آخر 10 مشاركات
حَمَائِمُ ثائرة! * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : Lamees othman - )           »          أرملة أخيه-قلوب زائرة(ج1 سلسلة حكايات سريه) للكاتبة : عبير محمد قائد*كاملة&الروابط* (الكاتـب : قلوب أحلام - )           »          علماء: عثرنا على "سفينة نوح" التي أنقذت البشرية قبل 5 آلاف عام (الكاتـب : اسفة - )           »          مدونتي (◠‿◠) تفتقر الى حضوركم ✍ ☂ ✍ (الكاتـب : اشرف سامر - )           »          سجل هنا حضورك اليومي (الكاتـب : فراس الاصيل - )           »          48 - لا تقل وداعا - ساندرا ماراتون (الكاتـب : فرح - )           »          إلَى السماءِ تجلت نَظرَتِي وَرَنـت (الكاتـب : ميساء بيتي - )           »          زَخّات الحُب والحَصى * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : Shammosah - )           »          عروس دراكون الهاربة(157)للكاتبة:Tara Pammi(ج3من سلسلة آل دراكون الملكيين)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          متوجةلأجل ميراث دراكون(155)للكاتبة:Tara Pammi(ج1من سلسلةآل دراكون الملكيين)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة ضمن سلاسل (وحي الاعضاء)

Like Tree216Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-08-19, 10:18 PM   #61

زهرة الغردينيا

نجم روايتي


? العضوٌ??? » 377544
?  التسِجيلٌ » Jul 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,778
?  نُقآطِيْ » زهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond reputeزهرة الغردينيا has a reputation beyond repute
افتراضي


مساء الورد
الف مبروووك ❤❤
تسجيل حضور
بانتظارك ❤❤❤


زهرة الغردينيا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-08-19, 10:19 PM   #62

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,611
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

سأبدأ بالتنزيل حالا باءن الله ....اعتذر عن التاخير ههههههههه أسأت حساب الساعات ...

**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 28-08-19, 10:23 PM   #63

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,611
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
قلوب هجا الحق شتات تقواها
الجزء الخامس سلسلة نساء صالحات
منى لطيفي نصر الدين

- لا تؤجلوا صلاتكم لأي سبب، اظفروا بسلام أرواحكم أولا.
- أسماء الشخصيات النسائية الرئيسية متعلقة بمحور الروايات فقط، لذا تأكدوا من حكم التسمية بها شرعاً في حالة إذا نالت إعجابكم.
- رجاء خاص، من لديه الأجزاء السابقة غير المدققة فليحذفها مشكوراً، وليحمل النسخ الجديدة فهي أفضل من القديمة.
- بعض الأسماء تغيرت لتفادي التكرار، فمن تذكر اسماً قديماً لا يستغرب.
- آل طالب، آل عيسى إلخ (آل) لا تعني سلالة أحد إنما له قربى باللقب، بالانتماء أو أصل يعود لنفس المكان المشترك مع الشخصية المعروفة.
- من مر من هنا، لا تنسني من صالح دعائك وتجاوز عن أخطائي.
***


المقدمة

(قبل سنوات)
(بلدة وادي الحقول)
(رحبة مسجد جامع السلام)
تدور الحلقات هنا وهناك وسط المساحة الشاسعة غير المسقوفة خلف المسجد أو ما يسمى برحبة الجامع حيث يجتمع *الفقيه* إمام المسجد بطلابه من مختلف الأعمار، بين الثالثة إلى السادس عشر يتتلمذون على يديه، مهما كبر عددهم يظل هو على رأس المساحة يجلس على بناء مسطح مرتفع بقليل عن باقي الأرضية، مفروش بسجاد صغير مصنوع من جلد الخروف فيطرف بعينه الحكيمة يراقب الحلقات، متابعا انهماكهم في إعادة ما خطوه بصمغ الخطاط على ألواحهم الخشبية الطويلة، مرارا وتكرارا حتى يحفر في عقولهم الفتية كما ينقش الدهر بتعاقب أزمانه على الحجر.
لم يكد يضع قدميه على أرض البلدة حتى قفز من السيارة فارّاً من والدته التي التهت عنه بشقيقتيه في وجهة واحدة، حفظها منذ أن تعلم المشي على رجليه الصغيرتين، فتحفزت دقات قلبه الصغير وهو يعدو بكل ما أوتي من قوة. انحسرت خطواته السريعة على عتبة باب الرحبة، باحثا بمقلتيه المتلهفتين كأنفاسه المتلاحقة حتى توقفت كليا للحظة، ينصت فيها إلى نبرة الفقيه التي صدحت في الأرجاء رغم رخامة نبرته وسط الهدوء الذي حل على الرؤوس ما إن نطق أول حرف من اسمه.
- يوسف آل عيسى، حمدا لله على سلامتك، اقترب بني!
بلل الصغير شفتيه بينما يسوي ياقة قميصه الأبيض الذي وبالرغم من انكماشه بسبب طول ساعات الرحلة إلا أنه كان أكثر ما ألفوه هناك أناقة أو فقط اختلافا. وفي خضم قطعه للمسافة الصغيرة الفاصلة بينه وبين الفقيه حانت منه نظرة خاطفة نحو إحدى الحلقات أو بالأحرى ستّ نظرات متتالية عدّها قلبه مع كل خطوة يتقدم بها فيردد معها أسماءهم بقلبه المتشوق إلى لقياهم.
"واحدة نحو الأشقر صاحب العينين الزرقاوين يتلوى مكانه في محاولات فاشلة لإخفاء ضحكه دون جدوى...*بهيج*.
"الثانية نحو الأصهب المتمالك لنفسه بشكل مستفز وكأنه ليس مهتما بما حوله بل وكأن له عالما خاصا به، مركزا على اللوح الخشبي الطويل بين يديه...*نبيه*.
"الثالثة نحو الهادئ صاحب الشعر البني الغامق، ابن الفقيه، يرسم على ثغره بسمة مرحبة دافئة والوحيد غير الحامل للوح يردد ما حفظه آنفا...*محسن*.
"الرابعة نحو الأسمر الساخر، بسمته المتهكمة على جانب ثغره يخصه بها دون أن يحرك عينيه عن لوحه...*مؤنس*.
"الخامسة نحو المشاكس، يلاعب بحاجبيه خلف لوحه مستغلا موقعه المقابل للفقيه... *فواز*.
"والأخيرة نحو أكثرهم بياضا، والذي مط شفتيه بوهن لم يعتده منه ولا الاصفرار الذي خالط قسماته مع بقع حمراء منشرة عبرة جلده الظاهر بجلّه تحت عباءته المهترئة القصيرة، هناك تلكأت خطواته قليلا مستغربا حال صديقه قبل أن ينتفض مكملا خطاه نحو وجهته.
- متى وصلتم بني!
ارتفعت يده الصغيرة يحك بها خلف رأسه مجفَلا بينما يجيبه بحياء:
- الآن حالا!
ارتخت شفتاه ببسمة رائقة وهو يبسط كفه داعيا له ليقترب الصغير منه أكثر:
- هل تركت أهلك حال وصولكم كعادتك يا يوسف؟
هز الصغير رأسه بخجل فضمه الفقيه ليقبل رأسه قبل أن يتركه مستدركا بحكمة:
- اذهب وجد لك مكانا بين صحبتك.
استجاب له مسرعا ليتخذ لنفسه مكانا وسط حلقة أقرانه قرب الأبيض المريض الذي همس له بعبوس بائس:
- لا تقترب مني، قد أعديك فتقتلني والدتك.
فغر شفتيه الصغيرتين بينما حاجباه ينضمان لبعضهما حيرة، وهم بسؤاله حين مال نحوه بهيج المشاكس والمجاور له من الناحية الأخرى:
- أحذرك إنه الجرب! ستحك جلدك إلى أن تموت لو أصبت بالعدوى.
زمجر الأبيض بعصبية مكتومة لينفجر الأشقر ضاحكا غير قادر على التحكم بضحكه:
- هدوء، عودوا إلى ألواحكم!
نطق الفقيه بنبرة هادئة حازمة فساد الصمت سوى من هسيس الألسنة، غافلين عن تأمله للحلقات بحزن وحسرة بينما لسان عقله يحدثه بما يخشاه.
*غيمة الشتات قادمة لا محالة...ارحمنا يا رب! يا حسرة على قلوب فقدت تقواها فكان لها الشتات بالمرصاد!*
***
- أسرعوا جدتي في انتظارنا!
هتف بها بهيج قبل أن تعلو ضحكته وهو يركض فتبعه فواز يصيح متهكما بينما يعدو بدوره خلفه:
- هيا يا يوسف! لن نصل بهذه الطريقة أبدا.
احتار يوسف في أمره وهو يرمق الأربعة السائرين بخطوات متمهلة؛ محسن يمسك بكفه ونبيه يسير بمحاذاتهم ساكنا سوى من نظرات يتفقدهم بها بين الفينة والأخرى أما مؤنس فمتأخر عنهم بخطوتين ليواكب خطوات ابن عمه المريض المتمهل، كفاه تكادان تفصلان جلده عن جسده من استمراره في الحك.
- إن أردت أن تلحق بهما يمكنك فعل ذلك يا يوسف، لا تشغل نفسك بنا.
همّ محسن بسحب يده والبسمة الدافئة لا تفارق ثغره لكن يوسف تشبث بها يجيبه بعتاب لطيف:
- لا يا محسن، لست مستعجلا، هون عليك.
اتسعت بسمته الدافئة، رافعا كفه الحرة يعدل بها طاقيته البيضاء كلون جلبابه وخاصة أصدقائه البسيطة ثم فردها مناديا:
- نبيه! قربني منه يا يوسف.
استدار المعني بنظرة متفقدة في نفس تلك اللحظة فعاد خطوتين ليلتقط كف صديقه بصمت، يرمق خطواته بتركيز جاد قبل أن يعود لرفع رأسه وإدارته نحو المتأخرين عنهم بقلق فتدخل يوسف بنبرة حزينة:
- لا بأس! لا نستطيع لمسه حتى لا نصاب بالعدوى لكن لا تقلقوا سأبلغ بابا وحتما هو سيساعده فالدولة التي نقطنها تطور فيها الطبٌّ، وسيجدون له حلا سريعا.
هز محسن رأسه بتفهم يبتسم بإشفاق بينما مؤنس يعقب ساخرا:
- حلا سريعا! هل في الدولة التي تقطنها أبطالا خارقين؟
لم يجبه يوسف معتادا على طباع وشخصيات أصدقائه رغم عشرته المقننة بعطل يقضيها بينهم، عطل تتقلص كل سنة وقد بدأ فعلا يقلق من حديث والديه الذي لا يفهم منه سوى أن هناك مشكلة كبيرة ألمّت بعائلة والده في مدينة الجبل وقد ينقطعون عن زيارة الوطن مستقبلا.
- شئنا أم أبينا يا مؤنس الغرب متقدمين علميا لكن الحمد لله هو الشافي المعافي وما دونه أسباب مُسخرة، وصديقنا سيشفى بإذن الله.
كانت تلك الكلمات الهادئة من فم محسن آخر ما تلفظوا به ودارُ أهل صديقهم تلوح لهم بهامتها الشامخة.
***
- اقترب يا بني ... هيّا!
تردد الصبي المريض بينما كفاه تسرحان في رحلة عذاب لا تنتهي وقد بدأ في الاستسلام حقا لبؤس حياته بعد أن قرر اتخاذ درب الشجعان ورفْض سبيل الخنوع والانهزام.
- يا ابني لا تتعب قلبي واقترب!
حثته وهي جالسة على أحد كراسي القصب المنخفضة حول مائدة خشب صغيرة داخل غرفة ذات جدران طينية، على أقصى يمينها يستقر فرن تقليدي على شكل كهف طيني صغير، تجاوره ثلاثة حُفر إحداها مملوءة بالخشب المشتت إلى أشلاء يزيدون به الفرن الترابي، واثنتين عُبّئتا بالفحم المتحول إلى جمرات متقدة تمد أواني الفخار فوقها بالحرارة. كان بقية الصبية يجاورونها مراقبين باهتمام وهي تمسك بإناء بين فخديها المكسوين بقفطان بيتي ذو ألوان متداخلة عليه وزرة بلون رمادي لامع تقليدية خاصة بالنساء على شكل تنورة واسعة تلبس فوق الرداء البيتي لتحميه من مخلفات أشغال البيت وقد ارتفعت عن حجرها قليلا بسبب جلوسها وثَنْي ركبتيها، تشير للصبي المتردد أمامها بحنو تشع به مقلتيها المكحلتين بمسحوق الإثمد الأصلي بينما بسمتها المتوترة ترتعش على ضفاف ثغرها اللامع بحمرة السواك.
- ماذا ستفعلين يا جدة جواهر؟
يسألها الصبي بريبة مغلفة باندفاع، يتأرجح بين الثقة والحب النادر نحو البشر والخوف من الغدر الزارع للشك بين جنبات أحشائه الصغيرة فتتسع بسمة المرأة في بداية الأربعين، كيف لا تكون وقد تزوجت في عمر الرابع عشر لتنجب بكرتها التي تزوجت بدورها في عمر الخامس عشر ليكون أول ما رُزقت به أحد هؤلاء الصبية البالغين من العمر أربعة عشر عاما.
- يا ولدي هذا خلٌّ أبيض مع زيت شجرة الشاي، تعال إلي ستهدأ قروحك! ومن يدري قد يطيب مرضك بعفو الله وكرمه.
بلع الصغير ريقه، متقدما بثقة مفقودة واستسلام يأس بائس بينما باقي الصبية يراقبونه باهتمام، مترقبين لرد فعله حين بدأت الجدة جواهر بطلس ذراعه اليمنى بعد أن نطقت باسم الله وشرعت بتلاوة ما تيسر لها من آيات مباركات.
غمرت الجدة جواهر كفها المكسو بكيس بلاستيكي داخل الخليط ثم وضعته على الذراع اليسرى للصبي دون أن تكف عن تمتمها الهامسة بذكر الشافي العافي، خافقها ينبض فخرا تلمع به نظراتها بشجاعة الصغير قبالتها، فهي يقينة من الألم الحارق لجلده بسبب الخل الأبيض لكنه يضغط على شفته السفلى بإباء وكبرياء، يتحدى به كل صعاب أيامه منذ أن وُلد إلى هذه الدنيا الظالم كثير من أهلها.
نزلت دموعها حارة تأثرا بمصابه وهو الرافض لذرفها، مسلطاً مقلتيه السوداوين على خاصتها بقوة وكأنه يخبرها بترفعه عن مواساتها، شفقتها أو حتى حبها ورأفتها وهو في أمَس الحاجة إليها فيتقبلها سرا وينكرها جهرا، يتشربها خفية ويرفضها علنا.
وقفت بخفة فاسندلت الوزرة التقليدية الطويلة الواسعة تتشبث بخصرها بنسيج متمغط قبل أن تنحني على سطل مخصص للقاذورات، وأزالت عنها الكيسين البلاستيكيين بحذر لتستدير بعدها تصفق مرة واحدة وتهتف بنبرة متحمسة:
- هيا يا أولاد تعالوا معي! البقرة الحامل أنجبت ولله الحمد فجر اليوم، تعالوا لنطمئن عليها، أسرعوا!
انتفضوا يلتفون حولها ببهجة بريئة فاضت لها قلوبهم الصافية باستثناء البائس الذي انزوى إلى ركن بعيد في المطبخ، يتلمس دقائق ينفرد فيها بنفسه مطلقا العنان لدمعة وحيدة حارقة، تنضم إلى مثيلاتها المتوارية خلف جدار صلب قُدَّ من حديد إرادته القوية.
- انتظرن! لقد أتيت بإناء اللبأ سنضعه هنا كما طلبت منا الجدة جواهر ثم نعود إلى رحبة المواشي.
انتفض الصبي مستديرا نحو الجدار موليا ظهره للفتيات في مختلف الأعمار بين السادسة والتاسعة اللاتي تتابعن في الدخول إلى المطبخ.
- هل هذا أنت؟ ماذا تفعل هنا؟
سألته إحداهن باشمئزاز واضح، رافعة أنفها الصغير بترفع قبل أن تستدرك بتحذير وهي تشير بسبابتها الصغيرة ككل شيء فيها بفستانها المختلف عن الباقيات سواء بقصته الأجنبية أو رائحته المختلفة كدمية بلاستيكية للعرض:
- إنه مريض، ابتعدن عنه! إذا اقتربتن منه سيعديكن، أمي أخبرتني بأنه مرض مميت.
- حفيظة!
هتفت قرينتها بلوم حزين فهزت كتفيها، تكمل بنبرة مستخفة قبل ان تشير للأخريات بالمغادرة خلفها:
- ماذا يا تقوى! أنا أقول الحقيقة، على كل حال أنا سأعود عند الجدة، يوسف الأجنبي هناك لنتسلى على حسابه قليلا.
- ليس أجنبيا يا حمقاء!
تدخلت صغيرة أخرى بتهكمها فضحكت حفيظة بينما تجيبها بمشاكسة:
- أعرف يا زينة! لكنه هو بالذات يشبه الأجانب بلباسه، ألا ترين هدية العمة بلقيس؟ لقد أصبحتُ أرتدي مثلهم.
كن قد غادرن فعلا وتقوى ثابتة مكانها بتردد جلي بينما صوت حفيظة السّاخر يصلها بوضوح:
- لا يتعَود أبدا على قضاء حاجته قرب البهائم كما يفعل الجميع، لذلك يختفي بين ساعة وأخرى ليلوذ ببيت جده حيث المرحاض الوحيد في البلدة، المكسب الجيد من ذلك أن الأهالي قد بدأوا بالتخطيط لبناء المراحيض، والله أعلم ماذا سيفعلون أيضا!؟
ظلت على تسمرها في مكانها للحظات، تتأمل ظهر الصبي أمامها بإشفاق قبل أن تقرر وضع بعض اللبأ في صحنٍ سحبته من فوق طاولة خشبية أعلى من سابقتها حيث رُصّت مجموعة من الأواني ثم وضعته على مائدة الطعام، قائلة له بلطف:
- تناول هذا اللبأ! جدتي تقول بأنه مفيد جدا، ولا تكترث لحديث حفيظة إنها مجنونة، وأنت ستشفى بإذن الله.
وانطلقت لاحقة بصديقاتها.
لا يدين لهن سوى بتجمد أعصابه للحظات يقسم فيها بأن الألم قد اختفى لبرهة كما شعر بصقيع انتشر داخل أوردته أحالت النار المشتعلة عبر جلده إلى جليد وكم كان في حاجة لذلك الصقيع أن يتجدد كل لحظة مع كل نفس تتلقفه رئتيه بألم ومع كل زفير يطلق سراحه من جحيم سعيره.
لكنه على الأقل، أدار جسده النحيف وخطا بتحفظ نحو الإناء فوق تلك الطاولة من خشب العرعر المنخفضة، يتأمل ما فيه للحظات قبل أن يمد يده ويلتقط لقمة أولى تبعتها تانية فثالثة وأخرى ثم أخرى حتى أتى على آخر ما فيه مع نزول آخر دمعة أبية سقطت من عينه عزيزة تعلن عن جفاف آبارها السخية.
***
(مساءً)

