القاضي وولج إلى العطارة بنفسه لشراء حاجيات حناء حفيدته التي اعتنى بتفاصيل زفافها ليكون زفافًا غير عادي يليق بها، فهذه سراب أولى حفيداته الغالية وأقربهن إلى قلبه رغم فجوة البعد التي صنعها والداها -السلام عليكم أبا عماد. استقام نجيب الآغا عن مقعده واستقبل طالب بحفاوة، أجلسه في الاستقبال وصب له القهوة -أشرقت العطارة وأنورت بأبي سلطان. ربت طالب على المكان جواره ليجالسه نجيب قربه فتخلى نجيب عن كرسيه وجاوره، تناول معه بعض الأحاديث حتى قال طالب : -أريد حناءً مميزة لحفل حفيدتي. وصوت شقي متلاعب يملؤه الحماس تكفل بالرد عليه: -لقد تم تجهيزها بالفعل منذ وقت، وننتظر منكم أن تأتوا لتأخذوها. استقبل طالب الرد ببسمة دافئة وهو يرمق الوجه المطل عليه، تقدمت آرام منه بصندوق ضخم وضعته أمامه فيما تحييه: -أهلاً وسهلاً بك شيخنا. حياها وقد فاضت عيناه بحب أبوي خالص لها -لقد تكفّل أبي بتجهيز الحناء لسراب، وجلب أجود الأنواع لأجلها. -بارك الله فيك أبا عماد هذا شرف لنا، جعلك الله سبّاقا في الخير. مدت آرام بكفها نحو أنواع الحناء وبدأت تشرح له: -هذه حناء هندية ستكون لقريبات العروس، وهذه الحناء مغربية لعماتها وخالاتها، وهذه الحناء يمنية ستكون لسراب. طوت الأكياس الثلاثة وأخرجت الكركديه والورد المجفف وزيت جوز الهند المرفق بجوارهم، وفردتهم على الطاولة أمامه. توردت وجنتاها وهي تخرج إليه برزمة متنوعة من أنواع المسك والعنبر والشبّة وأعواد البخور الخاصة بتجهيزات العروس. استقبل طالب الهدايا بفيض سرور وخص آرام بدعواته، فأخبرته بحزن مصطنع: -سأنقش الحناء لسراب ولو كان بودي أن أعجنها بيدي لكنني لن أتطاول في وجود خالتيّ تغريد وبثينة. هدّلت كتفيها بيأس فضحك طالب بصوت عالٍ وهو يعي مقصدها فأكمل معها المزاح -الهروب ثلثي المرجلة. لم تطل جلسة طالب فقد غادرهم، وبقيت آرام برفقة والدها، لقد شعرت بالتعب اليوم فقد تعنت الذهاب إلى الجامعة ومقابلة دكتور منهج التكاليف لتخبره بزواج سراب وتطلبه تأجيل المحاضرات، ثم مرت بالعطارة للقيام بالأمور المالية التي تخصها، تركت والدها مع أحد الزبائن ودخلت تجلب حقيبتها، توقفت تحييهما وتغادر فسألها والدها : :-لقد ذهب نورس ليجلب شاياً لنا انتظري قليلاً معي ونغادر بعد وقت. بررت له وهي تقف جانبه: -راوية في البيت عندنا، عليّ المغادرة سريعًا. ضيق عينيه يسألها معاتباً بعد اتفاقهما على جدول طويل يقضيانه: - ما قيمة المبلغ الذي بعتني لأجله يا ابنتي؟ قهقهت تقبله على جبينه وتعترف: -رسالة واحدة من راوية بأربعة كلمات. -من لقي أحبابه نسي أصحابه، اذهبي لن أمنعك. غمزت بعينيها وخصته بنظرة حب طويلة: -أنت رأس مالي كله. تبسم لها بأبوة وضم كتفيها يدعو لها بالرضا، ثم ابتعد يربت على كتفيها يوصيها: -تفقدي الضيافة بالمأكولات الشهية ، ومرّي بالمتجر لابتياع الأشياء التي ترغبنها أنتن الفتيات. استدارت راحلة تؤكد عليه: -المنزل عامر بخيرك حبيبي، لا شيء ينقصه . صحح لها وهو يودعها: -خير الله يا ابنتي. .. وصلت منزلها فاستقبلتها ضحكات راوية، مسّها ضيق فضحكات راوية هذه لا تكون إلا بسبب شقيقها عماد، وعلى ذكره هتف باسمها: -آرام.. آرام. كان يقبع جانب راوية وبمجرد رؤيتها قفز عن الأريكة وتوجه نحوها بخطوات لا تناسب عمره الذي يكبرها، أنفقت ضربات قلبها في مشقة وحسرة عليه تقتلانها، وصلها وارتمى في أحضانها، احتضنته بحنان ودفءٍ واستقبلت قبلاته فيما تمسح على وجهه، طالها لعاب فمه الذي سال فوق وجنتيها وكفيها فأخذته إلى صدرها مجدداً تحت ضحكات راوية غير المناسبة، بدأ في الحديث معها بلهجته العثرة، فأخرجت من حقيبتها السكاكر والحلوى المخصصة له، استقامت معه وأخبرت راوية: -كوني في غرفتي ، سأرى عماد وأوافيكِ. تنهدت راوية تخبرها بعتب مغناج: -هذا استقبالك لي، كنت هناك بالفعل وخرجت لأجل عماد. اومأت لها آرام بإرهاق وسارت بعماد نحو غرفته، أدخلته الحمام وغسّلت وجهه، مسحت على شعره بكريم عناية ومشّطته، نثرت عطراً عليه وطيبّته، فلن تستطيع أن تطلب منه الاستحمام وراوية موجودة . -ابقى هنا وخذ هذه الحلوى لك سأقوم بتشغيل أفلام الكرتون التي تحبها. قبّلها على وجنتها فمددته في سريره وأشعلت له التكييف، خرجت نحو غرفتها فوجدت إيلياء تحتل سريرها بوجوم، وراوية تحتل سريرها هي وتتربع في محادثة إحدى الشبان الذي تتعرف عليهم وتعرض غرفة آرام كغرفة لها هي، بل وتسلط الكاميرا على زوايا آرام وأركانها. تنهدت آرام تخلع حجابها وتسأل شقيقتها: -إيلياء أين أمي؟ ردت عليها إيلياء بجفاف: -ذهبت لخالي حمد.. فرونق في زيارة لديهم . هزت رأسها ودخلت تغير ثيابها، خرجت ورمقت المشهد أمامها بملل، حضرت مشروبات للجلسة فإيلياء تتصرف كضيفة أكثر من راوية، وجهزت أطباقًا للتسلية، جاورت راوية وأطفأت عنها الهاتف قائلة: -اشتقت لك راوية. احتضنتها راوية وقبلتها قائلة بصدق: -وأنا أكثر أقسم لك . -هل رأيتِ سراب؟ نفت آرام وأخبرتها باعتذارها عن ذهابها للجامعة، فأيدت راوية الأمر وقالت: -خالتي تغريد محقة، لا يصح الدوام في أسبوع الزفاف. حركت آرام خصلاتها وأضافت بحيرة: -سراب طلبت مني ألا نزورها حتى يوم الزفاف. ضمت راوية شفتيها ومطتهما تقول بلا مبالاة: -أحسن، لا نريد رؤية وجه الخالة تغريد، الأرملة السوداء.. تركت آرام راوية تثرثر كيفما شاءت وعادت بتركيزها نحو إيلياء التي ترمقها بعدائية واضحة غير مبررة، تنهدت وقد ألحت عليها راوية بالانتباه فالتفتت لها متسائلة بتشوش: -ما الأمر؟ -أخبرتك أني أريد أحد أثوابك لم أبتع ثوبًا للحفل. هزت آرام رأسها واستقامت نحو صوانها فتبعتها راوية بحماس، تركتها آرام وانزوت عند الزاوية قرب إيلياء، استفهمت منها حين باتت قربها: -ما الأمر، هل أنت بخير؟ خفّ تشنج إيلياء وبدا ذلك واضحًا فسألت: -هل جئتِ لوحدك من العطارة؟ أم أن هناك من أوصلك؟ ضاعت آرام في سؤالها فردت: -جئت بتاكسي أجرة لوحدي، لماذا السؤال؟ تنشقت تقاسيم إيلياء بالراحة فسألت بحذر: -ألم يوصلك مهند؟ تعكرت ملامح آرام بذكره واغتمت فردت من فورها: -مهند مشرف العمال ..هل سيترك العمال ويوصلني!! -هذا جميل ..جميل أحببته! التفتت كلا من إيلياء وآرام نحو راوية التي تتمسك بثوب فيروزيٍ مغلق بكيس ومركون على الطرف، تبرعت إيلياء التي لم يعجبها اندفاع راوية وأخبرتها: -هذا ثوب آرام الذي ابتاعته للحفل. -حقا!! هزت إيلياء رأسها وآرام قد تفهمت إحساس صديقتها التي لم تتأخر وتقول: -لكنني أحببته ..يا إلهي مذهل ورائع لكن للأسف لم أعرف أنه ثوبك. راوية تعرف صوان آرام أكثر مما تعرفه هي ومع ذلك تقبلت آرام منها الدهشة، بحلقت فيه راوية لمرة أخيرة وقد بانت لهفتها واغتصبت الحسرة صوتها وهي تعيده إلى مكانه فسألتها آرام: -إن أعجبك ارتديه، لا بأس. -لا مستحيل كيف أفعلها؟ عيناها طامعتان وكلها ملهوفة نحوه فأخبرتها آرام بصدق: -لا عليك جربيه وإن لاءمك خذيه. -حقاً آرام حقاً!! ..يا إلهي كم أنت طيبة ، أحبك أحبك. دخلت إلى الحمام فيما تستهجن إيلياء ردة فعل آرام وتركها الثوب لها رغم أنها ابتاعته بشكل مخصوص لحفل سراب بل وبحثت عنه كثيراً وانتظرت شحنه من تركيا ووصوله على نار فسألت: -لماذا؟ لم يكن عليك ذلك. ربعت آرام ذراعيها وقد زحفت البرودة إليها فطلبت إيلياء: -اذهبي لعماد واطمئني عليه، أظنه قد نام. خرجت إيلياء بعنف وغضب فيما تسربلت خطوات آرام نحو نافذتها التي سرقها مطلها إلى إحدى مستحيلاتها ودقة قلبها الأولى.. لم يتح لها الوقوف عند مفترق ذكرياتها فقد خرجت راوية بحماس تسأل: -ها ..كيف أبدو؟ أجفلت راوية آرام التي التفتت نحوها ورمقت الثوب عليها فقالت بحلاوة: -رائع ..كأنه جاء لك. ** | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #19 | ||||||||||
كاتبةفي قسم قصص من وحي الأعضاء
