22-04-18, 01:41 AM | #791 | ||||
مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟
| الفصل الحادي عشر زوال الكون أهون على الله من عدم تحقيق آيته " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً" ، والمخرج ليس مجرد رزق مادي بل نفسي ومعنوي... محمد راتب النابلسي. (ليلا) (منزل آل خلف) تنفس الصعداء وهو يجد الصمت مقابلا له مع خطواته داخل منزلهم، يتمنى عدم رؤية أحد من أفراد عائلته، كما يدعو أن يجد بلسم على خير حال خلال الوقت الذي قضاه خارجا. كان قد اقترب من الغرفة التي تركها فيها قبل ساعات، متجاهلا باقي مرافق بيت أهله، غير مستعد لاسترجاع ذكرياته فيه بعد السعيدة منها والتعيسة حين لمح والدته تقف بتوتر واضح وهي تحمل صينية مغطاة. (ماذا هناك يا أمي؟) سألها بريبة فازداد ارتباكها وهي تلتفت إليه، لكنها قالت له على أي حال كأنها تعلم يقينا بأنه لن يصدقها (حاولنا إدخال العشاء لها لكنها لا تفتح لأحد حتى والدتها، وأنا... أنا...) اقترب منها، يجبها بجفاء تملكه رغما عنه (لو قررت فتح الباب لن يكون لك بالتأكيد.) بللت شفتيها ولمعت مقلتاها قائلة بأسى (من فضلك بني لا تحسبني وحشا لا يعرف الرحمة، أعترف بأنني أخطأت لكن ... أنظر! أنا أتيت لأطلب منها السماح، لقد ظلمتها ووالدتها وظلمت نفسي قبلهما، وأنا ... يا إلهي! بني لا تنظر الي هكذا.) تدحرجت دموعها فتنهد بخفوت واجم وهو يتناول منها الصينية، معقبا بهدوء (الوقت .... نحتاج منه الكثير كي يثبت من أخطأ بأنه تاب، ويمنح من ظُلم العفو، تصبحين على خير، أ... مي...) انصرف عنها يرمق الباب، فتشكلت بسمة شاحبة على ثغرها، وقبلت ذراعه بخفة قبل أن تبتعد تاركة إياه مع دهشته و..... إشفاقه. (افتحي بلسم إنه أنا.) ابتسم بدفء حين أنصت لوقع خطواتها المسرعة ثم صوت القفل تلاه ظهور صفحة وجهها القلقة، فشمل تفاصيل وجهها بنظراته المتفحصة محافظا على بسمته بينما يدخل الغرفة ليضع الصينية على المائدة الخشبية في زاوية الغرفة قبل أن يخاطبها بلطف (كيف حالك؟ هل تأخرت؟) كانت قد أغلقت الباب حين اقتربت منه لترد عليه بتوتر (لا، أنا فقط...) ترددت فأكمل عنها مهادنا (حاولوا التحدث إليك، لا تقلقي! كل واحد منهم يريد إصلاح أخطائه على ما يبدو، حتى والدتي الندم على قسمات وجهها أثار شفقتي ورأفتي!) رمقته بحنو مشفق فأشار إلى الطعام يدّعي بعض المرح (كلي، ألستِ جائعة؟) تفقدت الطعام الذي أزال عنه الخمار، فأجابته بمكر حذر (سآكل إن شاركتني.) جعد جانب أنفه بصمت للحظة ثم رد عليها بينما يرمق كفيه بقفازيهما (أعذريني بلسم، لم أحضر جميع أغراضي، وبالتالي لم أحضر القفاز المعقم للطعام، كلي من فضلك!) كتمت اشفاقها تميل برأسها بينما تسأله برقة (لماذا لا تستطيع الأكل بيديك؟ اغسلهما جيدا، هناك صابون معقم في الحمام.) أومأ لها بجمود وهو يمسد جانبي رأسه، فاقتربت منه أكثر، تمسك بأعلى ذراعيه باحثة عن مقلتيه لتأسرهما برجاء لطيف، واهتمام (أخبرني يا جارح، لماذا؟) ضم شفتيه بقوة حتى ابيضتا فربتت على صدره كي يهدأ، فتشعر بالراحة تتسلل إلى قلبها من لمسه والاقتراب منه، وكل ما يغمرها سكون الأمان الذي يحفها مع عبق عطره الفواح، ونظراته المطمئنة مع كلماته الحنونة. بادلها النظرات للحظات امتدت بينهما حتى تحرك لسانه من نفسه يطلق سراح شكواه (كلما نظرت إليهما لا أرى سوى الدم ممتزج بالقاذورات.) تكومت ملامحها بحزن بينما هو يكمل بقرف (اضطررت للأكل بهما أياماً على ذلك الحال يا بلسم، أنا...) رفع كفيه فابتعدت قليلا تمنحه المساحة، ليكمل بوجع (دماء ذاك المجرم يبست علي يداي وأنا أختبئ من أمثاله، ومن الشرطة في مكبات النفيات، فقد كانت رغم قذارتها دافئة عن برد الشتاء القارص خارجها كما كنت ألتقط منها حين يستبد بي الجوع ما يسد رمقي، لكوني لم أتربى على السعي، أنا...) رفعت كفها ليصمت ثم أخذت أنفاسا متتالية كي تمنع دموعها من التدفق، تجيبه ببسمة مرتبكة (حسنا فهمت.) بلع ريقه يراقب خلجاتها وبسمتها التي نفضت عنها الارتباك بينما تكمل بمرح تحاول اتقانه بمشقة، وهي ترفع كفيها أمام وجهه (انظر إليهما، لم يسبق أن لمست دما حتى دم الحيوانات، فأنا مثلك أقرف بسرعة.) توترت مجددًا، وهي تصدر ضحكة أشبه بعطسة حين رمقها ببعض التهكم، فتجاوزت الأمر مصرة على فكرتها تسحبه نحو الحمام مقطب الجبين بحيرة، يترقب ما تفعله (راقبني، وأنا أغسل يدي جيدا بالسائل المعقم.) وازت كلماتها بأفعالها ثم رفعت كفيها كما يفعل الجراحين قبل دخول غرفة العمليات دون أن تنسى بسمتها برفقة نظراتها المرحة، فأعادته في تلك اللحظة إلى عهد ابنة عمه المشاكسة الصغيرة صاحبة البسمة المرحة ثم جلست على الكرسي قبل أن تشير إلى الخبز المربعات داخل كيس بلاستيكي، والمتوسط لصينية الطعام فوق الطاولة الصغيرة (جميعهم على علم بحالتك، فهذا الخبز لا يوضع عادة على موائدنا.) منح الخبز نظرات متأثرة لم تكن من طبعه إطلاقا ثم عاد ينظر إليها حين طلبت منه، وهي محتفظة بكفيها معلقين في الهواء (لو سمحت انزع عنه غطاءه البلاستيكي دون أن تلمس الخبز، شكرا لك.) ضحك أخيرا بمرح وهو يفعل ما أمرته به، فاتسعت بسمتها هي الأخرى وقد نسيت للحظة كل ما ألم بها، وسحبت مربع خبز وطلبت منه الجلوس، فجلس قربها مترقبا بشغف استغربه في نفسه كيف تخلل عبء مسؤولياته فكسر ثقل همومه في تلك اللحظة. قطعت منه كسرة صغيرة لكي تغمسه في زيت الزيتون ثم تحمله إلى فمه، وهناك توقفت تنتظره بينما يتأملها بنظراته الغامرة لسكناتها قبل حركاتها الناعمة، فاحمرت بحياء تلقائيا، وهي تهز حاجبيها بخفة تستفسر منه (هل أثير قرفك؟) أهداها بسمة لم تستطع تفسيرها ولا تفسير أثرها على قلبها الذي استعاد دقاته المفقودة، وكرد عملي على سؤالها فتح فمه ليتلقف اللقمة كاملة بين شفتيه كتأكيد على احساسه نحوها. فرت منه حياء وانشغلت بتقشير بيضة تحت نظراته المترقبة انتظارا للقمة أخرى من كفها، وإحساس فريد يغمر كيانه بأنه لم يذق في حياته لذةً لطعامٍ كما حدث معه لتوه، وحين تأخرت عنه متعثرة بخجلها بادرها ببسمة مزجت بين المرح والعاطفة (هل تراجعتِ؟ فأنا لم أشبع بعد.) فغرت شفتيها بتفكير قبل أن تغلقهما حين أمسك بقبضة يدها الحاملة للبيضة ثم رفعها إلى فمه، وقضم نصفها متعمدا أخذ وقته مرة أخرى ثم وجهها نحو فمها وحثها بعينيه لتتلقف الباقي. فعلت بخفر، مأخوذة بما يفعله آسرا إياها بنظراته المهتمة وكأنه لا يهمه في تلك اللحظة سواها. (هذا لذيذ، وأريد المزيد، الآن فقط اكتشفت أنني كنت جائعا بالفعل.) رفع حاجبه دلالة على الانتظار، فأخذت الخبز معيدة الكرة مرة بعد مرة، يلفهما الصمت بهيبته الساحرة حملت في نظراتهما المتبادلة رهبة غريبة على كليهما، فما كان منه إلا أن استجاب لدقات قلبه الهادرة جاذبة إياه نحوها ولمدارها، وفي لحظة وجد نفسه يقدم على أول تقارب بينهما بل أول تقارب له مع إنسان، وعانقها بحنو وتؤدة مانحا نفسه ما حرمها منه بانسلاخه بداية عن دفء وحنان أهله ثم انزوائه عن التورط عاطفيا مع الناس لسنوات كثيرة. اختفى الهواء من صدرها بل اختفى الوجود من حولها، سوى من قربه.... لا! بل عطره الخاص يضمن لها الأمان إحساسا يلفها وسط غمامة التأثر والتوتر، ليتحول الدفء فجأة إلى حرارة ملأت أحشاءها بشعور غير محبب بدأ يضغط عليها بقوة تتزايد خوفا كلما تشبث بها كطوق نجاته أو منبع حياته فتقاوم بكل قوتها مصرة على تحدي مصابها لتزهر برونق جديد مُبهج لكن المشاهد المروعة ما تزال تصر على تنغيص صفو حياتها المستجد عليها كما تزور منامها فتحولها إلى كابوس أسود. شهقت بخفة وهي ترتد للخلف برأسها تقاوم الدوار، فاغمض مقلتيه بينما يقبض على مسند الكرسي بقوة، وبلع ريقه قبل أن ينظر إليها بثقة كما خاطبها حين لمح ارتباكها وتهربها منه ( لقد فعلت ما شعرت به يا بلسم، وليس هناك ما يمنع تقاربنا من بعضنا.) اتسعت مقلتاها وهي تثبتهما عليه، فاستطرد بوجوم (كلانا نعلم بأنني كنت أكن لك مشاعرا منذ الصغر يا بلسم، وكان ذلك سبب اعتراضي على زواجك من جاسر لكن صغري حال بيني وبين إيجاد حل فوري ومناسب ثم حدث ما حدث.) قام من مكانه، مسترسلا، وهي تراقبه بذهول (أنت الآن زوجتي، وكلانا يحاول نسيان الماضي، والبدء من جديد، فلمَ لا نحاول إنجاح زواجنا؟) انتفضت تهتف بنبرة ارتعشت جراء تأثرها به وبالموقف ككل (ليس سهلا يا جارح، هل تعلم ما حدث لي للتو؟ هل تعلم لماذا ابتعدت عنك؟) كانا خديها أشد قتامة من منامتها القرمزية، فابتسم بوجوم يرد عليها (إنه شيء متوقع يا بلسم، وأنا أيضا رفضت لسنوات مصافحة أحد، فما بالك بالتقرب من فتاة لكننا نتعالج، وبتوفيق من الله سنتجاوز كافة العقبات.) فركت كفيها توترا، فاقترب منها، وأمسك بأعلى ذراعيها يسألها برجاء تألقت به نظراته (هل تشعرين كما أشعر نحوك يا بلسم؟) تنفست بعمق بينما ترمقه بارتباك، فضغط على ذراعيها يحثها (أخبريني!) أومأت له بخجل بالغ فرفع وجهها من ذقنها يستطرد برقة (إذن لمَاذا لا نمنح أنفسنا فرصة؟ أنا أحب ذلك، ماذا عنك؟) انبثقت دموع الأمل من بحر قهرها، وهي تجيبه بحرقة (قد لا أكون لك الزوجة التي تنشد، ولا الحبيبة التي تتمناها، أنا بقايا أنثى تحطمت إلى أشلاء يا جارح.) ضمها مجددًا وكأنه بذلك يؤكد لها على مكانها ومملكتها بينما يرد عليها بألم يتشاركان أوجاعه (لا! لا تسمحي له بأن يدمرك، اعتبريها تجربة سيئة، واجهيها بشجاعة، وقومي من جديد، وأنا سأكون معك، سنكون مع بعضنا والله معنا سيوفقنا ح... حبيبتي، فقط تشجعي وتفاءلي، فكلانا يتحسن بالفعل.) نحبت على صدره كما لم تفعل يوما، وهو يضمها أقرب وأقوى مصرا على الفوز بها ومعها، والنجاة بهما معا (وسننجح بفضل الله، وتوفيقه، سننجح ... حبيبتي.) *** (قبيل الفجر) (المدينة السياحية) (شقة أسامة) انزعجت بفعل البرد الذي لف بدنها، فرفرفت بجفنيها قبل أن ترفعهما بالكامل لتجد الغرفة غارقة في الظلام. تململت تبحث عنه متلمسة المكان جوارها، وهي تعلم مسبقا بغيابه، فلو كان قربها ما غاب عنها الدفء والأمان. زفرت وهي ترفع كفها إلى صدرها، لا تصدق ما ولى مع يوم أمسهم، ليتركها مع حيرة جديدة بين مشاعرها الوليدة نحو أسامة وراحةٍ رغم كل الألم الذي سببته لعائلتها "فقلبها قد آلمته الصدمة والجرح المعلم على ملامح والديها، وشقيقها"؛ أخيرا أعربت عن مصابها وأخرجت النار من جوفها وأهم من ذلك كله، أنقذت بفضل الله ملك من دمار نفسي كان سيلحق بها دون علم أحد. أطلقت زفرة ثانية تتساءل أيهم حقا نشر بهجة سرية في جوفها، إنقاذ ملك أم قربها من أسامة؟! وعلى ذكره نهضت من مكانها، باحثة عنه ولديها علم مسبق بما ينشغل به في ذلك الوقت من الليل. استندت بباب غرفة نومها، تبتسم بتأثر وهن بينما تراقب وقفته الخاشعة بين يدي ربه بوجه باك غارق في الدموع، منفصل عن الكون تماما، فعادت التساؤلات لتطرق رأسها عما حدث له لكي يكون بذلك التفهم والاستيعاب لحالتها؟! بل كيف أصبح هذا الشاب الملتزم والخاشع في صلاته؟! أرجأت أفكارها لوقت لاحق، وتوجهت إلى الحمام، فإن كانت تتحجج قبلا بانعدام السلام في قلبها بسبب تخاذلها، فذلك الزمن قد ولى وحان وقت الصحوة، والاستقامة على أصعدة عدة أولهم نفسيتها. أنهى صلاته وسكن مكانه متمتما بالتسبيح ثم ألقى نظرة على الساعة فاكتشف اقتراب أذان الفجر. قام ليلحق بصلاة الجماعة، فوجدها خلفه برداء الصلاة ساجدة وصوت شهقاتها المكتومة تصله بوضوح. تأملها قليلا ثم انصرف حين صدح الأذان وهي ما تزال مستغرقة في سجودها. دعت كما لم تفعل قبلا وبكت بحرقة بينما تسأل الله أن يغفر لها ما سببته من ألم لوالديها ثم سألته أن يحرر روحها من ألمها، كما دعته بأن تعيش حياة طبيعية، وأن يرزقها ذرية صالحة مع الشخص الوحيد الذي شعرت برضوخ كيانها واستكانتها إليه، ابن خالتها الذي ظنته ضالا لتكتشف أنه بعيد كل البعد عن كل ظنونها تجاهه. دعت لملك وغيرها من الأطفال بالحفظ من الشرور والأذية، وللأستاذ وصديق والدها وجميع أمثالهم بالقصاص العادل. فرغت من صلاتها ثم قرأت وردا من القرآن قبل أن تجلس لذكر الله بينما تنتظره جاهلة سبب انتظارها له. تناهى إلى أسماعها زقزقة العصافير، فتفقدت الساعة عابسة تتساءل عن سبب تأخره؟! مستغربة ما تشعر به من أحاسيس ناعمة ومريحة تدغدغ صدرها، لكن الوهن المنتشر عبر أطراف جسدها أشعرها برغبة ملحة في النوم. فكرت قليلا ثم ودون تردد عادت إلى غرفته، واستلقت هناك تُسر في قلبها أمنية بعودته وضمها إليه مجددًا وليته لا يسأل عن السبب أبدا! دخل بخطى متمهلة كي لا يوقظها متوقعا عودتها إلى النوم ثم تسلل إلى الحمام يغسل عن بدنه عرق الركض الذي يلجأ إليه بعد صلاة الفجر كترفيه عن عقله حين تتزاحم عليه الأفكار ثم توجه نحو غرفته، وكله يقين بأنها لاذت بغرفتها وسريرها إلا أن رؤيتها على سريره قريرة العين بعثت بالدهشة في عقله فمسد على جبينه بحيرة، وبعضٌ من القلق بخصوص ما راوده سابقا قربها من مشاعر وأفكار شوشت عليه تركيزه، وسكون نفسه الجديد فجافاه النوم لثلاث ساعات حتى تسلل أخيرا وبخفة ليلجأ إلى ربه كي يحمده على فضله أولا ثم يسأله إلهام الصواب، وحسن التصرف. بلل شفتيه بارتباك واضح وكما تسلل من جوارها، عاد بنفس الخفة ولدهشته لم تكن قد استغرقت بالنوم، استدارت نحوه لتلجأ إلى دفء احتوائه لها، واضعة رأسها على صدره هامسة له بخفوت وبمقلتين مغمضتين (تأخرت.) فرد عليها بنفس الهمس، وهو يطوقها برقة، متجاهلا ما تجيش به نفسه من فوضى وتشوش (عفوا، ذهبت للركض.) همهمت بهمس عبس له بتفكير بما يغمره من تغيرات جديدة تفاعلا مع تصرفاتها تجاهه، وضم شفتيه بحيرة مقررا مهاتفة البروفيسور لاحقا عسى أن يتعلم منه طريقة لاستدعاء النوم لمقلتيه في ظل الوضع الجديد... حين تكون زوجته قربه. *** (بعد يومين) (صباحا) (بئر السواد) تلفتت رباب تعيد تفحص الغرفة بريبة وتوجس، وكأنها لا تصدق اختفاء سترة وإشراق الغامض، فتفكر بأي سبب قد يدفع بهما إلى الخروج باكرا دون حتى أن توقظاها ولولا وجود قططها لصدقت بأنهما رحلتا. تأكدت من ملبسها بينما تفكر بالتوجه نحو غرفة مروان لكي تخبر سهر، وتسألها وشقيقها إن كانا يعرفان شيئا عن اختفائهما الغامض، وما إن فتحت الباب حتى لمحت جسد مروان الطويل غير بعيد عن باب غرفة إشراق، ينتظرها كما بدا لها (صباح الخير رباب.) ألقاها بتوتر وهو يلقي بما تبقى من السيجارة المحروقة أرضا، فردت عليه غير متنازلة عن عبوس وجهها (مرحبا مروان، ما بك؟) اقترب منها يسألها باهتمام (بل ما ردك أنت على ما اتفقنا عليه؟) مطت شفتيها وقد نسيت أمر سترة وإشراق تماما بينما تجيبه بجدية (لقد أخبرتك، بعد أن تلتقي بالطبيبة سأخبرك بردي النهائي.) زفر مروان بحنق، يجادلها (وأنا أجبتك بأن لا داعي لإدخال أحد في موضوعنا، أنت وأنا من سيتزوجان، ما...) قاطع حديثه شهقة حادة، التفتا على إثرها إلى سهر التي جحظت بمقلتيها ضاربة على صدرها بينما تهتف بعدم تصديق (تتزوجان؟! ستتزوجها؟ هل جننت؟) تجهمت ملامح مروان بسخط يزفر بحنق، ورباب ترفع حاجبها بامتعاض صامت، لا تبدي أي ردة فعل مستنكرة (هذه آخرة أعمالك يا مروان! تتزوج من عاهرة؟! تريد فضحنا، وفضح والديك؟) ألقى مروان نظرة نحو رباب التي رغم ادعائها اللامبالاة عَبَر الانكسار، والقهر على صفحة وجهها ثم رد على شقيقته بنزق (لا دخل لك في حياتي يا سهر، لطالما اتخذت قراراتي لنفسي، ولم يشتكي أحد، وخصوصا والديّ طالما أصرف على نفسي ولا أطلب منهما مالا، فلا تتدخلي في شؤوني، وعودي إلى البيت، فإن كانت هي كما تقولين! فشقيقك ليس بإمام مسجد، لست سوى عاطل، ضائع بين أنفاس الدخان وقطرات المسكرات، فابلعي لسانك واهتمي بشؤونك.) اقتربت منهما تصيح بغيظ اكتنف صدرها (تطردني يا مروان، ومن أجلها؟ أنا لا أصدق! سأخبر والدينا، وطبعا لن يسمحا لك بما تنويه، أنت فقدت عقلك كليا!) ضحك ساخرا وبسط ذراعيه، مجيبا بتهكم باطنه المرار ( لقد فقدت عقلي منذ زمن طويل يا عزيزتي وليس الآن فقط! ولا أطردك بل أطلب منك ترك هذا المكان الموبوء، فأمثالك يا آنسة طاهرة وصالحة لا يليق به هذا المكان، دعيه لأمثالنا، ولا يهمني إن أخبرت والديك، فلا أحسب ظنهما سيخيب أكثر مما هو خائب بالفعل!) تمتمت بحروف متقطعة جراء ذهولها الذي تحول إلى صدمة أشد حين احتل المكان في لحظة واحدة مجموعة من الرجال لم يمنحوها فرصة لتمييز أحد منهم، وهم يهجمون عليهم باحترافية، فكان آخر ما لمحته قبل أن تشعر بألم في رقبتها تلاه ظلام دامس، نظرات الرعب المطلة من عيني شقيقها ورباب. تجمعوا أمام رئيسهم يخبرونه بالتناوب (لا أحد هنا غير هؤلاء يا سيدي!) عبس الرجل بريبة، يصيح بغضب (هل أنتم متأكدون؟) هزوا رؤوسهم بصمت مؤكدين، فهتف بسخط (إن اكتشفت إهمال أحد منكم في المراقبة، سأرميه لوحوش الجبال بعد أن أنحر أحد عروقه، انصرفوا هيا!) اختفوا من أمامه بسرعة ورفع الهاتف بنية إبلاغ سيده بآخر التطورات لكن رنينه سبق معلنا عن رقم لشخص أهم من سيده، فرد عليه باهتمام (أجل أسمعك.) كانت الكلمات واضحة، مغرية، ومثيرة لشهوة الطمع في نفسه فلمعت مقلتاه بتصميم على تنفيذ أمره مهما حدث (احرص على إتمام الصفقة، وحين تنطلق الشاحنة ستصلك عمولتك في نفس اللحظة، فجانب سيدك لا يؤتمن والشحنة تهمنا، اتفقنا؟) (اتفقنا! لك ما تريده!) قالها بثقة، وأنهى المكالمة ثم زفر بضع أنفاس مهدئة لنفسه ثم هاتف سيده قائلا له بنبرة جاهد ليبثها الثبات (تمت المهمة سيدي! أجل، الجميع في قبضتنا، حتى الفتاة! حسنا، إلى اللقاء سيدي.) دس الهاتف في جيب سترته، محدثا نفسه يقنعها برجاحة قراره (هكذا أفضل، إن علم باختفاء الفتاة قد يلغي الصفقة، ويضيع علي عمولتي، وأنا بحاجة إلى المال، سأكلف من يبحث عنها، أين ستذهب؟! فلقد زرعنا أعيننا في كل مكان في الجبال، هكذا أفضل وسنجدها خلال ساعات، وأربح الوقت.) ومن ظن أن الجور غالب بطغيانه فقد أخطأ ونسي الجبار، فسبحان من هو قادر على ردمه بأهون سبب. *** (بعد الظهر) (المدينة السياحية) (شقة أسامة) وضعت الطعام على المائدة ثم احتلت أحد المقاعد، وعيناها تحيطان بالذي استغرق في مكالمته، فتنهدت دون وعي وهي تسند كفها بذقنها تراقبه باهتمام استولى على كيانها واحتل جنبات صدرها بمشاعر قوية، ومفاجئة كشفت في نفسها رهافة إحساسها نحو شاب قضى ما ولى من عمره أمامها، ولم يحدث يوما أن لفت انتباهها أو أنظارها، فما الذي تغير؟! ….الكثير! رد عليها ذكاؤها الخارق مفسرا باستفاضة، ليشفي فضول أنثى تحركت داخلها وانتفضت على سجنها، لتحلق حرة في سماء خالقها، تحملها غمامة دافئة بصفائها، قوية بما تحمله من مياه غيث عذبة. تألقت نظراتها بإعجاب وحالمية مضحكة بينما ترمق حركات يده الحرة المتزامنة مع كلماته وتناوُب شتى التعابير على ملامح وجهه الذي أداره نحوها بغتة، فدق قلبها بسرعة أرهقت صدرها وقطعت أنفاسها الناعمة بسهوها الحالم. (يا طبيب افهمني، أشعر بنفسي غير قادر على التفكير بحكمة، وقد أخطئ بالتعامل معها وأفقد ثقتها.) همس له أسامة متجاهلا قلبه المنتفض بشكل غريب حين باغتها تراقبه أو بمعنى أصح تحدق به بحالمية لا تخطئها العين قبل أن يجفله ضحك البروفيسور بينما يرد عليه بنبرة متسلية (أنا أثق بك يا غريب، فقط ثق بربك وبقدراتك، فما شعرتَ به سريعا ما ستشعر به هي أيضا، فطرتها ستطالب بحقها حتى تحصل عليه كاملا، فقط كن راقيا في تعاملك معها، امنحها الوقت جيدا حتى خلال لحظاتكما الخاصة، واقرا ما أرسلته لك عن العلاقات الزوجية الصحية، ولا تستعجل الأمور بينكما ستتطور من تلقاء نفسها، اسمعني يا غريب!) اختفت التسلية من نبرة صوته، فانتبهت حواس أسامة مستشعرا أهمية ما سيأتيه من وصايا (أحِب زوجتك يا غريب، أطلق العنان لمشاعرك نحوها، ولا تقصر، راعها في كل تصرف يصدر منك، واسكن إليها، ستجدها تسكن إليك وتحبك طواعية، الأنثى في طبعها تلين للرأفة وترق للطف، وتحن للحب، وكثير من الأزواج يفقدون رقة وعطف زوجاتهم جراء تعاملهم الجاف معهن، وهذا خطأ جسيم... فهمتني يا غريب؟) أومأ له أسامة بشرود أنساه بأن من يومئ له لا يراه بينما تركيزه منصب على من تبادله نظراته التائهة في بحثها عن السكون والسلام تحت ظلال الرحمة والحب. (أين أنت يا غريب؟) أيقظه من تحديق الساهم، فتنحنح يرد عليه بحرج (أنا أسمعك، شكرا لك.) أنهى مكالمته وتقدم نحوها فسألته بتأثر ظهر على نبرتها المرتبكة (مكالمة عمل؟) احتل المقعد قبالتها بينما يجيبها (مكالمات عدة، فيها ما يخص العمل، وما يخص غيره.) شرعت بالتقاط بعض الطعام تداري به توترها، فاستطرد بحذر (أمي لا تكف عن الاتصال.) لمح تشنج كفيها، ومقلتاها مطرقتين على طبق السلطة فتابع حديثه (طلبت منها بعض الوقت.) رفعت رأسها فابتسم لها بطريقته التي تؤثر في قلبها كما يفعل بكل تصرفاته (وطلبت منها إبلاغ أهلك بأن يصبروا حتى تعيدي استجماع أفكارك، وتهدأ نفسك.) أمالت رأسها بينما تسأله برقة غريبة عليها فاضت بها ملامحها الكئيبة (كيف تفهمني هكذا؟ ولماذا تعاملني بكل هذا اللطف؟ فأنا لا أستحق...) لمعت مقلتاها بدموع وشيكة، فتحرك من مكانه ليجلس على الكرسي جوارها يربت على إحدى كفيها مجيبا بحيرة (طبعا أنت تستحقين، لماذا تقولين ذلك يا نوران؟) تدحرجت دمعة يتيمة على خدها، وهي تجيبه بخجل وندم مع الكثير من العواطف تفجرت ينابيعها من حيث لا تدري (لقد هددتك وعاملتك بحقارة، واتهمتك بأمور مخجلة! أسامة أنا...) قاطعها بلطف مهادن (أعذرك نوران، فما تعرضت له لم يكن سهلا، وأنا أتفهمك، فقد تعرضت لأمر مشابه في طفولتي.) تذكرت ما أخبرها به سابقا، فبادرت تستفسر منه باهتمام (ماذا حدث لك أسامة، أود أن أعرف، أن أشاركك الألم لأهون عليك كما تفعل معي.) تحولت ملامحه إلى وجوم وحزن، يخبرها بكلمات تعمد جعلها مقتضبة لكي لا تحفر أخاديد حديثة في أحشائه (والدي تعدى علي في صغري، ولن أفسر أكثر يا نوران لأنني بالفعل ولأول مرة في حياتي أشعر بأنني بدأت أنسى، ولا أريد التذكر.) وضعت كفها على فمها تشهق بحدة، وجحظت بعينيها كاشفة عن مدى جمال لونهما البني الفاتح، فشرد في تفحصهما وهي تهتف بصدمة (يا إلهي! والدك؟ ك... أقصد كيف استطعت تجاوز الأمر؟ أنا حتى لا أتخيل والدي ... يا إلهي!) ابتسم بحزن يجيبها بوجوم (لم يكن سهلا أبدا لكنني الآن وبفضل الله أتحسن، هل رأيت؟ حالك أفضل من حالي بكثير.) شملت قسمات وجهه بنظراتها المتلهفة، واللامعة برأفة وحنو قبل أن تسحبه فجأة نحوها تضمه بقوة، هامسة له بحرقة (أنا آسفة، آسفة لما حدث لك، يا إلهي! أنا لا أتصور حجم ألمك، أنا أعتذر إليك عما قلته، وفعلته، يا إلهي! كيف أكفر عن خطئي؟! لقد ظلمتك.) ربت على ظهرها بحنو بينما يرد عليها بتأثر (لا بأس نوران، لقد كنتِ خائفة، ومجروحة، لا بأس! أنا لا أحمل عليك.) أبعدته لتضم وجهه بكفيها، وهي تهز رأسها إيجابا وتخاطبه باكية بوجع (أجل لقد كنت مرعوبة، لذا تصرفت بحماقة، وأنا لم أكن أعلم بأنك أحن من عرفتهم في حياتي، حتى أحن من أمي التي أنجبتني.) ربت على كفيها باسما لها بدفء، وهي تستدرك بحزن (هلا سامحتني أرجوك؟) (نوران!) أوقف سيل اعتذارها مهادناً بلطف (أنت لم تخطئي في حقي كي أسامحك، من فضلك انسي الموضوع، ودعينا نكمل حياتنا على أسس صحيحة، أخبرتك قبلا بأن كلانا يبحث في الآخر عن حل يناسبه، وهذا ليس بخطأ فقط يجب أن تكون الطريقة صحيحة فالزواج مبني على التكامل بين الطرفين.) تهز رأسها موافقة على كل كلمة يقولها، لتكمل عنه بصدق شع من مقلتيها المتألقتين بعاطفة قوية (أنا أيضا أريد ذلك، أريد علاقة طبيعية معك، وأسرة طبيعية، لا مكان فيها للألم والخذلان، أنا أريد ذلك، وسأفعل أي شيء لكي أناله.) عاد لرسم تلك البسمة الوسيمة على شفتيه فبلعت ريقها متأثرة بكل ما يصدر منه، وتراجعت خجلة تطلق سراح وجهه، لكنه أمسك بكفيها ورفعهما إلى فمه بروية يقبلهما برقة، دون أن يحيد عن تفاصيل وجهها، مترقبا وخشية لرد فعل عكسي. شعرت بالحياء يغزو جسدها بموجة حارة بينما هو يرمقها ب... لا تعرف كيف تفسر نظراته، هل هناك نظرات تشعر القلب بالدفء والاطمئنان؟! نظرات تنبع بكلمات تسقط على قلبها كقطرات مطر عذبة فتروي جفافه وتحول قحطه إلى جنات خضراء؟! لم تشعر للحظة بالقرف من لمسته أو نظراته كما كانت تفعل نحو أي كائن يحمل صفة الذكورة حين يقترب منها أو من محيطها. بللت شفتيها بارتباك، وهو يخاطبها بلطف (لا تقلقي، كل شيء سيكون بخير، بإذن الله سنكون بخير.) ولم يكن في حاجة تأكيد ما يُشعره بها، لذا منحته بسمة رائقة انبثقت من عمق عينيها لتزهر على ثغرها بينما تجيب بثقة (بإذن الله) *** (ليلا) (مدينة الجبال.) (مخرج جبال الثلوج) (لا تجعلني أندم لأنني قبلت بحضورك يا يونس.) هتف طارق مهددا، فرفع يونس حاجبه الأيسر ونبرته تنسل من حلقه بنزق (لا تعتبر ما سأقوله لك تخطيا لوظيفتك يا حضرة الضابط لكنني كنت سآتي مهما فعلت، ذاك الحقير يجب أن يُقبض عليه، وأنا لا أرى معك قوة تكفي.) جعد طارق ذقنه والتفت واضعا المنظار على عينيه بينما يجيبه بجفاء، فأكثر ما يثير عصبيته أن يتدخل أحد في عمله (أحضرت من أثق بهم جيدا ثم العبرة ليست في الكثرة فقط التزم بالتعليمات، وكل شيء سيتم أفضل مما خططنا له بإذن الله.) هز يونس رأسه واستدار عنه مبتعدا بخطوات قليلة ثم سحب هاتفه يطلب رقما ما، وما لبث أن ابتسم بجذل وهو يحدث مخاطبه بصوت منخفض (كيف حالكِ؟) ابتعدت سترة عن إشراق بمسافة قليلة في غرفة الجلوس لتلك الشقة في مكان ما على ضواحي المدينة، لترد عليه بخجل (أحمد الله، كيف حالك أنت؟) تنفس بعمق ثم ناشدها بوجوم اكتست به ملامح وجهه الصلبة (ادعي يا سترة، ادعي ليمر كل شيء بخير، ويحدث ما نرجوه.) عبست بقلق تجيبه (سأصلي إلى أن تعود، أنا لا أعلم ما تخفونه عني، أشعر بالجميع على علم به إلا أنا، لكنك طلبت مني الثقة، وأنا منحتها لك فلا تخذلني وعد بخير، أنا أنتظرك ولا أريد أن أعرف شيئا إلا منك أنت.) رفع رأسه إلى السماء بينما يعض شفته السفلى مفكرا بأن تلك الفتاة زعزعت أحشاءه، وأثارت فيه شتى أنواع الأحاسيس بتقديرها له ثم ثقتها به، وعليه أن ينتهي من ذاك الأمر برمته لكي يتزوج بها، إنه الحل الوحيد الذي يخوله لضمها إلى ضلوعه ويحميها من كل ما قد يؤذيها، فيسكن إلى رحابة صدرها حيث ينشد الاستقرار، وما افتقده من العاطفة. (يونس!) همست له بحيرة فأجفل يرد عليها بلهفة كشفت عن مدى تعلق قلبه بها (صلي يا سترة، صلّي لله، وادعي ليفرج همنا، ويجمعنا تحت سقف واحد... حين أعود إليك بإذن الله سأتزوجك يا سترة، فكري بهذا أيضا لأنني لا أنوي غير ذلك... في أمان الله.) انقطعت أنفاسها وكفها جامدة على الهاتف فوق أذنها، فأثارت قلق إشراق بعينيها الشاخصتين، وفكها متدلي صدمة (ما بك سترة؟ هل حدث شيء ما ليونس؟) رمشت مرات عدة قبل أن تنطق بذهول (يقول بأنه سيتزوجني حين يعود، هو ... يونس آل عيسى يريد أن يتزوجني.) ابتسمت إشراق بإشفاق تربت على خدها بحنو بينما تجيبها (محظوظ بك ابن يونس.) نظرت إليها سترة تهتف بحزن (أترضين لابنك بفتاة مجهولة النسب والأصل؟) تفاجأت سترة بضم إشراق لكتفيها بحنو، فلطالما أظهرت الجفاء كواجهة لسائر معاملاتها مع الناس منذ أن تعرفت إليها (كنت لأخبرك بكل ما يخصك يا سترة، فالأوان قد أزف، والحق بإذن الله سيظهر لكن يونس أخذ مني وعدا بترك ذلك له، ولن أنصحك سوى بأن تسعدي قلبك الطيب هذا.) أشارت إلى موضع قلبها على صدرها، تكمل بحنو(واعلمي بأنني أستكثرك عليه بالرغم من كونه ابني، فهو عنيد أحمق، ولا يشفع له عندي سوى طيبة قلبه مثل قلبك بنيتي.) ما تزال تحدق بها بدهشة لم تغادرها منذ أن طلب منها يونس أن تثق به مهما حدث ومهما طلب منها، فوافقت دون تفكير بدافع من قلبها الذي سبق وسكن إليه يصدقه تلقائيا، فلم تندم ولم تتردد حتى حين أخرجها وإشراق من بناية الدرويش تحت الأرض، وأقلهما في سيارة سوداء إلى بناية أخرى في إحدى ضواحي المدينة الجبلية. أومأت لها إشراق مؤكدة، فقالت لها سترة وهي تبتعد نحو الحمام (سأتوضأ وأصلي لله.) نظرت إشراق حولها ثم قالت بامتعاض (أشتاق إلى قططي، اللهم فرج همنا، وأصلح شأننا يا رحمن.) *** (في نفس الوقت) (منزل آل خلف) ما يزال عابسا محمر الوجه جراء غضبه الجارف، منذ أن علم بفرار الدجال الحقير قبل القبض عليه بساعات قليلة. بحث عن الضابط الممتاز طارق غير مصدق الخبر الذي بلّغه به محاميه الشخصي المكلف بقضية بلسم، ولحسن حظه لم يعثر عليه ولا أحد منحه جوابا شافيا عن مكانه، فلو كان وجده لأفرغ فيه كل سعير غضبه. (اهدأ بني! سيقبضون عليه إن عاجلا أو آجلاً.) تحدث إليه والده بمهادنة بينما يربت على ركبته، فتدخل عمه الذي لا يختلف عن الجارح في غضبه سوى باختلاف أسبابه. (فراره خطر علينا، أنت أدرى بأنهم سينفذون تهديدهم، اللهم سلمنا.) رماه جارح بسهام نظراته الحادة، فرد عليه جاسر بمهادنة (اهدأ أنت الآخر يا عمي! نحن لسنا في غابة، ولا يستطيعون فعل شيء الآن لكي لا يلفتوا الأنظار إليهم.) أسرّ الجاسر في نفسه خوفا من صدق حديث عمه لكنه مرغم على التدخل، والحد من الصراع الذي سينشأ لا محالة بين عمه وبين شقيقه، في تلك اللحظة انضمت لهم أم جاسر برفقة أم بلسم، والأولى تقول لهم بقلق وهي تجلس جوار جارح على مقاعد حديدية منتشرة في الردهة (لقد أرسلنا الطعام للرجال خارجا، أسأل الله الحفظ... بني! بلسم ترفض التحدث حتى مع والدتها) بترت حديثها حين رمقها زوجها بنظرات زاجرة، فزفرت تكمل بانزعاج (كيف سنتصالح معها إن لم تمنحنا فرصة للتحدث إليها.) بدأت أم بلسم بالبكاء مجددًا، فقامت لتجلس جوارها تربت على ظهرها، فتدخل جارح بهدوء لا ينكر الراحة التي تسللت إلى جوفه من تفاهمهما (يكفي أنكما تصالحتما، ذلك يعني لها الكثير، وستعتاد وتستسلم لاحتواء عائلتها في النهاية.) جفلهم صوت ارتطام قوي، فانتفضوا جميعا، وتقدم جارح نحو قعر المنزل بحذر، قائلا بحزم وشقيقه يلحق به (سأرى ماذا هناك؟! ابقوا هنا.) تفقد الشقيقان الحديقة حيث تأكدا من أن الرجال في أماكنهم، ولا أحد سمع ما سمعوه، وحين لم يجدا شيئا عادا ليطمئنا البقية (لا شيء، لابد من أن أحدا أوقع شيئا ما.) عم الصمت كرد مربك منهم حين اكتشفا توتر ملامحهم قبل أن يركزا على وجه والدتهما التي اختارها الدجال المجرم بعدما تسلل عبر إحدى النوافذ، ليقف خلفها مباشرة، ومسدس مصوب إلى رقبتها ساخرا بقوله السفيه (أجل، أنا فعلت، يمكنك صرف حراسك البهائم، لا يليقون لشيء سوى الأكل.) وقع قلب جارح بين رجليه لكنه تجلد بالثبات يسأله بنبرة تشبعت بالحقد (ماذا تريد؟) ضحك الرجل بتهكم، يجيبه بنفس حقده (أريد الفتاة، أين هي؟ إن سلمتموها لي سأنصرف بها لوحدها، ولن أقتل أحدا منكم لكن إن رفضتم، لن أكتفي بإصابة أطرافكم.) شرعت المرأتان في البكاء والرجال في موقف لا يحسدون عليه، فقال له جارح يحاول كسب الوقت حتى يفكر في حل ما (أذيتها لن تنفع سير القضية بشيء، سوى تورطك أكثر.) عاد إلى ضحكه المستفز قبل أن يجيبه ساخرا (ملفها الوحيد الكامل لدى الشرطة لذا سأصحبها؛ معي لنقل في عطلة! حتى تنتهي القضية بتنازل من طرف أهل الضحية التي تراجعت عن أقوالها، واعترفت بأنها سلمتني نفسها برضاها.) انتفض جارح بغضب يقبض على كفيه بشدة، فحرك الدجال المسدس جانب رأس أمه مهددا (لا! لا! انتبه! لا مجال لأفعال بطولية هنا، وفكر جيدا؛ فإن سلمتُ بهلاكي لن أخسر أكثر مما سأخسره فعلا لكن أنتم ستخسرون أرواحا كثيرة إلى أن يفلح أحدكم في الإمساك بي؟) ابتسم بسماجة لئيمة، وهو يشير إلى ضحاياه (هذه المرأة أولا ثم تلك! أجل أنتِ، أذكرك جيدا، أين ابنتك الفاتنة؟) رمق جاسر شقيقه بتحذير من أن يستجيب لاستفزازه السافل، والآخر يكمل بنفس الفجاجة المثيرة للغضب والغيظ (ألستِ من أحضرها إلى بئر السواد، وقدمتها لي على طبق من ذهب؟ ورجوتني...) غير نبرة صوته مقلدا إياها (أرجوك يا سيدي الفقيه! افعل كل شيء، وأي شيء لكي تفك عنها سحر زوجة عمها الظالمة.) نحبت المعنية بندم بينما الأخرى تنتفض رعبا بين يديه (كيف أفوت فرصة كتلك؟ إنها فتاة فاتنة وبريئة جدا!) تمعن باستفزازهم، وهو يبتسم بتشف حاقد، وكأنه منتشي بمخدر ما، أو فاقد للتوازن المنطقي (لا تنكروا أنني أتممت المهمة على أحسن وجه، فلقد سمعت بأنها تزوجت، أوووه! تأثير السحر.) ثم أطلق ضحكة صاخبة تشي بمدى عدم توازن صاحبها الذي قطع ضحكته بغتة، ليحك طرف ذقنه بحافة الفوهة قبل أن يشير بها في الهواء، مسترسلا بهدره (لا أفهم حقيقة، بما أنكم نجحتم بإلصاقها بمغفل ما، فما الداعي للفضائح؟) هتف جارح بغضب غير قادر على الصمت أكثر (أنت مجرم حقير، ويجب أن تعاقب!) قفز حاجبا الدجال قبل أن يستفزه بمكر خبيث (أنت المغفل! لا أنكر أنها تستحق....) عض شفته السفلى بسفالة، فهمّ جارح بالتحرك نحوه لكنه تجمد ليس فقط بسبب الفوهة التي عادت لتقف على رأس والدته، لكن ما جمد الدماء في عروقه حقا هي تلك النبرة الضعيفة المرتعشة التي التقطتها أذناه رغم خفوتها (أنا هنا.) استدار جارح بالعا غصته، شاخصا بظلمتيه، وفاغرا فمه بصدمة، يرمقها واقفة مكانها، ضامة ذراعيها تحضن جسدها دون أن يفلح ذلك في مساعدتها على التحكم بارتعادها (مرحبا يا فاتنة، قرار سليم جدا.) لقد سمعته، الهدوء الذي عم بعد نقاشهم الذي أنصتت إليه مكّن لصوته الوصول إلى مراكز استشعاراتها الكارهة له قبل أذنيها، ودون وعي منها تحركت بها قدماها لتتأكد من كابوس انتظرت تحققه بينما يذكرها بوجوده وأنه لن يختفي من حياتها. إنه هو، الدجال المجرم على حقيقته دون هيئته الوقورة المزيفة، فهي تعرفه وسبق أن رأته وتعرفت على حقيقته البشعة. (اقتربي يا فاتنة! سنخرج من نفس المكان الذي دخلت منه، وأحذركم إن تحرك أحدكم، ستكون هي الضحية حقا، ضحية هالكة.) ثم ضحك بعدم توازن، فتقدمت خطوة نحو مصيرها ووعيها ضائع عبر السراب حتى وقف جارح أمامها يهتف بغضب وعتاب (لن تذهبي إلى أي مكان!) زفر الدجال والجميع يراقب بأنفاس مقطوعه. الحاج مسعود يبتهل إلى ربه سرا وشقيقه يرتعد خوفا بينما زوجته لا تكف عن البكاء، وجاسر يراقب تحركات الدجال بدقة وكأنه ينتظر أنسب لحظة ليهجم عليه، أما والدته فقد استولى عليها الهدوء بشكل مريب، ومنذ أن دخلت بلسم ولمحت التحدي يشع من نظرات جارح، وهاجز وحيد يهز أحشاءها بأنها ستفقد ولديها، وهي من الأسباب الرئيسية، بل هي لوحدها السبب، فمن رفض بلسم وقصد الدجالين من أجل إبعادها ووالدتها عن ولديها؟! هي السبب، هذا التهديد الخطير، هذه الكارثة هي السبب الوحيد بها. حرك جارح مقلتيه كي يأسر خاصة زوجته فتتنبه إليه، لكنه اكتشف أنها تائهة وغير واعية بما تفعله، باطنيا تقود نفسها إلى هلاك تعتبره مسلما به من أجل عائلتها (بلسم من فضلك، أنظري إلي! أنا أحبك، لا تتركيني.) تضاعف ارتعاد بدنها بينما تحدق به لاهثة، وملامحها جامدة حين تدخل المجرم معقبا بتهكم سمج (أنا متأثر، المغفل يحب الفاتنة، أثرتم شفقتي لكن للأسف ستضطر لانتظارها حتى تنتهي القضية، هيا أسرعي!) أمالت رأسها تبلل حلقها الجاف وعيناها غارقتين في ظلمتي زوجها، تهمس له بنبرة لا تحمل سوى اليأس والبؤس بين حروفها (أنا أيضا أحبك لذلك يجب أن أذهب... يجب أن أذهب معه.) استأنفت خطواتها وجارح تحتد أنفاسه كالسكاكين تنهش صدره دون رحمة، وفي لحظة واحدة حدث كل شيء؛ تقدم جارح بسرعة يضم بلسم ليمنعها من التقدم، والدجال يصوب المسدس نحوه، والتي أمامه لهف قلبها على فلذة كبدها، فالتفتت إليه بعنف كما دفعته خلفا، فانطلقت الرصاصة من المسدس قبل أن يجهز عليه جاسر يجرده من السلاح... (أمي!) صاح جاسر وهو يمسك بعنق الدجال، فأسرع إليها جارح ينهار على ركبتيه جوارها، يتفقد موضع الرصاصة قرب كتفها الأيمن ثم صاح بأعلى صوته (أيها الأمن!) نظرت إليه بألم تنطق بوهن (كل ما حدث بسببي، سامحوني ... كله بسببي.) أومأ لها جارح نفيا، وطلب من والده مشيرا إلى موضع الجرح (اضغط هنا أبي، لا تدعها تنزف.) ألقى نظرة نحو بلسم فوجدها في حضن والدتها تبكي فتأكد من استرجاعها لوعيها ثم ذهب أخيرا إلى تحقيق مأربه (جاسر، احمل أمي إلى المستشفى سيساعدونك ، هيا حالا!) أمر شقيقه الذاهل بينما يسحب منه الدجال ثم بدأ يكيله من اللكمات، واللطمات، ومن شدة غيظه، نزع عن كفيه القفازين بحقد وعاد إلى ضربه بكل ما أوتي من قوة وحقد وذكريات سوداء. (جارح، يكفي، ستقتله!) رفع رأسه مجفلا، ليجد بلسم واثنين من الرجال ليسا من حرسه، ففكر بأنهما من الشرطة، وللحظات تسمر يرمقها لاهثا، فاقتربت منه تستدرك بنبرة مستجديه (دعه للعدالة يا جارح، لقد شفيت غليلنا معا، هيا لنلحق بزوجة عمي.) تذكر والدته فانتفض قائما بعدما نفضه عن كفيه، ليرفعهما يتأمل الدماء عليهما حين شهقت بلسم تنادي باسمه (جارح!) حاد بنظره نحوها ثم رد عليها بجفاء وهو ينزل ذراعيه إلى جانبيه (لا يهم! إنه يستحق، كلاهما يستحقان، هيا بنا!) فهمت ما قصده بالآخر الذي جمعه مع الدجال لكنها رجته برقة (اغسلهما أولا.) فهز رأسه برفض بينما يرد عليها بحزم (سأفعل في المستشفى، تعالوا هنا!) أشار لحراسه الباقين وأمرهم بتسليم المجرم للضابط الممتاز طارق شخصيا، وإن لم يجدوه ينتظروه إلى أن يظهر. بدا الضيق والامتعاض على وجهي رجُلَي الأمن، فأكمل بنبرة مهددة قبل أن يشير لبلسم كي ينصرفا (أنا آسف، لكنني فقدت الثقة بالأمن، وأنا مسؤول أمام الضابط الممتاز طارق.) *** (منتصف الليل) (مخرج جبال الثلوج) (أف! هل كذب علينا الدرويش؟) نطق يونس بغل من بين أسنانه، فرد عليه طارق بهدوء والمنظار لا يفارق عينيه (شششش!) زفر يونس بضجر، وعاد إلى مراقبة المكان بصمت وصبر حتى انتفض طارق يتحدث عبر الجهاز اللاسلكي بخفوت (استعدوا! هناك تحركات مريبة.) ثم أغلق الجهاز، يستدرك بثقة (لم يكن الدرويش يكذب.) نظر إليه يونس وهو يلحق به بينما يسأله (ماذا رأيت؟) أشار له مجيبا بغموض (سترى حالا ما رأيته.) تسللا مقتربين من الطريق العام ثم أعطاه المنظار الليلي مستفسرا منه (أنظر وأخبرني ماذا ترى؟) أمسكه يونس بلهفة وبحث عن ضالته حتى تساءل بنفاد صبر (ماذا؟ سيارة قديمة يجاورها رجلين بجلبابين وعمامتين، يحاولان تغيير إحدى عجلاتها، ما علاقة ذلك بمن نبحث عنهم؟) استعاد طارق المنظار منه وبدلاً من أن يجيبه، تحدث عبر اللاسلكي (اثبتوا أماكنكم إلى أن أشير لكم.) زفر يونس وهو يشعر بأعصابه ستنفلت من عقالها، لولا صوتٌ لفت انتباهه مع بسمة طارق المتوعدة، فاستدار مضيقا مقلتيه يلمح بهما شاحنة من الحجم الكبير تقف على جانب الطريق، وغير ذلك لم يستطع بفعل الظلام. (ماذا يحدث أيها الضابط؟ أنا لا أرى شيئا.) اتسعت بسمة طارق قائلا له بحماس أنعش صدره وأنبأه بقرب نيل الهدف (تعال إذن، ولنحظى برؤية أفضل.) لحق به مصغيا لحديثه الخافت مع عناصره معلنا عن الإشارة، وفي لحظة كانوا مطوقين للشاحنة والرجال الأربع قربها (أتعلم يا لبيد آل منصور! كنت أظنك أذكى من هذا، ولآخر لحظة.) تكومت ملامح يونس بريبة، ينظر إلى الرجال منتظرا أيهم سيرد على طارق، ليتعرف على الشيطان الذي دمر حياتهم، وكانت المفاجأة أن أكبرهم من تحدث فتمعن بملامح وجهه ليكتشف أنه بالفعل يشبه الدرويش كثيرا، ويحمل سمرة كسمرة حبيبة قلبه، وفجأة شهق بخفة وهو يتذكره، إنه الرجل الذي كان يتعامل مع والده، كيف ينساه؟ إنه هو، لطالما حضر اجتماعاتهما عن عمليات التهريب. كتم أنفاسه وما اكتشفه وهو يراقب الوضع عن كثب، فتحدث لبيد ببسمة هادئة (الضابط الممتاز طارق!) استغرب يونس ذلك الثبات البادي عليه، فتسلل الشك إلى صدره، خصوصا مع هيئته المزرية التي لا تشببه بالمرة، وطارق يرد عليه بنفس بسمته المغضبة (لا أستغرب كونك تعرفني لكن ما أستغربه حقا هو حضورك هكذا أعزلا، وبدون رجالك، وبهيئة المتشردين هذه، ماذا تفعل هنا؟ وفي هذه الساعة؟) ضم الرجل ذراعيه إلى صدره، يبتسم بطريقة تثير الحفيظة بينما يجيبه بثقة (هل هناك قانون يعاقب على هيئة المتشردين؟ أو التجول بالسيارة في منتصف الليل؟ لا أظن ذلك، وردا على سؤالك الأخير إحدى دواليب سيارتي انفجر، وحاولت إصلاحه أنا وصديقي لكننا لم نفلح، لذا أوقفنا أول من لمحناه عابرا.) ثم استدار مسترسلا يقصد الرجل الثالث الذي يقود الشاحنة (أعذرنا يا سيد على إقحامك في مشاكل يفتعلها عناصر الشرطة كما ترى، فقد انتهوا من جميع المجرمين عبر الجبال، وبدأوا بإزعاج من يتجولون بسياراتهم ليلاً، يمكنك استئناف طريقك فهم يقصدونني أنا.) همّ الرجل بالانصراف مدّعيا البراءة لكنه توقف مدهوشا كالبقية، وطارق يصدر ضحكة صاخبة، ومستمتعة (أنت بالفعل كما وصفوك، شيطان ملعون!) (انتبه لألفاظك يا ضابط! فلا أظن أن وقاحتك معي ستعجب رؤساءك.) هدده بنبرة باردة، فتنهد طارق بتهكم واقترب منه ليقف أمامه مباشرة، ينظر لمقلتيه الحادّتي النظرات واللامعتين بمكر خبيث، يواجهه بعبوس جاد ونظرات قوية (لقد وقعت يا شيطان وانتهى الأمر، أنظر لعيني وصدق بأنك انتهيت.) لمح طارق اختلاج عضلة في وجهه، لكنه لم يتحرك عن جموده مظهرا ثباتا أثار إعجابه شخصيا (لا أعلم ما الذي تقوله لكنني سأتجاوز الأمر، ولن أشتكي عليك وعلى سوء معاملتك أمام شهود، فأنا حقا أريد الانصراف إلى أشغالي.) أومأ طارق بيأس ورفع جهازه اللاسلكي مخرجا مسدسه في نفس اللحظة (الآن، هيا!) ظهر الرجال المطوقين لهم في الظلام، وصوب طارق فوهة مسدسه إلى قائد الشاحنة يأمره بحزم (افتح الشاحنة!) (ل... لكن سيدي، أنا ما دخلي، لقد وقفت لأساعدهما.) رفع طارق أحد حاجبيه باستفزاز، وألقى نظرة على وجه الشيطان بتمعن، وهو يستدرك قاصدا يونس (يونس آل عيسى، أمنحك شرف فتح الشاحنة، تفضل!) اتسعت بسمة طارق حين لاحظ تغير ملامح الشيطان بينما يلتفت إلى يونس، فاستدرك مستمتعا (أجل، إنه هو! اعلم بأنك تعرفه من قبل، وأنا متأكد من أنه يعرفك بدوره، هو فقط لم يتذكرك بعد، وحين يراك جيدا سيتذكر.) تجاهل يونس قول الضابط وركز على فتح الشاحنة بينما الأخير خلفه يشير لهم بالمسدس مهددا، وكل لحظة تمر يزداد يقينا من أن المهمة ناجحة، خصوصا وقد بدأت أنظار مساعدي الشيطان تزيغ وسحنهم تَسْود لتشبه الظلام الدامس في الأنحاء. فتح يونس بوابة الشاحنة، ولم يكن بحاجة لنور المصباح اليدوي الذي سلطه طارق نحو الحمولة، ليتأكد له صدق قول الدرويش، فالشحنة لم تكن سوى مجموعة من الأطفال من مختلف الأعمار والجنسين. (إذن يا لبيد آل منصور، ماذا يفعل هؤلاء الصغار في الشاحنة التي أوقفت قائدها ليساعدك؟) ما يزال على ثباته المثير لإعجاب طارق إلى جانب اشمئزازه، يستغرب حقيقة شعوريه المتناقضين في صدره حين هز المجرم، كتفيه بخفة معبراً عن استخفافه (لا أعرف، فأنا لا علاقة لي بالشاحنة.) اتسعت مقلتا السائق وارتعدت فرائصه، فعقب طارق ساخرا يستفزه ويستدرجه (إذن أنت من سيتحمل المسؤولية كاملة؟!) هتف الرجل بفزع من مصيره الأسود (لا! طبعا لا! أنا مجرد عامل، وعبد مأمور، لم أكن أعلم حتى ماذا أنقل بالشاحنة، هو صاحب كل شيء، أنا مجرد عامل.) علت ضحكة طارق بينما يشير بالمسدس ثم بتر ضحكته كما بدأها فجأة، وسحب الأصفاد وهو يقيد رسغي لبيد آل منصور بقسوة كما خاطبه (لبيد آل منصور، أنت مقبوض عليك بالاتجار بالبشر، وتهم أخرى سأدع مهمة حصرها للإعلام وناصري الحقوق، وسأستمتع بمشاهدة كل جهة سأوقظها لتنهش لحمك كما نهشت لحوم الناس، اقترب يا زيد أنت ومساعدك، وصور كل شيء بالتفصيل، أريد أن تنتشر الصور والمقاطع في كل مكان قبل طلوع الفجر.) اقترب يزيد باسما ببهجة لتلك الفرصة التي قدمها له طارق، غير مصدق حين هاتفه وعرض عليه سبقا صحفيا بشرط أن ينشر كل شيء قبل طلوع الفجر عبر المنصات الإلكترونية، غير مفسر هدفه من الأمر لكن الآن وهو يقف أمام أطفال أبرياء يرتعدون من الخوف، بنات وصبيان من مختلف الأعمار بين الثلاث سنوات إلى بعد العشر بست أو خمس سنوات، فهم رغبة المفتش في تحويل القضية إلى رأي عام ستهز الوطن وخارجه، وليس فقط مدينة الجبال (لقد فقدت عقلك! وستدفع الثمن.) هتف لبيد بتهديد حاقد فارتد طارق برأسه يرمقه بمقلتين نصف مغمضتين بينما يعقب ساخرا (أخفتني يا رجل!) تلكأ ليقرب رأسه من وجهه ناظرا إليه بتحدي ثم تابع بقوة حازمة (اجمع عصابتك من المجرمين مدنيين كانوا أم من الشرطة وكيدوني جميعا ولا تنظرون! فمهما تظن نفسك لست سوى شيطانا لعينا، وأنا لا أخشى سوى الله، وفي الحق لا أخاف لومة لائم، هيا أمامي!) كان يونس منشغلا بتفقد الأطفال يمنحهم بعضا مما فقدوه من الأمان، ومرت الساعات بين انتظار سيارات الإسعاف وإبلاغ كل جهة مسؤولة، وإيقاظهم على فضيحة الموسم، كما بث يزيد أول الأخبار عبر موقع القناة التي يعمل فيها على الانترنت، فضجت الدنيا واستيقظ كل مسؤول في تلك الليلة الفريدة من نوعها، حرمت الكثير من النوم إما نصرة للحق أو بحثا عن مخرج أو مرعوب من مصير بائس. توقف يونس لينظر نحو الجبال ونور الفجر يرسل بشائره بين سفوحها، وهمس لنفسه قبل أن يركب السيارة ليغادر (اظهر يا درويش، عليك الأمان، واحضر شقيقتك آمنة.) *** (أحد أوكار البئر) (هل تظن أنها ماتت؟) سألت رباب مروان بقلق عن سهر التي مر عليها اليوم بطوله غائبة عن الوعي، فرد عليها، وهو يحاول فك يديه المقيدتين دون جدوى (لا أعلم، سهر نومها ثقيل، فما بالك بفقدان الوعي؟) أخفى قلقه البالغ بادعائه المزاح، فردت عليه رباب المستسلمة لقيدها بتعب (أنا السبب، يا إلهي! هم يريدونني أنا، لا دخل لكما.) استسلم مروان أخيرا لقيده هو الآخر، ونظر إلى رباب التي أجلسوها قربه بينما شقيقته قبالتهم يجاورها رجلين آخرين فاقدين للوعي، وينزفان في تلك الغرفة الضيقة غير الآدمية على الإطلاق (كفي عن قول ذلك يا رباب، من حقك الهروب منهم، أنا لم أكن أعلم بأن أحدهم اعتدى عليك، ظننتك فقط انجرفت إلى السوء بسبب الحاجة، شرذمة من الأوغاد! خصوصا ذاك الدجال، لقد اعتدى على العديد ممن ساعدتهن، والغريب أن أهاليهن تستروا على جرائمه.) ذرفت رباب دموعها بحرقة، فقد وقعت في بئرهم مجددًا وهذه المرة سينهون حياتها لا محالة وسيقتلون من معها أيضا (سيقتلوننا جميعا، لا يهمني نفسي لكن أنت وشقيقتك، ما ذنبكما؟) زفر مروان بوجوم، فتحركت سهر من مكانها بتعب (آآآه، اصمتي يا فتاة! رأسي يؤلمني.) نظرا إليها ومروان يهتف مبتهجا بينما رباب تبتسم من بين دموعها (سهر، أفقتِ أخيرا.) (أنت حية، الحمد الله.) قالتها رباب براحة وسهر تعتدل بمشقة في الغرفة المظلمة إلا من نور مصباح مغْبَر خافت في الزاوية (ليس لوقت طويل إذا صح قولك.) عقبت بامتعاض فهتف مروان بلهفة (أسرعي يا سهر، فكي قيدي!) رمشت بجفنيها محاولة التركيز بأنظارها ثم اقتربت منه تحاول فك قيده عقبة بقلق (إنه قيد محكم.) فوجّهها مروان بحديث متلاحق سريع (هناك سكين صغير داخل جوربي.) امتعضت تعلق بقرف (يعععع! جوربك! ثم لماذا لم يقيدوني أنا؟) زفر مروان بمقت يجيبها بحنق (أسرعي يا سهر، لقد ظنوا أنك ميتة أو في غيبوبة جراء الضربة خلف رأسك.) تذكرت فمسدت مكان الضربة عابسة بسخط (أوغاد! إنه مؤلم.) (سهر!) نبهها مروان من بين نواجده، فأسرعت تسحب السكين لتفك قيده (أنا... حسنا، يا إلهي! لماذا أنت نزق هكذا؟ نحن سنموت، فأحسن خاتمتك على الأقل.) تلقف منها السكين وفك قيد رباب ثم أخفاه ، وسهر تستدرك بفتور (أعتذر إليك يا رباب، وأعتذر إليك يا مروان، سامحاني من فضلكما.) تجمدا يرمقان استسلام ملامحها للبؤس، فسألتها رباب بتوجس (عمّ تعتذرين يا سهر؟) تنهدت بكآبة وهي تسند ظهرها إلى الحائط مجيبة بيأس (نحن على وشك الموت، لقد أخبرتني السيدة من قبل بأنني سأظل على حالي أنانية ومغتابة إلى أن يباغتني الموت، وقد كانت محقة، ها هو الموت قد أزف وآخر شيء فعلته هو منع فتاة من ستر نفسها، وتهديد أخي بزيادة الفجوة بينه وبين والديّ، آه والديّ! سأموت دون طلب السماح منهما.) (من تكون السيدة هذه؟) سألها مروان بذهول، فردت عليه بعبوس (صديقتي من دار الأيتام، مقطوعة اللسان لكنها حكيمة، لقد اكتشفت صحة نصائحها الآن!) (مجنونة!) همس شقيقها وهو يتفقد الغرفة الضيقة والرجلين الفاقدين للوعي (لكنك محقة يا سهر، أنا فعلا لا أليق بأخيك.) مطّت سهر شفتيها، تقول لها بوجوم نزق (سأصدقك القول يا رباب، فنحن على وشك الموت، ولم يعد أي شيء يهم… من أعماق قلبي لم يكن الرفض بسبب أنك... أستغفر الله! بل رفضت لأنني غرت منك وقتلتني الغيرة.) اتسعت مقلتا رباب، ومروان غير عابئ بالحوار، يحاول مساعدة الرجلين على الإفاقة وفك قيديهما (الغيرة؟) هزت سهر رأسها تفسر لها بفتور (أجل، الغير من فتاة بمثل وضعك رُزقت فرصة للزواج بينما أنا؟!) جعدت أنفها مستدركة بوجوم (كنت أموت من غيظي، لم يعد مهما الآن، أنا فقط سأستغفر ربي، وأطلب منه أن يسامحني وأنطق الشهادتين عسى أن يأخذ روحي قبل أن يقتلوني بطريقة بشعة، أو ربما يفعلون بي ما فعلوه بك.) (أصمتي يا سهر! نحن سنخرج من هنا، لا أريد سماع هرائك.) زجرها مروان بغضب، وأحد الرجلين يتحرك بالفعل مستفيقاً من غيبوبته، فانتفضت باكية ترجوه (لا أريد الموت يا أخي، فأنا لم أتزوج بعد ولم أتب عن أفعالي السيئة بعد، يا ربي امنحني فرصة أخرى، وسأغير من طباعي لن أغتاب أحدا، وسأسعى في ستر الفتيات ولن أؤخر الصلاة أبدا، يا ربي سأستغفر كثيرا كما أخبرتني السيدة، ولا أريد معرفة قصة لسانها المقطوع، ولا كيف حصلت كريمة المعاقة على زوج كزوجها الوسيم، وسأزوج رباب من أخي بل وسأصلح بين أخي وأهلي، ولن أخبرهم بحقيقة رباب.) ثم نحبت بطفولية مضحكة، ورباب مفغرة فمها بدهشة، كمروان الذي أجفل على قول الرجل التعب (شقيقتك طفلة مضحكة!) نظر إليه متفحصا الكدمات على وجهه بينما يسأله بفضول (من أنت؟ وهل تستطيع مساعدتنا؟) اعتدل جالسا متحاملا على ألامه، ليجيبه بوهن (أنا من العساكر المكلفين بالمراقبة في البئر، لا تستعجلوا! بعد الفجر سيأتي الفرج بإذن الله، فقط اصبروا.) عبس مروان بحيرة، لكنه لم يجد بُدا من تصديقه، ورد عليه بينما يفحص جرحه (يجب أن نضغط على جرحك، لكي لا ينزف أكثر، وتموت.) تنهد بألم، فاقتربت منهما سهر تكمل هدرها الهستيري (لا أحد سيموت اليوم!) نزعت القميص الذي ارتدته فوق كنزتها الطويلة، وشقته إلى قطع ثم ربطت جرحه، وهي تتنفس بعنف ثم التفتت إلى الرجل الآخر بحثا عن جراح نازفة في جسده (أستغفر الله ... أستغفر الله، استغفروا! ماذا تنتظرون؟ هيا!) صاحت بهم بجنون، فأطاعوها موثرين السلامة من هيئتها المجنونة، باستثناء العسكري النازف يبتسم بمرح فرض نفسه عليه بالرغم من آلامه، وكما أخبرهم العسكري، ساعات قليلة بعدها وسمعوا هرجا ومرجا وأصواتا صاخبة حتى فُتحت زنزانتهم، وتم إسعافهم لينتهي كابوسهم وكابوس العديد ممن سجنوا هنالك عدوانا. *** (المدينة السياحية) (شقة أسامة) افترقت جفونه عن بعضها مع رنين هاتفه، وتساءل في نفسه كيف غط في النوم العميق؟! ثم نظر إلى نوران التي تتشبث به بقوة غريبة حتى وهي مستغرقة في النوم، فمنعه هاتفه الملح عن تأمل ملامحها المسترخية والتقطه عن المنضدة المجاورة له، ليرد على مخاطبه متفقدا الساعة التي لم تتجاوز السابعة بعد (أجل.) تململت نوران قبل أن تفتح مقلتيها على وسعهما حين انتفض هاتفاً بصدمة (ماذا؟ أين؟ حسنا، حسنا، شكرا لك.) تجمد يحدق بالهاتف لاهثا، فأمسكت نوران بذراعه، تسأله بقلق (ما بك يا أسامة؟) أدار رأسه إليها، ولهاثه لا يهدأ ثم عاد إلى هاتفه وشغل الشبكة العنكبوتية باحثا عن الموقع الذي أُخبر به، وحيث التهمت عيناه العناوين ثم شغل أول المقاطع الإخبارية. (يا إلهي!) همست نوران بصدمة بينما تقرأ، وتسمع الاسم الذي تعرفت عليه من فورها ثم نظرت إلى أسامة بإشفاق وخوف عليه (أسامة!) همست وهي تضم كتفيه، متوقعة الأسوأ لكن، ولدهشتها رمقها ببهجة لمعت بها عيناه بينما يسألها بحماس (هلا رافقتني إلى زيارة لمدينة الجبال؟ اعتبريها عطلة استجمام، فالجو هناك ساحر في هذا الوقت من السنة.) تكومت قسماتها بحيرة تبحث في ملامحه عن أثر للمزاح أو السخرية أو حتى المتوقع؛ المرار، لكنه كان بالفعل مسروراً (لا تنظري إليّ هكذا لأنني سأتهور من شدة فرحي، وقد لا يعجبك تهوري.) شهقت بخفة فضحك بصخب، وانقض عليها يضمها بقوة ثم قال لها قبل أن ينتفض واقفا (المرة القادمة سأتهور بطريقة أخرى.) ما تزال مفغرة فمها، وهو يبسط ذراعيه يسألها بنفاد صبر (هل سترافقينني؟) أطبقت على شفتيها ثم غادرت السرير ترد عليه بحيرة (طبعا سأرافقك لكن ماذا عن مدرس ملك؟) أمسك بذراعيها، وقال لها ومقلتاه اللامعتان تنشران وبشكل غريب عبر أحشائها أفراحا ومسرات. (سيقع هو الآخر، لا تقلقي! كل ظالم سيقع في شر أعماله، وهذا دليل دامغ.) أشار إلى الهاتف، يستطرد بنبرة قوية (الله ناصر للحق وزاهق للباطل، إن عاجلا أم آجلا.) أومأت له مبتسمة لسروره الذي ملأ كيانها، فقبّل جانب وجهها ثم هتف وهو يهرول إلى الحمام تاركا إياها تغرق في خجلها، و... مشاعرها الجديدة نحوه (أنا آسف، لكنني سعيد، والحمد لله، هيا جهزي نفسك!) خفق قلبها بقوة بينما ترفع كفيها لتتحسس حرارة وجنتيها، هامسة بذهول (يا إلهي! ماذا يحدث لي؟) *** (مدينة الجبال) (الشقة الأمنية) تمسك بصدرها لا تصدق كل ما سمعته، ذكرياتها تنهال عليها بوضوح مع كل كلمة تسمعها وكأن بابا ما في رأسها أغلق بفعل السنوات الطويلة الماضية، وفُتح أخيرا ليتوضح لها كل مشهد مشوش في خيال ذاكرتها. رفعت رأسها تمنحه نظرات تشع وجعاً طعنت قلبه فقبض على كفيه بقوة لكي لا يزرعها داخل صدره. (أجل، إنهم أشقائي، لقد توضح كل شيء في ذاكرتي، يا إلهي الرحيم!) همست بصدمة والدموع تسيل من عينيها الغائرتين بحزن عميق، فنظر إلى والدته التي استجابت لطلبه الصامت، واقتربت منها لتربت على ظهرها بحنو بينما هو يرجوها بلطف (لا تبكي يا سترة، كل شيء انتهى الآن، لقد قبضوا عليه، وأقاموا عليه الدنيا، وكل من سيرغب بمساعدته سيخشى على نفسه، لقد قضي أمره.) هزت رأسها تبكي بحرقة بينما تجيبه بتقطع آلم قلبه (لا يهمني أمره! انما هو أخي غانم توفاه الله، ووالداي ماتا، وأمي! أقصد اختي آمنة ماتت، أفراد عائلتي ماتوا جميعهم حتى لو أعدموه لن يعيدهم لي، لقد كنت أمني نفسي برؤيتي لأفراد عائلتي يوما ما، آآه ... ليتني مت ولحقت بهم.) انتفض هاتفا بغضب، وإشراق تضمها لصدرها (لا تقولي ذلك! إياك وتمني الموت مرة أخرى!) شهقت ببكاء حزين بينما تستغفر ربها فرقت مقلتا يونس، وهو يستطرد بحنو (غانم آل منصور رحمه الله أمضى حياته بحثا عنك، وترك لك أموالا كثيرة، وأوصى بك أمة لا إله إلا الله لكي يجدوك ويمنحوك حقك، أما آمنة...) تلكأ بتردد، فقد كان يتمنى إخبارها وأخته تغريد معاً حين يتأكد من حياة السيدة بنفسه لكنه لا يستطيع الصبر، ليس وكل ذلك اليأس والبؤس يطغى على محياها. (آمنة على قيد الحياة بنيتي.) سبقته والدته فنظرا إليها كلاهما بصدمة دفعت بيونس إلى طرح السؤال ذاهلا (كنت على علم بذلك يا أمي؟) زمت شفتيها وهزت رأسها إيجابا فتطلعت إليها سترة برجاء دمعت له عيناها مجددًا، تتساءل بأمل وشبه ابتسامة تتشكل على ثغرها (حقا؟ أمي آمنة حية؟) بلعت إشراق ريقها، تتأملها بنظرات حانية، مشفقة ومعتذرة. (نعم، هي حية، وليس هذا فقط.) قاطعها يونس بنبرة ممتعضة خص بها والدته بسبب إخفائها الأمر عنه، لولا ذكره لأخته الذي غير نبرته إلى مرح وحنين (لديك ابنة أخت مجنونة ستنال إعجابك.) مقلتاها الصغيرتان كبقية ملامح وجهها في اتساع، وبسمتها تشرق من صميم وجومها تردد بسهو (ابنة أخت!؟) ابتسم لبسمتها وكأن الدفء انتشر بعبقه عبر أوردته، يؤكد لها قوله (أجل، ابنة آمنة، وأختي من أبي، وأنت خالتها.) قطبت حاجبيها بحيرة، فرفع كفيه مستدركا بامتعاض (لا تسألي أتوسل إليك، ليس اليوم على الأقل، ما يهمني أن لا شيء في الشرع يمنع زواجنا، كل شيء آخر لا يهمني.) احمرت وجنتاها تطرق برأسها خجلا، فأنبته إشراق بعبوس زاجر (كف عن ذلك يا يونس، أنت تخجلها.) هز كتفيه وهو قائم بينما يقول لهما بمكر مرح (دعيها تتعود، فما إن أستخرج هويتها سنتزوج مباشرة، ولن أقبل بأي اعتراض بخصوص هذا، أنا عائد إلى مقر الشرطة، وسأعود بإذن الله حين أجد حسن وآمنة.) ضحكت إشراق لأول مرة بإشراق، تخاطب سترة الغارقة في لجة أحاسيس كثيرة، متناقضة، وبحر من الحياء (أخبرتك بأنه أحمق عنيد لكن قلبه طيب ويحبك.) تلاشى شق كبير من الحزن في أحشائها بقدرة الله الرحيم بها، وكلمة "يحبك" تحتل كيانها كُليا... يونس آل عيسى يحبها ويسعى بجبروت ليتزوجها ولا يقبل في ذلك نقاشا أو اعتراض. *** (مركز الدرك) (مكتب طارق) ألصق طارق ظهره بمسند مقعده بينما يتساءل بنبرة ذات معنى، ونظراته تشمل إخوة آل عيسى الواقفين جنبا إلى جنب قبالة طاولة مكتبه (ماذا تريدون يا آل عيسى؟ المركز كله سينفجر بالعدد الذي يملأه من البشر، وأنا مشغول جدا!) رفع إبراهيم حاجبه الأيسر دون رد، وعيسى يضم ذراعيه إلى صدره كيونس تماما، فظهرا كماردين متأهبين على جانبيه، فتحدث إليه إسماعيل برسمية (نريد أن نتأكد من سير القضية، ونعرض عليك كل مساعدة ممكنة، فلا يفلت منها بأي شكل من الأشكال، ولا تنس أيضا الدجال، جارح هاتفني وأخبرني بما حدث، ولولا حالة والدته لكان هنا بدوره.) فارق طارق مقعده بخفة رشيقة ثم مال بجانب جسده على حافة مكتبه، معقبا بتعجب (من سيفلت منها؟ على جثتي! لن يخرج بإذن الله من السجن سوى إلى قبره رأسا!) ارتسم التشفي مختلطا بالظفر على ملامحهم، وإبراهيم يحذره (أنت تعلم بأن لديه علاقات تمتد إلى رؤسائك، وقد يفعلون أي شيء لحماية أنفسهم وقد يهربونه.) مسد طارق على جبينه يفكر للحظة ثم قال له بنبرة ماكرة (لدي فكرة قد تحول التهريب إلى قتل فنرتاح منه، ومنهم.) منحوه نظرات مستفسرة، فكتب طارق مجموعة أسماء على ورقة وناولها لإبراهيم قائلا له ببسمة ماكرة (استغل علاقاتك الرفيعة المستوى، وأرسل لهم هذه اللائحة.) قرأها إبراهيم ثم سأله بفضول (وماذا بعد؟) ضم ذراعيه، مجيبا بنبرة تسلية تنضح بالمكر (لا شيء، نراقب وننتظر.) ابتسموا بتفهم، فهجمت عليهم عاصفة أنثوية تهتف بسخط (طارق يا ابن أوحدّو، وإيطّو كيف تفعل بي هذا؟) تلونت ملامح رجال آل عيسى بالمرح، والأخرى تسترسل بنزق بعدما حيتهم باقتضاب موجهة سبابتها نحو المتحجر مكانه ناظرا إليها بجمود صامت (مرحبا سيد إبراهيم، وبقية آل عيسى.) أومأوا لها بصمت وهي تكمل دون انقطاع (يزيد أخبرني بأنك اتصلت به ومنحته السبق الصحفي! كيف تحرمني من تلك الفرصة؟ أنا زوجتك، عيب عليك... عيب! نسيت ما تشاركناه من خبز وملح، وطفلين صغيرين وسنوات من العشرة.) تخصرت تلهث، فتدخل إبراهيم وهو يشير لأخوته (نراك لاحقا، السلام عليكم، سعيد بلقائك سيدة براء.) أومأت بوجهها المحمر غضبا دون رد، وهم ينصرفون فتهامس يونس وعيسى بمزاح (هل رأيت الضابط الممتاز؟) (ضاعت هيبته!) أغلق طارق باب مكتبه منفضا عنه جموده ليخاطبها بنبرة خطيرة (كيف ترفعين صوتك علي أمامهم؟) وعت لفعلتها لكنها براء وما أدراك ما براء التي تعلمت الحيل خلال سنوات العشرة مع التنين؛ عبست بحزن واستجلبت الدموع في عينيها الزرقاوين بينما تعاتبه ببؤس مزعوم (أنا حزينة بل أشعر بنفسي مغدورة، وأنا من شاركتك الحماس، والخطط.) ثم انخرطت في بكاء مرير أتقنت تمثيله فانتفض مسرعا إليها ليضمها إلى صدره يهادنها بقلق بالغ (ماذا تقولين يا حبيبتي؟ أنا لم أفعل ذلك إلا خوفا عليك، فأنت زوجتي التي أخشى عليها، ولا أريد لأي أذى أن يصيبك، أما يزيد فرجل يتحمل مسؤولية نفسه.) رفع رأسها برقة تعلمها على مدى السنوات التي قضاها معها، ومسح دموعها القاهرة لقلبه الذي لا يلين إلا لها ولبقية أهله (كان يجب أن تخبرني على الأقل، ولا تدعني أعرف من الغُرباء.) تبرم بشفتيه قائلا بتعب (لم أجد الوقت المناسب لإخبارك، أعذريني فالضغط علي هائل ثم أنا أحتفظ لك بتفاصيل حصرية لا يعرفها يزيد، لكن لوقت لاحق، وليس الآن.) برقت الزرقة فجأة من عينيها، وتعلقت بعنقه تسأله بفرح (حقا فعلت حبيبي؟ وما هي تلك التفاصيل؟) أبعدها عنه بروية بينما يجيبها بجدية (نحن في العمل يا براء، عودي إلى البيت هداك الله، وهناك سنتحدث.) عبست تزفر بحنق ومسحت دموعها بحدة ممتعضة، وحين همت بالخروج ناداها بينما يجلس على مقعده (براء.) نظرت إليه بلهفة فاستدرك بتوعد رجل جبلي جاد (آخر مرة يرتفع فيها صوتك، وإلا لن يعجبك تصرفي، ولا تظني أن مشهد البكاء قد انطلى علي، فقط هو... مزاجي.) رافق آخر حديثه بإشارة من سبابته التي رفعها إلى جبهته فنفخت بعبوس وانصرفت، وما إن أغلقت الباب خلفها حتى سمح لابتسامته بالظهور هامسا بيأس (مجنونة!) *** (المستشفى) منذ أن خرجت من غرفة العمليات إلى غرفة الإنعاش وهم ينتظرون في الرواق بصمت، لا يقطعه سوى ضجيج المارة ونحيب أم بلسم والأخيرة المتجاوزة لصدمتها دون أن تستطيع السيطرة على سيل دموعها. مسح جارح على وجهه ينظر إليها في حضن والدتها، على الأقل تصالحت معها والخير الأكبر من مصيبتهم هو التقارب الذي حدث بين أفراد عائلته حتى هو، وكأن غليله شفي من ضربه للحقير، فأتى الخبر الآخر ليكمل سعادته. لولا مصاب والدته لتمكن من التنفس أخيرا، فكيف تشتد وتشتد حتى توشك على زهق الروح ثم ترتخي مرة واحدة؟! دعا ربه أن تنجو والدته كي تكتمل فرحتهم ويرتاح قلبه أخيرا، وينعموا بحياة مستقرة. ظهر الطبيب مجددًا، فانتفضوا قائمين إليه (السيدة استيقظت، وحالتها مستقرة، لا تتعبوها بالحديث فقط اطمئنوا عليها، واتركوها لترتاح وتستعيد عافيتها.) حمدوا ربهم وتناظروا فيما بينهم قبل أن يقول لهم الحاج مسعود (سندخل إليها بالتناوب، لكن لا أحد يحدثها كي لا تتعب نفسها.) هزوا رؤوسهم بتفهم، فشملهم جارح بنظرته الممتنة، مُسرا الحمد والشكر لربه على نجاتهم، والأهم على عودة قلبه للإحساس بالحنان والحب تجاههم. *** (مساء) (المطار) صافحه جارح فاندهش أسامة من فعلته غير المسبوقة مترجما ذلك إلى كلمات (أنت تصافحني، ودون قفاز؟ أين جارح، ومن أنت؟) تبسم جارح بعتاب وامتعاض بينما يرد عليه بمجاملة (حمدا لله على سلامتك، ومبارك لكما الزواج، أعتذر إليكما لأنني لم أستطع الحضور.) هزت نوران رأسها بصمت بينما أسامة يشاكسه ببهجة (ما يحدث يستحق غيابك ونحن نعذرك، ومبارك زواجك أنت أيضا.) قادهما خارج المطار بينما يخاطبهما ببعض الإحراج (سأوصلكما إلى الفندق، لأن منزلنا في فوضى عارمة، ووالدتي في المستشفى.) تذكر أسامة فسأله باهتمام (كيف حالها؟ لقد نسيت كليا، أعتذر إليك.) (لا عليك، الحمد لله، حالتها مستقرة، وسنتمكن من التحدث معها غدا بإذن الله، اليوم اكتفينا برؤيتها فقط.) أومأ له أسامة ثم سأله بتردد (هل قابلتها؟) اتسعت بسمة جارح بشكل عجيب وكأن تحقيق وعده لغانم نشر الربيع المزهر عبر قحط أحشائه، يرد عليه بحبور (لا، ليس بعد، ابن آل عيسى حمائي جدا نحوها، ومندفع كالثور في ما يخصها، وهو ينتظرك، وينتظر عمك حسن، وعمتك وابنتها التي هي أخته لكي يجمع شملكم.) تلكأ ضاحكا حتى استغرب أسامة ونوران من حاله الغريب عليهما (ليطلب يدها منكم، هذا ما أخبرني به بالحرف.) ضحك أسامة رغما عنه، يعقب ممازحا (إنه يحبها حقا ليفعل كل ما فعله من أجلها.) نظر جارح إلى الطريق يفكر بأن الحب بالفعل إحساس غريب يجمع بين قلبين فيعقد بينهما بوثاق يربطهما بقوة. *** (اليوم التالي) (منزل آل عيسى) نفخت بحنق، وهي تلقي بالهاتف على المائدة في غرفة الجلوس، فنظر إليها عيسى ساخرا (منصف لن يجيبك، فاستحي من ربك وخذي قرارا حازما.) عبست في وجهه بطفولية، فتدخل إبراهيم ببعض التردد (تغريد، يونس يريد رؤيتك.) انتفضت، تجيبه بدهشة وسرور (حقا! أين هو؟...متى سألتقي به؟) رمقوها اخوتها بإشفاق وحق تلمع مقلتاها حنوا، فهي تعلم بما ينتظرها من مفاجأة لم يستطع أحدهم تبليغها بها حتى يتم التأكد منها. (اليوم إن شاء الله، سآخذك إليه، ولكي تري خالتك هي الأخرى.) اتسعت بسمتها بجذل ونضح السرور من ظلمتيها بينما تسأله بلهفة (لنذهب الآن، ماذا ننتظر؟) شعت نظراتهم بالإشفاق، فرفع إبراهيم هاتفه وحدث يونس ليتأكد من أمر أخير. أصغى إليه بعدما ألقى التحية ثم ما لبث أن ابتسم بدفء فتأكدوا من صحة الخبر، باستثناء تغريد المتابعة له بحيرة حتى فارق مكانه على الأريكة مشيرا لها (هيا بنا.) انتفضت تهرول وهي تهتف بحماس (سأرتدي حجابي، وأحضر حقيبة يدي.) (أخي، ماذا عن أمي؟) تدخل عيسى يستجديه الرحمة لوالدته التي يجهز عليها الندم كل يوم يمضي، فتنهد إبراهيم بوجوم ثم رد عليه (عن قريب، إن شاء الله عن قريب، هناك زوجتان لوالدنا يجب أن أؤمن حقوقهما، وأطلب من إحداهما العفو لوالدتي، وحين أحصل عليه بإذن الله، سأقابل والدتي.) حل عليهم الصمت، فقامت إليه حق تسأله زيارة بيت أهلها فتبسم لها موافقا ثم أخبرته بأن شقيقها ياسر عرض عليها أن يقلها بعد فروغه من عمله هي ورواح، في تلك اللحظة عادت تغريد مهرولة كفتاة صغيرة مبتهجة فانصرف بصحبتها. *** (قبل ذلك بساعات) (مركز الدرك) وجده طارق مرابضا جوار غرفة مكتبه، فأنبه بضجر (يا يونس ارحل! أنت تضيع وقتك.) استقام بجذعه يرد عليه عابسا (لا أستطيع العودة إليها خالي الوفاض، لقد وعدتها.) أشار له ليتبعه إلى غرفة مكتبه، قائلا له بحيرة (وكيف تكون متأكدا من أنهما سيقصدان المركز تحديدا؟) ألقى يونس بجسده على أحد المقعدين بينما يخبره بثقة (لأن الدرويش قال ذلك!) احتل طارق كرسيه خلف مكتبه، وهو يفسر له بتفهم (أنا أيضا فهمت ذلك من كلامه، لكن تأخره، شككني في الأمر.) (ما كنت لأخلف وعدا قطعته أبدا.) انتفضا واقفين، ومجفلين ثم استدارا إلى المدخل حيث ظهر رجل لا يمت للدرويش بهيئته الشهيرة بصلة؛ اختفت اللحية البيضاء الطويلة والجلباب المهلهل، وبقي وجه عادي بلحية قصيرة فضية، كشعره الحليق، فاعترف يونس لنفسه بأن مظهره يوحي بعمره الحقيقي أكثر من السابق، وبسبب قصر قامته أظهرته ملابسه المكونة من قميص وسروال قطني، أصغر حتى من والده الذي يُعتبر قرينه وفي مثل سنه. (سيد حسن، أين؟) بتر يونس سؤاله وهو ينظر خلف حسن حيث تقف امرأة لا تختلف عن أخيها لا في ضئالة الحجم ولا قصر القامة، ترتدي جلبابا نسائيا وطرحة كبيرة غطت رأسها و نصف جسدها العلوي، متكومة على نفسها حياء (هي؟!) أشار لها يونس، فابتسم السيد حسن متلاعبا بحاجبيه مرحا (أجل، ومعي جميع الأوراق الثبوتية، وخاصة سترة أيضاً.) فغر يونس شفتيه بذهول، فتدخل طارق يبسط يده مصافحا (تشرفت بمقابلتك سيد حسن، أخيرا.) شد على يده بقوة، يرد عليه بسرور (بل الشرف لي أيها الضابط الممتاز، شكرا لك لأنك لم تخيب ظني بك.) هز رأسه بتفهم، يشير له إلى المقعد (بل الشكر لك، لأنك تحديت الشيطان وصبرت على الزمن، لكي توقع به، الكثير من الناس ممتنين لك.) عبر الوجوم قسمات وجهه بينما يسحب شقيقته خلفه قائلا بحزن (لم يكن سهلا، لكن من يريد التكفير عن أخطائه بحق، يجب عليه أن يصبر.) جلس طارق بينما يونس ظل واقفا، يتابع الحوار وقلبه يدق من فرط بهجته وحماسه (إذن سيد حسن آل منصور، من أين نبدأ؟) سأله طارق، فنظر حسن إلى شقيقته ثم عاد إليه بينما يضع حقيبة صغيرة سوداء لم ينتبهوا لها قبلا، فوق سطح المكتب (من البداية، وهنا ستجد كل ما استطعت جمعه من دلائل على صفقاته الممنوعة، وصور له مع شركائه، ومقاطع فيديو لاجتماعاتهم، وأيضا ...) ازدرد ريقه باشمئزاز قبل أن يتابع (بعض ممارساته الشاذة مع الأطفال.) قفز حاجبا طارق عاليا بينما يهتف بصدمة، وهو يمسك بالحقيبة (لديك كل هذا حقا!؟ لماذا تأخرت إلى الآن؟) تشنجت ملامحه وغارت نظراته مجيبا بأسى (سترة، لقد كان يهددني بسترة، وأنا أهدده بآمنة لأنها التي شهدت جرائمه داخل العائلة، اعتدائه على أخي غانم، وابنه أسامة، اتفاقه مع جد إيجة زوجة يونس، وتزويجها هي من يونس مستغلا سكره، لقد كنت في موقف صعب، فهو يملك أعينا خبيثة كثيرة، وأنا بالكاد كنت أحرص على إخفاء آمنة والبحث عن أدلة جديدة على جرائمه الحديثة فكان يجب علي التخطيط بروية ومكر أدهى من مكره، فأنا كنت قاهرا له بإخفاء آمنة، وكنت مقهورا بسجنه لسترة يهددني بإنهاء حياتها.) فتح طارق الحقيبة يسحب ما بداخلها بينما يونس يتدخل معقبا بتهكم (لقد كنت بارعا في السجع، وفي الألغاز، أنت وأمي.) بادله البسمة ملاعبا بحاجبيه، فاستدرك يونس موجها الحدث لدامعة العينين بصمت (سترة في انتظارك يا خالة.) بللت شفتيها تبكي بصمت، فأضاف (وابنتك أيضا، ستفقد عقلها حين تعلم بأنك على قيد الحياة.) هزت رأسها باسمة من بين دموعها، فعبس يونس مستطردا (لماذا أشعر بأنك لست متفاجئة؟) ضحك حسن فضحكت هي الأخرى بخجل، فهمس يونس بإدراك (إشراق، أليس كذلك؟) جمع طارق الأدلة ونهض عن كرسيه قائلا بحزم (سأنادي الكاتب، لنبدأ التحقيق.) *** (منزل آل طالب) ترك أختيه في غرفة الجلوس برفقة زوجة أبيه، وصغيراه اللذان صاحا فرحا بلقاء أبناء عمتيهما، ليتوجه نحو المطبخ حيث لابد من أن زوجته هناك تجهز الضيافة. أسند جذعه على دفة باب المطبخ وضم ذراعيه إلى صدره، متأملا زوجته المنهمكة في رصِّ المعجنات على الأطباق بتركيز منعها من الإحساس بحضوره، فتفحص هيئتها بعباءة منزلية من نوع مريح وساتر ترتديها ومثلها دائما خارج غرفتهما خجلا من والده، وشعرها الأسود مجموع فوق رأسها بفوضوية ناسبت استدارة وجهها. رفعت رأسها إليه فدق قلبه استجابة لبسمتها الدافئة بينما تخاطبه برقة (ياسر! لقد وصلتم بالفعل!) اقترب منها ليضمها ويقبل جبينها فنظرت خلفه بينما تعاتبه (قد يرانا أحد ما!) استند بحافة الطاولة الرخامية للمطبخ، يدعي الحنق (وماذا في ذلك؟ أنت زوجتي يا حفصة.) ابتسمت له بحلاوة بينما تشاكسه بالقول المرح (أخبر الخالة ميمونة بذلك، أود سماع رأيها.) استدارت تضع براد الشاي قرب كؤوس البلور، مصغية لرده الممتعض (لولا أبي لانفصلنا بالسكن، لكن أنا وحيده ولا أستطيع تركه.) اقتربت منه لتربت على ذراعه بينما ترد عليه بعتاب (بارك الله بعمر عمي عبد الله لكن حتى لو لا قدر الله بقيت الخالة لحالها، لن أسمح لك بتركها فهي في مقام والدتك.) رفع رأسه زافرا الهواء بقنوط ثم عقب بضيق (لطالما تساءلت كيف تتحملين تصرفاتها، وكلماتها اللاذعة.) ابتسمت بهدوء وهي تعود لإكمال ما تفعله (لأنها غير مؤذية، لا يعيبها سوى لسانها... إنها تثير شفقتي وفي كثير من الأحيان تضحكني بتصرفاتها الصبيانية.) تلكأت أمام نظراته المعجبة بحكمتها، واحتوائها له ولعائلته رغم كل ما يواجههما من عواصف الحياة ثم أكملت بوجوم نفضته عنها بسرعة (هناك من يؤذي بالفعل، وهناك من يكون عيبه لسانه، وخير دليل على وجهة نظري الصغار.) قطب حاجبيه بحيرة فاسترسلت مفسرة (كان أكثر ما أخشاه، أن تفرق بالتعامل بين أولادنا أو أولاد حق، وبين أولاد رواح لكن ذلك لم يحدث ولله الحمد، وهي تحبهم جميعهم ولا تفرق بينهم في العطايا، لذا أستغرب تظاهرها بالسخط عليهم أمامنا، وسأظل أبحث عن السبب حتى أعرفه.) أنهت حديثها بمرح، فطوقها يداعبها بالقول الحسن(هل أخبرتك بأنني اشتقت إليك؟) أومأت بيأس قبل أن تستكين لحضنه الحاني، تتزود من عواطفه الدافئة، شاكرة الله كل حين على نعمه عليها، فنسيت كل شيء سوى قربه منها كعادتها حتى انتفضا على هتاف الخالة ميمونة يرج زوايا المنزل (أين الشاي يا حفصة؟) رطن ياسر بخفوت، وحفصة تضحك بينما تسرع بحمل الصينية نحو غرفة الجلوس. *** (الشقة الأمنية) تروح وتجيء عبر الردهة الصغيرة بينما تفرك يديها بتوتر، وتتساءل هل حقا ستقابل عائلتها؟! شقيقها وشقيقتها واثنين آخرين؛ أحدهما تكون عمته، والأخرى ابنة أختها بل من قامت بمقام والدتها... ابنة أمها آمنة. (يا إلهي!) همست، وهي تضم خديها المتوهجين بهجة وحماسا. (اهدئي يا سترة!) نصحتها إشراق برأفة، وملامح تنضح راحة وبهجة منحت تقاسيمها التي كانت عنوان الهم والغم رونقا يبشر بالخير والسرور، فابتسمت لها بينما تجيبها بفرح (ليس بيدي، قلبي يرفرف في صدري يا خالة.) ضحكت إشراق، ودموعها تفر من مقلتيها رغما عنها حين فُتح الباب أخيرا فاحتبست أنفاس سترة في صدرها، ودق قلبها بسرعة أكثر لمرأى يونس أولا وهو يرمقها بثقة وزهو، فهو من وعدها وسألها الثقة به، فكان على قدر وعده، وعلى قدر ثقتها ثم وفجأة انتشر الدفء عبر أوردتها بينما تبصر أحبتها؛ هما اللذين لم تنس ملامحهما وكانا في قلبها قابعين، آمنة كأم اعتبرتها حضنها الآمن، والدرويش حارسها الراعي، والذي ارتبطت به نفسيا حتى وهي تجهل هويته. أطلقت سراح قدميها مهرولة نحوهما بينما تهتف بعدم تصديق (أمي!) تلقفتها آمنة بلهفة، تهمس لها بوجع (سترة، حبيبتي، آه! الحمد لله، أحمدك يا ربي وأشكرك.) (وأنا يا سترة، أليس لي نصيب من هذا الشوق؟) تضمان بعضهما بقوة ويأس يثير رأفة أقسى القلوب حين تدخل حسن ببسمة حانية، فابتعدت عن صدر آمنة، وهي تبكي وتقبل وجهها ثم انسلت منها لترتمي في حضن شقيقها تعاتبه بنبرة متهدجة (لماذا أخفيت عني حقيقتك؟ كنت سأحفظ السر بحياتي.) قبّل حسن أعلى رأسها ثم أبعدها ناظرا إلى وجهها بينما يخاطبها بحنو (لأن حياتك غالية علينا يا صغيرتي، وما كنا لنضحي بها مهما حدث حتى لو كلفتنا أرواحنا.) عادت لتندس في حضنه تتنعم بانتمائها المفقود، فتدخل يونس الذي انتفخ صدره من قوة ما غمره من مشاعر قوية تجذبه نحوها، مأخوذا بتفاصيلها ورقتها فلجأ إلى الحنق ليداري به تأثره وغيرته (يكفي بكاء! ها هما أمامك، فماذا ستفعل المجنونة الأخرى حين تأتي؟) لم يكد ينهي حديثه حتى سمعوا صوت جرس الباب، فاستطرد ساخرا وهو يتجه نحو الباب (ها هي قد وصلت، نسأل الله السلامة.) ضحكوا بتوتر وانتظروا بتوجس، وترقب خصوصا آمنة التي شعرت بقلبها الذي انتظر هذه اللحظات طويلا حتى تمكن منه اليأس سيتوقف أو ينفجر. ارتد يونس بجذعه، ولولا قوة قدميه لوقع أرضا والمجنونة تنقض عليه متعلقة بعنقه هاتفة بحنين وشوق، وحب كبير تحتفظ به في قلبها لأخيها الحبيب (اشتقت إليك كثيرا، وأنا أحبك وأكرهك في نفس الوقت.) نظرت إليه باكية وهي تتفقده وتملأ عينيها بملامحه الحبيبة إلى قلبها، فهو أقرب من عرفته كوالد وقلب حنون عليها قبل إبراهيم (اهدئي، سأقع بسببك! كيف حالك يا مجنونة؟) ضربت أعلى صدره لائمة، وسترة تراقب بنوع من الغيرة تجاهلتها ساخرة من نفسها (وهل يهمك أمري؟ لو كان الحال كذلك لأتيت لرؤيتي، أنا غاضبة منك.) تبسم لها بفخر، وربت على رأسها يخاطبها بحنو وتقدير (لقد كبرتِ، حجاب، وفستان ... أين الصغيرة تغريد؟) احمر خداها فرفع حاجبيه دهشة، يشاكسها بالقول المرح (وتخجلين أيضا!؟ إبراهيم من هذه؟) أومأ له إبراهيم بعتاب متأثرا بحالة أخته الصغيرة بينما هي تدفعه مجددًا زاجرة بعبوس، وهي تلمح بقية الحاضرين فحثها بعدما ضم كتفيها لتسير نحوهم (تعالي هنا، أريد تعريفك إلى شخص ما.) وقف قبالة سترة، واستدرك ببسمة معجبة ونبرة خفتت بينما يصفها بما يصفها الناس فتلمع نظراته غيرة وتملكا نحوها (هذه الفتاة السمراء المليحة، خالتك.) ارتبكت سترة ودقات قلبها تصم أذنيها حتى زحف الاحمرار على سمار وجنتيها، وتغريد تعقب بمشاكسة وهي تلتقط ما يحدث بينهما (مممممم، سمراء مليحة، هي فعلا جميلة، مرحبا خالتي مع أنك أصغر من هيبة اللقب!) ضحكت سترة بحرج، فضرب يونس أخته خلف رأسها، كما كان يفعل في صغرها (أي! لقد كبرت على ذلك، دعني أضم خالتي.) رفع كفيه باستسلام بينما هي تضمها وتهمس لها بفرح (سعيدة جدا بالتعرف عليك يا سترة، اسمك جميل.) (شكرا لك، اسمك أجمل يا تغريد!) ردت عليها بخفوت وهو لا يرحمها من حصار اهتمامه، فابتعدت تغريد عنها باسمة في وجهها، حين سحبها يونس يقول لها بمزاح (يكفي هذا، هناك آخرين؛ هذا السيد حسن آل منصور خالك!) اتسعت مقلتاها وهي تتذكر مشاهد بعيدة جدا لرجل عابس تعرفه على أنه خالها، ولم تره سوى مرات نادرة فجعد يونس جبينه مستغربا ما قرأه بسهولة على قسماتها، وفي تلك اللحظة تعرفت على إشراق كذلك، لتنهال عليها ذكريات الماضي باعثة عبر أحشائها الوجوم فتجهمت ملامحها، والدموع تتلألأ على صفحة عينيها مهددة بسيول مرتقبة. (آسفة، لقد فهمت أخيرا بأن قسوتكما عليّ حينها كانت مبررة لكي تعيدوني إلى بيت أهلي، لكنني...) فهم يونس بأن تغريد وبخلافه سبق لها رؤية خالها لكنه تلجم صامتا بينما هي تبلع غصتها، وحسن يقترب منها ليقول لها بحزن ورجاء (بالله عليك يا ابنتي، انسي الماضي فقد كان يجب أن تبقي مع والدك وأخيك إلى أن يتم إرسالك إلى بيت جدك، وبقية اخوتك حيث ستنعمين بالأمان، لقد كانت خطة كبيرة ممتدة عبر سنوات طويلة.) هزت رأسها باكية، وارتمت في حضنه تشهق ببكاء حارق فأضاف بنبرة متهدجة تخفي قهر رجل لا ينكر خطأه فتحمل تبعات ذنوبه (لكنني أتيتك بأمانة، حفظتها بحياتي لكي أعيدها إليك والحمد لله، ربي أعانني برحمته وكرمه.) رفعت وجهها الباكي إليه باستفسار، فأشار لها نحو آمنة المحمرة الوجه من شدة حرقة بكائها وألمها، بينما الجميع متجمدين بترقب (المرأة التي أنجبتك، والدتك، ومن أسمتك تغريد.) انسحب الهواء من صدرها كما انسحبت الدماء من وجهها وجف فمها بينما قلبها يزلزل أحشاءها، فشخصت مقلتاها على امرأة تفتح لها ذراعيها تبكي بقهر وألم الفقد، وعذاب الظلم، فتعثرت الحروف على لسانها بتقطع يقطع نياط القلب (ابنتي ... ت.. تغريد!) بلعت ريقها مجبرة ثم اكتسح الهواء صدرها بحدة أوجع حلقها، فنطقت بعدم تصديق وذهول (أ...... أم..... أمي!؟). التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 19-08-24 الساعة 03:21 AM | ||||
22-04-18, 01:46 AM | #792 | |||||
مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟
| اقتباس:
تسلمي غاليتي ... . وشكرا لك على رايك المشجع ... 🌷🌷🌷 | |||||
22-04-18, 01:59 AM | #793 | ||||
مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟
| الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 60x( الأعضاء 35 والزوار 25)**منى لطيفي (نصر الدين )**, ebti+, yasser20, karima seghiri, **sweet girl**, المشتاقة الي الجنان, rasha emade, الاء ابراهيم, زهرةالياسمين, sasad, ابتسام عبدالله, فيانتا, jasmin-1234, ToOoOmy, أم جمانة 01, rosy.dart, pearla, همس البدر, Alanoud., amanyhossam, Alice laith, fatima mimen, الطاف ام ملك, لك ربي, Heba Atef+, EXO-L, Reem salama, loulouys, محمد السيد العاصمي, فتاة من هناك, sweet123, انيين الرووح, Zainabalghazi شرفتوووني😍😍😍 | ||||
22-04-18, 03:45 AM | #794 | ||||
| يالرووووعة جمال متناهي ابداع ليس له مثيل .. أتمنى أن لا ينتهي والله تعجز الكلمات ... ولا أجد إلا جزاك الله خيرا لتعبر لك عن امتناني فأنت مزجت برقي حبكة القصص مع الدعوة لله . أسأل الله لك القبول ... بانتظار جديدك فلا تحرمينا من حلاوة حديثك غاليتي .. | ||||
22-04-18, 05:41 AM | #798 | ||||||||
نجم روايتي
| و اقتربت النهاية و ككل نهاية عمل مؤثر و هادف يتنازعني شعوران فرح لأبطال توجعنا و تالمنا لالمهم و حزن لمفارقتهم بعد أن أصبحوا جزءا من حياتنا و من صباحات آحادنا. ..سلمت يداك | ||||||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|