11-11-20, 10:54 PM | #888 | ||||
كاتبةفي منتدى قصص من وحي الاعضاء
| الفصل الرابع و العشرون الفصل الرابع و العشرون بداخلنا... كثيرة هي الكلمات... و قليلٌ من يَستمع... ********* اللون الأخضر في عينيها يزداد قتامة توازي قتامة الأزرق في عينيه...ترى بوضوح تشنج كفيه المتمسكين بعجلة القيادة...تكاد تسمع طقطقة عظامهما كما تسمع صوت طحن ضروسه...هذه هي الطريقة التي اختارها ليصمت بعدما فجر مصيبة عظيمة في وجهها قبل أربع ساعات...مر أربع ساعات استكمل فيهم عمله على اكمل وجه و تركها تتخبط بين جدران اعترافه...لكن من قال انه لا يتخبط ايضا؟! مؤيد جوارها يتماسك بأخر ذرة من اتزانه...ما كان يجب ان تعرف ابدا...كان عليه ألا ينصاع لرغبتها و يفشي سر ابنه الذي وعد نفسه ان أريج بالذات لن تعرفه...ماذا لو تعاملت مع يائيل بدونية و احتقار كما فعل الجميع...ماذا لو تركته خلفها اشمئزازا منه...ازداد تمسكه بعجلة القيادة يعتصرها بقوة لا يريد ان يصل ابنه معها الى هذه النهاية...يائيل لا يستحق كل هذا... (توقف!!) صوتها المتحفز نبهه من شروده ليجد انه عبر بوابة بيته و لم يرها...خفت قبضته فوق عجلة القيادة ليعود بالسيارة للخلف و يدلف بوابة بيته...لحظات و كانا خارجها يتوجهان الى باب البيت الداخلي بصمت ليس صمتا فأجسادهما ترجها نظرات العين المستفهمة بكلمات كثيرة من كليهما...ولجت أريج للبيت قبله فكان أول من استقبلها هو يائيل الجالس على أريكة مقابلة لنافذة زجاجية تطل على حديقة البيت...كان ساكنا شاردا بصمت ظنت انها كسرت جزءا منه منذ عرفته...طالت نظرتها المتجهمة له تتفحصه بتدقيق و كأنها تُركِب حقيقة ما قاله والده عليه...هذا الطفل غير شرعي!!! (نبيلة خذي يائيل الى غرفته في الحال) صراخ مؤيد خلفها بأمره الصارم جعلها تنتفض شاهقة بجزع من مباغتتها به...هرولت المربية من المطبخ الى الصغير لتحمله و تنفذ أمر والده بطاعة مرتعبة...تلاقت عينا أريج بعيني الصغير و هو بين ذراعي المربية و تتحرك به نحو الدرج...ناظرته نظرة قليلة الحيلة و لا تعرف لمَ شعرت بأنها أضعف من أن تبدل حياته كما ظنت!...تتبعت المربية و هي ترتقي به درجات السلم حتى اختفيا فكادت تسبل اهدابها لتركن لتساؤلات عقلها الغير منتهية لولا جذبه لها بقسوة من ذراعها يوجهها اليه صائحا فيها بتحذير مهدد... (ابدا لا تنظري الى ابني بهذه النظرة...) نفضت ذراعها بقوة من قبضته لتصيح بحدة... (لا تصرخ في وجهي و تأمرني بتبجح قبل أن تعرفني كل شيء) رفع سبابته في وجهها بتهديد لم تعره اي انتباه فتداخلت حروفها مع حركته لتأمره هي هذه المرة... (ليس خيارا مؤيد ماضيك أصبح مباحا لأعرفه مادام ادخلتني حياتك و حياة ابنك...أخبرني ما هي حكايتكما) انزل سبابته ببطء يناظرها بنظرات متقدة جهلت معناها كليا...فبداخل مقلتيه يوجد غضب... خوف...رجاء و ألم...اجفلت حينما قبض على كفها يعتصره داخل كفه ثم يسحبها خلفه دون حرف يصعد معها درجات السلم...توقفت خطواتهما امام باب غرفته التي يقضي بها معظم وقته...لحظات مرت و هو ساكنا لا تسمع منه سوى صوت انفاس يعلو بوتيرة متوترة!...و كأنه كان يرتب افكاره و يهيئ نفسه لما هو مقبل عليه فتوجهت كفه الحرة الى مقبض الباب يفتحه و يخطو للداخل متمسكا بكفها لتدخل...التفت يغلق الباب ثم يترك كفها و يتحرك الى السرير ينزع سترة حلته بهدوء رغم تشنج عضلاته الواضح يلقيها عليه...أحلَّ رابطة عنقه بينما يلتفت لها متسائلا بصوت يبث بها الخوف (أي شيء تودين معرفته عن حياتي أريج؟!) رمقته بحذر تهمس بتوتر... (كل شيء...) القى رابطة عنقه لتجاور سترته على السرير ثم اعتدل يقابلها بوجه متحفز قائلا بسخرية مريرة... (لم أجد شخصا واحدا يستمع لي حينما رغبت في الكلام...فأين كنتِ عندما تصدعت الجدران من صراخي؟!) أدخل كفيه في جيبي بنطاله يعتقل عينيها المتسعتين بذهول مصدوم ليكمل بصوت اهتز كثيرا... (هل نبدأ الحكاية من حيث مؤيد الطفل الذي فقد أمه في سن الخامسة أم نختصر الطرق لنصل الى مؤيد ابن الثانية عشر و الذي أرسله والده لأمريكا كي يدرس و يتفوق ليعود له طبيبا ناجحا يؤازره في مشفاه؟!) ارتعشت شفتاها تهمس برجاء... (و ما بين الخامسة و الثانية عشر أخبرني عنه) ابتسم بسخرية قاتمة بسمة تكاد تنحني لتشكل رعشة بكاء... (حياة لا حياة بها...فقدت الحياة مع خسارة أمي و بدلا من أن اتلقى حنانا و اهتماما مضاعفا من والدي ما وجدت سوى اوامر و صرامة قتلت طفولتي...ثم يختمها ختاما متخما بمشاعر الأبوة و هو ينفيني بعيدا عنه و عن بلدي طامحا بأن أعود يوما كما يريد) ابتلعت أريج ريقها بألم كبير فهي تعرف شعور أن تطلب حنان والديك و لا يمنحاه لك...و إن كان سبب بور أرض قلبهم مختلف فتبقى النتيجة واحدة دوما...راقبت كفيه خلف قماش بنطاله كيف يعتصرهما بقوة ليداري عنها ألمه...منحها جانب جسده ليسترسل بوجع... ( سافرت و بقيت هناك لسنوات...سنوات كنت ضائعا منفصم الشخصية لا أعرف أأنا عربي تحكمني عادات و تقاليد يترأسها دين معين أم أنا شاب فتحت له الدنيا احضانها ليلهو و يلعب و يفعل كل ما يريد دون رقيب...فالرقيب بعيد حتى بصوته و قد شغلته مهنته و مشفاه و نجاحه العظيم عن ابنه...تركني أربي نفسي بنفسي فبسخاء منحت لها كل ما تشتهي...) التفت بجانب وجهه ينظر لها قليلا ليفسر بصوت ضعيف... (و أنا أعني كل شيء قد يفعله شاب في مقتبل حياته دون أهل في بلد تُسمى بلد الحريات) جزعت روحها من التخيل فقط فطردته من عقلها لتتفحص وجه مؤيد و الذي لن تراه ثانيةً في حياتها...بسمة صادقة شقت سواد الذكرى التي جرفت ملامحه فتركتها يابسة ليهمس بتأثر كبير... (رغم عبثي و حريتي كنت وحيدا متألما أموت في الليلة عشرات المرات حتى ظهرت هي...إيڤا) قبل سنوات... منتصف الليل...مقهى ليلي... نيويورك الصوت الصاخب للموسيقى يتداخل مع الإضاءة التي تتغير كل ثلاث ثوان بألوان عديدة لتسقط ملامسة أجساد هؤلاء الغائبون عن وعيهم يتراقصون بجنون داخل حلبة الرقص...احتكاك زجاج كؤوس الشرب يصدح حينما ينهي كل منهم كأسه و يضعه بلا اهتمام ليطلب غيره...و على أريكة جلدية موضوعة في إحدى الزوايا الشبه معتمة يجلس مجموعة من الشباب يشربون و يتمازحون بينما صوت ضحكاتهم يعلو بعبث مغيب... (مؤيد أحتاج بعض المال لقد انهيت مالي لهذا الشهر و أبي مستحيل أن يرسل لي قرشا واحدا قبل الشهر القادم...) جواره رفع كأسه يتجرعه دفعة واحدة لينكمش جبينه من شدة الطعم اللاذع ثم ينزل كأسه يضعه على الطاولة الزجاجية أمامهم لينظر لصاحبه مبتسما بتساؤل عابث... (كم فتاة سهرت معها هذا الشهر تيمور؟!) حك تيمور عنقه من الخلف قائلا بخفوت مذنب... (ثمانية...) علت ضحكة مؤيد ليعود بجسده للخلف مستندا على ظهر الأريكة واضعا كفيه فوق معدته من شدة الضحك...تمالك نفسه بشق الأنفس ليوجه رأسه دون ان يزحزحها من موضع الاستكانة هذا ليقول غامزا... (من أين تملك الصحة لهن؟!...ثمانية دفعة واحدة!!) ضحك تيمور بصوت مسموع لينحني يلتقط كأسه و يشرب منه مجيبا... (كنّ عشرة لكن اموالي نفذت) اعتدل مؤيد في جلسته ليطلق العنان لضحكة صاخبة اخرى...حمل كأسه الفارغ يتلاعب به متسائلا... (و كم تريد من المال؟) اقترب منه تيمور بسرعة يحك كفيه معا هامسا... (ليس الكثير يعني في حدود مائتين دولار) رفع مؤيد له عينيه مستنكرا ليضحك بسخرية هذه المرة بينما يضع الكأس على الطاولة قائلا... (يا لك من قنوع!) فرد ساقه اليسرى للأمام ليدخل كفه في جيبه يستخرج محفظته أمام عيني تيمور المتتبعة بسعادة...سحب بعض الأوراق النقدية ليضعها أمامهم على الطاولة فاتسعت عينا تيمور قائلا برفض... (خمسون دولار فقط!!) كور مؤيد كفه على النقود ليسحبهم تجاهه مجددا قائلا... (الشهر القادم لا يفصلنا عنه سوى أيام و الخمسون دولار أكثر من كافية...أتأخذها أم أدخلها في محفظتي مجددا؟!) اسرع تيمور في القبض على كف مؤيد ليأخذ منه المال قائلا بتذمر... (هاتهم أفضل من لا شيء...لا أعرف أنا أين ستضع أموالك التي تتراكم كل شهر فالدكتور مهران يرسل لك بسخاء و لا يسأل أين تنفقهم و لا على من!!) حمل مؤيد قنينة الجعة يسكب لنفسه ثم يحمل كأسه يتجرعه كسابقه فيغمض عينيه و يجعد ما بين حاجبيه بقوة ليتكلم و هو في هذا الوضع... (و من قال لك أن الدكتور مهران لا يعرف عني كل شيء؟!) فتح عينيه يناظر صديقه ببسمة متألمة ليكمل... (الدكتور مهران يعرف تفاصيل يومي كلها لكنه يعقد معاهدة سلام بين ما أفعله و ما يريده عنوانها تفوقي في كلية الطب...امتياز كل عام الذي احصل عليه و الأشهر المتبقية لآخذ شهادة التخرج يمنحاه الصبر فأبنه الوحيد سيعود له طبيبا عبقريا) اتسعت عينا تيمور بدهشة فتساءل بترقب... (لا تخبرني انه يعرف بشأن الفتيات ايضا؟!) ضحك مؤيد بسخرية ليؤكد لصديقه أنه نعم والده يعرف بشأن عبثه و لهوه و لا يتكلم مادام ابنه يحقق ما طمح اليه فلا بأس من بعض طيش الشباب... صوت الزجاج المتهشم كان قريبا من أريكة مؤيد و زملائه فرفع بصره ليعرف ماذا يحدث...آه انه ثمل جديد فقد عقله و يوبخ عاملة الملهى...نظرة ضجر متكاسلة منحها للموقف ناويا ان يشيح بصره عنه لكن هذه الخصلات المتطايرة مع وقوف عاملة الملهى جذبته...تبدو كخصلات فتاة في ربيعها الثامن عشر ناعمة مسالمة و هي تلامس وجنتيها الصغيرتين لتبرهن له أن هذه الفتاة لا تنتمي الى هنا ابدا...عقد ما بين حاجبيه يراقب عنف الرجل الثمل في ردود افعاله و خنوعها هي امامه... (أعتذر سيدي سأجلب لك ما تريد في الحال) هرولت تحمل بين يديها صينية عليها بقايا قنينة متكسرة لتختفي من أمام عيني مؤيد...لحظات و عادت بنظرات متوترة تحمل قنينة أخرى لتضعها أمام الرجل بترقب...و ما ظنه مؤيد المتابع لهما حدث...الرجل ثمل لحد الجنون فلقد كسر عنق الزجاجة بعد ضربه لها في الطاولة أمامه ليقف من جلسته يقابل العاملة المتوترة و يرفع ذراعه عاليا ليسكب كل محتواها عليها...انتفضت و الخمر يغطيها تحت ضحكات عالية من جميع المتواجدين...و على جلبتهم أتى مدير الملهى ليجبرها على الاعتذار... همهمت بصوت مرتعش و أعين باكية... (آسفة سيدي...) وقف مؤيد من مجلسه بغضب لما يراه فالفتاة لم تخطيء بالمرة ما يحدث ظلم لها...