تتوهج العيون البريئة بانعكاس النار المشتعلة في قعر وعاء حديدي قديم قبل أن يتراقص البؤبؤ فيها في تناغم مع تحركات الجسد الأنثوي بعباءته السوداء حول النار، تتمتم صاحبته بنبرة غير مفهومة فلا يتناهى إلى أسماعهن الفضولية سوى همهمات غامضة.
- يا زهرة اتقي الله! الفقيه عبد العليم حذرنا مما تقومين به وقال بأنه سحر ...والسحر كُفر!
ألقت زهرة بما كان رهين راحة يدها داخل الوعاء فتتوهج النار بوحشية أشعلت من فتيل الفزع بين قلوب الفتيات الصغيرات اللاتي شهقن مرة واحدة مفغرات أفواههن بترقب وجل.
- كم من مرة سأشرح لك يا جواهر!؟ ما أقوم به ورثته أُمًّا عن جدة، وهو لحماية بناتنا من شياطين الإنس لا علاقة له بالسحر.
ردت عليها زهرة ببرود مغيظ وهي لا تكف عن الدوران حول النار التي بدأت تخبو بشكل عجيب فتزداد الظلمة قتامة وسط ذلك البهو الكبير غير المسقوف، والفارغ سوى من نسوة قدمن ببناتهن الموشكات على البلوغ، وقد حان وقت إخضاعهن للطقوس الخاصة بالمناسبة حسب أعراف غير معروفة الأصل ولا المصدر.
تخصرت جواهر تقول لها بصلابة مستنكرة ما يحدث:
- ومن سيحفظهن من شياطين الجن الذين تستعينين بهم ضد شياطين الإنس؟
استدارت إليها زهرة، ترميها بنظرات جامدة غير خالية من الدهشة الممتزجة بالعبوس الحانق فبسطت جواهر شفتيها ببسمة باردة، ساخرة بينما تستطرد لائمة:
- هل تظنين بأنني لا أعرف عن الطقوس يا زهرة؟ اتقي الله! ما تفعلينه يؤذي الفتيات أكثر مما يحفظهن كما تدّعين، والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.
عضّت زهرة على شفتها السفلى بقوة واقتربت منها بعد أن منحت النسوة اللائي بدا على ملامحهن بعض التراجع والخوف، تجيبها بهتاف زاجر:
- بل اتقي الله أنت يا جواهر! هل نسيت أنك أيضا خضعت لنفس الطقوس؟ ما الذي حفظك غير الحماية أم أنك ستنكرين ما حدث حين حاول عسكري المستعمرين السفلة التهجم عليك في الحقول وأنت صغيرة؟ وحين تقرر زواجك جدتي رحمها الله قامت بطقس الإلغاء كما تقتضي العادة لكل فتاة يوم عرسها، وعشت بطبيعية، ماذا في الأمر إذن؟
ندت عن جواهر بسمة متهكمة بمرارة وهي تجيبها بوجوم:
- ما حدث في الحقول أن رب العالمين مدّني بالقوة وتصديت للرجل الذي كان ثملا، فكان من السهل علي الدفاع عن نفسي بالمعول، وهل نسيت أنتِ ما حدث لصديقتك في ليلة عرسها وجدتك رحمها الله لم تستطع إلغاء الحماية بسبب مرضها؟ هل تستطيعين تحمل ذنب إحدى هؤلاء الفتيات لو حدث لها المثل؟
جزّت على أسنانها غِلا فاض بها من إصرار المرأة أمامها وقد أوشكت على إقناع النسوة بالتراجع، ففكرت قليلا قبل أن تهز كتفيها ببرود تدعيه بينما تعود إلى الحطب المشتعل دون لهب حل محله دخان كثيف مظلم تنبعث منه رائحة منفرة:
- أنت حرة في أمر حفيدتيك إن رفضتِ حمايتهن من شياطين الإنس وقد كثر عددهم في زماننا هذا لكنني سأفعل كل ما بوسعي لحماية حفيداتي كما فعلت مع بناتي وكما فُعِل معي، فلن أغامر بسمعتهن مهما كلفني الأمر وكل واحد حر في نفسه.
وهكذا قامت جواهر تشير إلى حفيدتيها المجاورتين لأمهما المراقبة بسكون قلق، مؤكدة على رفضها قبل أن تستدير مغادرة المكان:
- لا شأن لك بحفيدتيّ.. أحذرك!
وبتجاهل لانصرافها بدأت زهرة في تمتمها الغامضة وهي تلقي بين كل فينة وأخرى بمسحوق ما على الحطب المشتعل إلى أن استدعت حفيدتها:
- تعالي بنيتي حفيظة هيا!
ترددت الفتاة رغم جرأتها المعهودة، تنظر نحو والدتها باستجداء قابلته بحدة رمتها بها وهي تشير لها بالتقدم نحو جدتها ففعلت مرغمة، ومتعثرة بخطواتها.
ابتسمت لها جدتها بتشجيع تم أمسكت بكتفيها بعد أن مالت نحوها تخاطبها بنبرة بين الحزم واللين:
- ستعبرين هذا الوعاء سبع مرات؛ خطوة تم اقفزي خطوة أخرى ثم استدري لتقفزي، وهكذا...فهمتي!
هزت الصغيرة رأسها مرات عدة وهمت بالتنفيذ لكن جدتها أمسكت بها تحذرها بحزم أرعد قلبها وهي تطلق من يدها خيطا تقيس به طولها:
- لا تتوقفي حتى تنتهي...أنا أحذرك!... هيا!
بدأت الصغيرة سباق عبورها على الوعاء متحملة الرائحة المنفرة، وكل مرة تكون فيه فوقه مباشرة تعلو نبرة جدتها بكلمات مبهمة كتعويذة تهمس بها دون توقف.
- توقفي!
هتفت جدتها بحدة أفزعت الجميع في نفس اللحظة التي أغلقت فيه قفلا داخل قبضتها بعنف مصدرا صخباً مزعجا ثم التفتت إلى حفيدتها ترمقها بعبوس:
- لقد أتممتِ السبعة، هيا قفي جانب الوعاء!
أطاعتها الصغيرة مستسلمة لما تفعله بها وهمهمتها لا تنقطع بينما كل حين تلمس بأصابعها الممسكة لصرة صغيرة أطراف جسدها.
شعرت حفيظة بقشعريرة نشرت الرعشة عبر أوردتها حتى شهقت برعب وهي تكاد تقسم بأن هناك من ضمها بسرعة كما تركها ونغزة قوية تعبر تحت بطنها فرفعت وجهها الشاحب نحو جدتها التي تبسمت لها بظفر قبل أن تشير إلى مكانها لتعود أدراجها:
- انتهينا! عودي مكانك، ولتأتي التالية.
عادت حفيظة إلى مكانها ترتعش خوفا وجلست بصمت تراقب الباقي من الفتيات، كل واحدة منهن تمر بنفس الطقوس وتعود بنفس الوجه الشاحب.
- هل انتهينا؟
هتفت زهرة وهي تتلفت بين النسوة بتفقد ثم همت بإطفاء الحطب الذي ما يزال يشتعل دون لهيب ينبعث منه دخان أسود وكثيف.
- ليس بعد يا خالة زهرة!
قطبت زهرة جبينها ناظرة إلى القادمة نحوها تصحب معها فتاتين باستغراب بينما تستفسر منها:
- ألم تسمعي والدتك يا عناية؟
لاح الاضطراب على وجهها وهي تجيبها بقلق وتردد:
- أعلم يا خالة لكن أنا أخشى على بناتي، وكما ترين جميع فتيات البلدة قمن بالطقوس، لا أستطيع تحمل النتائج لو حدث مكروه لهما لا سمح الله.
فكرت زهرة قليلا ثم هزت كتفيها باستخفاف، مشيرة نحو الوعاء:
- أنت والدتهما، وأحق باتخاذ القرار في ما يخصهما، هيا يا تقوى تقدمي! أما صفاء فما تزال صغيرة، السنة القادمة نحصنها.
أمسكت تقوى بكف والدتها ترجوها بنظراتها اللامعة خوفا، لكن والدتها نزعت كفها بقوة ودفعت بها بروية وهي ترمقها بتشجيع بينما تهمس لها:
- لا تخافي! أنت قوية... هيا!
وهكذا استسلمت الصغيرة لقدرها غير أنها بدلا من أن تشعر بالقشعريرة كبقية الفتيات في نهاية الطقوس ارتد جسدها وكأن من لمسها لم يطق ذلك وكانت على وشك الوقوع على ظهرها حين تلقفتها الجدة زهرة، تتأملها بعدم رضا كما همست:
- جواهر يا جواهر... ممممم!
أصدرت صوتا من بين شفتيها تعبر به عن سخطها ثم أوقفت الفتاة على رجليها تدفع بها نحو والدتها وهي تكمل بامتعاض:
- سيظل بعيدا مهما فعلت إن لم تتوقف جواهر عما تفعله.
***

noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 21-11-24 الساعة 08:44 AM
**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 28-08-19, 10:27 PM   #64

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,611
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

يتبع الفصل الأول....


**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 28-08-19, 10:40 PM   #65

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,611
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الأول
ازرع شجرة التقوى يأتيك المخرج، ويثمر مخرجك، ولا تسأل عن المخرج وأنت لم تزرع...الدكتور عمر عبد الكافي.

(بين الماضي والحاضر)

انتفضت أطرافه وكأن دوي الرعد ينبثق من صميم قلبه فشتم بخفوت ضعفه وجبنه. تلفت ناظرا حوله والبيوت هناك تبدوا له بعيدة، فتهتز جنبات صدره برعب لكنه مصر على نيته وسيكمل ما قدِم من أجله.
أدار رأسه نحو الحقول التي اسود خضارها الشديد بفعل أمطار الصيف المفاجئة الجارفة، ورفع كفه يمسح عن وجهه البلل ليعود إلى النظر قبالته بتصميم حتى توقفت قدماه أمام بناء متهالك بجدران من الحجر الأحمر مستقرا على أعلى قمة إحدى التلال المجاورة لبلدته. كان الظلام ينشر ظلال عتمته حوله وقلبه النافر يكاد يقفز من مكانه تعبا ورعبا لكن شيئا ما يدفع به ليدخل إلى ذاك المكان، كوابيسه لا تفارقه وكل ما هو يقين منه أن غايته تكمن داخل هذه الأحجار وسيجدها، ربما حينها قد تحتل الشجاعة أنفاسه اللاهثة ويتخلص من ضعفه الذي لا يكف أقرانه بالتنمر به عليه.
تقدم بتردد والنزاع بين عقله وشيء ما غامض يشتد، يتراجع فيندفع وكأن هناك ما يمنحه دفعة خلف ظهره!
وكأن أذناه تظفران بوسوسة خافتة، أنه المنشود! أنه المعني!
وأخيرا عبَر مدخلا لم يلمح له بابا إلا حين أُغِلِق بقوة وازت قوة الرعد وضوء البرق الذي سطع للحظة وجيزة فانتفض مجددًا يشهق بحدة، واستدار يقرر الفرار شاتما غباءه وحمقه اللذان أحضراه إلى هناك وفي ذلك الوقت حين بدأ الليل يبسط ستاره المظلم على الأرض وما عليها.
- على رسلك، إلى أين؟
حسنا هو أغبى خلق الله بتصرفه الأرعن هذا وسيُقبِّل كفي والده، مُصدقا نظرته نحوه!
تجمدت قدماه وكله يرتعش بشكل حرفي، يكاد يبلل سرواله الجديد الذي حصل عليه بعناد مع والده الرافض لأي مظهر من مظاهر ما يطلقون عليه التحضر، غير قادر على استيعاب علاقة الأقمشة وكيفية تفصليها بما كسروا به رأسه من حديث كثير فارغ حول لعنة التحضر لكن من هو كي ينجح بقلب قناعة والده الراسخة! بل كيف يوصل لرأسه العنيد أن كل غايته تكمن في مواكبة الموضة وإغراء بعض فتيات المدينة حين يتسلل إليها بين الفينة والأخرى لا أكثر ولا أقل!
- م.....من...ه...ناك؟... م...ن ...أنت؟
تأتأ وسط الظلام الدامس، قلبه ينخلع من مكانه نابضا برعب بينما عقله يتساءل بغباء، كيف انتهى به المطاف هنا عالقا بين جدران من الحجر في مكان مهجور؟
كيف استجاب لوساوسه النابعة من أحاديث أصدقائه الشيقة والمثيرة عن المكان الغامض وساكنه الوحيد الذي لا يراه أحد خارجه؟
كيف هاود أفكاره حول التحدي الذي نشأ كخاطر تحول رويدا رويدا إلى هوس بأن يستكشف ويكتسب رداء الشجعان؟
وكيف تحول هوسه إلى كوابيس تدفعه دفعا لزيارة المكان؟
وها هو هنا يقف على قدميه المرتعشتين، يلهث من فرط فزعه الناضح من مقلتيه الجاحظتين بهلع!
- أنت تعلم من نحن!
بنظرات تائهة بين أمواج الظلام الدامس، تحرك لسانه يردد بنفس الصوت المتقطع بتوتر:
- أن...ن...تم؟
اختفى الصوت ولا يسمع سوى صوت المطر القوي، زخات صيفية تتلاطم بعشوائية تزداد حدتها كلما احتد دوي الرعد يهز الأرجاء:
- م....ن....أنتم؟.... وم...اذا....تريدون مني؟
تنهد بعمق يخرج أنفاسا ساخنة وهو يمسك ببطنه من شدة الوجع، دموعه تقفز من عينيه قفزا فلا يشعر بها تسيل على وجنتيه فهي آخر همه في تلك اللحظات الصعبة:
- أنت من يريد، فتقدم وأكمل ما جئت من أجله.
صدحت النبرة الحادة من جديد وقد بلغ منه الفزع مبلغه فلم يعد يجفل متوقعا لحركة غدر قاتلة في أي لحظة، يقول بعد أن بلع ريقه الجاف:
- أشعلوا الضوء لنتحدث! أنا لا أرى أمامي.
هزت الضحكات الخشنة جدران المكان فانكمش على جسده النحيل، يتراجع بروية باحثا عن حد يلصق به ظهره فيجمع بعضا من شتات نفسه:
- لن ترانا، وسنضيئ لك المكان لكن بعد أن نتفق.
رفع رأسه ضائع السعي والتفكير لا يبصر سوى الظلام الحالك.
- ماذا؟ ألا تريد أن نتفق؟ أليس هذا ما سعيت إليه؟ ألست تبحث عن عمك؟
قطب جبينه في جنح العتمة هاتفا بخوف وريبة:
- ع...مي... هل تعرف أين عمي؟
- طبعا نعرف وإن اتفقنا تستطيع رؤيته الليلة.
بلع ريقه مجددًا، يقول بتزعزع وركبتاه تخونانه فيتمسك بالجدار الذي وجده أخيراً:
- عم...ي... يقولون بأنه مات.
علت الضحكة الصاخبة قبل أن يقول بنبرة ماكرة:
- لم يكن قبل اليوم لذا جئت أنت، وستراه إن اتفقنا.
- ك...كيف ...أراه وهو ....هو...
ضحك الصوت مجددًا بصخب صاعق يوازي دوي الرعد الذي يأبى التراجع هو الآخر وكأنه يحذره من مغبة ما هو مقدم عليه قبل أن يستطرد الصوت بازدراء واضح:
- لماذا يا ابن آدم؟ هل تخشى الموت؟ أنت جبان ونحن نستطيع مساعدتك.
شُل لسانه ولم يستطع التحدث بعد ذلك، مستسلما لقدره مهما بلغت بشاعته فقط ينتظر الطعن أو الخنق في أي لحظة.
- ألا تريد المساعدة أم تريد البقاء جبانا طوال حياتك؟
انحنى يبحث عن أنفاسه الضائعة، عقله متوقف عن التفكير وجسده تنمل كليا.
- تحدث يا ابن آدم؟
ارتفع رأسه استجابة للأمر الحاد وقال بتقطع فزع:
- كما تشاء.... فقط ...لا تقتلني!
ضحك من جديد قبل أن يجيبه بنفس الازدراء والاستحقار:
- جبان يا ابن آدم ... جبان! لن أقتلك لو اتفقنا بل ستنال أمنيتك.
ازدرد ريقة واعتدل دون أن يكف عن الارتعاش وهو يحاول نطق الحروف بشكل سليم:
- دعني اذهب إذن!
- لا!!!
صرخ الصوت حتى ظن بأنه الرعد وليس هو لولا استدراكه الغاضب:
- كف عن غبائك وانصت إلي إذا أردت الخروج من هنا الليلة!
ربت على جانبيه يمد نفسه بالقوة وسأله متأملا في إنهاء الأمر أي كان نوعه:
- م... ماذا تريد مني!
- أخبرتك نحن لا نريد منك أنت من يريد! ولكي تنال ما تريده يجب أن نتفق.
مسح على وجهه مرات عدة ورغبته في قضاء حاجته تلح عليه فجمع بين ساقيه يشد عليهما بقوة بينما يستفسر بنبرة مرتعشة:
- وكيف نتفق؟
- جيد!.. ها أنت بدأت تستعمل عقلك.
فجأة انبثقت نار من فراغ أمامه لتنير المكان حوله فلاحظ ضيق الغرفة المليئة بأشياء كثيرة لا يستوعب منها أي شيء بسبب رعبه وارتعاشه وكذا انشغاله برغبته الملحة بقضاء حاجته:
- تقدم نحو النار هيا!
- ماذا؟!
هتف برعب، ومقلتاه توشكان على القفز من محجريهما فهتف الصوت بحدة:
- تقدم واسجد للنار ...حالا!
تساءل عن غباء ما طُلب منه لكنه تقدم وأطاعه ينشد الفكاك من وضعه بأي طريقة كانت وحين يفلح في ذلك سيفكر في كل شيء بعدها وبروية:
- جيد! أنظر إلى شمالك.
التفت فلمح كتابا ما، تفقده فأدرك ماهيته ثم رفع رأسه متسائلاً بريبة، فلا شيء يظهر له في المكان الضيق سوى ظلال النيران المنعكسة على كل ما في تلك الغرفة القذرة:
- ماذا يفعل هذا هنا؟
ساد الصمت قليلا قبل أن يصدح بطلبه البشع منه بعد ذلك فانتفض من مكانه والدماء تنسحب كليا من وجهه هاتفا بفزع:
- ما....ذا...؟.... مم... كيف؟
- كما سمعت، وإن لم تفعل ذلك لن تخرج من هنا! أنت أتيت إلينا بقدميك فتحمل نتيجة اختياراتك، ولو لم تكن مستعدا لكل مطالبنا لما أتيت إلينا يا ابن آدم!
لو كان في قلبه ذرة شك نحو ظنونه فقد محيت في التو واللحظة وكل ما حدث معه لأيام بل شهور يعود عليه بذكرى ما كان يسعى إليه معتبرا إياه لهو وتجارب غير مدرك للهو متى تحول لهوس والتجاربُ لمطالب حقيقية، وها هو يقف على حافة الطريق وعليه الاختيار، هل يستسلم لمخاوفه والخروج من هناك سالما محال! أم يستسلم لرغباته وأطماعه وإن لم يربح شيئا سوى النجاة بنفسه، سيكون ربحا له بحد ذاته!
- أطعني يا ابن آدم ولا تتلكأ بعد الليلة!
بلل شفتيه الجافتين تحاكيان ببياضهما شحوب وجهه النحيف، وبملامح مكفهرة رفع الكتاب أمامه وشرع ينفذ ما طُلِب منه وكل ذرة من كيانه تصرخ به مستهجنة ومستنكرة قبل أن تخبو وتسكن رويدا رويدا إلى أن اختفت يطغى عليها الهوى باستبداده وجبروته في بسط سلطانه:
- الآن اتفقنا يا ابن آدم، وما زال أمامك الطريق طويل، وسنكتفي بهذا الليلة، قم لترى عمك ثم ارحل وعد غدا في مثل هذا الوقت واستعد لتقيم هنا أربعين يوما بلياليهم.
- أربعين يوما؟
ردد ببلاهة وكل فكره يحوم حول رد فعل والده لو اختفى نصف المدة فقط:
- ستعود! رغما عنك ستعود، قدماك ستُحضرانك إلى هنا كما أحضرتاك الليلة وستمكث أربعين ليلة أم أنك لا تريد المساعدة؟
