25-02-18, 02:41 AM | #291 | ||||
مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟
| الفصل الثالث الحرمان قد يكون طريق العطاء، لأنه ربما أعطاك فمنعك وربما منعك فأعطاك، وقد يكون المنع عين العطاء... محمد راتب النابلسي. (مشاهد من الماضي.) (القسم النفسي في المستشفى العام لمدينة الجبال.) انتصب الرجل على مقعده ببدلته الأنيقة يكسوها معطف يوازيها أناقة، يناظر طبيب النفوس بمقلتين رغم ما يوهنهما من غورٍ لا ترتعد فيهما الحدة. *الملاحظات؛ تدهور عضوي، تماسك ظاهري، لوم الذات.* (كيف حال صحتك سيد غانم؟) هز رأسه وهو يلصق كفيه بأعلى ركبتيه، يجيبه ببسمة باردة (الحمد لله ...أفضل مما يجب أن تكون عليه من وجهة نظر الأطباء.) انتظر إسماعيل قليلا ثم باح له بملاحظة (ما تزال هنا، ظننتك ستيأس وتعود إلى المدينة السياحية.) تلكأ وكأنه يبحث عن رد لم يسعده (لم أجدها بعد، لكنني لا أستطيع فقدان الأمل فيها هي الأخرى.) حرك إسماعيل عويناته يتمعن في ملامح وجهه الشاحبة. *الملاحظات؛ أمل زائف، البحث عن صلة بالجذور.* (ماذا ستفعل إن لم تجدها؟) انبثقت الحيرة من قلب ملامحه ثم هز كتفيه يرد عليه بهدوء (لن أيأس، سأظل أبحث عنها.) (لماذا هي بالذات دوناً عن باقي عائلتك؟) طرح عليه سؤالاً متوقعاً اجابته التي احتدت مقلتا غانم له أكثر بينما يمنحه له بجمود (هي عائلتي! لا أحد منهم عائلتي، هي لوحدها.) ضيق إسماعيل مقلتيه قليلا يعقب بحذر (هل صدقتكَ حينها؟) على غير توقعه، لاحت شبه ابتسامة حنين لحبات نور نادرة وسط ماضٍ مظلم كالنجوم حين تزين سماء شديدة السواد (كانت صغيرة جداً، وأظن صغر سنها وبراءتها ما جعلها تصدقني في الوقت الذي تبرأت فيه مني باقي عائلتي، أولهم والداي.) عادت القسوة لتنقض على مقلتيه عند ذكر والديه، فناقشه إسماعيل (ما تزال على شعورك حتى بعد وفاتهما!) تنفس بصعوبة أبدته أكثر وهنا ثم رد اليه (منحتهما مسامحتي قبل موتهما لكن مصابي يرافقني فلا يدعني أنسى السبب.) *الملاحظات؛ غضب عميق، بحث عن التعويض.* (لماذا ساعدت ذلك الفتى؟) وجهه لطريق آخر ليواجه عمق نفسه، فتجمدت ملامحه وكأنه فوجئ من تغير مسار الحديث (إذا توقعت عدم سؤالي عنه، فلما أخبرتني بما حدث معه؟) هز كتفيه النحيفين بخفة يرد عليه وهو على استقامة عوده (توقعت سؤالك عنه حين أخبرتك من قبل.) ابتسم إسماعيل بعملية وهو يجيبه (أغلب الأسئلة تتوه ردودها إن لم تُسْأل في وقتها المناسب.) بادله بسمته الرسمية بينما يهز رأسه ثم أفصح له عن مشاعره (رأيت فيه نفسي في مثل عمره، ضائع في الأزقة، وكانوا ...) صمت يشد على شفتيه بألم، فأكمل عنه إسماعيل (أنت أنقذته من بين براثن الدعارة!) اتسعت مقلتاه الغائرتين بشكل طفيف، ورطب شفتيه الجافتين شحوباً. *الملاحظات؛ أعراض رد الفعل ذاتها، عدم تجاوز الأمر رغم نكران آثاره.* (هل كنت تتمنى منقذا مثلك يا سيد غانم؟ يأتيك في نفس تلك المرحلة من عمرك؟) راقبه بسهو، وكأن الكلمات تتجسد أمام بصره على شكل سهام سامة موجهة إلى أحشائه، ولم يتحدث إلا بعد مدة (ربما، أنا لم أفكر حينها، شيء ما جعلني أسرع إليه أنتزعه منهم، وأهددهم بإبلاغ الشرطة إن لم يطلقوا سراحه.) رفع إسماعيل وجهه ينظر إليه، وهو يسأله (أين هو الآن؟) جعد ذقنه مجيباً بهدوء (في مكانه الطبيعي، على مقاعد المدرسة. ) أمال رأسه قليلاً يسأله بنظرات مبهمة (كم يبلغ من العمر؟) جعد جبينه يرد عليه بحيرة (خمسة عشر سنة.) فعقب إسماعيل بتفكير (ممممم... أليس من عمر شقيقتك التي تبحث عنها؟) زفر الرجل بمشقة ممسكاً بصدره، وشحوبه يتضاعف، فاستدرك إسماعيل وهو يسحب آلة التسجيل على المائدة المنخفضة (لنكتفي بهذا اليوم، ما رأيك بأسبوع تفكر فيه جيداً، وسأعيد طرح السؤال عليك بإذن الله.) تشنجت ملامحه بتهكم بينما يرد عليه (وما أدراك بأنني سأعيش لأسبوع آخر؟) ابتسم إسماعيل بمودة يرد عليه بثقة (لا أحد منا يضمن عمره، مرضك لا يحرمك من امتياز تمنحه لي العافية، كلانا في طريق الحياة بأقدارها المتقلبة، وقد يكون عمري أقصر من عمرك، وكلنا لنا آمال نسأل خالقنا أن يحققها لنا.) رمقه بتقدير وهو يستقيم كجندي متأهب، وصافحه شاكراً ثم حيَّاهُ لينصرف *** وبالرغم من أناقته ببدلته ذات العلامة التجارية الفخمة، كفخامة المعطف فوقها إلا أن شحوب بشرته ونحول جسده حتى برزت عظام وجهه يكشفان عن مدى خطورة مرضه، وتعبه الشديد الذي يحاول إخفاءه بكبرياء، وهو يجلس باستقامة جذعه، ويضع رجلا على أخرى ملتحمتان ببعضهما من شدة نحولهما، وعلى قمة ركبتيه تستكين كفاه، باطن إحداهما على ظهر الأخرى. (أعتذر إليك دكتور، لا طاقة لي بالوقوف كي أصافحك، ولا أظنك تريد مصافحتي، والدليل ظاهر على محياك.) تمالك إسماعيل نفسه، واقترب منه يمد له يده لمصافحته بينما يرد عليه بود (الصدمة على وجهي لأنني لم أتوقع استسلامك للمرض، فأنت مقاتل شرس، وقاتلت الحياة بضراوة وشجاعة.) رمقه بتأثر يخص به طبيب النفوس دوناً عن غيره، يجيب وهو يضم كفه بكلتا كفيه (أنت قلتها يا دكتور، قاتلت الحياة... معركتي الآن مع الموت، ولا أحد ينتصر على الموت، لا أحد.) رفع إسماعيل كفه الحرة، وربت بها على كفيه الدافئتين بلطف، فتركه الأول ليجلس بالقرب منه بخلاف عادته باستعمال المقعد البعيد أمام المرضى (كيف حالك يا سيد غانم؟) ضم شفتيه كما ضم كفيه المرتعشتين، وهو يرد عليه بحزن (رائحة الموت تحيط بي يا دكتور، ولا يهمني سوى أمرين اثنين.) انتظره بصمت ليكمل، فاستطرد (كيف سيكون لقائي بربي؟! ثم شقيقتي التي لم أجدها بعد.) أومأ له بتفهم ثم خاطبه بلطف (أحسن الظن بالله ستجده عند ظنك به، أنا لم أكن متأكدا من عودتك حقيقة، وكنت أنوي الاتصال بك.) ما يزال الرجل على بسمته الحزينة وهو يجيبه (لا أعلم لماذا عدت؟! لكن