| ![]() *** كانت "ابن أمه" طرفة تناقلوها، حتى صارت كبد الوجع. «الطفلة لينا فارقت الحياة» مرّ في حلقه حجرٌ صُلب وشقّ عليه ابتلاع لعابه، أخذ زفيرًا شاقًا، فيما يحتجز عبراته على حدود عينيه ومسامعه تتلقى حديث الممرضات حوله: «قيل أنها لم تشأ دخول العلاج بعد ألم الاستئصال فقد دخلتها مرغمة» «لم يحتمل قلبها الصغير ففارقت الحياة قبل أن تبدأ أولى الجلسات الكيمائية» لم ينتظر التكملة فسار ببطء مع تلقيه الخبر لقسم العلاج الكيمائي والأورام، توقف متراجعًا عند وصوله و ظهور عائلتها المنهارة في النحيب والوجع، استند إلى الجدار خلفه واحتجز نفسه في صراخهم حتى تلقى دعمًا فوريًا ولمسة حانية لأعلى ذراعه. -الطفلة دخلت للعلاج تحتضر ونسبة النجاح ضئيلة بعد الاستئصال سند. التفت لربتة منذر وأسفه عليها، فهز رأسه صامتًا وعلّق بعد برهة صمت: -كانت في حوزتي منذر لقد قضت جلستها معي. أومأ منذر رأسه في تعاون وتعاطف ومرر له صراحة: -رحمها الله حالتها كانت متوقعة، لقد جازفت أمها بها. انقاد سند للصمت ولم يجب عجزًا فابتدره منذر الذي اقترح عليه برفق: -اذهب لغرفة مكتبك وحاول الاسترخاء قليلاً. استسلم لمنذر الذي قاده و أدخله الغرفة بحرص وغادر مغلقًا الباب خلفه، توقف سند لحظاتٍ يعي رحيلها بصاعقة أضرمت حريقًا التهم قلبه. موتها متوقع لكن بهذه الطريقة المؤلمة له ..أبدًا لم يتهيأ، حتى ساعة مضت كانت معه. تزعزع ومال فما كان لهامته أن تحتمل الخبر بثبات فتهاوى على أقرب كرسي خلفه مبهوتًا، حدّق في الأفق المعتم المحتجز خلف زجاج مكتبه بخواء، ووجه لينا الباسم يتشكل بصورة شجّت قلبه، قبع في صمت موحش بددته صرخات باكية في الرواق فأذن لنفسه حرية التعبير ودفن وجهه في كفه يعتصر ملامحه مطلقاً سراح عبراته المختنقة، و ذاكرته تُكرّس الصور الأخيرة التي تَصدّر بطولتها هو وخصلات لينا شديدة السواد وعيناها شاحبتي الزرقة وأسنان ضائع ترتيبها.. «أنا لا أعرف الموت لكنني لا أريد عيشه ..فأمي تبكي وترجو ألا أموت» دارت حول مكتبه وعبثت بأوراقه ، ثم توقفت بعينين متسعتين وفم مزمزم تفشي له بأعظم أسرارها : «أمي تقول ليتها هي مكاني ..فما الشيء المدهش في هذا المرض لتتمنى أن تكون هي المريضة بدلًا عني؟» أيام مرّت وجاءت تسأله بوجه عابس مرفق بدموع محتجزة بقوة وفم مقوس مع هزال واضح وشحوب: «هل سيضعون شيئاً حارقاً على جسدي؟ جدتي قالت لأبي ذلك ..ما معنى العلاج الكيمائي؟ هل سأعطيه شعري كي أُشفى؟ إن كنت سأتعافى سأفعل وأعطيه شعري.» ضائعة تعابيرها بين الحيرة والشكوى، لكنها قررت في زيارة تلتها وملامحها تتغضن بالألم مع بروز بطنها وانتفاخها: «أنا لا أريد تلك المادة أن تقترب جسدي.. ألا يمكنني قص شعري في أي صالون للحلاقة والشفاء سريعًا دون الدخول لذلك المكان؟» وطلب صغير منها أن يهبط حتى يوازي كرسيها الذي رافقها مؤخرًا عقب سوء حالتها الجسمانية ، ثم وشوشة لأذنيه على مرأى عيني والديها، بعد عملية الاستئصال التي نجت منها بمعجزة: «سند ..قل لأمي أنني أحبها ..وهذا الألم ليس بشيء مميز يستحق أن تتمناه» ودمعة أخيرة تنفلت وهي تتجهز لتلقي أول جلساتها: «أنا أتألم سند و لا أريد دخول ذلك المكان، لكنني سأدخله حتى لا يؤلمني بطني ولا تؤلمني دموع أمي » سند ..وسند. والكثير من سند مع لدغة سينية واضحة كانت مميزة في لهجتها؛ طفلة لم تتخطى الثماني سنوات، أُصيبت بورم خطير تم اكتشافه في مراحله الأخيرة، وهو طبيب متطوع في قسم الأورام له ساعتين مخصصتين كل يوم لتأهيل المرضى قبل الدخول لجلسات العلاج، وهذه الطفلة علقت به وعلّقته بها، أحبها وتابعها طويلاً حتى قررت خوض العلاج عقب وصولها لحالة صعبة، لم يشأ والدها أن تخوض العلاج فقد قرر قضاء أيامها الأخيرة برفقتهما بهدوء، ولم ترض أمها بقراره فقلبها مربوط بأمل معدوم ..وخاضت لينا التجربة التي دخلتها بثقة وبراءة مطلقة، ولم تحتمل دقائقها الأولى فهزمها المرض! حجز نفسه في مكتبه دون التعاطي مع أحدٍ بعدما ودّعها صامتة، قبع في حالة سكون اعتزل فيها كل شيء وانزوى فيها على نفسه حتى اكتفى وبزغت إليه فكرة من عدم فقرر العودة للبيادر والارتماء في إصطبل جده المحرم عليه ليفرغ أوجاعه في إحدى خيوله فلا دواء له سوى الأصيل، استقام متحركًا واستل مفاتيحه ينوي المغادرة وعند باب سيارته فتح هاتفه فـتجمّد مع مهاتفات أمه اللحوحة ، اشتعل قلقه وهاتفها ملهوفاً فاستقبلته عاتبة: -أين كنت عن مهاتفاتي لك ..