لكن قبضة اصدقائه منعته و هم يسألونه الهدوء فلا دخل لهم بكل هذا...يعرفون أنه لا قِبل لهم بغضب مؤيد مطلقا و في النهاية هم جميعهم هنا عرب لو تدخلت الشرطة ستعاملهم أسوأ معاملة...هدأ قليلا متفهما رأي اصحابه لكن عيناه المتعلقتان بالعاملة تحكي أنه لا يزال هناك بقية معها...لم ينتهي الأمر بعد! قرب الفجر... خرجت من باب العاملين الخلفي للملهى...بملابسها البسيطة و قبعة تخفي وجهها...تتقبض على ذراعي حقيبة ظهرها و تتحرك للأمام بخطوات حازمة سريعة...و على جانب الشارع فتح باب سيارته ليخرج منها قاطعا المسافة بينهما بسرعة ليصل اليها و يقف أمامها قائلا ببسمة ساحرة... (صباح الخير يمكنني أن أقلك بسيارتي الى وجهتك فلن تجدي سيارة أجرة الآن) دون أن ترفع عينيها اليه ابتعدت عن طريقه تقول بصوت مقتضب...فما يحدث لها الآن يتكرر مرارا من رواد الملهى (شكرا لا أريد...) قطع طريقها ثانيةً يقول بصوت مهادن... (انتظري لقد رأيت ما حدث لكِ من الزبون الثمل و أريد أن اطمئن أنه لن يؤذيكِ في طريق عودتكِ) صوت تنهيدة ضجرة خرج منها مسموعا لتتقبض اكثر على يدي حقيبتها تقول بنفس الحزم... (أستطيع أن أهاتف الشرطة لو ضايقني أحدهم...رجاء أفسح لي مجالا كي لا أهاتفها لك أيضا) ارتسمت بسمة معجبة على ثغر مؤيد ليرفع يده و يزيح قبعتها للخلف راغبا في رؤية ملامح وجهها هذه اللحظة...ترى كيف ستكون ملامحها الناعمة مع صوتها المهدد هذا؟!...ازاح القبعة بحركة خاطفة جعلتها تشهق بينما ترفع له وجهها بحدة...تجمد كله و هو يناظر عينيها العسليتين شديدتين اللمعان...مرر عينيه على وجهها بتمهل مفتون حتى توقفتا على عنقها حيث سلسال الصليب الفضي...لم يسمع منها أي حرف و هي توبخه بحدة بل انتبه حينما انحنت تلتقط قبعتها و تدفعه بقوة لتمر مبتعدة من امامه...التفت يتابع خطواتها المهرولة فاتسعت بسمته تدريجيا ليهمس بإعجاب... (كما توقعت بالضبط...جميلة) بعد أسبوع.... أصبح يرتاد الملهى الليلي يوميا من بداية يوم عملها عند المغيب حتى انتهاءه قرب الفجر...التزم الصمت و الهدوء فقط يراقب كل ما يصدر منها ليزداد يقينا انها مختلفة...لقد رأى الكثيرات و تعامل معهن لكن هي يبقى تعلقه العجيب بها لغزا...يشعر و كأنه يريد معرفة المزيد عنها و التحدث اليها ليس كحاله مع البقية هنا ممن يلتصقن به حينما يأتي يعرضن أنفسهن عليه ثم يختفين و كأنهن سرابا التف حوله لأخذ المال و قضاء وقتا ممتعا...انتبه لحركتها الغريبة عند باب الملهى الرئيسي الذي يدلف منه الزبائن...وقف من جلسته بعدما فتحت الباب لتخرج بزي الملهى...اتجه نحو الباب بسرعة ليعرف ما بها و حالما خرج وجدها منحنية الجذع تبحث عن شيئا ما على الأرض...بعد فترة اعتدلت تمسح فوق جبهتها بتعب بادي على ملامحها لتخرج هاتفها من جيب تنورة العمل و تتصل بشخص ما...لحظات و انزلت الهاتف بضيق كبير فتخلى عن دور المتفرج ليتجه نحوها متسائلا بهدوء... (هل من مشكلة آنستي؟) كان لبقا هذه المرة فقد جربها قبل أسبوع و تأكد من كونها لا تحدث غرباء...التفتت له بوجه بائس تقول (لا شيء سيدي شكرا لك...) يبدو لم تتعرف على ملامحه و هذا جيد فليبدأ معها من جديد...تنحنح يتقدم منها قائلا (تبدين في مأزق أخبريني ربما وجدتي الحل معي!) حدجته بحدة تعلن له رفضها التام لما تظن انه يفعله...لذا اعتمد على نبرة صوت واثقة هادئة ليقول (أنا لا أعاكس أو أتودد إليكِ...كل ما هنالك أنني أريد مساعدتكِ؟) تحركت عائدة لباب الملهى تنوي الولوج بينما تقول بجدية.. (شكرا لعرضك سيدي لكنني لا أقبل عروض مساعدة من أحد...و خاصة الغرباء) صدح رنين هاتفها فتوقفت فورا لتتحول ملامحها من الجدية الى الأمل...فتحته لتقول بصوت مرهق (مرحبا راين كنت أحاول الاتصال بكِ من لحظات...راين أسمعكِ هل تسمعينني...راين!!!) أنزلت الهاتف بعيدا عن أذنها تزفر بنزق حزين...فهم مؤيد ما تمر به بسهولة فأخرج هاتفه من جيبه يمده لها قائلا تحت نظراتها المتسائلة... (يمكنكِ اجراء مكالمتكِ من هاتفي) ناظرت الهاتف في يده طويلا و بدا له انها تتأرجح بين ثوابتها و حاجتها الملحة للهاتف...و بعدما شعر بأنها لن تقبل مدت كفها ببطء تلتقط الهاتف منه و ترمقه بنظرة ممتنة لتبتعد بضع خطوات و تتصل بصديقتها... (راين إنه أنا إيڤا...نعم و لكنكِ لم تسمعينني ثم انقطع الاتصال...راين لقد أضعت أخر نقود متبقية معي و لم أعثر عليها هلا أعرتني بعض النقود؟!...لا ليس للطعام أستطيع أن أنام دون أكل هذه الليلة لكن حرارتي مرتفعة قليلا و يجب ان اشتري دواء فلدي غدا اختبارا هاما لم أدرس له بعد و حالتي تسوء كلما مر الوقت...أعرف راين أنني تداينت منكِ في بداية الشهر لكنكِ تعرفين...راين!) أنزلت الهاتف هذه المرة عن أذنها بإحباط كبير...تنهدت بأنفاس تخبو لتمد كفها له كي يأخذه...لكنها أجفلت حينما امتدت كفه ليس للهاتف بل لتحط على جبهتها مباشرةً...رفعت وجهها المصدوم اليه تنظر الى وجهه و خنصره يتداخل و يشوش رؤيتها لكن لون عينيه الزرقاء كان واضحا حتى و ان كان غير مكتملا...فالدفء النابع منه يشعر بالراحة...تراجعت للخلف خطوتين فتركت كفه معلقا في الهواء لتهمس... (لا يعني أنني قبلت مساعدتك أنه بات مسموحا لك لمسي!) انزل كفه جوار جسده ليقترب منها قائلا بجدية... (حرارتك مرتفعة جدا) رفعت وجهها له تمد يدها مجددا بالهاتف تقول بخفوت متعب... (شكرا على الهاتف سيدي) هذه المرة نبرة مؤيد أوضحت لها انه لا يعبث و لا يراوغ...أخرج محفظته من جيبه يرفعها في وجهها لترى بطاقته الجامعية فكان حازما في قوله (أنا لا أمزح حرارتك يجب أن تنخفض في الحال و ترتاحي) ابتلعت ريقها تهمس... (لقد أضعت نقودي و لا أستطيع التغيب عن العمل اليوم) أخرج من محفظته بعض النقود يمنحها لها قائلا... (خذي هذا المال حاليا و بشأن الغياب سأتحدث مع مدير الملهى هو يعرفني) ترددت كثيرا أمامه فعقلها يفكر في أكثر من شيء...لا تستطيع قبول المال من رواد الملهى خاصة الرجال فلا تعرف ما الذي سيطلبونه في المقابل...و الأهم أن اختبار الغد في الجامعة لا يمكن أن تتهاون فيه...قضمت شفتها بحيرةٍ تنظر لوجهه الجدي تقول... (لكن هذا المال كثيرا جدا سيدي!) تنهد مؤيد بتعب منها فأمسك كفها يضع بداخله المال قائلا... (أدخلي و بدلي ملابسكِ كي تعودي للمنزل حالما اكلم مديركِ) سبقها للداخل كي يحدث مديرها بينما هي تناظر ظهره بدهشة مما يفعله معها و كفها يقبض على المال بتوتر... بالداخل... بدلت ملابسها و تجهزت لتخرج لكن صوت مديرها اوقفها حينما ظهر قائلا... (يمكنكِ الرحيل الآن إيڤا و لديكِ إجازة لثلاثة أيام) بحلقت في وجهه تهمس بعدم فهم مضطرب... (ثلاثة أيام!...لا هذا كثير فراتبي لن يتحمل خصم ثلاثة أيام) (الإجازة مدفوعة الأجر إيڤا) جملة المدير الأخيرة ظلت تتردد في بالها حتى خرجت من الملهى كله و توجهت الى طريق العودة للبيت...بالتأكيد هذا الشاب هو من دفع لها الراتب لكن حقا ماذا يريد منها بالضبط؟!... و عند نهاية الشارع الخلفي الذي يحتوي على باب العاملين كان يتابع خطواتها بتمني أن تصل سالمة لبيتها و يزول عنها المرض قريبا...اتجه الى باب الملهى الرئيسي بعدما هاتفه اصحابه و لكنه قبل أن يدخل لمح شيئا معدنيا يلمع اسفل اطار الباب...ضيق عينيه ليتوجه نحوه و ينحني يلتقطه بأصابعه فيجده عملة معدنية...كور اصابعه عليها مقربا كفه الى ذقنه يستند عليه مفكرا انه أكيد هذا مالها الضائع...همهم بتساؤل متضايق عليها (هل كانت ستشتري دواء بهذا المال فقط؟!...ماذا كانت ستفعل للباقي من الشهر حتى تتقاضى راتبها الجديد؟!) صوتها البائس حل على عقله و هي تخبر صديقتها بأنها ستنام دون طعام الليلة...وخزة ألم اوجعت قلبه على فتاة مثلها و ما تعيشه...استقام واقفا يدخل العملة المعدنية في جيبه هامسا بتساؤل متعجب من حاله... (ما حكايتك إيڤا لتشغلي بالي هكذا؟!) بعد أسبوع... تقف في زاوية تمكنها من توزيع نظراتها بين باب الملهى الرئيسي و الأرائك بالداخل...سبعة أيام مضت و لا تراه لدرجة انها وصفت هيئته لزميلاتها هنا و اكدن لها انه لم يأتِ منذ اجازتها...تنهدت بضيق حينما دلف شاب من الباب الرئيسي و قد ظنته هو...يجب ان تعيد له ماله فلقد حصلت على راتب الشهر الجديد أول أمس...بغض النظر عن أنها ستفقد جزءا كبيرا من راتبها لتسد دينها لكن لا بأس فهي لا تعرف حقا كيف أخذته منه من البداية...صوت زميلاتها خلفها نبهها بأنه يجب ان تعود للعمل فالمدير قد لاحظ وقفتها هذه...اومأت بسرعة لتسرع تحمل الصينية و تشرع في عملها... منتصف الليل... لقد اقتربت الاختبارات النهائية فطلبت من المدير أن يغير ميعاد دوامها كي تفسح مجالا للمذاكرة...خرجت من باب العاملات ترتدي حقيبة ظهرها على عجلة...ارتطمت بجسد أحدهم دون أن تراه فرفعت وجهها تعتذر لكنها بدّلت اعتذارها بسؤال غير مصدق... (آسفة سي... أوه إنه أنت كنت أبحث عنك منذ اسبوع لأعيد لك مالك) نزعت حقيبتها من خلف ظهرها تفتحها و تخرج ظرفا ابيضا تمده له قائلة بشكر... (شكرا لمساعدتك لي) ببسمة حنونة سألها بهدوء... (كيف حالكِ الآن و كيف كان اختباركِ؟) قطبت ما بين حاجبيها بضيق فهي لا تحب ارخاء الحبل مع الغرباء و هو ليس غريبا فقط بل من رواد ملهى ليلي تعمل به...جاوبته بوجوم مقصود كي ينهي حديثه معها و يعرف انها لا تقبل هذا... (بخير...و الآن تفضل مالك سيدي فعلي الرحيل) اتسعت بسمته كثيرا بعدما لاحظ تغير ملامحها للضيق من سؤاله...أدخل كفيه في جيبي بنطاله يقول ببساطة (لا تهتمي بشأن المال فأنا لن أستعيده) ذهولها ألجمته لتقول بحزم لا يقبل الجدل... (سيدي أنا لست شحاذة و لا أحتاج تبرعا منك...خذ مالك) صوتها الآمر في جملتها الأخيرة جعله يستبدل بسمته الحنونة بأخرى مرحة ليقول... (سآخذه بشرط...) ضيقت عينيها منتظرة بقية الحديث فتمهل و هو يقول... (بعد غد حفل عيد ميلادي ما رأيك أن تشتري لي بهذا المال هدية و تنضمين للاحتفال معي؟) احتدت نظرتها لتتكلم بصرامة... (يبدو انك فهمت الأمر بشكل خاطئ...ليس لأنني أعمل في ملهى ليلي أي انني فتاة ليل) حاوطها بعينيه الحانيتين بنظرة اصابتها بالتيه فقال... (أعرف انكِ مختلفة...