شيئا ما يربطني بهذا المستشفى، كما أنني لا أستطيع الافتراق عن هذه الجبال رغم كل ما عشته فيها من عذاب، قررت أن أدفن تحت ترابها، وقد أُوفّق وأجد شقيقتي قبل أن تفيض روحي إلى بارئها.) هز إسماعيل رأسه، وقال له بهدوء (لا يهم سبب عودتك كما لا نعلم متى ستموت، فرغم خطورة مرضك ما قُدر لك من أيام لتحيياها ستكملها عن آخرها لا أقل ولا أكثر، وكذلك باقي البشر، أما شقيقتك، ادع الله ليحفظها أينما كان مكان وجودها.) عاجله قائلا بلهفة (لا يمر يوم أو صلاة دون أن أدعو الله بحفظها.) بتر كلماته والوجع ظاهر على محياه، فأكمل إسماعيل بود (ليس هذا فقط .. كيف حال ذاك الفتى؟) زم شفتيه بخفة يفكر لوهلة قبل أن يرد عليه (يجب أن يرى طبيبا نفسيا، لا أظنني لحقته قبل أن تنال منه بعض من بشاعة الدنيا، لكنه سينجو، بإذن الله سينجو.) ابتسم له إسماعيل بينما يهز رأسه موافقا، فاستطرد برجاء (أريد منك خدمة، وأتمنى أن لا ترُدني.) لمع الصدق في نظراته بينما يرد عليه بصدق (لو كان باستطاعتي، لن أتأخر..) شكره ثم تابع (لقد تركت وصية، ورتبت أموري، كما تعلم لدي أناس قريبين مني لكنهم ما يزالون قاصرين من ضمنهم شقيقتي إن وجدتها في حياتي أو بعد وفاتي، المجلس الإداري للمجموعة سيستمر على نفس منوال العمل بعد وفاتي إلى أن يستلم بعض من القريبين مني مناصبهم حين يكملون العشرين من عمرهم، ويستلمون حصصهم، شكلت لجنة من أناس أثق بهم، ليتابعوا سير الأعمال كل ثلاثة أشهر، ثم يحضرون حين موعد تسليم الحصص لأصحابها، وأتمنى أن تنضم إلى اللجنة.) انتظره بترقب تحول إلى ارتياح حين اتسعت بسمة إسماعيل يرد عليه بتأثر (أنا أشكرك على ثقتك بي وبالطبع يسعدني المشاركة في الخير الذي تفعله، هذا طبعا إن لم يسبق أجلي أجلك تقبل الله منك.) (آمين يا رب، بل أشكرك دكتور على موافقتك، سأرسل لك الأوراق مع المحامي غدا بإذن الله، ولتتفقا على الراتب.) قاطعه إسماعيل بعتاب (لا يا سيد غانم، شرطي الوحيد هو أن أفعل ذلك لله فقط.) حل عليهما الصمت بعد أن أومأ له بتفهم، فسأله إسماعيل بترقب (هل سامحته يا سيد غانم؟ أقصد شقيقك الكبير؟) رفع المعني رأسه مجفلا واكفهر وجهه النحيف للحظة وجيزة تحولت بعدها ملامحه إلى تفكير، وهو يجيبه (قد لا يصدقني أحد بعدما فعله بي، حتى نفسي قبل أن أصاب بالمرض.) تلكأ قليلا كأنه متردد ثم استدرك وهو ينظر إلى عينيه بنبرة أرعدت قلب إسماعيل (حين يكون المرء على شفا خطوة من الموت، وهو على معرفة أكيدة بذلك يسترخص كل شيء في الدنيا حتى الظلم.) ارتفعت زاوية فمه بتهكم، يكمل (ما كنت أحاول نسيانه طوال حياتي ولم أفلح أصبحت أنساه منذ أن أضحى الموت قريبا، قريبا جدا مني، وقد سبق وأخبرتك بما يهمني الآن.) تحدث إليه إسماعيل باستفسار (هل هذا يعني أنك تصالحت مع نفسك؟) تحولت بسمته إلى الهدوء، وهو يجيبه بتلقائية (كل ما أعرفه أنني لم