لقد أقلقتني عليك. استرخى يفرك جبينه مستقبلاً ثورتها المعتادة ورد بصبر: -كان يومًا مليئا بالحالات لم أستطع فتح هاتفي.. وهناك حالة توفيت قبل ساعات كنت مشرفاً عليها. أمطرته بسيل دعوات فائضة عن الحد وترحمت على الطفلة، ثم تنحنحت تطلب منه: -ألغ حالاتك كلها وتعال إلى البيادر يا حبيب عينيّ قبل موعد الزفاف. قطب جبينه وغاب عنه التركيز فسأل وقد حسرت بثينة جليد أحزانه الذي تراكم مع موت لينا: -زفاف من يا أمي؟ سألت بشهقة وعدم تصديق: -زفاف سراب هل نسيته سند؟ أم أنك لا تود أن تحضر زفافها؟ شك لوهلة بمستقبلاته السمعية فسأل: -زفاف سراب ..تحادثيني لأجله! -أجل زفاف سراب ابنة الأفعى تغريد لا سواها. تنفس بخشونة فيما تمر أنامله في خصلاته بعصبية فسأل ذاهلاً : -للجحيم سراب وزفافها سراب.. أخبركِ أن حالة تحت يدّي توفيت منذ وقت قصير وتقولين لي زفاف سراب هل سأترك عملي لأجلها! استنكرت وهتفت به غاضبة:- -طفلة وأجلها حان هل ستقيم حدادًا عليها، هذه مهمتك كطبيب، ثم أجل كيف لا يهمنا حفل سراب! هل جننت يا ولد؟ احتد صوتها وهي تتلو على أسماعه خطبها: -هل نسيت ابنة خالك ووالدتها وزفافها المنتظر؟ ستكون حاضرًا شئت أم أبيت هل فهمت! دار حول نفسه ومسح بكفه على لحيته النامية فيما يرد بغضب أججه ذكر سراب: -حضوري من عدمه ليس بالأمر المهم يا أمي هي ابنة خالي وليست شقيقتي، وفقها الله في زواجها وتمم لها بخير أنا لست مهتما في الأمر! والرد جاء باترًا محسومًا من طرف بثينة وما على سند إلا التنفيذ. -الليلة ستكون الحناء، حاول أن تصل مبكراً، فلن أسمح للأفعى تغريد أن تشمت بنا وتقول لم يحضر سند لحسرته على سراب المشؤومة جعل الله زواجها ذلاً لها ولأمها .. -أمي! طلبته بلهجة أمومية لها مفعولها عليه : - عليك أن تكون حاضراً لأجلي سند، لأجلي أنا. أحكمت قبضتها على وجعه ونالت مرادها مع تأجج أنفاسه على الاتصال فودعته بدعواتها وأغلقت الهاتف تاركة إياه يركل مقدمة سيارته هاتفًا بنبرة من قاع الجحيم: -عليك اللعنة سراب أنت وذكرك. كررها فيما يستند على حافة سيارته يفتش عن حافظة تبغه المفقودة وحالما وجدها تناول لفافة منها يحشرها في فمه بانفعال وملامحه يعتصرها الاشتعال. والحالة احتراق وكل السبل مغلقة لإخمادها، الطبيب سند ينهار، وتشييده هذه اللحظة بات مستحيلًا. ** اصطفتْ سيارة نجيب الآغا أمام منزل مرعي والد راوية للمرور عليها وأخذها برفقة ابنته لزفاف صديقتهما. تذمرت آرام: -أبي أطلق بوقًا لكي تتنبه لحضورنا. وافقها وأطلق بوقًا ثالثًا حين تأخرت في الهبوط إليهم، ضيقت آرام جفنيها مستغربة فراوية أكدّت عليها أنها تنتظرهما عند البوابة. استلت هاتفها تطلب رقمها وهي تخبر والدها: -غريب أمرها قالت لي أنها جاهزة، سأهاتفها وأرى ما بها. امتد الرنين بلا إجابة فاقترحت آرام وهي ترمق ثوب الحفلات الذي ترتديه بضيق: -سأذهب وآتي بها! لم تعجبها نظرة والدها لثوبها وتبرجها وهيئتها العامة فاضطرت لإخباره: -ليسَ لدي حل آخر.. والدها وإخوتها ليسوا في البيت بل في أعمالهم. هبطت وجرت نحو منزل راوية ، ففتحت لها نوال الباب ورمقتها صعودًا وهبوطًا بغير رضا -السلام عليكم خالتي.. أين راوية؟ تعلقت عينا نوال بطرف حذاء آرام وأخبرتها بتنهيدة طويلة : -لقد أُفسدت زينتها وحاولت تعديلها ففشلت ولا زالت في الداخل تبكي. زفرت آرام وتقدمت تخبر نوال: -حسنًا خالتي سأهتم بالأمر.. ولجت للداخل بعدما بلّغت والدها أن ينتظر قليلًا فلاقت هيئة راوية عند الباب فزفرت بإرهاق وأخبرتها بنزق: -أين الزينة التي أُفسدت راوية!! زينتك متقنة أكثر من زينتي. توغلت للداخل ورمقت ثوبها الذي ترتديه راوية باستحسان، وزينتها المشغولة بإعجاب لولا خط أسود أثار سخط راوية التي شكت: -لون أحمر الشفاه لا يناسب الثوب ولا بشرتي ..