الحفل سيكون في مقهى معروف مع مجموعة أصدقائي عند الخامسة عصرا فقط أردت أن تنضمي لنا كصديقة لا شيئا آخر) لانت ملامحها كثيرا لتهمس بصوت خافت... (ليس لدي أصدقاء و لا أريد أن يكون...من فضلك سيدي خذ مالك و دعني أذهب) أخرج من جيبه بطاقة يضعها فوق الظرف الأبيض بين يديها قائلا بنفس البسمة الحنونة... (هذا عنوان المقهى سأنتظركِ بعد غد...الى اللقاء) تركها تناظر البطاقة بين كفيها بجهل لما يحدث...ما به هذا الشاب و ماذا يريد منها؟!!! يوم عيد الميلاد... بداخل مقهى راقي يلتف اصدقائه حوله يتحدثون بصخب نزق بينما هو عيناه متعلقتان بباب المقهى...ينتظرها فكل هذا لأجل ان تأتي فقط... (هيا مؤيد أقطع الكعكة و دعنا ننهي هذا الاحتفال الغريب!) (كنت ترفض الاحتفال بعيد ميلادك هذا العام بسبب الامتحانات لماذا غيرت رأيك؟!) (يا له من ملل ألا يكفي امتحان بعد ثلاثة أيام لنحتفل قبل أن تغرب الشمس حتى!!...ما دام وافقت على الاحتفال كنت ادعونا ليلا في أي ملهى لنرقص و نشرب و نودع أيام الحرية قبل فترة الامتحانات...مؤيد هل تسمعنا؟!) زفر بضيق منهم لينظر لهم نظرة مخيفة ميزته قائلا... (اسمعكم و لكنني لا أريد أن أُجيب) ماذا يُجيب و كيف سيفهمونه و هو لا يفهم نفسه حتى الآن...لقد فعل كل هذا ليلائم ظروفها و تأتي...التوقيت، المكان...كل شيء هنا طوعه لها آملا أن تأتي...همهم بيقين واثق و عيناه تعودان لباب المقهى... (ستأتي...أعرف أنها ستفعل) صياح اصدقائه جذب نظر الزبائن في المقهى فأجبره الموقف على البدء في مراسم الاحتفال...لا يريد فعلها إلا و هي هنا لكنه مضطر...حمل السكين و وقف بين اصحابه يقربه من الكعكة ليقطعها لكن كل حواسه توقفت على صوت فتح الباب...رفع عينيه بسرعة متلهفة فوجدها أمامه بصدر يعلو و يهبط و وجه يرتسم عليه عدم التصديق تدريجيا...ابتسم بسعادة حقيقية فوضع السكين بين يدي صديقه و توجه نحوها غير آبها بتساؤلات اصدقائه او نظراتها هي المتوترة...وقف قبالتها يقول بصوت سعيد حقا (لقد أتيتِ...) لملمت خصلاتها الهاربة من رابطة شعرها تنظر حولها هامسة... (انها حفلة عيد ميلاد فعلا!) ضحك بصوت مسموع يناظرها بحنان قائلا... (هل حقا تظنين انني كاذب؟!) ابتلعت ريقها بحرج من المكان و ملابسها باختصار هيئتها لا تليق بهذا المكان ابدا...بعد انتظارها له طول الأمس في الملهى لتعطيه ماله و تخلص لكنه لم يأتِ فوضعها أمام الأمر الواقع بأن تأتي الى هنا لتعيد امواله و ترحل...انتبهت لسؤاله المرح حينما مد كفه لها... (أين هديتي؟) رفعت له عينين متسعتين اشعرته عبر نظراتها بكم الحرج الذي تمر به اللحظة...نزعت حقيبتها أمامه تفتح سحابها و تستخرج الظرف ذاته تضعه داخل كفه المفتوح قائلة... (لم أكن أتوقع انها حفلة حقا...ظننت أنك تكذب فلم أصدق انك ستدعو شخص غريب الى حفلك...و ايضا لا ينبغي شراء هدية لك بأموالك و الأهم أنا لا أهادي شخصا لا أعرفه) لملم اصابعه على الظرف ليضم اصابع كفها معه ببطء يوازي نظرته المتعلقة بوجهها الجميل...هذه الفتاة العجيبة التي تجمع قوة الشخصية بالبراءة و الكثير من الجمال تعجبه...بسمته هذه المرة كانت مختلفة كليا جعلت وجنتيها تضرجان ببطء و هو يقول بصدق... (وجودكِ هديتي...شكرا لأنكِ قبلتي الدعوة) بعد قليل من الوقت... راقب وقفتها البعيدة عنهم بعدما وافقت على البقاء بعد عناء...حمل طبقا عليه قطعة من الكعك و تحرك اليها يقول... (لم تتذوقي الكعك بعد!) نظرت الى ساعة الحائط الفخمة المعلقة على جدار المقهى تتكلم على عجلة من امرها... (يجب ان أذهب فموعد دوامي في الملهى بات وشيكا) رفع الطبق امام وجهها يأمرها بحزم حاني... (لن ترحلي قبل تناول الكعك...) تنهدت بتعب لتحمل الطبق منه و تبدأ في أكل الكعكة بسرعة لترحل...لفت نظره خصلاتها المتطايرة حول وجهها و قد لاحظ ضيقها منها...و قبل ان تضع الشوكة من يدها لتجمعهم أسرعت كفه حيث هم...يلامسهم فيشعر بنعومتهم التي تؤثر به...امتلك عينيها المتسعتين بترقب ينظر فيهما بزرقة عينيه اللامعة فيبتسم و هو يُرّحِل نظره حيث ذيل حصانها...ابتلعت ما في جوفها بخجل من نظرته لم يلبث ليتحول صدمة حينما سحب رابطة شعرها ليتطاير كله حول وجهها...عاد يأسر عينيها مجددا قائلا بنبرة هي الأكثر دفئا قد سمعتها في حياتها على الإطلاق... (هكذا أفضل بكثير...) التف الى صديقه ينادي عليه كي يلتقط لهما صورة للذكرى...متعمدا ألا يعطي بال لخجلها اللذيذ أو نظراتها المصعوقة من جرأته...وقف جوارها مستعدا للصورة فمال عليها يقول بهمس اختار الأمر فيه بالإنجليزية بينما اللقب بالعربية... (ابتسمي حوائي...) بعد ما يقارب العام... فن المراوغة لا يتقنه الكثيرون لكن مؤيد وصل فيه لرتبة بروفيسور...على مدار عام تمكن من مراوغة والده في العودة للوطن...في الواقع خطته نصت على البقاء هنا و التدرب تحت يدي استاذه في الجامعة و حينما عرف والده هذا روض غضبه قليلا فيكفي ان ابنه يُثقل مهارته على ايدي متخصصين...و هكذا بمهادنة بقي هنا مع إيڤا يعيش حياة هادئة مليئة بالحب... إيڤا ويليم طالبة في السنة الثالثة قسم إدارة الأعمال...عمرها عشرون عاما تعيش مع صديقة تُدعى راين في شقة صغيرة...تعيل نفسها عن طريق العمل في الملهى الليلي لتكمل دراستها...الأبنة الوحيدة لوالديها اللذين انفصلا و هي بعمر الثالثة تاركين إياها لجدتها والدة والدها بعدما تزوج كلا منهما و بات له عائلة جديدة...و بعد وفاة جدتها و هي بعمر التاسعة اهتمت بها عمتها حتى سن الثانية عشرة لكن لسوء معاملة زوج عمتها لها تم التخلي عنها و تركها في دار رعاية...بقيت بالدار حتى سن الثامنة عشر لتخرج منه معتمدة اعتمادا كليا على نفسها فقط لتعيش...لا تملك أصدقاء و لا حبيبا...جدية في التعامل مع الناس و تحذر الغرباء بشدة...الصليب الفضي حول عنقها كان هدية إحدى المعلمات في دار الرعاية و التي أثرت في شخصيتها كثيرا و تعتبره هي أثمن ما تملك... هذه حياتها المؤلمة لشابة مثلها و التي عرفها مؤيد...فبعد حفل عيد ميلاده توطدت علاقتهما كثيرا و أصبح صديقها الأول...و كما سمع حكايتها سمعت حكايته فوجد كل منهما في الآخر صورة مماثلة... (لماذا أنت صامتا؟) على جسر يطل على البحر يستندان معا على مقدمة سيارته الجديدة و التي اشتراها قبل أشهر قليلة بعدما تخرج من كلية الطب...تنهد مؤيد بضيق يهمس... (أبي يلح علي كي أعود للوطن) التفتت تراقب جانب وجهه بنظرات حزينة...ما كان يجب أن تتعلق به و هي التي لا يدوم أحد في حياتها...ابتلعت غصتها بصمت لتهمس بصوت مختنق... (كنت تعرف أن نهاية الدراسة هنا عودة لأرضك) تكورت اصابع كفه المستند على السيارة ليقول بعصبية.. (أرضي ليست المكان الذي ولدت به...أرضي هي المكان الذي وجدت به راحتي و صنعت فيه ذكرياتي...أرضي حيث اصحابي و احلامي) التفت لها بجانب وجهه ينظر في عينيها المتعلقتين به و يهمس... (أرضي حيث عرفت الحب...أرضي هي أنتِ إيڤا) اغرورقت عيناها بعد كلماته فأسبلت اهدابها تبكي في نعومة...ابتعد عن سيارته يتحرك و يقف أمامها يرفع ذقنها بيده و ينظر بعشق في عينيها هامسا... (أنا أحبكِ إيڤا...ما أشعره نحوكِ مختلف و كأنني ولدت من جديد يوم لقياكِ) زادت دموعها أمام عينيه لكنها تمسكت بالعقل لتقول... (كلانا مرحلة في حياة الآخر مؤيد...و المراحل تنتهي لتبدأ غيرها) اقترب منها يلامس خصرها بكفه و يستند بجبينه على جبينها هامسا بصوت متأثر... (أنتِ بدايتي و نهايتي...أنتِ كل مراحل حياتي فإن انتهيتِ يوما تأكدي بأنني سأنتهي ايضا فلا حياة دونكِ) إن كان العقل سيسبب لها هذا الألم في قلبها فلتتخلى عنه للأبد...تتخلى عن كل شيء يؤكد لها صعوبة ارتباطها بمؤيد...والده صعب المراس شديد الصرامة بالتأكيد لن يقبلها في حياة ابنه...مؤيد لو رحل هل سيعود و إن عاد هل سيظل يحبها لربما أجبره والده على الزواج ممن تليق به!!...بضعف مرهق من كثرة الخوف بأن هذه اللحظة قد تكون الأخيرة بينهما رفعت ذراعيها تحاوط عنقه بقوة...ضمها اليه بكل قوته يخبرها بهمسه و بفعله انه لم يعشق أحد من قبل مثلما عشقها...لحظات مرت و هما ملتحمين يواجهان وداع قريب...خرجت من بين ذراعيه بوجه باكي جعله لا يفكر مرتين و هو يقتحم شفتيها بقبلة طال انتظارها كثيرا...ابتعدا و لكن الروح تعلقت و تشابكت خيوطهما و كأنهما واحدا...همهمت بصوت متهدج امام عينيه الدامعتين... (أحبك مؤيد) اليوم التالي...الخامسة فجرا (طائرتك ستقلع عند السابعة وغير مسموح التأجيل) واقفا بجذعه العاري أمام شرفة غرفته بوجه متلبد...والده وضعه أمام الأمر الواقع و حجز له على متن طائرة ستقلع بعد ساعتين...تكلم مؤيد بغضب (أبي لا أريد العودة الآن أنا...) قاطعه صوت والده الصارم بأمر... (مؤيد لا أريد سماع مبررات لقد مر أشهر على تخرجك أي انتهت مهمتك هناك و حان وقت العودة) انقطع الخط بعدما قال والده الكلمة الأخيرة التي لا يعلو عليها كلمة...انزل الهاتف بعيدا عن اذنه يتنهد بأعين متشحة بالغضب...ابتعد عن الشرفة يتحرك للداخل حتى وصل قبالة السرير فانحنى يلتقط قميصه الساقط ارضا يرتديه ببطء...صدر الأمر و انتهى مؤيد!...نظر الى فراشه طويلا ثم تحرك اليه يراقب جسدها الغافي بهدوء...اقترب منها بحذر يلثم ذراعها العاري بأعين دامعة ليهمس... (سأعود لأجلك أقسم لكِ) بعد وقت ليس بالكثير انهى جمع ملابسه في حقيبة السفر و ترك لها جوابا يوضح ضرورة سفره لكنه سيعود و كم أكد على هذه المعلومة...رمقها نظرة اخيرة ليخرج من الغرفة و بعدما أغلق الباب فتحت عينيها تبكي بصوت مسموع لرحيله...كتمت فمها بكفها كي لا يستمع لها لكنه كان صعب أن توقف دموعها الحارقة...رحل مؤيد حقا؟!!! عند السابعة و النصف صباحا... بالكاد تمكنت من جمع شتاتها و قوتها لتترك السرير و ترتدي ملابسها كي ترحل من بيت مؤيد...فتحت باب البيت بوجه متورم من البكاء و دموع لا زالت تسيل كمدا على فراقه...لكن هذا الظل القابع على بعد خطوات من بصرها جعلها ترفع عينيها للأمام فتتسعا ليتساقط الدمع منهما بصورة أكبر...تركت يد حقيبتها لتسقط ارضا لتركض ببسمة تتسع تزيح عن وجهها الجميل بقايا بكاء مرير...و في لحظات قفزت بين احضان مؤيد الذي كان ينتظرها مستندا على سيارته...