تنفس بعمق وهز رأسه بلا معنى، ليشعر بشيء ما يلمس قدمه فيطرق برأسه مسرعا بينما يعود للخلف خطوة سريعة ثم انحنى مضيقا عينيه قبل أن تجحظا مجددًا، ولهث بفزع من مرأى جثة عمه تغطيها زرقة داكنة، تشبه مومياء امتصت منه الحياة إلى آخر رمق ولأول مرة يلاحظ نتانة المكان فرفع كفه يغطي بها أنفه، يفكر في أن الرعب حجب عنه أي حس للملاحظة، فأي سبب آخر يمنعه عن الشعور بالقذارة حوله والرائحة النتنة غير المحتملة بالمرة!
- ارحل وانس أنك رأيته وعد في الغد...ارحل!
تأمل جثة عمه بقلة حيلة وحسرة حين انتفض جسده مع انفتاح الباب وعبور الرياح المحملة بنسائم الصيف المختلطة بعبير المطر فقرر إطلاق الريح لساقيه كما أطلقها لحاجته وقد نفذ صبره بإمساك لجامها...*ومهما ابتعد فقد وقع في الفخ الذي حفره لنفسه بعون شيطانه وإن كان الغيث أشد بساطة من عُقد أفكاره الشعواء*
***
(الحاضر)
(المطار الدولي للمدينة السياحية)
ربت جهاد على بطن صديقه الذي رمقه بعبوس ونفض عنه ذراعه بحنق، فشاكسه الأول متهكما بتسلية:
- عشت حتى رأيت بطن القعقاع المسطحة تتحول إلى كرش، يجب أن أحذر شقيقتي قبل أن تحولك إلى كائن ممتلئ.
التفت إليه المعني يرد عليه بامتعاض والعبوس يعلو وجهه بعد أن ابتعد عنه خطوة وسط البهو الشاسع المخصص للاستقبال في المطار:
- قل أعوذ برب الفلق من شر ما خلق.
ضحك جهاد ببهجة خالصة فتدخل إسحاق قائلا لهما بامتعاض:
- ما الذي أحضركما معي؟
فهتف القعقاع برد سمج فوري:
- لأنك صهري؟
وقال له جهاد بنفس السماجة المزعومة مُسدلا جفنيه بمرح، وهو يشير بسبابته نحو القعقاع:
- وهو صهري!
تأملهما إسحاق بقلة حيلة مزعومة قبل أن يتنهد بيأس من صديقيه يشعر بهما كأخويه وعلاقته بهما تتوطد أكثر مع مرور الوقت:
- أنا لا أفهم سر مرافقتكما لي إلى حد الآن لكن لي رجاء واحد، لا تفضحاني أمام ابن عمي.
مط القعقاع شفتيه وهو يعدل من سترته الزرقاء كلون سرواله بينما يمنحه رده العابس:
- هذا ما كنت أخشاه، أن تخجل بنا أمام القادمين، ومن يدري كيف هم القادمون؟
رفع إسحاق حاجبه يجيبه بترقب وريبة:
- لقد أخبرتك بهوية القادم؟ ابن عمي يوسف.
هز القعقاع كتفيه تجاهلا ثم قال له تحت أنظار جهاد المرحة:
- لست متأكدا من أنه قادم لحاله أو برفقةٍ أنثويةٍ غير مستورة تُقبِّل وجنات الرجال كتحية وتلتصق بهم كأصدقاء.
تخصر إسحاق هاتفا بذهول:
- أنت هنا لتراقب تصرفاتي!
عاد القعقاع لهز كتفيه بينما يرد عليه ببساطة مغيظة:
- أنا هنا لحماية مصالح أختي العزيزة.
احتقن وجه إسحاق بينما يضغط على شفتيه بقوة وجهاد يكاد ينفجر ضاحكا، فهز الأول رأسه بحنق يتوعد زوجته من بين فكيه المطبقين:
- لي حوار خاص مع زوجتي حين أعود إلى البيت.
- لا تتعب نفسك فلقد أتيت بقرار من عقلي ولا تعلم شيئا، فالعنقاء فتاة ساذجة منبهرة بالحريات الشخصية واحترام الذات اللذين تُعلمهما إياها، جاهلة بأن خلف كل واجهة تحضُّر تكمن فطرة خلقها الله في الرجال، وهي الانجذاب إلى الجنس الناعم، وكلما كان ناعما وكاشفا لستره تزايدت قوة الفتنة.
قفز حاجبا إسحاق بصدمة في نفس اللحظة التي انفجر فيها جهاد ضاحكا غير قادر على ضبط لجام نفسه.
- أنت ... أنت!
نطق إسحاق بحنق وهو يشير إليه بتهديد صريح قبل أن يقاطعهم شاب يكبرهما بعامين تقريبا بنبرة رزينة ولطيفة:
- إسحاق... السلام عليكم.
استدار إليه إسحاق وبسمة واسعة تحتل شفتيه وخطا نحوه تاركا خلفه صديقيه يحدقان بالشاب يفتحان فميهما بذهول:
- مرحبا بابن العم، اشتقت إليك كثيرا.
ضمه بحرارة كما بادلها إياه مبتسما بتأثر بينما يربت على ظهره:
- وأنا أيضا يا إسحاق، اشتقت إليك وإلى الوطن ومن على أرض الوطن.
أبعده إسحاق قليلا دون أن يطلق سراحه، يتمعن في تفاصيله التي سبحان من سواها تجذب كل عين إلى تأملها، حاجباه أسودان وكثان مرسومان بدقة إلهية وسط وجه مستدير أبيض، أدعج العينين برموش كثيفة سوداء وأنف متناسق مع شكل الوجه كما هو حال ثغره بشفتين حمراوين خلقة، حولهما لحية سوداء مشذبه بعناية:
- أهلا وسهلا بك، كيف حالك؟
رفع يوسف كفه ليزيح بها خصلاته السوداء الحريرية عن جبينه بينما يرد عليه بخجل يكتنفه كلما بادل الحديث مع شخص فيزيده بهاء يثير الغبطة في صدر من ينظر إليه:
- الحمد لله بخير، وأنت؟ مبارك عليك زواجك بالمناسبة.
كان إسحاق قد أرخى ذراعيه عنه، يديره نحو صديقيه الفاغرين لثغريهما، ونظراتهما المسلطة على يوسف تتلألأ بتعبير مضحك:
- بارك الله فيك، تعال لأعرفك على صديقاي هذا جهاد وهذا القعقاع.
تنحنح جهاد مستدركا نفسه واستجاب مُحرَجا من سهوه في تفاصيل الشاب لكفه المبسوطة نحوه يحيه بارتباك مضحك:
- مرحبا... حمدا لله على سلامتك.
هز يوسف رأسه شاكراً يبتسم بحياء رجولي لا يفارقه رغم تعوده على المواقف المشابهة ثم التفت إلى القعقاع الذي لم يبد لهم بأنه سيفيق من فجأته في أي لحظة قريبة فما كان من جهاد سوى أن لكزه في جانبه، وإسحاق يرمقهم بمرح وتشفي:
- أ...هلا... حممم... أقصد... حمد لله على سلامتك..
صافحه يوسف باسما بمودة قبل أن يعود إلى ابن عمه، يحدثه وهو يجر خلفه حقيبته:
- كيف حال العائلة؟ اشتقت إليهم جميعهم.
اقترب منه إسحاق ليجاوره في المشي نحو السيارة بينما يجيبه بلطف:
- جميعهم في انتظارك على الغداء.
ثم ما لبث أن تحولت نظراته إلى ريبة وحيرة، تابع بهما حديثه:
- كما أنهم حيارى حيال مجيئك المفاجئ، ومجيئ والدتك مع شقيقتيك قبلك ودون أن يزرن بيتنا لنقوم بواجب ضيافتهن وإيصالهن إلى البلدة.
رمقه يوسف باعتذار واضح مع عدم استساغة عكستها قسماته الشفافة فالتفت إليه إسحاق مضيفا ببعض الإحراج:
- لا تسئ فهمي يا يوسف، أنا لا أحاول التدخل في شؤونكم... لكننا جميعنا شعرنا بوجود خطب ما ولقد اتصل أبي بعمي فعلا لكنه لم يخبره بأي شيء غير أن قدومكم تم باتفاقكم نظرا لطول غيابكم عن الوطن، وهو بحكم عمله وانشغاله سيلحق بكم لاحقا.
اكتفى يوسف بهز رأسه قبل أن يجيبه بمرح يتهرب به أدبا من منحه الأجوبة:
- وأنا الذي ظننت بأن استقرارك هنا أثر عليك وأضحيت فضوليا مثل أهالينا.
ضحك إسحاق يجاريه في تهربه من الرد فاستدرك يوسف بامتنان ولباقة:
- لا تقلق يا إسحاق وطمئن عمي والجميع، كل شيء بخير الحمد لله.
كانوا قد وصلوا الى وجهتهم في ساحة صف السيارات حين مال جهاد على أذن القعقاع يهمس له بمرح:
- أغلق فمك يا قعقاع ستفضحنا أمام الرجل ويظن بك السوء.
بلل القعقاع شفتيه حانقا من صدمته، فلم يسبق له في حياته أن رأى رجلا في مثل جمال يوسف، تناسق مبهر وأخاذ بين طول جسده الرشيق وعرض كتفيه الظاهر تحت قمصه الناصع البياض، دون ذكر ملامح وجهه وخصلات شعره الحريرية السوداء، لينطق بقلة حيلة وانبهار أمام إبداع صنعة الخالق:
- سبحان الخالق العظيم.
- ها! ماذا قلت؟
سأله جهاد بينما يخفي بسمته الماكرة فالتفت إليه القعقاع يستطرد بحنق:
- خشينا عليه جنس النساء ولم أحسب حساب جنس الرجال.
اتسعت عينا جهاد بذهول ضاحك لفت انتباه الاثنين جوار صندوق السيارة، فرفع القعقاع كفه يمسد خلف رقبته محرجا.
- تمالك نفسك، ستفضحنا.
همس من بين نواجذه لجهاد الذي حاول قدر المستطاع طاعته، وتقدم نحو السيارة يفتح بابها الخلفي بينما يعتذر لإسحاق وابن عمه:
- أعتذر إليكما لكن القعقاع أحينا يلقي بطرائف قاتلة.
علت البسمة ثغري الشابين تأثرا بمرح اللحظة، يرمقان القعقاع بنظرات انتظار فر منها بركوب السيارة بينما يغمغم باقتضاب:
- يسهل إضحاك جهاد هذا كل ما في الأمر.
هز إسحاق رأسه بيأس ثم أشار لابن عمه ليستقل المقعد الأمامي قبل أن يحتل هو المقعد خلف المقود:
- أعلم بأن بلدة *وادي الحقول* بلدة والدتك لكن أليس العيش فيها صعبا؟ لماذا لم تنزلوا في مدينة الجبل؟ في بيت العائلة أو هنا؟
سأله إسحاق بقلق حقيقي فترك يوسف الحزام بعد أن ثبته مكانه، ليجيبه بسؤال آخر:
- متى آخر عهدك بالبلدة؟
جعد إسحاق ذقنه بعدم يقين بينما يهز رأسه بلا معنى وهو يشعل المحرك فاستطرد يوسف يخبره بلطف ما فاته:
- الوضع تغير هناك كثيرا، سارة ترسل لي الصور كل يوم، واتصالات مرئية...لقد تغيرت البلدة وتطورت بشكل ملاحظ حتى الطريق إليها صارت معبدة جيدا وتستغرق ساعة زمن بالسيارة... كم كان عمرك في آخر زيارة للبدة؟
ضحك إسحاق ورد عليه وعيناه على الطريق أمامه:
- تسع سنوات أظن! على ذِكر سارة كيف حالها تلك المشاكسة؟
- من سارة؟
تفاجآ برأس القعقاع يندس بين مقعديهما فرد عليه إسحاق بانزعاج:
- ابنة عمي، شقيقة يوسف الصغرى!
منح القعقاع نظرة تأمل عابسة بجدية ليوسف ملاحظا احمرارا طفيفا يكسو أعلى وجنتيه استحياء، فعاد بجسده جوار جهاد يهمس له بنفس الانزعاج الممزوج بالذهول:
- إنه يحمر يا أخي! يحمر حياء مثل النساء ولا يزيده ذلك إلا مزيدا من البهاء.
انفجر جهاد ضاحكا مجددًا ملفتا انتباه الاثنين فرفع كفيه استسلاما، ينطق بصعوبة واعتذار بينما يشير إلى القعقاع:
- طرائفه قاتلة!
واستغرق بالضحك فما كان من يوسف وإسحاق سوى التبسم بلطف بينما القعقاع لا يغادره عبوسه المتوجس.
***
(اليوم التالي)
(بلدة وادي الحقول)