وانظري هنا... أشارت حيث عينيها وتبرمت: -خط جفني الأيسر لا يشبه الأيمن. كادت آرام تخبرها أن شكل عينيها لا يناسبهما هذا النوع من التبرج الذي يظهر حجمهما الصغير جدًا جدًا بدلاً من إبرازهما، لكنها ابتلعت تلك الملاحظة، وأجابتها من بين أسنانها: -ملكة الدراما راوية لقد أخرتنا عن سراب، كان من المفترض أن نكون عندها قبل الجميع. -أخبرتك أن زينتي غير لائقة . شدتها آرام من كتفيها وأجلستها على السرير وتعاملت مع زينة عينيها تحت مهاتفات والدها. -أريد زينتك، هل جلبت معك بعض المستحضرات؟ نفت آرام التي رمقت حقيبتها التي بحجم الكف وقالت: -لا أمتلك سوى زجاجة عطري وأحمر شفاه فقط. ازدردت راوية لعابها وطلبت منها: -دعيني أراه، فربما يناسب درجة بشرتي. تجاهلتها آرام فألحّت وجربته بنفسها فلم يناسبها، هدلت كتفيها يائسة وتركت نفسها لآرام كلياً حتى أنهت أمر زينتها، استقامت آرام تتفقد مظهرها وثوبها الحريري الذي طاله الطي فعدلته قليلاً وضبطت منظرها. -والدي يستعجلنا راوية هيّا بنا.. جاءتها راوية وحلقت حولها بافتتان غيور من تدبير ثوب جديد غير الذي أخذته منها، صفّرت بشقاوة وقالت مبهورة: -دعينا من والدك، ما كل هذا الجمال، كيف فاتتني طلتك!! عاتبتها آرام بعينيها فراوية حتى الآن لم تنتبه لها: -كنتِ مشغولة بالحسرة على زينتك ولم يهمك حضوري. دنت منها راوية وقبّلتها بحب فيما تحتضنها: -أحبك آرام أحبك. ثم تطاولت لحقيبة آرام وأخذت من زجاجة عطرها وبخّت لنفسها منه، وضمت ذراع آرام بذراعها تشبكه مغادرة. ** ** -لا أعرف التعامل مع هذا الكعب العالي. شكت آرام حال ساقيها وكعبيها مع الحذاء الكلاسيكي المرتفع الذي تتمايل خطواتها به بشكل مثير للضحك. راحت عينا راوية تلتقط حضور العنصر الذكوري الذي بدا غير موجود في باحات القصر مما جلب لها الإحباط فسايرت آرام قائلة: -هذه مشكلتك التي لم تتخلصي منها، هل هناك أنثى على وجه الأرض لا تعرف ارتداء الكعب العالي سواكِ؟! رمقت راوية الحذاء الفضي المفتوح من الأمام بحسرة وعلقّت بصراحة: -خسارة أن يتم حشره في قدم لا تعرف السير به. -ليس الجميع مثلك، الكعب العالي يحتاج جبروتًا يليق بك. كادت راوية أن ترد لولا أن تم لجمها حين بان استقبال الرجال الذي يحتل المساحة الضخمة أمام المسبح والمضيف المقابل له، رغم أن لا وجود للحضور بعد كونهن أول الواصلين، إلا أن شبان عائلة القاضي قد تهيأوا للاستقبال، ينتصبون في وقفتهم بشكل متراص غير منتظم يتبادلون الأحاديث بصورة تعلق بها العين فأجهزت عليها مع اكتمال طلتهم بحللهم الرسمية، حاولت مد الطريق والمماطلة في خطواتها مع حالة آرام التي بالكاد تتماسك في مشيتها، تخطتا تواجد الشباب ولا زالت راوية تحافظ على رسمة كتفيها المشدودة وإبراز التفوق في الطول لصالحها مع آرام، تحت شعار لعل وعسى! تعلقت عينا سند طويلاً بظهري الفتاتين اللتين جاءتا في وقت استثنائي، تحديدًا ذات الهيئة الفيروزية فالتفت إلى يحيى يسأله: -تلكما الفتاتين ليستا من بنات العائلة على ما أعتقد! ثبت يحيى سيجارته الإلكترونية بين سبابته والوسطى ورفع أصبعيه بشكل دائري فيما يهز رأسه : -أجل، صديقتا سراب.. راح بصر سند يقلب النظرات نحوهما بفضول بريء وتابع تساؤلاته وعيناه تقتنصان الطلة الفيروزية -تلك آرام؟ هز يحيى كتفيه بتجاهلٍ فيما يمشط ظهر الفتاتين بلا معرفة، فجاورهما ريبال الذي مرر ذات النظرات ملتقطًا تساؤل سند، ولم يتأخر في الإجابة التي اكتنفها غموضه المثير للجنون -لا.. هذه راوية. ** -معذرة منكِ خالتي تغريد لعدم حضورنا حفل الحناء. لم يبد على تغريد أية لمحة متعاطفة لصدق الفتاتين وتأثرهما البليغ لعدم تواجدهما في إحدى ليالي صديقتهما المقربة، بل ردت بمجاملة جافة: -لا بأس نحن نقدر ظروفكما. لقد سُرّت من قلبها بل وتشعر أن لدلال سبب في عدم ظهور الفتاتين المرشحتين بقوة لحسد ابنتها سراب والحقد عليها، لذا سريعًا مررت البخور وهي تحصن ابنتها من أعينهما في صالة الضيافة وغادرتهما بعبارة