ضمها اليه يضحك بخفوت هامسا قرب أذنها... (لا يمكنني الرحيل إيڤا...) شددت من ضمها له تسأله بأمل... (هل وافق والدك على بقاءك هنا؟) صمت قليلا ليقول بجمود... (لا هو لم يعرف بعد انني لست على متن الطائرة...كما وضعني أمام الأمر الواقع وضعته أنا ايضا) خرجت من بين احضانه تقول بتوجس... (لن يصمت على فعلتك و هذا...) قطع كلماتها بوضع سبابته فوق فمها قائلا... (لا تفكري و الساحر هنا فلدي خطة للبقاء) ابتسمت من تحت اصبعه تهمس بخجل جملة اعتادت سماعها منه... (إنها إحدى خدع الساحر) ضحك ليعيد ضمها اليه بقوة...حواءه التي جاءت لتنهي وحدته و يتمه الدائم فلن يفرط بها مطلقا... أرض الوطن... (أمجنون أنت يا مؤيد؟!!!...كيف ظننت بأنني سأوافق على ارتباط كهذا؟!...ابنة دار رعاية مختلفة عنك في الجنسية و الديانة!!!) صوت والده الهادر بصرامة في ارجاء البيت العريق جعل غضب مؤيد يبلغ الذروة و هو يجابهه بحدة... (و ما ذنبها هي في كل هذا؟!... أنا أحبها و لا يهمني أي فوارق أخرى) هدر فيه والده بحدة تعلو حدته بمراحل... (ما لا يهمك يهمني أنا...كيف ستمنح اسمك و اسم العائلة لفتاة مثلها؟!...هل تريد تدمير سمعتنا بين الناس و سمعة مشفاي؟!!) بهتت ملامح مؤيد حينما شعر بعدم قدرته على اقناع والده فسأله بترقب... (هل هذا رأيك الأخير؟!) رفع مهران ذقنه عاليا يقول بصرامة و حزم... (نعم...) تنفس مؤيد بغضب ليهتف بوجع متراكم في قلبه من قسوة والده... (كما تشاء دكتور مهران فأنا لا أريد اسم عائلة او سمعة مشفى...سأعود الى أمريكا اكمل حياتي كما اشاء) تحرك الى باب البيت بخطوات غاضبة ناويا بكل صدق ان يعود لها ليتزوجها و لا يهم اي شيء آخر... لكن صوت والده الذي صدح خلفه جمده تماما... (إذا خطت قدمك خطوة واحدة للخارج سأحرمك من أموالي و أنت تعرف ما معنى الحياة لشاب مثلك دون المال) التفت ببطء مذهول من هذه القسوة ليتساءل بعدم تصديق... (هل تمازحني؟!) هدر والده مجددا بشدة... (أضبط حديثك معي...كلامي ليس مزحا و إن أحببت ان يقترن بالفعل سيكون في غمضة عين...) تاهت نظرات مؤيد و هو يفكر في أي حل يجعل والده يتأكد بأن أمواله ليست عامود حياته...لكنه بالفعل لا يملك قرشا واحدا له...لقد اعتاد على حياة مترفة لا يتوقع انه سيتخلى عنها ابدا...حتى لو عمل و اجتهد بمفرده لن يُحصّل ربع ما يأخذه من والده...همهم بصوت تائه (فلتحرمني مما تريد سأعمل و ابني نفسي، أنت لا تعرف مقدار مهارتي و ذكائي في هذه المهنة) ابتسم والده بسخرية يقول... (أنا أعرف عنك كل شيء مؤيد...كما تعرف أنت أنك ستجدني امامك في كل باب ستطرقه بعيدا عني لأغلقه في وجهك) ابتلع مؤيد ريقه بصعوبة معترفا بمدى نفوذ والده...هل يستسلم هكذا في بداية الطريق؟!...أم يهادن ليفعل ما يريده والده حتى يجمع ما يحتاج من مال ليعود بعد ذلك الى إيڤا و يبتعد عن والده و كل ما يربطه به...استحسن هذه الفكرة جدا فبدأ عقله بوضع خطة يكون فيها المستفاد الأول من الرضوخ لوالده...إيڤا ستنتظر قليلا بعد لكنه حتما سيعود! نيويورك... ابتلعت ريقها بقلق و هي تنظر لهذين الرجلين الضخمين القابعين خلف والد مؤيد الجالس أمامها...تتبعت عيناها حركة يده و هو يزيح النقود فوق الطاولة في اتجاهها قائلا بنبرة ارعبتها... (هذه النقود تكفي لأن تبدئي حياة جديدة بعيدة عن مؤيد) همست بأعين دامعة... (أنا لا أريد النقود سيدي...أنا حقا أحبه) تنهد مهران بضيق يرفع بعده عينيه الى اركان البيت حوله فيقول... (يجب عليكِ ان تحبينه بعدما منحكِ بيته الكبير بدلا من شقتكِ الصغيرة التي تشاركينها مع صديقتكِ...و كتب لكِ سيارته الجديدة باسمك قبل عودته للوطن...ابني هيئ لكِ حياة لم تحلمي بها أليس كذلك؟) تنفست بصعوبة معترفة ان والد مؤيد يسبب اختناق للروح...قضمت شفتيها تهمس مجددا بما تشعره تجاه مؤيد (قد تكون محقا مؤيد منحني حياة لم احلم بها...ليس ماديا كما تظن لكن....) رفع كفه في وجهها يخرسها بقوله المهين... (هذا النوع من الكلام لا أحبه ابدا و لا تظني انه سيغير رأيّ عنكِ...امامك فرصة لن تعوض خذي المال و ابتعدي أنتِ أفضل من أن أبعدك أنا بطريقتي وقتها ستخسرين كل شيء ففي كل الأحوال رؤية مؤيد مجددا باتت مستحيلة) ناظرت النقود أمامها طويلا بصمت تام...اغمضت عينيها بضعف فلا تستطيع مواجهة هذا الرجل و يبدو مؤيد فشل ايضا فلم يعد منذ سافر و لم يهاتفها...فتحت عينيها و قد اتخذت قرارها فوالده كتب نهاية هذه القصة...وقفت من مجلسها تنظر له بدموع و تقول (لا احتاج اموالك ما كنت ابحث عنه هو الحب و قد سلبته مني...) تحركت مبتعدة عنه ناوية الرحيل لكنها التفتت تحدثه برجاء رغم نظرتها الكارهة له... (أَحِب ابنك سيدي فهو رجل يستحق) خرجت من بيت مؤيد كما خرجت من حياته...لماذا تمنحها الدنيا سعادة ناقصة دوما؟!...وقفت عند سيارته التي اخبرها قبل سفره بأيام انه سجلها باسمها ليؤكد لها انه عائد دون شك...لامستها بأنامل مرتعشة لتقرر انها ستحتفظ بها لربما عاد يوما... بعد ثلاث سنوات... (ليست هي مؤيد لقد رأيتها بنفسي...هل تظن انك ستجدها بعد كل هذا الوقت لقد مرت ثلاثة سنوات !) خلف مكتبه يرتدي معطفه الطبي و ينصت لصوت صديقه بعينين ميتتين اختلفتا كثيرا عما كانتا قال بصوت جامد (إيڤا لم تتركني لقد أُجبرت على الرحيل أنا أكيد) وصله صوت صديقه يقول بهدوء... (كما تريد مؤيد سنكمل بحثنا عنها مادام سفرك الى هنا بات مستحيلا بسبب والدك لا تقلق) أغلق الخط مع صديقه يتراجع للخلف قليلا ليفتح درج مكتبه و يستخرج هذه العملة المعدنية التي فقدتها ذات يوم...كور يده عليها ليقربها من فمه و عيناه تسودان بنظرة ناقمة...والده على مدار ثلاث سنوات يمتص طاقته بلا مقابل مادي يُمكّنه من بناء نفسه...حرمه من حبيبته و تسبب في اختفاءها...همهم بصوت متوعد بنبرة لا حياة بها (اقسم لك أبي سأجدها مهما فعلت و خططت و لن أسامحك على سنوات عمري التي تسربت من بين يدي و كأنني ميت بلا حياة) نهاية اليوم... يتجهز لدخول غرفة العمليات و اثناء تبديل ملابسه صدح رنين هاتفه...ضيق عينيه حينما أخرجه من جيب بنطاله بعدما وجد الرقم دولي و ليس لأحد من أصدقائه...لا يملك الوقت ليجيب على هذا الاتصال و لكن هاجس راوده انه ربما هي...فتحه بلهفة تبدلت في ثوان لبلادة تحولت لصدمة و صوت انفاسه يعلو بصورة مخيفة... (مرحبا سيد مؤيد معك مشفى "..." تم نقل زوجتك و ابنك هنا إثر حادث سيارة و حالتهما خطيرة) زوجته و ابنه!!!...انفاسه تخرج كصراخ مختنق غير مصدق...لا يعرف كيف أعاد ارتداء قميصه و خرج من المشفى غير عابئا بالعملية أو والده...كيف وصل للمطار و انتظر ساعتين ليحين موعد طائرته...عقله يعيد المكالمة مرارا و روحه تتمزق داخله...إيڤا رحلت الى ولاية أخرى قضت بها ثلاث سنوات مع ابن له!!...كيف عاشت بلى هل ستعيش؟!...هبطت الطائرة بعد رحلة مفزعة فشعر ان قلبه هبط معها و دُهس اسفل اطار عجلة الحياة...وصل للمشفى بجسد يختض من الترقب و بعد الاستفهام من المسؤولين هنا فهم ما حدث و الذي كذبه عقله حتى وضعوا بطاقة هويتها بين كفيه و أخبروه أنها من منحتهم رقمه بعد استفاقة وحيدة قبل دخولها للعمليات...ناظر صورتها بأعين غشيتها الدموع الحارقة...إنها إيڤا يا مؤيد ليس كذبا...تمالك اعصابه ليتحرك خلف الطبيب حيث غرفة العناية المركزة المتواجدة بها...الطبيب يشرح له اصابتها الخطيرة لكن عقله متوقف يتعذب و لا يرحمه...توقفا عند الباب فوصله صوت الطبيب ضبابيا غير مفهوم رغم سماعه... (الحالة خطيرة للغاية فإصابة بطنها ادت لتهتك الأعضاء الداخلية و بقاءها لفترة طويلة قبل نقلها للمشفى أثر سلبيا على حالتها) قبل ساعات...ولاية كاليفورنيا لقد اختارت الهرب من أقصى الشرق الى أقصى الغرب حيث ولاية من أكثر الولايات اكتظاظا بالسكان لعلها تضيع بينهم و لا يصل لها والد مؤيد...فلو عرف عن وجود ابن لمؤيد لا تدري بأي طريقة سيتعامل و هي لن تفرط في ابنها ابدا فيكفي اجبرتها الدنيا على التفريط في مؤيد... (ماما...) انزلت عينيها الى ابنها المتعلق بكفها لتبتسم بسمة ناعمة متسائلة... (هل أنت جاهز لرحلة اليوم يائيل؟) هز رأسه نفيا بتذمر يقول بتلعثم طفولي يناسب سنوات عمره الثلاثة... (لا أحبها) غامت عيناها بوجع لأجله فهي لا تصطحبه للتنزه و المرح بل تحمله بين ذراعيها هنا و هناك تبحث عن وظيفة يعيشا منها...الكل يرفض توظيفها لأنها أم و لا تملك مكانا او شخصا يهتم بابنها...انتهى مال اخر وظيفة عملت بها قبل أشهر و طُردت بسبب عدم انتظام مواعيدها...لكن اليوم مختلف فاليوم ستبيع أخر ما تبقى لها حتى تجد حلا...ناظرت سيارة مؤيد التي يقفان عندها طويلا قبل أن تنحني تحمل ابنها قائلة.. (اليوم لن نذهب سوى لمكان واحد فقط و لن نرى وجوها بغيضة كالسابق و سنحصل على مال وفير) ادخلته في السيارة لتربط له حزام الأمان قائلة ببسمة صغيرة.. (و حينما ننهي كل هذا ماما ستأخذ يائيل الى مطعم كبير ليتناول الدجاج المقلي الذي يحبه...هل أنت سعيد الآن؟) اومأ بضحكة سعيدة يقول... (نعم أنا أحبك ماما) قبلته لتهمس بحب مضاعف له...حب فطري خُلق داخلها يوم حملته بين يديها اول مرة و حب لغائب اشتاقت اليه يتمثل في ملامح ابنه و خاصة عينيه... (و أنا أحبك كثيرا) ركبت خلف عجلة القيادة جوار ابنها لتربط حزامها بقلب قلق...هي ليست جيدة في القيادة و لا تقود كثيرا و ان فعلت فتكون لمسافات صغيرة...زفرت ببطء تهدأ نفسها فاليوم ستحاول جاهدة ان تجعله مبهجا لأجل يائيل فيكفي ما يعانيه معها... بعدما فشلت في بيع السيارة أصابها الاحباط...الناس يبخسون حق السيارة و لا تزال جديدة...أقبل الليل عليها و لكنها لا يجب ان تعود خالية اليدين...ناظرت ابنها الجالس جوارها بأسف كبير...تود لو تتواصل مع مؤيد و تخبره عن ابنه لكنها أضعف من ان تجابه والده...تقابلت عيناها مع عيني ابنها حينما التفت يقول بصوت متعب... (جائع...) وخزتها الدموع بقوة فغامت عيناها بهمٍ...اشاحت بوجهها بعيدا عنه تهمهم بصوت باكٍ... (آسفة يائيل...) انغمر خداها بالدموع التي سالت بوفرة من عينيها...دوما كانت تظن ان طفولتها صعبة لكنها في مثل سن ابنها كانت مع جدتها تأكل و تنام قريرة العين لكن ابنها لا...شهقت بصوت مسموع و صوت بكائها يعلو و دموعها تعمي عينيها...