تتلاحق كفا محسن ببعضهما تفقدا لهندامه بخفة متمهلة كتمهل خطواته الرتيبة نحو ركنه المفضل في رحبة المسجد...ذاك المكان الذي أخبروه بأنه مبهر، يطل على البلدة بأكملها بحقولها وبيوتها المتفرقة على ضفتي وادي الحقول، فبقدر من الله تأسس المسجد قاطعا عرض الوادي الأخضر والمليء بالزرع من الضفة إلى الأخرى ليظل بفضل من الله صرحا مباركا يصل بين الأرحام وإن أصرت على المقاطعة. جلس هناك مستنشقا برئتيه الهواء العليل يتشربه بقلبه العاشق لبلدته مهما بلغ بها من مكائد وفرقة، يظل وطنه الذي رآه بعين فؤاده واستشعره بخلجات قلبه المرتبطة به منذ أن ولد على أرضها وتربى بين أحجارها وأشجارها ملتحما بجذورها المغروسة في الأعماق. رفع رأسه وكفاه تربتان على طاقيته البيضاء الكاسية لرأسه، قائلاً ببسمته الودية:
- هل هذا أنت يا نبيه؟
لحظات وجيزة شعر محسن بعدها بكف مألوفة تربت على أعلى إحدى ركبتيه ثم ظلت هناك تكرر نفس الأمر كل حين:
- ألم تذهب لعملك اليوم؟
كان يعلم بأن الصمت ما سيلقاه ولكن قلبه دائما ما يستأنس بوجوده جواره فيطلق سراح لسانه متنهداً كل لحظة، لا يُرَوح عن روحه سوى تلك النسمات التي تتكرم بها كثافة الأشجار المحافظة على خضارها القاتم وشموخها رغم ما ألمّ بها من جفاف في السنوات الأخيرة وكأن جذورها التحمت بأصل الأرض وامتدت إلى أعماقها حيث منبع المياه العذبة تستمد منها الحياة، الصمود والمقاومة.
- هل رأيت ما حدث بعد صلاة العشاء أمس؟ حال هذه البلدة يثير شفقة القاصي والداني، وصدق من قال؛ اتفقوا على أن لا يتفقوا، ولا أرى لهم سوى المزيد من التشتت والضعف.
سكت محسن للحظة حين ربتت كف صديقه على ركبته مجددًا فتبسم مستدركا بطرفة وكأن نبيه يقصدها بحركة كفه:
- أنت محق، كيف لي أن أرى؟
كان نبيه هو الآخر مستغرقا بتأمل تعابير المشاعر المتعاقبة على وجه صديقه تزامنا مع تحرك شفتيه وبين الفينة والأخرى يلتفت إلى الإبداع الرباني المتجسد في لوحة طبيعية خلابة تحُث الروح على السكون والقلب على الهدوء؛ أمرٌ يفتقده رغم الهدوء الملتحم بكيانه سوى قلبه الذي لطالما عاش صاخبا متآمرا عليه مع عقله ليثيرا جنونه بأسئلة كثيرة على مر سنوات نشأته، فلا يجد الهدوء المتكامل بين كيانه وأحشائه سوى في هذا الركن حيث تسبح مقلتاه عبر خضارٍ كلما تعمق في تأمله ازداد قتامة وغموضا، كغموض النسيم الساحر المتغلغل داخل حنايا روحه، فيحمد الله ويشكره على نعمته عليه وهو الذي يبصر ما حُرم منه الذي يجاوره، مع أن محسن لا يمنح أحدا شعوراً بكونه يعاني من النقص لفقده بصره أو اعتبارها خسارة كبيرة، فبسمته الدافئة لا تفارق ثغره ولا إقباله على الحياة، يستشعرها نبيه كموجات إيجابية تتوهج منه غير مرئية لكنها ملموسة.
عاد من شروده بتأمل أشجار وادي الحقول إلى وجه صديقه فلمح حركات أضحى متفهما لها كما هو الحال مع أفراد عائلته وبلدته ممن لا يتقنون لغة الإشارة وتنهد بضجر من تذكرهم؛ حقا أهل بلدته يضِلون طريقهم كل يوم أكثر عن الذي قبله، أحيانا يشك في أن جلهم غُشِي على أعينهم وأذانهم مِن شِدة غباء بعضهم وجهل البعض الآخر وتشدُّق الباقي السمج بعِلمٍ يفتقدونه أو فقط لأنهم لا يُخرِسون ألسنتهم الثرثارة ولا يكفون أعينهم عن الفضول القاتل ربما حينها قد تنشط بصيرة قلوبهم كتغيير مثلا!
ربت على ركبة صديقه كتفهُّم ومساندة بما يظهر من خيبة على وجهه إزاء الأمر لكنه لم يفهم سر المرح الذي تشكل على ملامحه فجأة ولم يلتقط معنى حركات شفتيه، فتذكر شيئا ما وحاول لفت انتباهه بربتة أخرى على ركبته أشد وطأة من التي يفعلها برتابة، وحين نجح في ذلك رفع كفيه يشير له بالخبر قبل أن يتذكر بأن صديقه لا يراه فعبس بقلة حيلة، يتأمله بيأس من عدم قدرته على إبلاغه بأبسط الأمور، لطالما كان ذلك ما يثير غيظه منذ الصغر فيحفز قلبه على التمرد مستنكرا كل قناعته بما قُدر له.
- ماذا هناك يا نبيه؟
ردد محسن سؤاله بعد أن تناهى إلى سمعه الحاد محاولات من طرف صديقه ليخبره بشيء ما على غير عادته الهادئة الساكنة، فتخرج محاولاته من حلقه كأنين متقطع غير واضح.
ضم محسن شفتيه أمام صمت الآخر مستشعرا استرخاء يده على ركبته كعلامة على استسلامه فتجاهل ذلك الشعور بالحزن والشفقة سواء نحوه أو نحو نفسه وضحك بخفة بينما يرفع كفيه؛ واحدة ليقبض بها على يده التي على ركبته والأخرى على جانب وجهه، قائلاً له بحماس:
- لنلعب لعبتنا المفضلة في صغرنا..
قطب نبيه جبينه للحظات قبل أن يهز رأسه موافقا لمعنى حركات شفتيه، يتبسم بظفر ممتزج بمرح غريب عن وجهه الذي انفرج بحنين دافئ لذكريات الماضي.
- جيد إذن، سأتحدث بروية وأنت حرك وجهك موافقا أو رافضا...اتفقنا!
أومأ له وبسمته تتعمق بطريقة فقدها قبل وقت طويل فاستدرك محسن هو الآخر بمرح غمر قلبه الطيب:
- تريد إخباري بشيء ما ...صحيح؟
هزة أخرى موافقة من رأس نبيه، تلاه أول اختيارات محسن بعد تفكير وجيز:
- هل هو عن شجار الرجال بعد صلاة العشاء أمس؟
حرك نبيه رأسه بعبوس رافض فاستدرك محسن بريبة حذرة وعيناه ترتفعان إلى الأعلى كل حين كما تنزلان أو تدوران في محجريهما بغير ثبات:
- هل هو عن موضوع بيع الحقول؟
رغما عنه كشرت ملامحه بغضب لحظي، يومئ له بسلب حاد فترك محسن يده ليربت على صدره مهدئا بينما يدير جسده بالكامل مقابلا إياه في جلوسهما على حافة السور القصير المحيط برحبة المسجد:
- حسنا اهدأ!
هدأ نبيه بسرعة كما تحفز غضبه وهو يتابع تحرك شفتي صديقه التي انبسطت بطريقة ظريفة:
- عن ماذا إذن؟.... أها! لا تقل بأن الموضوع عن الجدة زهرة؟... يا إلهي! هل ضاعت أم اتهمت أحدا بالسرقة مجددا؟
انقطع سيل كلماته المتعاقبة بقلق يستغفر الله رغم المرح الذي غلب على نبرته حين هز نبيه رأسه مرات عدة بسلب وفمه مفتوح بضحكة رائقة تزوره نادرا مسترجعا موقفا للعجوز لا يستطيع نسيانه أبدا ولا تمالك نفسه من الضحك حين يتذكره، خصوصا إن كان لحاله أو مع محسن، فضم الأخير شفتيه مفكرا بحيرة استولت على ملامحه السّمحة وكفه التي كانت على صدر صديقه ارتفعت لتمسد على لحيته الطويلة متسائلا بقلة حيلة:
- أعطني لمحة يا نبيه، لقد عجزت...
بلل المعني شفتيه مفكرا للحظة قبل أن يسحب كف محسن ليرسم على راحته دائرة وهمية ثم ضمها ليعُدَّ بها أصابع كفه هو:
- الحلقة؟
هتف محسن بذهول تبسّم له نبيه بظفر يومئ له بإيجاب مرات عدة متأثرا بصديقه الذي لا ينسى أي شيء جمعه به منذ الصغر، فقد كان يعُدُّ له الحاضرين من أعضاء حلقتهم الخاصة في رحبة المسجد لتحفيظ القرآن، ليمتد الأمر إلى تعبير مفهوم بينهما يخبر به نبيه محسن عن الحاضرين من أصدقائهما في اللعب أو أي مكان آخر:
- ماذا بهم؟ أخبرني!
تشكلت البلادة على وجه نبيه المليء بالنمش البني المائل لحمرة أقل وهجا من حمرة خصلات لحيته وشعره القصيرة، فكيف يحدد هوية المقصود بينهم؟ تفهم محسن صمته فحاول مجددًا:
- من تقصد يا نبيه؟... فواز؟
هز نبيه رأسه بلا بينما كف محسن لا تغادر جانب وجهه مستشعرا رده الرافض، فسأله بوجوم تلونت به ملامحه:
- بهيج؟
عاد لهز رأسه بنفي فتنهد محسن وهو يكمل بنفس الوجوم:
- مؤنس؟
ضم محسن شفتيه وهو يستدرك بعد نفي الآخر السريع:
- إذن ابن عمه!
نفيٌ جديد من نبيه دفع به ليعبس بحيرة متسائلاً بقلة حيلة:
- من إذن؟
استنكر نبيه نسيان محسن لصديقهم السابع رغم منحه العذر، فهو منقطع عن زيارة البلدة لسنوات طويلة لكن أنّى لهم أن ينسوه؟! ودون تردد سحب كف صديقه يعد على أصابعها كعهد الصبا فيردد معه محسن بحنين وشوق أضناه، أضفى عليه مشاكسة فريدة أعادت ملامحه أقرب إلى ذاك الصبي المرح الذي لم يلجم من جموح انطلاقه نحو الحياة أي فقد:
- أنا، أنت، بهيج، فواز، مؤنس، ابن عمه، و...
تلكأ مفغرا شفتيه بعدم تصديق للحظة قبل أن ينطق بحذر:
- يوسف!؟
هز نبيه رأسه مرات عدة والبسمة لا تفارق ثغره بغرابة فلا أحد عهد منه البسمة أو الانشراح بينما كفاه تطلقان سراح يد محسن لتشد إحداهما على كفه جانب وجهه فيشعره برده المتكرر بإصرار:
- لا أصدق .. يوسف آل عيسى عاد إلى هنا؟
ما يزال نبيه يهز رأسه دون توقف ومحسن ينتفض واقفا فنهض خلفه متتبعا شفتيه تتحركان بحديث آخر:
- هل أنت متأكد يا نبيه؟
بسط يديه باحثا عن صديقه الذي اقترب منه ليمسك بهما قبل أن يوصل احداهما مجددًا إلى جانب وجهه فيؤكد له صحة الخبر.
- هل رأيته؟
سأله محسن بلهفة رد عليها بنفي سريع ضاغطا على شفتيه بشدة، فهو لا يدري كيف يشرح له من أين علم بخبر مقدم صديقهم الذي للآن هو الآخر غير مصدق له!
- لكن أين هو؟ كيف لم يأتي إلى هنا أولا؟ يجب أن نبحث عنه؟
استدار محسن يهم بالمغادرة فأمسك به نبيه مشيرا له بعصبية، وقد نسي تماما بأن صديقه لا يرى حركاته، يصارع الهواء ليشكل حروفا قهرت قلبه بطعنة أليمة.
- لماذا سيأتي يوسف إلى هنا أولا؟ هل تظنه على عهده القديم؟ لابد من أنه تغير كما تغيرنا نحن أيضا...
- ماذا تقول يا نبيه؟ ولماذا تمسك بي؟ لابد أن نبحث عن يوسف؟ قد يظن بأن لا أحد منا هنا ويغادر، وقد يسافر مجددًا دون أن نقابله ونكلمه.
تنهد نبيه بحزن وأطلق سراح جسده ناظراً إليه بقلة حيلة بائسة فاستدرك الأخير بحيرة وكأنه شعر بظن صديقه الحزين:
- هل تظن بأن يوسف قد لا يأتي هنا كعهده في صغره؟ لقد كان المسجد دائما محطته الأولى قبل بيت أهله، فهل ما يزال كذلك؟