مقتضبة. تبرمت آرام ومطت شفتيها تعقب في ظهرها: -لم تهتم باعتذارنا، بدت وكأنها سعيدة بعدم تواجدنا. -أجل لم تخفِ ذلك حتى. ضمت آرام شفتيها وانسحبت بإحباط من خالتها تغريد التي تصر على نعتها بغراب البين وتتفق معها راوية التي جاورتها على ذلك، مررت بصرها لراوية التي أصابتها المشاعر ذاتها من ضيق عارم بسبب عدم التقدير الذي تفاقم بعد إقصائهما عن سراب ومنعهما من الدخول إليها حتى رؤيتها أو التواجد معها في حضور المزينة، عدا اعتذار سراب من آرام الذي تلخص بأنها لا تريدها أن تنقش لها الحناء، تقبلت آرام ذلك ولم يسعفها الحضور فقد نقل أخاها عماد للعناية الحثيثة على إثر نوبة تشنج فقد وعيه طويلاً فيها ولم يخرج من المشفى إلا البارحة، وراوية لم تعلل سبب تغيبها لكن آرام استنتجته من الآثار البنفسجية التي تملكت كتفيها وعنقها حين ضبطت مظهرها في منزلها. شدتها راوية بحماس: -أم سند أتت، تعالي نسلم عليها. استقبال أكثر جفافاً وملامح تشي بعدم الترحيب مطلقًا مع ملاحظة واضحة من الفتاتين لخوض مسابقة شيّقة بين بثينة وتغريد فيمن تعرض مصوغها الذهبي أكثر وثوبها يبرق أكثر من الأضواء التي يعج بها القصر. تجاوزتهما بثينة التي تركتهما في الاستقبال كمنبوذتين كما فعلت تغريد زوجة أخيها فضل. رمقتا رحيلها بغيظ فعلقت راوية: -الله يستر من هذا الحفل الذي تتبناه أورسولا "الخالة تغريد" وميليفسنت "بثينة القاضي". انفجرت آرام بالضحك تُذّكر راوية: -نسيتِ عليا والدة بلال.. كورويلا شخصيًّا. صفقت راوية كفيها وقالت بصدمة: -كيف فاتتني! همست آرام بضيق مفتعل: -مسكينة سراب تبدو لي كغزالة وقعت في غابة ذئاب. جاور صوت راوية تشبث عاطفي وهي تجزم : -لكنه يحبها. حطت عينا آرام على الثريا الضخمة التي تتدلى من السقف وقالت: -وهي استعجلت! كست ملامح راوية الحزن وقالت بعد صمت كئيب: -بلال ابن خالها أقرب الناس إليها.. ويحبها، حبه لها فاق كل المقاييس. أنهت راوية الوصلة الدرامية بطلب التصوير قرب التحف الملحقة بالاستقبال واستغلال عصرية القصر المدججة بالعراقة حتى انتهى بها الأمر لتطلب: -دعينا نخرج إلى المسبح نتصور قربه فإطلالته جميلة ومميزة. اعترضت آرام قطعًا: -الشبان يصطفون حوله .. قلبت راوية عينيها باستياء: -له أكثر من جهة أختي، استخدمي عقلك قليلاً لن يضرك ذلك. وافقتها آرام والتحقت بها، خلعت عنها حذاءها حين طالت وضعيات التصوير الخاصة براوية، وعند جهة ما شهقت آرام منتفضة حين لاقت ظهورهما كعرض ممتاز للشبان : -حسبي الله ونعم الوكيل بك راوية ..نحن مكشوفتان للضيوف. | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #20 | ||||||||||
كاتبةفي قسم قصص من وحي الأعضاء
| ![]() ** إطلالة فاتنة غطتها مسحة شاحبة من الحزن تليق بحسنها المثير للشجون في توليفة عنونتها سراب وحدها ، تمت مراسم التزيين بسرية تامة مع مزينة ليست من المحافظة ولا من المحافظات المجاورة لقاء مبلغ ضخم، لم ير العروس أحد حسبما أوصت دلال، لم تبدِ زينة شعرها بل تم حشره في كومة أسفل حجاب بارق انعكس على لون بشرتها سلبًا، وثوب رغم محاولات تغريد فيه لإخفاء امتلاء كتفيها لم ينجح. هبطت سلالم القصر لوحدها بإكليل الزهور الأبيض الممزوج بزهور خضراء وبنفسجية، سارت تحثها خطاها المرتجفة ووثبات قلبها المرعوبة للتخلص من عبء اليوم، ظهرت للملأ واستقبل حضورها جمع غفير من الفتيات الصغيرات من عائلة القاضي وأحفاده اللاتي سرن خلفها بزهور منثورة فيما يعمل الباقي منهن في تضبيط ذيل الثوب الذي غطى منتصف السلالم، اشتعلت الموسيقى واُختطف المشهد من حكاية أسطورية دعمها ضوء الشموع وخيال اللقطة، ارتجفت مشيتها واختل الإكليل في يديها، كان كل ما يحدث فوق طاقتها، امتدت خطواتها حتى لاقت وجه رفيقتي العمر فطفرت عبراتها واختزلتها الوحدة في مدارها فقد شعرت بأميال تفصلها عنهما، ازداد مضمار النبض مع ازدياد الحضور فانكمشت وهي توزع نظراتها حتى اصطدمت بعيني عمتها بثينة فتلاشى المكان واختفى الزمن من الحساب وترقرقت دمعاتها التي أحرقت عينيها وقلبها، ابتعدت بعينيها حتى احتضنتها عينا عليا زوجة خالها المدمغة بالنفور فـ صَعُب تنفسها، ووهنت عضلاتها فشعرت بوشوك الانهيار والتكوم أرضّا، حتى لاقتها عيناه!! ** أحبّها وكم فعل، يحبها لأمد العمر وما تبقى من سنينه وحتى يفنى ويصبح أثرًا..