شعرت بأصابع ابنها الرقيقة تربت فوق ذراعها بعدما اقترب منها ليهمس... (لا تبكِ ماما أنا جائع لكنني أحبك) التفتت له بجانب وجهها الرث تهبه بسمة رقيقة محبة و دافئة لكنه في تلك اللحظة لم يكن يعرف انها ستكون الأخيرة للأبد...لحظات لم يستوعب عقل كلا منهما ما يحدث فقط صوت ارتطام و احتكاك مع ألم يتفشى بسرعة رهيبة في اجسادهما...لحظات أخر و استقرت السيارة بعدما انقلبت على الأسفلت...فتح يائيل عينيه يتأوه ببكاء و الدماء النازفة من رأسه ترعبه...قدماه اصبحا للأعلى و هذا كل ما يستطيع رؤيته...صوت توجع والدته جواره اصابه بالخوف فحاول ان يلتفت ليراها و حينما تمكن صرخ بلا توقف و هو يراها غارقة في دمائها و هذا الشيء الحديدي يخترق بطنها...بجسد يرتعش حاولت إيڤا تهدئته فهمست بألم يفتت كل قوى تحملها... (لا تخف ماما بخير...أغمض عينيك يائيل) ببكاء متألم انصاع لأمرها فحاولت هي أن تجد مخرجا له...الطريق فارغا فلا يستخدمه الكثيرون و اختارته هي لهذا السبب كي تقود بتأني لكنها لم تكن تعرف انها ستقود الى حتفها...فشلت بهذا الألم على فعل أي شيء فبدأت تنادي بصوت خافت متقطع... (النجدة...أحد ما يساعدنا) صوتها كان أنيسه الوحيد و حينما توقف فتح عينيه ليجدها استسلمت مغمضة العين...الليل الساكن حوله و ما يراه من دماء و غفوة والدته كل شيء اصابه بالرعب و عقله لا يفهم ما يحدث...ظل ينادي عليها كثيرا بصراخ طفل يطلب من أمه الأمان و لكن هناك شيء لا يفقهه يسرقها منه...خارت قواه فلم يشعر سوى بسواد يهل على عينيه و أخر صورة علقت بذهنه والدته و دمائها.. الآن... يتابع حركة المجرفة المحملة بالتراب...تعلو بكمية جديدة و تهبط ارضا لتغطي جسدها...ماتت قبل أن يدلف لها غرفة العناية حتى...ماتت قبل أن تراه أو يخبرها كم بحث عنها...ماتت لتعلن ان قصتهما انتهت هنا قبل أن تبدأ من الأساس...هنا يوصلها لمثواها الأخير بيديه...سالت دمعته لتجر في ذيلها دموع مودعة و موجعة...انتهت المراسم و اصبحت إيڤا تحت التراب لا يصدق!... المشفى... عاد للمشفى مجددا ليرى ابنه و يأخذه معه...و حينما قابل الطبيب المسؤول عنه اخبره انه يعاني صدمة عصبية سببت له خرس مؤقت و عليه استشارة طبيب نفسي و ألا يتأخر...تفهم مؤيد الوضع بعقل طبيب و بقلب رجل لم يبقى له من حبيبته سوى ذكرى...ابنا يحمل جزءا من روحهما معا فكيف يترك روح إيڤا تعاني من جديد؟!...و كم أوجعه اللقاء الأول و ابنه يناظر الفراغ بأعين متسعة و جسد متشنج يخبراه بصعوبة القادم عليه...و بطفل صامت و صندوق فيه محتويات إيڤا القليلة عاد للوطن...عاد لوالده بيت مهران...غرفة المكتب (اتركه مؤيد...تخلى عنه و كأنك لم تعرف بشأنه) يحمل ابنه بين ذراعيه بينما يائيل يريح رأسه فوق كتفه و يتشبث برعب بسترته من الخلف خوفا من صوت مهران الهادر بصرامة و قسوة...اتسعت عينا مؤيد بذهول فقال (انه ابني يا أبي...ابني فكيف اتركه؟!!) ضرب والده سطح المكتب بقوة ليهدر... (ابنا غير شرعي سيجعل اسمنا على كل الألسنة و يخسرنا سمعة بنيتها لسنوات طوال...كيف ستخبر المجتمع حولك بأنه لك ابنا دون زواج أفق نحن في وطن شرقي و لسنا بأمريكا!) احتدت نظرة مؤيد بغضب فالآن لا يرى أبا بل يرى قاتلا و شخص معدوم القلب...صرخ بعنف في وجهه بوجع صمت عليه ماضيا فبات كورم خبيث انتقل لسائر جسده (عن أي وطن تتحدث و قد نفيتني منه؟!!...غرستني في مجتمع آخر دون ارشادات أو نصح...كنت تعرف نمط حياتي و تصمت لأنني لا أقصر في دراستي...عن أي شيء تحاسبني أنت الآن فلتحاسب نفسك قبلي...هذا الولد ابني و لن اتخلى عنه و لن اسمح لك بإجباري مجددا على التخلي فيكفي خسارتي للإنسانة الوحيدة التي احببتها بسببك) و كأن حرقة و وجع ابنه لا يصلاه بصرامة قاسية تكلم... (لا تقل ابني فما أدراك أنت بأنها لم تبيح لغيرك ما أباحته لك؟!) ضم مؤيد الصغير بين ذراعيه بقوة يصرخ في والده بيقين... (انه ابني و مستعد لأن أثبت لك هذا بتحليل في المكان الذي تختاره فقط لتصدق) اشاح مهران بوجهه بعيدا يقول بجمود اصاب مؤيد في مقتل... (لا احتاج لتحاليل فهذا الولد لن يحمل اسم العائلة و يلوثها) بضعف ليس من صفاته...بذل لم يطرق بابه يوما...و بخوف أب شعره منذ تلاقت نظراته مع نظرات ابنه بكى متوسلا لوالده... (أرجوك أبي ابني يحتاج للعلاج و أنا لا أملك ما يكفي لأنفق عليه) رمقهما مهران بنظرة غير مفسرة...يراقب دموع مؤيد المتوسلة و جسد هذا الطفل المرتعش بين ذراعيه...اختص مؤيد بنظرة جامدة يقول بإقرار لا رجعة فيه... (هذا الطفل يجب أن يخرج من بيتي في الحال فلا أريد أن أراه أو يراه الناس و أنت ستفعل كما أريد فما تمر به الآن بسبب انفعالك من موت هذه الفتاة غدا ستنسى و تتأقلم) تجمدت دمعات مؤيد فوق وجنتيه و كأن مصدرها جف فجأة...ناظر والده بقسوة كارهة ليقول بوعد سينفذه (إن كنت أبا لا يعرف معنى الأبوة فأنا لست مثلك و تأكد أنك ستندم على كل ما عشته بسببك) حمل ابنه و خرج من بيت والده يقسم ان هذا الوجع و الذل بداخله لن يراه أحد مجددا...لن يسمح للناس حوله إلا رؤية وجه بارد و قسوة ستفوق قسوة مهران...لا أحد في هذا المجتمع الظالم يستحق منه سوى البرود... (لم يكتفي بهذا فحينما لجأت لشقة قديمة كانت لنا أرسل لي محاميه ليطردني منها...قضيت يومين كاملين مع ابني في سيارتي و في اليوم الثالث قمت ببيعها لأتمكن من البقاء في أي فندق...و ليحكم الطوق حول رقبتي كي أعود له نسي معاني الإنسانية و وقف لي بالمرصاد في كل مشفى اتقدم للعمل بها...حياتي مع ابني كانت جحيما حتى عاد عمي من الخارج و عرف ما حدث فقرر مساعدتي غير مهتما بعدائية افعال أبي...أعرف ان عمي كان يريد منافسة أبي و كنت مجرد سلم سيوصله لهذا لكن حينما فقدت كل شيء و لم أقوَ على اطعام ابني حتى قبلتُ... فلا شيء يساوي في تلك اللحظة نظرات ابني الراجية و إن كانت صامتة) رفعت أريج كفها تغطي فمها المرتعش بسبب بكائها...ما هذا الذي عاشاه بحق الله؟!...أي أب هو مهران ليفعل كل هذا؟!...راقبت مؤيد في وقفته التي لم تتغير و كفاه يتقبضان بقوة داخل جيبيه ليكمل بنفس الصوت المتوجع... (أما عن الناس حولي فقتلوا ابني مرات عديدة حينما فهموا انه ابنا غير شرعي...بكلمات قاسية و افعال لا يفعلها بشر بتحريض أبي للمربيات كي يهربن من مساعدته، حتى بأنفاسهم...ابني أمام عيني كان يُقتل و لم أملك سوى أن اعزله عن كل هذا) تعلقت عيناه الحمراوان بأريج يسألها بألم مميت... (ما ذنبه هو ليُعامل هكذا؟!...أنا من أخطأ و ارتكب هذا الذنب الذي وقتها ما كنت أعرف أنه جرم فلم أجد من يُعرفني فلمَ يعاقبون ابني بدلا مني لمَ لا يتركونه بحاله؟!!...أنا مستعد لأتحمل عقاب ذنبي الذي تبت عنه منذ زمن لكن هو لا...ألم يأمر الله بمائة جلدة للزاني و الزانية و ليس لأبنائهما؟!...لماذا إذًا يجلد الناس ابني بأفعالهم...لماذا؟!) اغمضت أريج عينيها تعتصرهما لتخفف من هذه الدموع المتكدسة فيهما...قلبها يتألم يموت مما تسمعه...لو بيدها لرجعت بالزمن للوراء و ساعدتهما في كل خطوة...لو تستطيع لدخلت حياتهما باكرا كي تزيل هذا الألم...مؤيد البارد ما هو سوى رجلا دفن وجعه و لم يبكِ عليه...فتحت عينيها تناظر عينيه المتعلقتين بها...تعتذر له بنظراتها عما فعلوه بهما...تعده بأنها باتت هنا فلا يخافا...تهدلت كفها من فوق فمها حينما هبطت دمعة من مقلته اليمنى لتصيب قلبها بالعجز التام...في وقفته المهيبة كجبل شامخ يواجه الرياح العتية يبكي!...لم تتمكن من كبح نفسها و هي تهرول اليه تضمه اليها بكل قوة و كأنها تعوضه عما مر به...اخرج كفيه ببطء من جيبيه يحاوطها برجفة لا يعرف أهي منه او من جسدها المرتجف ببكاء مسموع...اغمض عينيه لتسيل دموعه المرتاحة بأن هناك من سمع لكلماته...اليوم أصبح يحمل همه شخصا ما... في المساء... بعدما خرجت من غرفته دلفت الى غرفة يائيل تضمه اليها ببكاء لا يتوقف جعل الصغير ينزوي داخل احضانها و كأنه يفهم ما تمر به...و بعدها لم يخرج مؤيد من غرفته أبدا...تنهدت بإرهاق و هي تتحرك في حديقة المنزل...الجو بارد جدا و رغم منامتها الخفيفة فهي لا تشعر سوى بالألم و الذي يشغل حيز روحها فلا يترك للبرد مجالا...يا له من ماضي عاشه مؤيد!...بداخلها رغبة صادقة في ان تساعده ليتخطى كل هذا مع ابنه...صورته بداخلها تبدلت في ساعات معدودة فلقد صدق حدسها و تأكدت ان واجهة العجرفة زائفة تخفي رجلا غير الذي يراه الجميع... بالأعلى... فتح شرفة غرفته بعدما شعر بأنه بحاجة للهواء البارد...عيناه التقطتاها بالأسفل فضيقهما يدقق النظر في ملابسها...تابعها تجلس على أريكة خشبية و تشرد في الفراغ أمامها...ألا تشعر بالبرد أم أن قصته افقدتها عقلها؟!...لا ينكر بأنه ممتن لها لأنها كانت أول شخص يود الانصات اليه...غير امتنانه لأجل ابنه فهو يمتن هذه المرة لأجله...دلف للداخل بنظرة متضايقة ليغلق الشرفة خلفه... بالأسفل... اجفلت حينما لامس كتفيها هذا الغطاء السميك...التفتت بدهشة ازدادت حينما رأت مؤيد بوجهه الجامد...وقفت سريعا تتفحصه بقلق و تسأله (كيف أنت الآن؟!) راقب زرقة يدها بفعل البرد فأمسكها قائلا بتوبيخ بينما يسحبها خلفه للداخل (هل جننتِ لتجلسي في هذا الطقس بمثل هذه الملابس؟!) صمتت بتعجب مما يحدث و خطواتها تنساق خلفه بلا فهم...دلفا الى صالة الطابق الأرضي ثم توقفت معه أمام المدفأة...أجلسها على الكرسي المقابل للمدفأة ليجلس على واحدا مقابل لأريج يدلك كفيها بجدية...ثم يرفع كفيها معا الى فمه ينفخ فيهما قليلا و يعود ليدلكهما مجددا...توقف تنفسها من هول الصدمة...المفاجأة و الخجل المميت...رفع عينيه لها في إحدى المرات التي ينفخ كفيها فيهم فيلاحظ حمرة الخجل على وجنتيها...تلعثمت أريج و قلبها ينبض بقوة فهمست بشكر خافت أجاب عليه هو ببرود... (لا افعلها لأجلك بل لأجل ابني فإن مرضتي سيتضرر هو) ضحكت بخفوت تبدد كل توترها الذي تشعر به الآن و تهدأ من نبضها...راقب ضحكتها الناعمة لثوان قبل أن يسألها بجمود دون أن يوقف تدليكه لكفيها... (علام تضحكين؟!) كتمت ضحكتها تناظره بواحتها الخضراء... ما بالها ترى خلف جليد حدقتيه الحنان كنبتة تينع على استحياء؟!...همست بتساؤل متعجب لونه المرح... (هل ستنقد كل افعالي؟!...ان تذمرت لا يعجب و ان ضحكت لا يعجب) طالت نظرته لها فأربكها بهمسه القريب منها... (اشتعال...) عقدت ما بين حاجبيها بتساؤل... (ماذا؟!) فأجاب بهدوء... (ليس تذمرا بل اشتعال...واحتك الخضراء تشتعل بالكامل معظم الوقت) توترت انفاسها من نبرته الهادئة فأبعدت عينيها عنه...سألها بنفس النبرة التي تثير بداخلها شعورا تخشى تصديقه!! (و الآن تبدلين مزاجك الناري بآخر ضاحك لمَ؟!) همهمت بخفوت... (لأنني...) قاطع جملتها بصوت شابه نظرة الكبرياء في عينيه... (متعاطفة؟!) نظرت لهاتين العينين طويلا...زرقتهما الآن اضحت مختلفة بها دفئا مختلطا بعزة نفس لم تتمكن من رؤية هذا المزيج من قبل...همست بصدق نابع من روحها (انت بعيد كل البعد عن الشفقة و التعاطف) انشغل في تدليك كفيها متسائلا... (إذًا؟!) أجابته بنفس الصدق فلامسه صوتها... (بت اعرفك جيدا فوصلة توبيخك لي خلفها نصح حنون...) توترت حدقتاه فقال بصوت خاو مستهزأ بعدما وضع يده فوق جبينها... (حرارتك عادية فما سبب الهلوسة يا ترى؟!) ابتسمت بحنانها الامومي تقول... (تعرف انني لا اهلوس و ان خلف جليدك روح ت...) وقف مسرعا قائلا بأمر جاف... (لن نقضي الليل نثرثر هيا للأعلى و لا تكرري ما حدث ثانية انا لا اتهاون في حق يائيل) تركها و صعد الى غرفته فتتبعت ظله المتروك بأعين دامعة لقصته العاصفة بالقلب و الروح لتهمس لنفسها بوعد... (و انا ايضا لن اتهاون في حقه...و حقك) ...يتبع... | ||||