أعد أذكر شيئا يتعلق بالدنيا، حتى لا وقت لدي لأذكر شيئا آخر خارج نطاق هدفيّ.) غيّر إسماعيل الموضوع كليا، يسأله باسما بمودة (أنت لم تخبرني باسم شقيقتك من قبل.) غزا الحنين تقاسيم وجهه التعب، وهو يجيبه بدفء (سُتْرَة آل منصور.) *** (الحاضر) (مدينة الجبال، منزل آل عيسى.) (غرفة إسماعيل) وعى من شروده، وحرك نظارته قبل أن ينتزعها بينما يزفر بحيرة ثم التقط هاتفه ليطلب رقماً ما (السلام عليكم جارح، كيف حالك؟) تلكأ يصغي إليه ثم تحدث إليه مجددًا (يجب أن نلتقي غدا إن شاء الله، أظن أنني تذكرت أمرا مهما، مجرد استنتاج قد يكون صواباً أو خطأ، حسنا... إلى اللقاء.) شعر بحركة جواره، فالتفت إليها ووجد زوجته تبتسم له بدفء مشوب بقلق، فاستفسر منها (هل كنت مع الصغار؟) هزت رأسها، وهي تجلس بجانبه ثم وضعت رأسها على صدره تقول له بقلق (إبراهيم يتعبني، سلوكه يقلقني.) ابتسم ممسدا على شعرها بحنو (لا تقلقي، تعرفين أنه أمر طبيعي في مثل ذاك العمر، ونحن سنقوِّم من سلوكه، وبإذن الله ربي يصلحه ويهديه.) رفعت أنظارها إليه لتفضي له بمخاوفها، وكأنها تفكر بصوت مسموع (هل تظن أننا قد نفشل في تربية أولادنا؟ أو قد! أقصد، يصبحون عكس ما نتمنى لهم؟) فهم قصدها فضمها إليه كي لا تلمح الخوف يعبر مقلتيه بوميض مظلم خاطف، وهو يجيبها بثقة يستمدها من حسن ظنه بخالقه (الطفل يا حبيبتي من خصائصه التعلم بالفكرة، والتعلم بالصورة، لا يستطيع الطفل أن يفرق بين المبدأ وبين الشخص، ونحن ولله الحمد نوفر لهم مثالاً حسناً بمحاولاتنا الحثيثة للالتزام بالصلاح، واعتناق مبادئ العقيدة الصحيحة على أمل أن يتعلموا منا لأنها أول أسس التربية.) قاطعته بحزن (لكن هذا لا يمنع وجود حالات تشذ عن القاعدة.) قبّل أعلى رأسها ثم أجابها مؤكدا على ما تعلمه بدورها يقينا لكنها تحتاج لمؤازرة، واطمئنان (أعرف يا حبيبتي لكننا سنفعل كل شيء من أجلهم، التربية بالتلقين، والتربية بالعقاب، والتربية بالموعظة والله معنا هو ولينا... لا تنسي ذلك أبدا، ولن يخيب ظننا فيه، ولن يضيع مجهوداتنا.) أمّنت على قوله، فران عليهما الصمت كل منهما يبتهل لربه في سره. *** (المدينة السياحية) (بيت أهل نوران) بلعت نوران ريقها تضم إليها ملك بقوة حتى أنّت الأخيرة بألم، وهي تراقب شحوب وجه عمتها. صخب أنفاسها لم يسمح لها بفهم محتوى الحوار الدائر بينهم، وكل ما تلمحه حركات وتعابير وجوههم؛ بسمات والدها الودية والمشوبة بإحراج، ووالدتها التي حتما لا تصدق نفسها بتهافت الشباب على ابنتها الباردة يطلبون ودها كما تمنت، وذاك الرجل يبتسم بثقة واضعاً رجله على أخرى في حلته الجذابة، يكمل بها لوحة نفاقه البراقة... هي وحدها فقط تدرك حقيقة بشاعتها الخفية بين ألوانها المبهرجة؛ نبرته الرزينة، وبسمته الواثقة رغم السنوات التي أكسبته هيبة مزيفة بشعيرات فضية تخللت سواد شعره الذي بدأ بالزوال من على مقدمة رأسه. يبتسم لوالدها تارة ثم لوالدتها أخرى ثم ها هو ينتقل بعينيه الخبيثتين إليها، وها هي تلك اللمعة المقرفة تنضح من مقلتيه، لا أحد يميزها سواها، إنه يخبرها بما تفكر به في التو واللحظة، يخبرها بما كان بينهما، ارتفع القرف عبرت حنجرتها بعد أن هام عبر صدرها، "بينهما"... كيف ذلك؟ هي لم تكن طرفا بل ترفض أن تكون طرفا من "بينهما". الحقير يرمقها بجرأة لا يفهمها أحد من والديها، مشيرا إلى ماض يجمعهما، رغما عنها يجمعهما، وإن كانت الطرف المغصوب، وإن كانت الطرف الضعيف، فهي طرف من "بينهما". تنبهت حين نظر إلى الصغيرة بين ذراعيها، وشفتاه تتحركان بكلام ما، فأرغمت نفسها على التركيز (الصغيرة جميلة مثلك، إنها تشبهك كثيرا.) تثاقلت أنفاسها على عكس ما حدث معها سابقا، كما تثاقلت الأصوات حولها، وهو يرمقها ويرمق الصغيرة بالتناوب، وفي لحظة.... استدارت وانطلقت دون كلمة واحدة، وكلما أضافت خطوة، أسرعت بالتي بعدها وقلبها يتسابق معها بل يتجاوزها بسرعة كبيرة. أغلقت الباب بالمفتاح ثم استأنفت هرولتها نحو السرير، ودون أن تنزع عنها حذائها سحبت طرف اللحاف، واندست تحته برفقة الصغيرة التي لم تتخل عنها، تشد عليها بقوة. ظلت صامتة بينما تجلس على ركبتيها، وتطوق الصغيرة في حضنها، يلفهما اللحاف حتى أنفاسهما لا تكاد تسمع. (عمتي؟!) لم تجبها، فأعادت الصغيرة نداءها وهي تراقب جمود قسمات وجهها (عمتي رورو؟!) نظرت إليها أخيرا، فاستدركت بحيرة (هل نلعب الغميضة؟) أطلقت سراح أنفاسها أخيراً ثم نظرت حولها لتحدد زوايا الغرفة الصغيرة، فتشعر بشيء من أمانها المفقود قبل أن تعود إلى الصغيرة تجيبها بنبرة لاهثة (ملك لا تقابلي ذاك الرجل مرة أخرى أبدا.) عبست الصغيرة بريبة، وجهل بينما نوران تكمل بتحذير شارد (لا تتحدثي مع ذلك الرجل حين يأتي إلى هنا، أدخلي غرفتك وأقفلي الباب بالمفتاح، واختبئي تحت اللحاف، أو اسمعي!) هزت ملك رأسها، وشفتاها الزهرتين مفتوحتين بدهشة (نامي، كلما جاء في زيارة للمنزل اذهبي للنوم، ولا تردي على أمي إذا بحثت عنك، اتفقنا ...ها؟!) ما تزال الطفلة تومئ لها بحيرة، فهزتها بخفة تطالبها بتأكيد (عديني ملك، عديني بأنك لن تقابليه، ولن تجلسي على حجره أو حتى تسلمي عليه، عديني.) شعرت الصغيرة بخوف من قسوة ملامحها بالتزامن مع قوة ضمها لها، فتشنجت ملامحها الصغيرة تقول لهت بخوف (عمتي، أنت تخيفينني.) شلت أطرافها بينما ترمقها بمقلتين جاحظتين ثم أطلقت سراحها على حين غفلة، ونهضت لتقف على رجليها، وضمت ذراعيها متكومة على نفسها، والصغيرة على السرير ترمقها باستغراب عبر عنه (ماذا بك عمتي؟) زفرت نوران بقوة ثم عادت لتجلس باعتدال على طرف السرير مستديرة إليها ترد عليها بتحذير أكثر تعقلا وكياسة عن هدرها السابق (ذاك الرجل صديق أبي، لا أريدك أن تقابليه مهما كان السبب حتى لو طلب منك أبي أو أمي ذلك، فقط تحججي بأي شيء، وبلغيني من هاتف البيت، اتفقنا؟!) قامت الفتاة واقتربت منها تجيبها بتلقائية، وحب تكنه لها (حاضر عمتي ....