- أجل... ما يزال كذلك...ولا زال إن شاء الله.
انتفض محسن مستديرا يمينه كما فعل نبيه مستشعرا وجود شخص ما لمحه وتعرف عليه بقلبه قبل عينيه كما فعل من ينظر هو الآخر بعين قلبه لا مقلتيه، يهتف بتقرير لا تساؤل والذهول لا يغادر ملامحه السمحة:
- يوسف آل عيسى...هذا أنت يا يوسف!
كان قد اقترب منهما وأمسك بكفيه، يجيبه بسرور انبثق من صميم قلبه ليرسو على سطح ملامحه ذوات الحسن الفريد من نوعه:
- هذا أنا يا محسن أم هل أقول الفقيه محسن؟! عرفت أنك إمام المسجد مكان الفقيه عبد العليم.
لم يرد عليه محسن والتفت إلى نبيه يشير إليه وكأنه يراه، يخبره بيقين شعوره وصدق إحساسه:
- أخبرتك بأنه سيأتي إلى هنا أولا؟ هل رأيت يا نبيه؟ هذا يوسف كما هو! المسجد أول محطاته قبل حتى بيت أهله.
ثم عاد ليبحث عن وجه يوسف الذي استجاب له وقد لمعت مقلتاه بدمع صاحبه كبرياء شامخ بينما محسن يضيف بعدم تصديق وهو يضم وجه صديقه:
- يا إلهي الرحيم! إنه أنت بالفعل...
ضحك يوسف مبتهجا وقبض على أعلى ذراعي محسن، يجيبه بحنو قبل أن يلتفت إلى نبيه الساكن مكانه كتمثال شمع شاحب:
- اشتقت إليك يا محسن بل اشتقت إليكم جميعا، نبيه تعال إلى هنا!
بسط ذراعه باتجاه نبيه الذي حول مقلتيه المحدقتين إلى يده المنبسطة نحوه غير قادر على الاتيان بخطوة واحدة فحثه مجددًا وبلغة الإشارة:
- هيا يا نبيه... اقترب!
عند حركة الإشارة تذكر نبيه كل ما جمعهما واقترب منه منجذبا لثاني شخص تعلم وبذل مجهودا من أجله هو فقط لكونه نبيه، صديقه الذي يهمه أمره. ضمهما يوسف بود ومحبة يحمد الله على نعمه عليه قبل أن يبتعد عنهم قليلا ليسألهما بلهفة وبهجة لا تغادره:
- أين البقية؟ اشتقت إليهم كثيرا، هل سيحضرون إلى صلاة الظهر فننتظرهم؟
كان يتحدث ويترجم بالإشارة في نفس اللحظة والوجوم يطغى على ملامح صديقيه:
- ما بكما؟ هل أصيب أحدهم بمكروه؟
تراجع نبيه خطوة ومسح على أرنبة أنفه بإبهامه فتبسم يوسف مشيرا إلى حركته بتعقيبه المرح:
- أنت متوتر وتتهرب من الرد... ما الذي يحدث هنا؟
تدخل محسن بعد أن عزم وقرر، يمسك بكف يوسف ساحبا إياه نحو باب المسجد الكبير المتوسط لسور الرحبة، قائلا له ببسمة مرحة مماثلة:
- هيا بنا، أقسم بربي الرحيم أن ألف بك عليهم واحدا واحدا، أجبر نبيه على مرافقتنا ولا تحمل هما... هيا!
توقف أمام المدخل منتظرا فاستدار يوسف وأشار لنبيه لكي يرافقهما لكن الأخير رفض فرسم يوسف على وجهه أكثر التعابير إثارة للشفقة عن التوسل والحزن من نيته بالتخلف عنهما مسرا في قلبه غِبطة وحنين لطفولتهم، فزفر نبيه بتهكم مشيرا له بحنق تجعد له جانب أنفه بشاربه الأحمر:
- كم أنت محتال...
كوم يوسف ملامحه بتعمد مرح وهو يرد عليه بإشارات من يده جعلت الآخر يستسلم وينضم إليهما:
- دائما ما ينجح الأمر معك، فلا تلمني على استغلال الأمر.
توسط يوسف صديقيه يتأبط ذراع محسن بينما نبيه يجاورهما مستغرقا في منحه ردودا لأسئلته المتدفقة بلهفة ملفتة، دون أن يلجم مقلتيه عن تفحص الأزقة باستغراب من التطورات الطارئة على البلدة بأكملها رغم ما منحته شقيقته من معلومات مسبقة حول الأمر.
- وهكذا بفضل الله تخرجت وأعمل حاليا في إحدى المدارس التابعة للحكومة المتخصصة بذوي الاحتياجات الخاصة قسم الصم والبكم...الطريق أصبحت معبدة جيدا، وتستغرق المسافة من هنا إلى المدينة ساعة بالحافلة، الحمد لله.
- لماذا لم تستقر في المدينة إذن؟
سأله يوسف، متجاهلا نظرات الناس المتلصصة وبعضهم يقف ليتفحصه ثم يحييه أو يحدق به بدهشة أو تفحص حتى يتجاوزوه:
- لا أريد! المعيشة في المدينة غالية جدا وطعامها ليس جيدا، هنا المعيشة أفضل رغم جفاف الأمطار وجفاء العباد لكن أفضل والحمد لله.
هز يوسف رأسه بتفهم رغم عدم فهمه لكل ما يقصده، متأملا هندامه المتغير من جلابيب عادية في صغرهم إلى ملابس رسمية، سروال من الكتان الناعم بني غامق تماما كلون السترة من نوع الكشمير، أسفلها قميص بني اللون.
لم يسبق له رؤية أصدقائه في صغرهم سوى بجلابيب متنوعة؛ طويلة، قصيرة، مختلفة الألوان والخامات، ربما ذلك راجع لكون زياراته لبلدته دائما منحصرة بالعطل فيقضي معهم أغلب أوقاتهم داخل رحبة المسجد.
تدخل محسن يقول له حين شعر بسكون أطراف الأول عن الحركة:
- نسيت سؤالك عن أهلك، أعذر فرحتي بمقدمك، كيف حالهم؟
ربت يوسف على ذراعه وقد انعطفوا تاركين الأزقة المعبدة ببلاط حجري نحو شارع واسع معبد بالأسفلت على كلا جانبيه محلات تجارية كثيرة:
- بخير يا محسن الحمد لله، ألا تعرف أن والدتي وشقيقتي سبقتاني بالقدوم قبل أسبوعين تقريبا؟
ارتفعت مقلتا محسن غير المستقرتين في محجريهما بينما يجيبه بلطف:
- لا يا صديقي لم يكن لدي علم بذلك، حمدا لله على سلامتكم جميعا...أين أنت يا نبيه؟
بسط ذراعه كعادته فأسرع نبيه مستجيبا له يجاوره من الناحية الأخرى وهو يشير ليوسف نحو محل ما، نظر إليه يوسف وقرأ الجملة الوامضة على شاشة العرض الإلكترونية المعلقة أعلى مدخله:
- فواز للعطور والعود والعنبر.
- أجل، إنه فواز.
أكد له محسن وهو يسحبه داخل المحل حيث استقبلتهما رائحة البخور والعود فانشغل يوسف للحظات، بتأمل البضائع المرتبة بشكل مبهر؛ من زجاجات العطر الشفافة بمختلف الأشكال دائرية، مثلثة، مربعة وعلى شكل ساعة رملية، وعلب العود والسُّبح بعقيق الكهرمان اللامع، المعلقة على أركان وزاويا الطبقات الخشبية.
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هتف بها محسن ليلفت نظر من يتأبط ذراعه ولكي يسمع صوت الآخر الذي قدموا من أجله، فجفل يوسف من تفحصه للمكان على صوت محسن ورمش مرتين بحرج وهو يلتفت نحو الرجل الذي وقف هو الآخر مندهشا بعض الشيء...هندامه مشابه لخاصة محسن إلا أن جلبابه بلون أخضر غامق أما الطاقية البيضاء فمشابهة تماما، لحيته متوسطة الطول كخاصة محسن وإن كانت أنعم وأفضل ترتيبا:
- فواز! رائحة جسدك المتفاعلة مع عطرك المفضل يشعرني بوجودك هنا.
استدرك محسن بظرافة فتبسم يوسف بحرج يربت على ذراعه ليحثه على المشي نحو من تجمد مكانه ولا يبدو عليه الاستيعاب بعد:
- هل ما تزال تذكرني يا فواز؟
سأله يوسف بود قابله فواز بتردد، وهو يبسط كفه إليه مجيبا ببعض الارتباك:
- طبعا أذكرك يوسف آل عيسى.
لم يمهله يوسف بينما يسحبه ضاما إياه بخفة، فشعر بتصلب أطراف الآخر للحظة وجيزة قبل أن يتنهد رافعا يديه ليربت بهما على ظهره:
- حمدا لله على سلامتك، متى وصلت؟
عاد يوسف إلى ذراع محسن ليتأبطها بينما يجيبه ببسمة خجولة:
- قبل ساعة تقريبا.
- يوسف كعادته جاء إلى المسجد ما إن وطأت قدماه أرض وادي الحقول.
عقب محسن باسما بدفء، مسدلا جفنيه بسكينة شعر بها ما إن شبك ذراعه بذراع صديقه مسلما له دفة قيادته بسلام، فمسح فواز على لحيته بحرج يكتنفه من كلمات محسن ذوات المعنى، يدعوهم بتوتر وهو يشير إلى الكراسي الجلدية السوداء جوار طاولة الحاجز:
- تفضلا... اجلسا! ماذا تشربان؟
هز يوسف رأسه رافضا بلطف ومحسن يطلب منه برجاء:
- رافقنا يا فواز، يوسف يريد رؤيتكم جميعا، وأنا أقسمت أن أجمعكم اليوم بعد كل هذه السنوات، فهل سترفض طلبي وطلب يوسف؟
تصلبت ملامح فواز، ووقع في فخ نظرات يوسف الحاملة إليه برجاء لا يقاوم، فاستسلم يومئ لهما موافقا قبل أن يستدير ليلتقط مفاتيحه وهاتفه فوق الطاولة:
- حسنا لا بأس في ذلك.
اتسعت بسمتا يوسف ومحسن الذي سأله وهما يخرجان من المحل:
- أين نجد بهيج في هذه الساعة يا فواز؟
كان المعني يغلق الباب الزجاجي بخفة بعد أن أدار البطاقة خلفه إلى واجهة *مغلق* ليوصده بالمفتاح حين رد عليه:
- رأيته أمس بالليل وأخبرني بأنه...
بتر كلماته متفاجئا بنبيه المتكئ على الحاجز الحديدي الفاصل بين المحلات فخاطبه بترقب:
- ن... نبيه!... كيف حالك؟
استقام نبيه بظهره متجاهلا حديثه ومدعيا عدم فهمه تماما كما كان يفعل به في الصغر وأغلب المرات التي يلتقيان فيها خلال السنوات الماضية، فرفع فواز كفه ليلمس جانب جبهته كتحية ردها عليه نبيه بنفس الحركة وبملامح جامدة.
- بهيج لن يذهب للمدينة اليوم، سنجده على مقهى الناصية.
أضاف وهو يتقدمهم نحو وجهته التي ذكرها ولم يفت يوسف رؤية اللوح الضخم المنتصب على الناصية بعد المقهى مباشرة بكلمتين مزخرفتين بشكل مبالغ فيه كالمبالغة في حجم ضخامتهما:
*شارع الشرفاء*
حك يوسف جبينه قبل أن يلتفت الى نبيه الذي كان في انتظاره رافعا جانب أنفه بامتعاض، وهز كتفيه بمعنى *غباء* فأخفى يوسف بسمته كشعوره بالغبطة، فبينه وبين نبيه علاقة خاصة تتميز بالتفاهم من خلال النظرات، ليس هما فقط بل هناك طرف ثالث في تلك العلاقة الخاصة:
- جرار الحقول ذاك سأقتله!
التفتوا إلى من خرج من المقهى ساخطا يتوعد أحد أصدقائهم بغضب قبل أن يتجمد مكانه، يرمقهم بنفس الصدمة والذهول المكمل على مظهره الرث في سروال قصير بلون أزرق شاحب وكنزة رمادية مليئة ببقع الطين، شعره الأشقر الطويل يجمعه خلف رأسه على شكل ذيل قصير فرت منه بعض الخصلات التي منحته مع لحيته وشاربيه الذين أطلقهما بعبثية واضحة مظهرا بوهمي كالهائمين على أوجههم عبر أرض الله الواسعة:
- بهيج! إنها حقا مفاجأة أليس كذلك! يوسف عاد وأحضره إلينا محسن ونبيه.
خاطبه فواز أخيرا لينهي صمتهم الغريب وسط صخب الناس حولهم فضم بهيج شفتيه مرات عدة قبل أن تلمع مقلتاه بزرقة شفافة لطالما أخبروه بأنها غريبة عن أرضهم، وتقدم أخيرا نحوهم مرحبا بارتباك:
- مرحبا يوسف..
وبنفس الود والشوق ضمه يوسف متجاهلا كفه، وكما حدث مع فواز شعر بتصلب أطرافه قبل أن يستسلم رافعا كفيه ليربت بها على ظهره:
- كيف حالك يا بهيج؟ اشتقت إليك كثيرا!
وعند تلك الكلمات الدافئة انسحب بهيج وكأنه غير مطيق لكم أحاسيس يوسف الصادقة، فيمسد على جانبي وجهه تارة ويشبك بين كفيه أخرى والكلمات تغادر حلقه بتوتر:
- بخير... أنا بخير وسعيد بعودتك.
- وأنا يا بهيج؟ ألن تسلم علي؟ لقد أرسلت في طلبك مرات عدة وأنت تتهرب مني يا رجل! لا أعلم لماذا؟
بلع ريقه ونظراته تتحول إلى قتامة غامضة، قبضتاه تشتدان حول بعضهما بينما يجيبه بنبرة باطنها يرتعش بلهاث غريب وظاهرها ارتباك آدمي:
- ماذا تقول يا فقيه؟! أنا أعتذر إليك، العمل في المدينة صعب فلا أجد الوقت المناسب لزيارتك وأنت في المسجد طوال الوقت.
- وما به المسجد يا بهيج؟ لطالما طلبت منك مرافقتي وكنت ستراه لو أتيت معي.
خاطبه فواز بعتاب خفي فضحك محسن معقباً بمرح:
- كما أقابلك يا فواز، أشعر بوجودك بعد صلاة الفجر التي تلتزم بقضائها في المسجد، وأنتظر اقترابك مني لتلقي التحية لكنك لا تفعل.
- بقية الصلوات أقضيها في المحل فالمسجد بعيد قليلا ولا أستطيع إغلاق مصدر رزقي كل حين.
رد عليه فواز باندفاع غريب فحرك محسن رأسه بينما يجيبه بلطف:
- لا بأس يا فواز...لا بأس! لم تسلم علي بعد يا بهيج.
اقترب بهيج من محسن يتلقف كفه التي رفعها في الهواء فضم إليه الأخير كفه الأخرى دون أن يسحبها من تحت ذراع يوسف، يشد عليها قائلاً له بنبرة صادقة المعاني:
- أدعو الله أن تكون بخير.
شعر به محسن يسحب كفه بخفة فتركها محافظا على بسمته الدافئة في نفس اللحظة التي أشار فيها نبيه بكفيه نحو يوسف:
- لنذهب إلى الحقول.
انتبه بهيج لحضور نبيه فأومأ له بصمت كما فعل الآخر قبل أن ينطق يوسف بحماس متشوقا لرؤية الطرف الثالث في علاقتهم الخاصة:
- أجل، لنذهب إلى الحقول.
تحفز بهيج مجددًا يتوعده، وهو يسبقهم دون كلمة اعتراض واحدة:
- جرار الحقول ذاك أريد رؤيته حالا!
عقد يوسف جبينه كما فعل البقية وفواز يزجره بلين:
- يا بهيج لا تطلق الالقاب، أخبرتك مرار بأن ذلك حرام، والرجل له اسم...
توقف بهيج فجأة عند مفترق الطرق حيث سينعطفون نحو وادي الحقول الذي سميت المنطقة بأكملها تيمنا به فهو على شكل وادي ضخم كبير من الحقول والأشجار، يتوسطه نهر أوشك على الجفاف من قلة الأمطار وشحها في السنوات الأخيرة الماضية:
- إنه يسكن الحقول فعليا كرجل الغاب، إلا أنه لا يفارق جراره! يجوب به الوادي من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه... وكل ذلك لا يهمني! فقط لو يكف عن مقالبه كلما قررت وتجرأت على اقتحام عالمه كما يتشدق ويقول...
يوسف، محسن وفواز يغمرهم الذهول من غضب بهيج المشتعل، ولم يصدر رد فعل سوى نبيه الذي طغى على ملامحه الجامدة بوادر مرح بينما يشير له بكفيه:
- وماذا كنت تفعل في الحقول؟
تخصر بهيج، يرمقه بامتعاض وهو يهتف بحنق:
- ماذا تقول؟ تعلم بأنني لا أفهم لغة الإشارة كما أنني أحذرك من السخرية مني فأنت صديقه الصدوق.
رفع نبيه كفيه باستسلام فتدخل يوسف بمهادنة:
- اهدأ يا بهيج، إنه فقط يسألك ماذا كنت تفعل في الحقول؟
ضغط بهيج على شفتيه بشدة، يجيبه بغيظ:
- أركض! كنت أركض بين حقولهم اللعينة!
عبس نبيه وحرك ذراعيه بحدة:
- حقولنا ليست لعينة!
هم بهيج بالرد حين تدخل محسن، معقبا بود مستشعرا العدائية تنفث سمها في الأجواء:
- يا بهيج اهدأ فأنت البهيج يا رجل! لا تطلق اللعنات فتعود عليك لا قدر الله...وأنت تعرف صديقك يحب مشاكستك كما تفعل أنت أيضا، هيا بنا ولك حق علي بلومه ونصحه.
تحرك فتبعه يوسف، وفواز يسأله بفكاهة لم تغادره منذ أن أخبرهم بهيج بركضه بين الحقول:
- بهيج أخبرني! هل مررت على حقول الحاج عبد البر أثناء ركضك؟
كانوا قد توغلوا داخل المساحات الخضراء حين أدار بهيج رأسه إليه، يجيبه بانزعاج:
- من الطبيعي أن أمر من هناك كما سنمر منه الآن فحقل زوج خالتي على الطريق الوحيدة الآمنة، والصالحة للركض بين الحقول.
لمح يوسف محاولاتهم لإخفاء تعبير المرح على وجوههم، يفكر في أنه الوحيد الذي يفوته المعنى وفواز يسأله مجددًا بينما يمسك بطرفي جلبابه الأنيق حتى لا يتسخ بالتراب والطين:
- وهل كنت بنفس هذه الثياب؟
نظر بهيج إلى ملابسه التي امتلأت بالقذارة، بعض الطين الممزوج بالسماد العضوي ثم قال له بحنق:
- أجل وقد كانت نظيفة بالمناسبة! وكل هذا بسببه!
أشار إلى ثيابه باشمئزاز فضحك فواز غير قادر على التحكم في نفسه كما أطلق نبيه سراح بسمته المتشفية:
- أنت تعرف خطه الأحمر، ما الذي أخذك إلى هناك؟
اشتد العبوس ملتحما بملامح بهيج الساخطة ليحثهم محسن على التقدم مدركا لصلب الموضوع.
- السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ألقاها فواز على المنهمكة في جمع أكوام العشب الأخضر خلف باقي النسوة اللاتي يقمن بجزه ببراعة واحترافية مستعينات بالمناجل:
- عليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
ردت عليه الفتاة وهي تمسك بطرف طرحتها تمسح به العرق على جبينها قبل أن تستقيم بقامتها الطويلة والمستورة بعباءة محلية الصنع، تشتهر بها المنطقة خصوصا من يشتغلن في الحقول:
- هل رأيتِ جرار الحقول يا ابنة الخالة؟
هتف بهيج بسخرية عبست لها الفتاة بغضب لتجيبه بجفاء قبل عودتها إلى ما كانت تفعله، متجاهلة إياه تماما:
- لا أعرف!.. ابحثوا عنه في حقوله!
ضحكوا جميعهم ويوسف قد بدأ بالتقاط طرف الخيط لما يتقصدون التعبير عنه بينما يستأنفون طريقهم بصمت حتى لمح نبيه جراره الأسود فأسرع نحوه، يصفق بكفيه ويشير لمن غاب داخل العربة الموصولة بالقطعة الحديدية الضخمة.
توقفوا أمام أرض واسعة خضراء بأشجار مرصوصة بترتيب منظم بين كل صف وآخر نعناع وزعتر بري، بقدونس وكرفس والكثير من مختلف أنواع الأعشاب النافعة وفي الجهة الأخرى مساحات شاسعة من القمح والعشب الأخضر والخضروات.
ظهر لهم رأسه بشعره الأسود الفاحم القصير وملامح وجهه الضخمة كضخامة جسده الذي بدا لهم يرتفع حتى لاح لهم مستقيما يتخصر بدهشة لم يكشف عنها سوى تجعد بشرة جبينه المحمر من أثر الشمس:
رفعوا رؤوسهم إلى المُهل عليهم برداء من خامة الجينز على شكل عُرف باسم رداء العمال أو *السّالوبيت* أزرق أسفله قميص من نوع ما يُطلق عليه *تي_شيرت* أبيض بياقة عنق دائرية، فأشار له نبيه نحو يوسف الباسم بمرح فقد تعرف عليه منذ الوهلة الأولى لكن نبرةً ساخرة صادرة عن صاحب جسدٍ يتصف بكل ما يعكس صفات ابن عمه شكلا ومضمونا، سلبت اهتمامهم نحوه وهو يظهر جانب العربة:
- يوسف آل عيسى؛ القطعة المفقودة، ما إن وُجدت حتى اجتمعت باقي القطع منجذبة إلى حلقتها المغلقة.
تقدم يوسف نحوه دون أن يترك جانب ذراع محسن، قائلا له بود:
- مؤنس ما تزال كما أنت! سعيد جدا برؤيتك.
استسلم له بخفة يضمه ثم رد عليه بنفس التهكم بعد أن ابتعد عنه قليلا:
- لا أظن ذلك يا صديقي، لا أحد منا ظل كما هو...
- يوسف لم يتغير، لقد جاء إلى المسجد ما إن وطأت قدماه أرض البلدة.
هتف محسن بحبور وفخر بينما مؤنس ترق مقلتاه له رغما عنه وهو يستلم كفيه الاثنتين ليصافحه بحرارة قبل أن يعود إلى يوسف معقباً بنبرة ذات معنى:
- حقا! هو القطعة المفقودة إذن!
- ارحمنا من فلسفتك يا ابن العم ودعني أرى الغائب حتى أوشكت ذكراه على الاندثار من عقولنا.
دفع ابن عمه مؤنس بخفة ومن يراهما لا يصدق بأن قرابة تجمعهما، الأول طويل وعريض، أبيض البشرة أما الآخر فمعتدل الطول ونحيف ذهبي البشرة لا يجمع بينهما سوى الشعر الأسود الفاحم كلون عينيهما:
- كيف حالك يا ابن آل عيسى؟ أرى أن الزمن لم يزدك سوى وسامة وبهاء.
ضحك يوسف وهو يضمه كما فعل مع الجميع حين تفاجأ من إبعاده له بعد لحظة ببعض الحدة دون أن يطلق سراحه، يسأله بتهديد:
- هل مررتم بحقول الحاج عبد البر؟
بلل يوسف شفتيه والاحمرار يغزو وجنتيه بحرج اتسعت له مقلتا مخاطبه بينما بهيج يجيبه بتشفٍ:
- أي نعم! وسألنا ابنة خالتي ...الآنسة المصون البكر الرشيد تقوى عنك... واحزر ماذا؟
انقطعت أنفاسهم حذرا وترقبا حتى هو مما ملأ صدر بهيج ببهجة افتقدها قبل وقت طويل، يضيف بتشفٍ يعلم بأنه سيدفع ثمنها لاحقا ولا يكترث:
- الآنسة ابنة خالتي المصون البكر الرشيد تقوى غضبت من سؤالنا وأنكرت معرفتها بك.
يعلم بأنه تجاوز كل الحدود لكن شيئا ما دفع به إلى أبعد عمق في ذكرياته هناك حيث تود روحه المعذبة لو تعود.
- بهيج يا أزرق العينين سأقتلك اليوم!
استدار إليه يهم بالركض حين أطلق بهيج ساقيه للريح، يهتف بكل ما أوتي من قوة ضاحكا بصخب:
- أمسك بي إن استطعت يا جرار الحقول!
- اسمي جرير أيها المهرج الطبال!...اسمي جرير!
ضحك الباقي تظللهم غمامة الذكرى وكأن الزمن قد عاد بهم سنوات طويلة إلى الماضي فتحدث يوسف من بين ضحكاته متتبعا بعينيه ركض صديقيه خلف بعضهما بينما يربت على كف محسن بلطف:
- لا شيء تغير حقا يا محسن، أرى أن كل شيء كما هو!
لحظة وجيزة تلك التي فرقت بين صمت محسن وهمسه الأليم الذي رغم خفوته لم يفت سمع يوسف المهتم:
- *التقوى تندثر في القلوب يا يوسف والحق يهجو شتاتها... يا حسرة على العباد يا يوسف! ...يا حسرة علينا!*

noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 21-11-24 الساعة 09:28 AM
**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 28-08-19, 10:48 PM   #66

ضحى حماد

نجم روايتي ومشرفة سابقة

 
الصورة الرمزية ضحى حماد

? العضوٌ??? » 269097
?  التسِجيلٌ » Oct 2012
? مشَارَ?اتْي » 2,300
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Syria
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » ضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
¬» قناتك max
افتراضي

يسعدلي هالمسا اميرتي
تسجيييييل حضوووووووووووووور

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 49 ( الأعضاء 20 والزوار 29)
‏ضحى حماد, ‏بنت سعاد38, ‏بت الجوف, ‏leria255, ‏Sea birde, ‏زهرة الغردينيا, ‏affx+, ‏كابتن منار, ‏Better, ‏basama, ‏MennaHassan, ‏Mummum, ‏Booo7, ‏فديت الشامة, ‏Warda123, ‏نبيله محمد, ‏من هم, ‏ليان عزو, ‏Kokinouna


ضحى حماد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-08-19, 10:56 PM   #67

ضحى حماد

نجم روايتي ومشرفة سابقة

 
الصورة الرمزية ضحى حماد

? العضوٌ??? » 269097
?  التسِجيلٌ » Oct 2012
? مشَارَ?اتْي » 2,300
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Syria
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » ضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
¬» قناتك max
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 68 ( الأعضاء 25 والزوار 43)
‏ضحى حماد, ‏فديت الشامة, ‏كلوديا, ‏amanyayman, ‏Better, ‏باسم محمد ابراهيم, ‏taratata, ‏بنت سعاد38, ‏فتاة من هناك, ‏بت الجوف, ‏leria255, ‏Sea birde, ‏زهرة الغردينيا, ‏affx+, ‏كابتن منار, ‏basama, ‏MennaHassan, ‏Mummum, ‏Booo7, ‏Warda123, ‏نبيله محمد, ‏من هم, ‏ليان عزو, ‏Kokinouna


ضحى حماد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-08-19, 11:03 PM   #68

ضحى حماد

نجم روايتي ومشرفة سابقة

 
الصورة الرمزية ضحى حماد

? العضوٌ??? » 269097
?  التسِجيلٌ » Oct 2012
? مشَارَ?اتْي » 2,300
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Syria
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » ضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond reputeضحى حماد has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
¬» قناتك max
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 80 ( الأعضاء 27 والزوار 53)
‏ضحى حماد, ‏محمد وغزل, ‏شوق البلد, ‏نوره خليل, ‏شغف..., ‏فديت الشامة, ‏amanyayman, ‏Better, ‏باسم محمد ابراهيم, ‏taratata, ‏بنت سعاد38, ‏فتاة من هناك, ‏بت الجوف, ‏leria255, ‏Sea birde, ‏زهرة الغردينيا, ‏affx+, ‏كابتن منار, ‏basama, ‏MennaHassan, ‏Mummum, ‏Booo7, ‏Warda123, ‏نبيله محمد, ‏من هم, ‏ليان عزو, ‏Kokinouna


ضحى حماد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-08-19, 11:03 PM   #69

**منى لطيفي (نصر الدين )**

مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟

 
الصورة الرمزية **منى لطيفي (نصر الدين )**

? العضوٌ??? » 375200
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 4,611
?  نُقآطِيْ » **منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute**منى لطيفي (نصر الدين )** has a reputation beyond repute
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 88x( الأعضاء 32 والزوار 56)‏**منى لطيفي (نصر الدين )***, ‏فراشة ذهبيه, ‏ضحى حماد, ‏كابتن منار, ‏affx, ‏امه الله75, ‏taljaoui, ‏Qhoa, ‏محمد وغزل, ‏شوق البلد, ‏نوره خليل, ‏شغف...+, ‏فديت الشامة, ‏amanyayman, ‏Better, ‏باسم محمد ابراهيم, ‏taratata, ‏بنت سعاد38, ‏فتاة من هناك, ‏بت الجوف, ‏leria255, ‏Sea birde, ‏زهرة الغردينيا, ‏basama, ‏MennaHassan, ‏Mummum, ‏Booo7, ‏Warda123, ‏نبيله محمد, ‏من هم, ‏ليان عزو, ‏Kokinouna

**منى لطيفي (نصر الدين )** غير متواجد حالياً  
التوقيع
لاإله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين
رد مع اقتباس
قديم 28-08-19, 11:05 PM   #70

شغف123
 
الصورة الرمزية شغف123

? العضوٌ??? » 438815
?  التسِجيلٌ » Jan 2019
? مشَارَ?اتْي » 771
?  نُقآطِيْ » شغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond reputeشغف123 has a reputation beyond repute
افتراضي

مبرووووك التنزيل و اي عودة بعد القراءة إن شاء الله

شغف123 غير متواجد حالياً  
التوقيع
فقط حين ندرك ،حقيقة وجودنا في هذه الدنيا ،ونقتنع بالهدف من عيشنا سيزهر الإيمان في قلوبنا و سنفلح.
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:55 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2025, vBulletin Solutions, Inc.