11-11-20, 10:59 PM | #889 | ||||
كاتبةفي منتدى قصص من وحي الاعضاء
| الفصل الرابع و العشرون قطرات المطر تتكثف فوق نافذتها الزجاجية لتخبرها أي طقس ممطر سيكون اليوم...ابعدت عينيها عن النافذة تنظر الى كفيها الموضوعين فوق ركبتيها...لا يرتجفا لكنها خائفة مما هي مقدمة عليه لقد تحدت نفسها بأنها ستفعله كما أن طبيبتها شجعتها كثيرا لتخطو هذه الخطوة...الحلقة الدائرية الذهبية في بنصرها الأيسر لفتت نظرها و كأنها تهمس بخفوت لا تخافي فهو معك دائما...كرم هنا يا غسق (المطر كثيف جدا...يبدو ان شتاء هذه السنة سيكون صعبا) صوته الهادئ يصلها فيبث الدفء داخلها...رفعت عينيها اليه في مجلسه خلف عجلة القيادة...طالت نظرتها لجانب وجهه ليس لشيء سوى أنها تنفذ نصيحة الطبيبة كريستين "أن تعرف كرم لأنه كرم ليس لأنه الشاب الذي ساعدها"...و من وقتها و هي تتمعن في النظر اليه...في تحليل كلماته و تصرفاته في كل شيء تقريبا و للعجب تجد كل مرة شيئا جديدا يغيرها هي! (معك حق...) اجابتها خرجت بصوت هادئ للغاية...التفت بجانب وجهه لها متسائلا... (قلقة؟!) دون ان تنزل بصرها عنه هزت رأسها بنعم تقول... (نعم...لكنني سأتخطى هذا القلق) عاد ينظر للطريق أمامه قائلا بتأكيد... (أعرف أنك ستفعلين...) ابتسمت بأمل لثقته الكبيرة في قدراتها...حادت بعينيها عنه لتعود تنظر لنافذتها هامسة (سأكون عند حسن ظنك فيّ) جاء دوره هذه المرة ليبتسم بسعادة لا توصف...غسق وضعت ظنه مقياس تريد بلوغه بنجاح!...كم يسعده ما طرأ عليها من تغيّر بعد تواصلها مع المعالجة النفسية...اتزنت كثيرا عن قبل و عادت لمخطط حياتها قبل الحادث...و ستعود ان شاء الله كما كانت بل و أفضل فهو لن يسمح سوى بهذا... بعد قليل... أوقف السيارة أمام إحدى شركات الأدوية و التي قدمت فيها عبر الأنترنت و اليوم موعد مقابلتها...نزع حزام الأمان ليخرج مسرعا و يتجه الى بابها...فتحه فوجدها لم تنزع حزامها بعد...مد كفه لها قائلا بتشجيع (هيا يا دكتورة المقابلة لم يبقَ عليها سوى القليل) اومأت بموافقة تنزع حزامها و تتشبث بكفه لتخرج...قطرات المطر الساقطة فوق حجابها جعلتها ترفع كفها فوق رأسها لتسأله بقلق... (هل ابتل حجابي كثيرا؟) هز رأسه نافيا ليتجه نحو الباب الخلفي يفتحه و يخرج مظلة سوداء و يعود اليها يُدخلها اسفلها قائلا... (حلتك الرسمية و حجابك كما هما لا تقلقي...دعينا نتحرك قبل أن يتلوث بنطالك بالطين) تحركا معا تحت المظلة ليتوقفا عند باب الشركة فرفعت وجهها الى وجهه تقول ببسمة صغيرة تشجع نفسها... (سأصعد حيث المقابلة أدعو لي) نزل ببصره لوجهها القريب فابتسم بعشق يقول... (زوجتي قوية و ستجتاز المقابلة بنجاح ان شاء الله) سحبت نفسها بقوة تستمدها منه...منحته نظرة شاكرة لتومئ بموافقة و تتركه متحركة الى الداخل...أما هو فتابع خطواتها ببسمة فخورة بها و كأنها طفلته في أولى أيامها الدراسية...اختفت من أمام عينيه فهمس برجاء يدعو (اللهم وفقها و أسعد قلبها...) بعد ساعة و نصف... خرجت من باب الشركة بملامح غير التي ولجت بها...راضية، متحمسة، واثقة و شاكرة...سحبت نفسا مبتسما تسحب شهيق الحرية من سجن حادثها و تزفر كل وجع مرت به من بعده...اليوم عرفت قيمة أن تتمسك بالأمل و لا تفقده فمهما ضاقت ستُفرج و مهما ظننت انها النهاية فحتما الله يخلق لأجلك بداية...تحركت بخفة تنزل الدرج الفاصل بين بوابة الشركة و الشارع...المطر توقف و الشمس خرجت من خلف الغيوم و كأنها لوحة خارجية تعبر عن دواخلها...عيناها التقطتاه مستندا على السيارة يتحدث في هاتفه...توقفت عن الحركة لتطيل نظرتها له...الشمس الساطعة خلف رأسه تطمس الرؤية عنها لكنها تراه رغم ذلك...وخزة اخترقت صدرها لتخز خافقها دون انذار...وقفته ما بها تهبه طلة جذابة...حركة رأسه و هو يتحدث تزيد من رزانته في عينيها...حركة بعض الناس خلفها نبأتها انها شردت فيه كثيرا هذه المرة...رمشت بعينيها لتبتلع ريقها ببطء و تتحرك اليه...سمعت صوت ضحكته الهادئة و بعدها صوته... (لا لن آتي في النهار أنت و أيوب تكفيان...) انتبه لخطواتها فأبتعد عن سيارته يحدث أنور بينما يتفحصها بتدقيق ليلتقط رد فعلها... (حسنا أنور سأغلق الآن و لو أردتم شيء هاتفوني) أغلق الخط معه ليتقدم منها في نفس الوقت الذي تتحرك فيه اليه...و كأن كلاهما يسعى للآخر هذا ما طرأ بالها قبل أن تسمع سؤاله المترقب... (كيف كانت المقابلة؟) عيناها تحركتا على ملامحه كلها فرأت الترقب جليا عليه...هل لهذه الدرجة يهتم بخطواتها؟!...ابتسمت تدريجيا حتى اتسعت بسمتها بنعومة تقول بحيوية سعيدة... (كانت أكثر من رائعة...لم أكن متوترة من الوجوه الغريبة و لم أشعر بالقلق من بعد أول سؤال و كأن كل التوتر تبخر) ابتسم براحة كبيرة يقول... (الحمد لله غسق...اجتازتِ أول خطوة) هزت رأسها نفيا دون ان تتخلى عن بسمتها تقر حقيقة بقولها... (لا يا كرم التعبير الصحيح هو اجتازنا...لولاك ما كنت هنا اليوم و ما كنت لأقف على قدمي من جديد...شكرا لأنك منحتني جزءا من حياتك) أبعد عينيه عنها ينظر للسماء خلف رأسها...يحتاج أن يهدأ هذا النبض المجنون من قلبه...عاد ببصره لها يمنحها واحدة من أجمل ابتساماته على الإطلاق قائلا بصوت مفعم بالعشق... (لم تكن حياة دونكِ غسق) هناك شعور يحتلها رويدا رويدا يحرك مشاعر كثيرة دفعة واحدة فلا يجعلها تلتقط أيًا منهم...لكنها أكيدة من استعادة شعور وخزة قلبها بعد هذه الجملة!...اسبلت اهدابها ترزح تحت وطأة احاسيسها بينما هو يكاد يطير من رؤية خجلها بسبب جملته...قبلا لم تكن هكذا فهو عمدا او دون قصد منذ تزوجها و حروفه تخونه و تكسر صدفة الصمت لتبوح لها لكنها لم تكن تكيل كلامه بمكيال المشاعر أما الآن مختلف الوضع كثيرا...تابع حركة كفيها المحرجتين و هي تتقبض على يد حقيبتها فمد يده يتمسك بكف منهما قائلا بفرحة... (تعالِ فاليوم كله لأجلك...أخبريني أين تودين الذهاب؟) اقتربت منه متسائلة بعدم فهم... (لأجلي أنا؟!...أليس لديك عمل يجب أن تذهب اليه؟!) تاه في عينيها هامسا... (لا تفكري في العمل فعمري كله لكِ...فقط أخبريني هناك مكان معين تريدين الذهاب اليه أم آخذك أنا حيث أريد؟) ليست خائفة و هي بهذا القرب منه...عقلها استوعب جيدا بما يكفي أن تمييز بين ما حدث و ما تعيشه الآن...كلمات الطبيبة كريستين تدق باب عقلها الآن لتعلن أنها احسنت الانصات و آمنت بالقول... "ما مررتِ به كان حادثا لن يتكرر مجددا لأنكِ لن تسمحي له بأن يتكرر...الخوف طبيعة خُلقنا بها لا تعيبنا لكن الاستسلام له هو العيب بحد ذاته" هزت رأسها نفيا تقول... (ليس هناك مكانا أريده...دعنا نذهب حيث تريد) ضم كفها داخل كفه بحنان يتوجه بها الى السيارة...ليت يكون ما فهمه صحيحا و غسق تريد أن تطأ أرضه برغبتها...و الله فقط لو طلبت هذا لأسكنها روحه كي تعيش فيها آمنة مطمئنة لأخر نفس في صدره... في مطعم مطل على البحر... شكر كرم النادل بعدما وضع الأطباق امامهما...و بعدما تركهما ناظرها متسائلا... (ألا زلت مصممة على نفس المكان؟) ابتسمت له معترفة ان اختيارها لأقرب طاولة مطلة على البحر يسبب لها البرد لكنها منتعشة و هذا شعور تريده...تكلمت بينما تمسك الشوكة بيدها قائلة (نعم منظر البحر يمنحني النشاط) توقفت شوكتها عند طبق اللحم المشوي تسأله بضحكة متعجبة... (ما هو سر حبك في تناول اللحوم وقت الظهيرة؟!...) نظر الى ساعة معصمه يقول باسما... (اصبحت الثالثة بعد الظهر غسق، الناس تتناول غدائها في مثل هذا الوقت...ثم أننا أكلنا لقمة صغيرة في الصباح بسبب توترك من المقابلة!) رفعت حاجبيها عاليا بدهشة فقالت... (أنا لم أجبرك على عدم استكمال فطورك انت من أكل قليلا كرم!) زم شفتيه بتفكير يقول... (لكنك انهيتِ فطورك بسرعة و طلبتي مني أن نذهب كي لا نتأخر حتى الحاجة صفية سألتني هل تحضر لنا شطائر لنكمل فطورنا في الطريق!) اتسعت عيناها بصدمة متذكرة نداء والدته له و همسها بعدما قاما من على السفرة!...ابعدت شوكتها عن الطبق تقول بتبرير متلعثم (فعلا لم أقصد...يا الهي ماذا ستظن بي بوالدتك الآن!) لملم ضحكته بصعوبة قائلا... (اعتقد ستظن انك تعذبين ابنها معك) تحولت ملامحها للصدمة فسألته بجزع من أن تظن بها صفية هذا و هي التي تسعى لراحتها في بيتهم...يا الهي أتفكر فيها بأنها مصدر تعب لكرم؟!!.. (حقا؟!!...) فلتت ضحكته المسموعة هذه المرة قائلا... (يا لكِ من ضيقة عقل تنطلي عليها الخدع!) تجهمت بضيق رافض لهذا الوصف فسألته... (أنا ضيقة عقل؟!!..) استند بمرفقيه على الطاولة يقرب وجهه اليها فتسافر نظرته لبعض الوقت في ليلها الذي عاد لينير عينيها قائلا بصوت دافئ لاعبت أوتاره بقايا ضحكته... (نعم رغم ذكائك إلا انك ضيقة العقل و بطيئة الاستيعاب لما يدور حولك) اشاحت بوجهها للجانب تنظر للبحر بضيق من كلماته...