أعدك.) ضمتها ومرغت وجهها في شعرها تشم عبيرها العطر عنوان البراءة والنقاء، تستمد منه بعضا من السكون لنفسها، تفكر بما ينتظرها من خيارين أحدهما علقم، والآخر سم قاتل. *** (مدينة الجبال) في بناية فخمة أبعد ما يكون عن بئر السواد بواجهتها الراقية، وتنسيقها الأنيق تشع منها ليلا أنواراً براقة تخطف الأنظار، بريق يجذب كل طامع وكل فاقد حكمة يُستدرج بحبات فتات تلو الأخرى إلى أن يجد نفسه في ظلمة غائرة، لا يكاد يلمح فيها كفه إذا قلبها، فيقف على الحقيقة الصادمة أن المكان الفخم ببريقه الخاطف وأنواره البراقة ليس سوى أعمق نقطة سحيقة من بئر السواد. وإلى هناك تحملها خطواتها المتمهلة بتمايل مدروس، تعلمته ومثيلاتها كطريقة مهمة للبراعة في عملهن، هذا ما تنفك تقنع به نفسها، وغيرها يفعل، أوليس كل من يعلل لنفسه سوء خطيئته يدعوها بالعمل؟! تلفتت حولها في ذاك البهو الكبير البارد، يحيط بها هواء بارد زائف ككل ما يحتويه المكان من زيف، فلم تجد أحدا كالعادة سوى رخام فاخر يواجهها في كل اتجاه؛ البلاط والجدران. واجهة منمقة لما اكتشفت لاحقا بأنه الفخ المحكم، والمصيدة. ابتسمت ساخرة بمقت من الكلمات الأخيرة ثم مسدت على فستانها المعانق لقدها الرشيق، وهي تقترب من هدفها حين التقت بفرد من أعضاء الظلمة، تعرفت عليه رأسا دون لحيته وثوب الصلاح *ثوب الفخ* الذي يستدرج به ضحاياه. كيف لا تعرفه وهو من اصطادها ليلقي بها داخل البئر دون رحمة؟! وكان هو المصيدة التي تلقفتها على حين غفلة؛ غفلة منها وغفلة عنها. ابتسمت بتشفي، وهي تلتقط ملامحه الساخطة توحي بما ناله من توبيخ صارم من.... اقشعرت أطرافها من تذكره فكان دوره ليبتسم بلؤم وهو يقترب منها هامسا بفحيح (كنت حانقا بالفعل من غضبه لكن الآن، وبما أنه سيقابلك، بشكل ما سعيد بإغضابي له، سيكون حنونا معك.) ثم ضحك بصخب انقطع حين ردت عليه بحقد (يبدو أن ضحيتك هذه المرة افتضح أمرها، وباتت المدينة بأكملها تعرف حكايتها وخلال نصف يوم فقط، هل هذا ما أغضبه يا ترى؟!) تلكأت قليلا لتمط شفتيها المطليتين فيما يشبه بسمة قبل أن تكمل، وهي تميل برأسها المكسوة بخصلات شقراء (اضطراره الوشيك للتضحية بأحد أتباعه في سبيل البئر؟!) احتدت ملامحه، ودنا منها ليستفزها بفحيحه المثير للبغض (هل تعلمين؟! ضقت ذرعا بالجثث الغائبة عن الوعي، وبما أنك أصبحت من أفضل محترفات العصابة، فربما أسعى لفرصة أخرى معك وأنت بكامل وعيك!) اشتدت بغضها المرتسم على وجهها بتعبير كريه، تجيبه بفحيح أشبه بفحيحه (أقسم إن اقتربت مني سأحرقك وأحرق البئر بمن فيه.) استقام واقفا يبتسم بتهكم، وهو يدس كفيه في جيبي سرواله، قائلا باستخفاف (أنت تحلمين، ولا تنسي