وهذا بلال. توقف طويلاً، يُفرغ توتره ويمسح عرقه مسيطرًا على اختضاض قلبه العنيف، في نقطة أبعد ما تكون عنها ينتظر وينتظر حتى ظهرت إليه وللملأ تسرق بفتنتها المُستَحَقة قلبه رامية بسيطرته أدراج التهور، فارتجل خطواته و كسر المرسوم المتفق عليه مقلصًا مسافة البعد حين قطع المسافة على كليهما، وأهداها نفسه أخيرًا ..وأخيرًا سراب في حوزته.. قبلة واحتضان مخجل على مرأى الجميع ونبرة مسنونة باللهفة: -مبارك سيدة الحُسن. *** لا تعلم سراب كيف انتهت ساعات الحفل التي ابتلعتها بعيدًا عن الجميع دون أن تنطبق على قلبها قذيفة تفتت خلاياه، وكيف استيقظت واعية لنفسها تعتلي سلالم منزلها برفقة بلال الذي شدّ على كفها بشغف حانٍ وهمس لها: -استرخي سراب لا شيء يدعو للقلق، لقد وصلنا أخيرًا. هدأت خلجاتها المنتفضة، وكفها الراجفة بين كفه على حالها، مسح بمنديله على جبينه حين تبسمت له وقال: -سراب أنت لا تعرفين ما الذي تعنينه لي. ضم كفها في لمحة بالغة الأثر: -صدقي لو عرفتِ لما انتفض قلبك المرتج سوى فرحًا.. رقت نظرتها وحاولت ثني فمها عن اهتزاز عنيف، هي ليست خجلة كأي عروس، ولا مرعوبة برعب كل العرائس الفطري، بل تنسف بها ظنونها عمّا يجهله ولا يدركه بالكلية، لا يدري أن الخوف يغوص داخلها كأعمق بحاره. تماسكت جزيئاتها المنفرطة فيما تقضم شفتيها وتخبره بعذب صوتها: -أنا لا أخاف منك أبدًا ..أنت منطقة أماني بلال. شدّها إليه أكثر ولقّم مفاتيح الباب للقفل الذي ابتلعه سريعًا وولجا للمنزل، صارت في الردهة بثوبها الضخم لوحدها، تنفست بضيق حين جال ببالها مرور والدتها بالبيت قبل مجيئهما وقيامها بطقوسها، رمت بانفعالها حول إدارة أمها لحياتها بأسوأ الطرق وقررت ترك نفسها لبلال الذي أخذ يتشمم ما حوله وهو يقترب منها: -ما هذه الرائحة الغريبة؟ استدارت لسؤاله ولم تعرف بم تجبه، فلا أحد سواها يعرف الرائحة وأمرها فأمها باركت منزلها قبل وصولهما بتمائمها، قضت كل الدقائق الثقيلة بتشنجات أفقدتها كل ركيزة تظن أنها تحملها و اقتربت منه لتلهيه عن تتبع الرائحة. هي عالقة الليلة وتود التخلص من رباط ثقيل يلزمه بها، فليمر ليلها بسلام ويسلم قلبها المثخن بأثقاله، تبسم لها برفق وحاوطها بنظرة عشق أعادت لها حبه الذي يطمئنها.. حبه فقط طمأنينتها وسلاحها الوحيد لتعجيل المحتوم. أخذ كفيها، قبلهما واستقرت شفتاه على خاتم خطوبتها حتى حرر سبابتها وتمهّل بمس كفها حتى وصل المعصم وترك أثره عليه، توسد نظرتها التي ماجت بالرقة وعينيها المضيئتين بعبرات لم تهطل بعد، أخذ وجهها بجدية وأخبرها: -انظري إلي سراب ..أن أحبك يعني أن أخطط لأحلام لا حصر لها معك في هذه الليلة، بل أن نيلك فور وصولنا هو أقصى أمنياتي. أخذ صوته نبرة مختلفة لم تسمعها قبلاً وهو يضيف: -أنت لا تدركين لذة التعجل لعاشق .. راح صدرها يرتفع ويهبط تحت تأثيره، فأحاط كتفيها بدفءٍ وهمس بصوت جمع لحن عشاق أهل الأرض: - متلهف لك أجل.. لكنني غير مستعجل؛ الليل ملكنا وأنت ملكي . صادق وهنا مربط الغصة.. صدقه مشكلة، وحزنها الذي يقفز بها من ارتفاع موجع ضخم سيفتك بها.. -لذا استريحي واخلعي عنك هذا الرعب.. أود ليلة حب برفقتك هذا جُل طموحي.. هل ستفعلين؟ هزت رأسها بإيماءات مختنقة فيما صدرها يرتج داخل ضلوعه.. فأتم بلمسة حنون: - اتفقنا؟ وأخيرًا صوتها جاء من عمق الموت: -اتفقنا.. فكّ لها سحاب ثوبها وأوهبها لحظات استثنائية من تأثر ورجفات متتابعة ضربت كل أوتار أنوثتها، سحبها إليه سريعًا وناورها بقبلات بددت جزءًا من رصيد ألمها، وجع عينيها سكنته عاطفة غريبة أججت توجسه، ضباب عنيف يصعب رؤيته، لجم خوفه واهتزاز نفسه فسحبها للداخل كي تغير ثوبها وتخرج إليه. وهناك تركها مع أزمتها الأولى .. المرآة!. وقفت أمامها بتهور غير محسوب، جردت سترها كاملًا.. وامتثلت أمامها بحقيقة جمّدتها عن انهيارات زائفة.. حدقت بهيئتها بلا شعور! مجرد جسد وتفاصيل ربما تعجبه.. وربما ينظر إليها أو لا يوليها أهمية حتى، حدقت في أذنيها بانكسار تركها ألف شظية، كادت تمد يدها لإحدى أغطية والدتها وتغطي بها رأسها فتراجعت، ولمرة أخيرة سمحت لنفسها التدقيق قليلاً وقد عزمت فهي قوية ولا تهاب! غطت شفتيها بلون منطفئ، وقد ناسبها الأمر. هي ليست نادمة على ما فعلتْ، ولن تندم فهو السبب بظهورها هكذا، مد إليها بدفقات من ثقة جعلتها تخرج إليه عارية لا يغطيها ستر أجادت تغريد إخفاؤه، بل وخلعت حجابها وتركت وجهها بلا زينة. ازدردت لعابها ومرت بأصابعها تحاول مس جبينها فتراجعت مذعورة على الفور فشعرها المنطقة المحرمة، مسّدت على ثوبها الذي لا يناسب بتولاً لكن تغريد أصرّت عليه علّ فتنتها تلغي عقله، تنفست بشجاعة ورمت بكل حسابات الليلة وخرجت إليه بعد أن طرق بابها للمرة الخامسة. وقبل أن تفعل عادت وغطّت شعرها بإحدى الطواقي التي تناسب أثواب النوم، وحين خرجت للصالة اندفعت أناملها مدفوعة بالغضب نحو رأسها وعرّته، فهي ستبدأ حياتها بلا خجل! كان قد انضم لفريق من أصدقائه على لعبة مزعجة لإثبات بعض التعنت الذكوري في ليلته، رمى بالهاتف حين سمع بصوت خطواتها ونسف وعود الذكورية كلها وما تبجح به، فقلبه موصول بخيط سرابه التي جاءت هيئتها في مقتل لقلبه، أخذ النظرات تمهلاً بدءًا من أظافر قدميها حتى ساقيها القمحيتين وسلك صعوداً نحو خصرها، طال الطريق حتى وصل عنقها العاري من خصلاته فتوجس قلبه وهي في رجفة منه، تمادى في سؤال عينيه عن فتنة خصلاتها حتى اصطدم بما رآه، كرر نظرته بشكل أقوى وتوسد رقعة رأسها بجحوظ عينين مطلق، كل ذلك مرّ وهي لا تعيه ولا تعي نظرته، مقتولة بلحظة محسومة لم تتأخر مطلقاً حين شهق مجفلاً بصدى مثخن جراحه: -ما هذا.. تراجع مبهوتًا بحق فما رآه لا ينتمي لأي منظر إنساني، ازداد تنفسه فأغمضت عينيها بقوة ثم فتحتهما لتنقش ردة فعله للأبد محتفظة بها، كان مجنونًا وهو يشير لرأسها بصدمة باكية مرعوبة: -ما هذا سراب ..بالله عليكِ قولي لي ما هذا. فاض حزنها، وامتد صمتها الطويل المنخور بذهوله ورجفة عرق رقبته النافر، تنامت غصتها ورقدت الخيبة طويلاً في قلبها حين تجرأ مقترباً يشير حيث رأسها: -لم تخبرني عمتي بأن الأمر بشع إلى هذه الدرجة ولا يحتمل.. لم تخبرني. نطقها مخذولاً، صوته مهاجم لا يرحمها. اكتفت من طعناته وهزت رأسها نفياً حين حاول مغمضاً عينيه أمام انكسارها أن يبدو طبيعياً فمد بأنامله نحو رأسها بتهور غير محسوب، انهارت بالكلية وانهار معها فتراجع للخلف مهزومًا إذ لم يستطع لمس رأسها لبشاعة هيئته، استحال الوجع لثقب كاد يبتلعها فلم تسمح لنفسها الغرق أكثر.. راقبته بعين صافية يتراجع ..يتعرق ..يزحف للخلف بلا حول ولا قوة يردد بمشقة: -لقد خدعتماني .. كررها وهي مكانها بجليد غلف كل إنش منها، أخذ عينيها في حسرة ورأسها المكشوفة في اشمئزاز فاض عن سيطرته فغمغم وكفه ترتفع لفمه: -أنا آسف أنا آسف سراب.. ابتلعه الممر الذي ولج منه للحمام كي يفرغ جوفه وتركها مهتزة، وصلها صوته ونحيبه ، فأنّ قلبها بقسوة، أجهضت عبرتها في رحم عينيها بقسوة، فيما تتمسك بالجدار من خلفها، ارتكزت بعيداً عن الدوار الذي خلخل وعيها وحدقت في الفراغ الموحش أمامها، ضاع صوتها في أنين مكتوم وهي تسمح لكفها المتعرقة أن تلمس رأسها، فتجرأت لمرة أولى بعد سنين طويلة بوضع أناملها في رقعة شعرها الفارغة، تهاوت للأسفل وعرقها يسح نحو وجهها، فغاصت أناملها في فروة رأسها المجزوزة شعيراته كقصاصات متهالك نموها تتناثر بشكل عشوائي ولا تستر جلدته، ضح قلبها دقاته بعنف لا يناسب هشاشة اللحظة، بقيت تحتضن رأسها في وحشة وهزيمة، وصوته في الحمام يؤنسها رغم الوجع. انتهى الفصل. | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|