هل يوبخها و هي التي تعترف في كل لحظة له و لنفسها بمميزاته؟!...سألته بحنق غاضب (هل أتينا هنا لتُطعمني أم لتوبخني؟!!) ضحك بخفة ليأخذ شوكته و يحمل قطعة لحم يضعها في طبقها قائلا بحب مسح بنبرته حنقها... (لا تغضبي هكذا كنت أمزح...في الصباح لم استطع تناول فطوري لأنني كنت قلق لأجل مقابلتك مثلك و ربما أكثر) التفتت له بوجهها فتعلقت عيناها بعينيه...هناك بداخلهما شيء ما يود أن يقوله و تود هي لو تسمعه لكنها ليست مستعدة بعد...ابتسمت له بشكر لتعود تأخذ شوكتها و تبدأ في تناول طعامها...نظراتها المختلسة تتبعه في كل حركة لتعرفه أكثر...يبدو وسيما كما قالت ديما مرارا...لكن وسامته كانت مغطاة فلم ترها عيناها من قبل...كرم كان ككتاب لم يجذبها عنوانه و غلافه بسبب ما ظنته عنه من قبل لكنها حينما فتحته وجدت بين سطوره الحياة...ابتلعت ريقها ببطء منشده بهذا الرجل الماثل أمامها...فلت اسمه من بين شفتيها دون قصد (كرم....) فرفع وجهه لها متسائلا لكن نظرتها له ألجمته...عيناها تلتمعان بنظرة تمنحها اليه لأول مرة...همهمت بخفوت تشعر و كأن لسانها يتحدث بما لا تعرفه...كأنه اتصل بروحها مباشرةً ينسخ ما بها ليقوله له (كأنني أتعرف عليك لأول مرة...كرم أنا....) صدح رنين هاتفها فجأة فقطع حديثها فتتنحنح متهربة من عينيه الملحتين في معرفة باقي الحديث...اخرجت هاتفها من حقيبتها تقول ببسمة مهتزة من نظرته... (هذا أبي لا بد من أنه قلق ايضا لأجل مقابلتي) فتحت الخط ترد عليه فوصلها صوته المتلهف... (غسق حبيبتي كيف كانت المقابلة؟) ابتسمت بحنان تقول... (الحمد لله أبي تمت على خير) انصتت لسؤاله فرفعت وجهها لكرم المنغمس فيها كليا فأجابت.. (الآن أنا مع كرم نتناول الغداء في المطعم) همست لكرم ببسمة... (أبي يسلم عليك) شملها بحنان يقول... (سلمه الله أبلغيه سلامي) اومأت له لتنخرط مع والدها في الحديث...كانت تبتسم و تضحك...تشاكس و تمزح...ببساطة كانت غسق التي يعرفها...همهم بخفوت هامس شاكرا لما يراه (الحمد لله) انتبه لصوتها بعدما انهت المكالمة... (أبي يترقب بقلق دائما لكل خطوة هامة في حياتي...لا استطيع ان انسى خوفه علي أثناء امتحانات الثانوية العامة، كان يوصلني الى باب المدرسة و ينتظرني حتى انهي امتحاني ليطمئن) غامت عيناها بدموع طفيفة تكمل بنبرة حنونة محبة لوالدها.. (أتذكر يوم امتحان اللغة الانجليزية خرجت باكية لصعوبته فقابلني أبي ببسمة مشجعة يخبرني انه فخورا بي مهما حدث و أيًا كانت نتيجتي فهو يعرف كم تعبت في دراستي) رفعت اصبعها تمسح زاوية عينها قائلة بضحكة مرحة.. (كان يجب أن تراني ذاك اليوم و أنا أبكي بلا توقف...كنت أشبه بطفلة ضيقة العقل) وصلها صوته الأجش... (لقد رأيتك غسق...) رفعت وجهها اليه ليغزو الخجل وجنتيها حينما اكمل حديثه بابتسامة عاشقة... (على مدار سنوات لم يشغلني سوى رؤيتكِ) بيت ثروت... بعدما أغلق الخط مع غسق وضع هاتفه فوق الطاولة يحدث زوجته برضا... (الحمد لله رب العالمين ابنتي تبدو سعيدة...قالت كرم كان معها و لم يتركها) رغم سعادة أمل بخطوة ابنتها للعمل إلا انها عاندت لتقول... (و هذا ما يجب ان يفعله أم كان سيتركها تذهب بمفردها؟!) ناظرها ثروت بتأنيب يقول حقيقة ايقنتها روحه.. (كفي عن القاء أي تهمة على زوج ابنتك فقط لأنك لا تحبينه...الرجل لم نرَ منه سوى الخير، يحمل ابنتك على كفوف الراحة، يتمنى لها الرضا لترضى و هي سعيدة معه فلا تنغصي عليهما حياتهما لأجل فروق ابنتك لم تقم لها وزنا) شهقت أمل متسائلة بدهشة... (أنا أنغص حياة ابنتي يا ثروت؟!...و الله كل همي ان تكون سعيدة مع شخص يستحقها) تنهد ثروت بتعب من زوجته يقول... (و كرم يستحقها يا أمل) زجرته بنظرة رافضة فقال بتصميم... (لا تنظري الي هكذا...تعرفين أنني كنت غير راغبا في هذه الزيجة مثلك لولا موافقة غسق لكن حقا أنا وافقت على كرم بعدما عرفته و وجدته رجلا يتمناه أي أب لابنته) قاطعته أمل بنزق... (أصبحت أنا شريرة الحكاية على ما يبدو...هي تقول كرم ليس هناك مثله و أنت تقول يتمناه أي أب!) ابتسم ثروت لزوجته قائلا بقناعة... (لأنه حقا هكذا...) وقفت أمل بحدة تقول... (كل ما يهمني أن تكون غسق مرتاحة و ألا تندم على هذه الزيجة فيما بعد) تحركت الى المطبخ بعصبية جعلت ثروت يضحك بخفوت عليها...استند بظهره على الكرسي يهمهم بدعاء خافت (اللهم أجعل حياة ابنتي كلها سعادة و اجعل زوجها خير زوج لها) ...يتبع... | ||||
11-11-20, 11:09 PM | #890 | ||||
كاتبةفي منتدى قصص من وحي الاعضاء
| الفصل الرابع و العشرون بعد أيام... يراقب صورتها المنعكسة أمامه على المرآة ببسمة مشاغبة من الدرجة الأولى...مشط شعره بأصابع يده بينما عيناه لا تلتقطان سوى يمامته الحلوة التي تتمايل بعفوية امام خزانة الملابس تبحث عن شيء ما...همهم متمنيا بصوت لا يسمعه سواه (ستختار اللون الوردي...) كان يتابع بشغف و تمني حتى التقطت اصابعها الناعمة شيئا ما... تنهد بحرارة باتت تلفح روحه مؤخرا كلما نظر اليها فقط... هذه الأصابع الناعمة كم يموت شوقا لاستعادة شعور لمسها... اتعبته الذكريات القليلة بينهما التي تمر بخاطره الآن فغمغم بخشونة تعاني الصبر و مرارته.. (آه كم سيطول الأمر لا أحتمل الصبر بعد و الله..) التقطتها عيناه ترتدي عباءة وردية كما تمنى لتنساب على قدها النحيل فترتعش روحه طالبة الوصال من جديد فيهمهم بنظرة عين متخمة بمشاعره نحوها... (اشتقت و الله يا يمامة...) تتبعها تتحرك قادمة بالقرب منه فأسرع يفعل ما خطط له... يعرف انه يحاصرها كثيرا و ربما يبدو صبيانيا بعض الاوقات لكنه معها لا يشعر بأي حرج بل يشعر بأشياء أخرى يود لو يخبرها عنها... بطريقته اخرج هاتفه من جيب بنطاله بعدما اختار أغنية كحاله كل صباح و يضعه بإهمال فوق طاولة الزينة التي باتت هي عندها الآن... الأغنية كانت غير واضحة قليلا في بدايتها فكان صوتها مسموعا حينما كلمته بوجه جامد... (أفسح لي مجالا اريد أن أمشط شعري...) ابتسم لها بعبث يتحرك ببطء قائلا بصوت خافت... (المكان خالٍ و جسدكِ رفيع يمكنكِ الوقوف جواري و تمشيط شعركِ... أم أنكِ تخافين قربي) حدجته بنظرة خطيرة تسأله بتعجب يعرف انه زائف.. (أخاف قربك؟!!!... لماذا هل وحش أنت ستأكلني!!) اتسعت بسمته و ارتفعت درجة العبث في نبرته ليميل تجاه وجهها يتفحص ملامحها المتوترة هامسا ببطء بينما يهز رأسه نفيا... (لا لن آكلكِ لكني سأقبلك) ازدادت سرعة تنفسها كما تضرجت وجنتاها بخجل جعلها تهمهم بصوت مختنق... (خالتي تنتظرنا أبتعد و دعني أنهي ما افعله) أفسح لها مكانا صغيرا ببطء كبطء حركته و هو يبتعد عنها... وقفت تمشط شعرها بعصبية متوترة من نظراته التي تلتقطها عبر المرآة متسائلة ألا يزال في جعبته المزيد من قلة الأدب!!... لقد اتعبها كثيرا الآونة الأخيرة بمحاصرته التي تجعل قلبها ينتفض بين ضلوعها حبا له... لكن عليها التريث فهذه محاولتهما الوحيدة و ربما الأخيرة... مال على هاتفه يعلي صوت الأغنية بعدما أعاد تشغيلها من البداية ليقف خلفها يلامس شعرها المبتل قائلا بنبرة ترسل رجفة في اوصالها.. (هل أمشطه لكِ؟!) ارتعشت شفتاها بضعف تحاول الثبات على موقفها فتهمس بحدة تتراخى مع تتابع الحروف... (لا تهدر وقتنا كما انني لا احب.. أن يلمس شعري أحد) لا تعرف كيف التقط المشط بهذه السلاسة من بين اصابعها و امتلك خصلات شعرها بكفه الآخر يزيحه الى جانب كتفها ببطء تعرف انه يتعمده...اغمضت عينيها تهمس برجاءٍ تحاول ان توقظ نفسها به... "لا ليس هذه الحركة أرجوك...توقف" اجفلت على ملمس قبلته الدافئة التي تركها خلف عنقها كالمرة السابقة...انتفضت تبتعد عنه تناظره عبر المرآة بنظرة مشتتة فتهمس بأول ما خطر في بالها فقط كي يتوقف...و الله إن لم يفعل فقلبها هو من سيتوقف و لن يتحمل أكثر...و هذه الأغنية اللعينة كحال اغانيه كل صباح...يختار اغنية بمعاني تعبر عنه او عنها او عنهما معا و يبدأ مراسم و طقوس محاصرتها بقلة أدبه... (توقف عن قلة الأدب هذه...) اتسعت مقلتاها حينما علت ضحكته الصاخبة النابعة من القلب ليتقدم منها بعدها قائلا بصدق... (و هل نحسب ما أفعله هذا قلة أدب؟!...إذًا ماذا لو تركت العنان لقلة الأدب التي تحثني نفسي عليها؟!) أبعدت عينيها عنه تعيد شعرها خلف ظهرها بحدة جعلته يزيدها في المشاغبة بقوله... (أنتِ من منحنا فرصة جديدة فدعيني أعبر على طريقتي و على مهلٍ) لا حديثه هذا سيقتلها حقا...صرخت به بأحرف مهتزة رغم فرحة روحها بقربه... (منحتك فرصة للحب لا لقلة الأدب!) ضحك مجددا بينما يتخذ خطواته اليها حتى حاصرها بينه و بين طاولة الزينة يميل على أذنها هامسا بأنفاس حارة... (يبدو انني لم أخبركِ من قبل لذا دعيني أقول أن الحب عنوان لكتاب كبير للزوجين يُسمى قلة الأدب ) لثم وجهها بخشونة مقصودة فأبعدته عنها بوضع كفيها فوق صدره و دفعه للخلف...لكنه استحضر روح الجلف بداخله و لم يتزحزح أنشا واحدا فهمست برجاءٍ تحاول ألا تتهاون لأجلهما معا...ألا تذوب بين ذراعيه و هو يغدقها بما تمنته منه...فقط عليهما التريث قليلا بعد... (خالتي تنادي...لقد تأخرت) شعرت بفمه قريبا من وجنتها مجددا فظنت أنه سيقبلها ثانيةً لكنها شهقت بوجع مجفلة من...عضته!! (هل عضضتني للتو؟!!!) ابتسم بسمة منتصرة ليبتعد عنها قائلا... (هكذا سيكون عقابكِ كل مرة تهربين من قبلتي) حكت وجنتها بغضب تزيحه من طريقها لتخرج من الغرفة تاركة إياه مبتسما برضا...تقدم من هاتفه الصادح بالأغنية يلتقطه هادرا مع كلماتها بصخب ناويا ألا تقف وصلة "قلة الأدب" ها هنا... أنا لما بحب بحن بجن بهدم بحرق بقلب جن وصل للأسفل فقابلته أمه التي اتسعت بسمتها حينما وجدته يدندن سعيدا بينما عيناه تبحثان عن زوجته... (أبهج الله صباحك دوما) ضم أمه إليه بقوة يقبل وجنتها بشقاوة قائلا بصخب... (كثفي دعاءك أمي) ضحكت بفرحة تقول بحنان... (أدعو لك دوما حبيبي) هز رأسه منشغلا بالبحث عن يمامته فقطعت وصلة البحث كلمات أمه المبتهجة... (بالداخل من ستخرج عيناك من محجريهما عليها) التمعت عيناه بمشاعره ليضحك بحرارة قائلا... (سأدخل أودعها...) ربتت أمه فوق ذراعه تقول... (جعلها الله رحلة صيد موفقة...) ترك أمه ليسرع في خطواته إليها بالداخل...توقف عند باب غرفة الضيوف...يتابع حركتها العصبية و هي ترتب الأرائك و التي لم تكن تحتاج ترتيبا أصلا...لاحظ تخشبها حينما سبقته أغنيته التي لم تتوقف للداخل...التفتت له بحدة تقول بصوت مكتوم كي لا يسمعهما أحد.. (هل أنت راضٍ بإحراجي كل يوم أمام خالتي بسببك) تقدم منها يهز رأسه غامزا بعينيه اللتين تترحلان عليها بتمهلٍ يقول بخبث... (كلي رضا...) تأففت بخجل توليه ظهرها تلتهي في كومة الوسائد التابعة للأرائك...اتخذ خطواته ليقترب منها يمد كفه ملامسا خصرها الذي تشنج تحت كفه يسحبها اليه هامسا جوار أذنها... (متى سيحن قلبكِ علي؟) تماسكت بصعوبة تهمس... (خالتي ستدخل علينا في أي لحظة!) ادارها اليه يحبسها بين ذراعيه قائلا بتأكيد... (خالتكِ لو بيدها لتركتنا هنا بمفردنا حتى نخرج لها بأحفاد) اسبلت اهدابها للأسفل بخجل سرق نبضة من خافقه...زفر نفسه بقلة صبر من بُعدها فقرر أن يلهو بعبث معها يبدد هذا الشعور بداخله الذي يحثه على امتلاكها...و الله كان غبيا حينما كانت تهفو إليه بينما هو بعيدا و الآن تربيه على طريقتها!...رفع ذقنها بيده يردد مع الأغنية و كأنه يغازلها...يخبرها...يعدها...يح? ?ها اغمزيني بعينك يا روحي بغمزة ببيع الكون و همو عا ابعد دنيا منروح ترك ذقنها يتمسك بكفها يضعه فوق صدره يود منها ان تسمع هدير نبضه... بيرخصلك هالقلب و دمو ترك يدها فوق صدره لتتحرك كفه الى خصرها يلامسه متابعا بينما يقربها منه... ميلي بخصرك صوبي ميلي اتغنجي عليا اتغميلي ابني عا ذوقك سميلي وعد تكوني وحدك أمو ضحك بخفوت على هيئتها بين ذراعيه... يعرف انها تميل مثله لكنها تخشى التسرع... فهي فرصتهما الوحيدة كما قالت من قبل... مال يقبل جبهتها قائلا.. (انتبهي على نفسكِ اثناء غيابي) اخرجها من بين ذراعيه يلامس موضع كفها الذي سحبته قبل ثوان يقول غامزا... (قلبي سيشتاق) تحرك مبتعدا للخارج بينما صوته يعلو متابعا غناءه الصاخب... وضعت كفيها فوق وجنتيها المشتعلتين بحرارة كالتي دبت في خلاياها تهمس... (هذا ليس عدلا انه يحاصرني بلا توقف و قلبي الغبي يموت عليه!) خرج من الغرفة لتقابله مسرة ببسمة متلاعبة تتفحصه جيدا بينما تقول.. (صباح الخير صهري...) ناظرها نظرة عابسة يود لو يحملها و يلقيها في البحر بسبب ما تتعمد فعله معه...لكنه ابتسم بمشاغبة يقترب منها ليكور اصبعيه الوسطى و الابهام فيلسعها بضربة فوق جبينها مجيبا بضحكة من صوت تأوهها... (صباح الخير يا حماتي...) حدجته بغضب لم يهتم به فأكمل طريقه للخارج بينما هي دلكت جبينها بتوجع لتلج لأختها...انزلت كفها بسرعة لتسرع الى اختها بأعين متسعة تسألها... (هل ما أراه على وجهك هو الخجل؟!) خبأت مودة وجهها بعيدا عنها فأغمضت مسرة عينيها تتروى قبل ان تقول بهدوء زائف... (مودة حبيبتي أعرف انك مجنونة بحب أيوب لكن إياكِ أن تسامحيه الآن فيكفي التوبيخ الذي استلمه من أبي كل يوم بسبب مكوثي هنا لأجلك!) ضحكت مودة بحنان تقرص خد اختها قائلة... (ألا زلت حزينة من أبي؟!...لا تقلقي لقد كلمته و طلبت منه ان تبقي معي لبعض الوقت و عمي رجب كلمه ايضا) ابعدت مسرة وجنتها عن اختها تقول بقلق... (لا يهم توبيخي فأبي معه حق لا يصح أن أطيل المكوث هنا لكنني لا أريد الرحيل قبل أن اطمأن عليك و اتأكد ان ايوب حقا يحبك) قبلتها مودة بحب تضمها اليها قائلة... (حبيبة أختك أنتِ يا مسرة...لا تخافي فمهما بلغ حبي لأيوب لن اتعجل في القرب هذه المرة لأجلنا و لأجل مستقبلنا) شددت مسرة من ضمها تقول بحنق... (أعرف أن صهري طيب القلب لكنه غبي احزنك و اوجع قلبك و يجب أن اضايقه قليلا) ضحكت مودة تخرجها من احضانها معترفة... (و قد نجحتِ صدقيني فأيوب يوشك أن يقتلع شعرك من مكانه لغيظه منك) حسست مسرة على شعرها بقلق تهمس... (يفعلها ان استطاع لأكسر له يده...) دلفت وجيدة تقول بصوت قلق... (مودة أيوب نسي ان يأخذ الكنزة الصوف و الليل في البحر يكون باردا ماذا أفعل؟!) انتقل قلق وجيدة الى مودة على أيوب فهي تعرف كم يكون الجو باردا هنا بسبب قرب البحر فما بال هو سيكون داخله...تكلمت بهدوء تطمئن خالتها (لا بأس خالتي أعتقد أيوب لم يبتعد بعد هاتِ الكنزة سأعطيها له) اومأت وجيدة مستحسنة الفكرة لتسرع للخارج و تجلب الكنزة...دلفت بعد لحظات تمنحها لمودة لكن يد مسرة التقطتها لتأخذها بينما تقول (سآخذها أنا لصهري فقط اشرحا لي كيف أسير) ابديت كل من مودة و وجيدة خوفهما عليها بأن تتوه لكنها صممت على رأيها كي تعطي فرصة لقلب أختها البائس بأن يلتقط انفاسه... خرجت من بيت رجب تتجه اولا حيث المخزن القريب من بيت المراكبي فكما اخبرتها خالتها ربما أيوب لا يزال هناك...لكنها بعدما وصلت اخبرها العمال انه اتجه بالفعل الى الميناء...تحركت في شوارع ضيقة متداخلة تتبع وصف الخالة لها كي تلحق أيوب قبل ان يصل للميناء...توقفت خطواتها و هي تنظر حولها ببلاهة لتهمس لنفسها (ألم آتي من هذا الشارع من قبل؟!) نظرت خلفها تتساءل... (هل أسير في دائرة مغلقة أم ماذا؟!) أوقفت مجموعة من الأولاد تسألهم عن الطريق فأكدوا لها انها تسير في الاتجاه الصحيح...حثت خطواتها فهرولت بينما تضم الكنزة الصوف الى صدرها بأنفاس ترتفع و تهبط...صوت البحر بات قريبا منها رغم انها لا تزال داخل هذه الشوارع الضيقة و لم تره بعد...لكنها اطمأنت فصوته يعني انها باتت قريبة...وصلها صوت مجموعة من الرجال في نهاية الشارع فأسرعت نحوهم لترى أيوب بينهم فحمدت الله سرا لتنادي عليه بصوت متهدج... (صهري...) توقفت خطواته بعدم تصديق ازداد و هو يلتف ليجدها خلفه تنحني مستندة الى ركبتيها تلتقط انفاسها...عاد اليها سريعا بقلق و قد لحقه أنور بقلب مضطرب... (مسرة ماذا تفعلين و كيف وصلتي الى هنا؟!) اعتدلت بصدر يهتاج بأنفاسه تهمس... (لقد نسيت...كنزتك الصوف و...خالتي قلقت عليك من...البرد) منحها نظرة شاكرة يلتقطها منها قائلا... (يا بنت و قطعتي كل هذه المسافة جريا!...سلمتِ مسرة) ابتسمت له برقة تحولت لذهول حينما لمحت البحر في نهاية الشارع...تحدثت بانشداه مسرور (انه البحر...) ضحك أيوب على هيئتها بينما ابتسم أنور يسألها... (هل تودين رؤيته؟) توردت وجنتاها بخجل تهز رأسها له بموافقة...رفع أنور كفه يحك خلف عنقه كحركة يتحكم بنفسه عن طريقها...فهي جواره بهذا الشكل الطفولي تحرك قلبه بقوة...شعر بنظرة أيوب المتفحصة له فتنحنح قائلا بنبرة عادية... (يمكنك المجيء معنا لتريه قبل أن تبدأ رحلتنا) تحركت بخفة بينهما و عيناها متعلقتان بالبحر حتى وصلت اليه فتسمرت في وقفتها المسحورة به...تركها أيوب ليتحرك الى كرم الذي سأله بتعجب... (أليست هذه أخت زوجتك؟) ضحك أيوب قائلا بتعب... (نعم انها حماتي الثانية...لقد نسيت كنزتي الصوف و جاءت لتعطيني إياها فسحرها البحر) ضحك كرم بخفة يسأله... (بقيت هنا كل هذا الوقت و لم تريها البحر و لا مرة؟!) تحدث أيوب بضجر بينما يتابعها بحرص كي لا يزعجها أحد بالرغم من وقوف انور بالقرب منها... (و هل تمنحني الفرصة لأنظر أمامي دوما تقفز في خلقتي و تعكر مزاجي) تقدم أنور منها قليلا يقول... (تبدين سعيدة بالبحر) همست بخفوت ناعم... (جدا) جمالها الخمري سحره ليهمس بصدق... (و هو ايضا سعيد...) التفتت له بجانب وجهها تعقد ما بين حاجبيها و تسأله بنظرة مشاكسة... (البحر؟!) ضحك بخفوت يتأمل ملامحها فيهز رأسه مجيبا بصوت رجولي... (نعم البحر...) (مسرة يا بنت عليك العودة للبيت لأن المركب سيبحر الآن) صوت أيوب الذي وصل لهما بعدما اقترب منهما جعلها تتوتر في قولها... (حسنا صهري سأعود لكن هلا شرحت لي الطريق مجددا فالشوارع هنا كلها متشابهة) تنهد أيوب بينما يطلب من أنور برجاء... (خذها في طريقك للحي يا أنور بالله عليك أفضل من أن تتوه) اومأ له أنور موافقا و بداخله يشكر أيوب على هذا الطلب...لاحظ أيوب خجل مسرة فأجلى صوته يقول (البنت في أمانتك يا أنور و أنتبه عليها) اتشحت ملامح أنور برجولة معهودة منه فقال... (لا تقلق أيوب و كن مطمئنا) بعد قليل... تسير خلفه في طريق العودة لبيت عم رجب...نظراتها المتلصصة ترمق ظهره و جانب وجهه فيزداد تضرج وجنتيها بخجل...هل كل الشباب هنا وسيمين أم اصدقاء أيوب فقط؟!...تخشبت حينما التفت لها قائلا بلطف بعدما مروا على مجموعة اولاد يلعبون الكرة... (تعالِ جواري كي لا ترتطم بك الكرة) اسبلت اهدابها للأسفل تتقدم منه فقال موضحا... (الاولاد هنا كالحمير لا يرون امامهم اثناء اللعب) هزت رأسها متفهمة بصمت جعله يبتسم...من يراها الآن لا يراها اول مرة ناطحته بها...اكملا سيرهما حتى صاحت هي بحماس (انه حرنكش!) ركضت الى حيث العربة الخشبية تطلب من صاحبها ان يعبئ لها منه...اخذت منه الكيس تمد يدها في جيبها لتدفع ثمنه فما كان منها سوى ان تنفرج عيناها على اخرهما و تحمر حرجا من الموقف...لقد خرجت من بيت العم رجب بلا أي شيء...كادت تضع الكيس من يدها فوق العربة لكنه تقدم منها يخرج بعض المال و يدفعه للرجل...نظرت له تهمس بخفوت (شكرا لك سأدفع المبلغ حينما نصل لبيت عمي رجب) دارى بسمته عليها ليقول بنبرة هادئة... (إن لم ترغبي في شراء شيئا آخر دعينا نذهب) تضايقت منه فزمت شفتيها تسبقه في خطواتها بحنق بينما يداها تلتقط حبات الحرنكش لتأكله!...هز رأسه يمينا و يسارا من افعالها الطفولية لكنها لو تعرف فكل افعالها تأسره... وصلا الى بقالة ام ايوب فأسرعت بالدخول تحت نظرات وجيدة المستفهمة...ثوان و خرجت تمد يدها له بالمال قائلة... (تفضل...) رمقها بنظرة مستاءة فسألتهما وجيدة عما يحدث...شرحت لها مسرة الأمر في كلمات مقتضبات لتنهيه بقولها... (و لذا عليه ان يأخذ المال) تطلع انور الى عينيها قبل ان ينظر الى ام ايوب قائلا... (ابلغي ضيوفك يا خالة ان هذا عيب في حقي...) ضحكت وجيدة بخفة تهادن مسرة تارة و انور تارة حتى القى سلامه و ابتعد تاركها خلفه بوجنتي مشتعلتين غضبا و خجلا... *الحرنكش:يشبه حبة العنب في الهيئة لكنه مغلف بقشرة رقيقة و تتميز بزراعته دول حوض النيل ...يتبع... | ||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|