أنك "بمن فيه".) استقامت بشكل حاد ثم اقتربت منه بمسافة مدروسة لتظهر له مدى ضعف نفسه الحقيرة، فاستجاب لها متمعنا بتقاسيم وجهها التي ظلت بشكل ما تتشبث ببراءة كانت تملكها، وفقدتها على يديه، وهذا ما يجعلهم يتمسكون بها فهي بدورها تشكل فخا بارعا ببراءتها المزيفة. تمالكت ارتعادها من الحقد عليه دون أن تخفي قرفها منه يكسو سحنة وجهها حين نطقت بغل أحرق نياط قلبها (لا يغرنك عمق البئر، فكلما زاد عمقه سهل تفجيره ...بوووووووم!!) تعلقت مقلتاه بمحياها ثم أظافرها حين جمعتها وفتحتها إشارة إلى الانفجار، بينما هي تكمل بنفس النبرة الهامسة والمتأرجحة بين الحقد والتهكم (حينها سينهار سطحه ليدفن قعره، والنار تحته تتقد، وتشتعل بحطبها، وصدقني...) ابتعدت أخيرا عنه تضيف قبل أن تتركه، وتستأنف طريقها (سيسعدني أن أكون من ضمن حطبها فقط لتحترق البئر بمن فيها يا .....دجال!) اقشعرت أطرافه، فبلل شفتيه وزفر بينما يعدل من طرفي ياقته ثم عقب بعدها بلحظة وهو ينسحب (مجنونة، حتما مجنونة.) دقت الباب قبل أن تدخل حيث تناهت إلى أسماعها أنغاماً موسيقية من نوع الأوبرا تنافس الغرفة في برودتها المزيفة كزيف صاحب البناية، فلاحت بسمة ساخرة على جانب ثغرها حين لمحته على مقعده الضخم خلف طاولة مكتبه، كملك على عرشه بتلك الحواف الذهبية يجاوره أحد سواعده التي لا تدري هل تدعوه يمنة أو يسرة، فسكنت مكانها، ومساعده يُشعل طرف مبرم التبغ المكلف، أو ما يطلق عليه السيجار ثم وضعه على المنفضة أمام المتظاهر بتذوق النغمات التي لا تعدو عن كونها صراخا يقع على رأسها بمزيد من المطارق، ويبدو أن المساعد لمح تعبيرها حين رفع رأسه إليها مبتسماً بمكر صاحبه إلى أن مر جوارها يهمس لها قبل أن يتجاوزها خارجا (أريد رؤيتك بعد أن تنتهي مع الرئيس.) بلعت غصة مقرفة لم تعد تفارقها، وتقدمت خطوات من طاولة المكتب، تنتظره لكي ينتهي من استمتاعه المتظاهر بتلك الصرخات الناضحة من مكبرات الصوت تكاد تفقدها عقلها كلما تعالت إلى أن رفعت كفها تمسد أذنها، فقرر النطق أخيرا يسألها دون أن يفتح مقلتيه أو يرفع رأسه عن مسند مقعده (هل نجحت بكسب صداقتها؟) ضمت شفتيها وتشنجت ملامحها بينما ترد عليه بتردد (لقد أخبرتك بأنها لا تصادق المو... أقصد من هن مثلي.) فتح مقلتيه مع حدة نبرتها في آخر حديثها ثم بسط كفه إلى السيجار وحمله ليدسه بين شفتيه بطريقة لمحت زيفها هي الأخرى، فتهربت بمقلتيها بعيدا عنه مطلقة سراح أنفاسها حين رد عليها بلؤم تجسدت بسمته على جانب ثغره (استغلي نقطة ضعفها إذن!) حدجته بنظرة قاتله تقبلها على رحب، وهو يكمل بقسوة باردة (ألم تكوني يوما مثل تلك الفتيات اللاتي تسرع إلى مساعدتهن؟!) ردت عليه بحقد، وقد احتشدت الذكريات البشعة على عين خيالها (لماذا لا تستدرجونها بنفس الطريقة إن كنتم تريدونها بذلك اليأس؟!) تراجعت بعد ما نطقت به تتوقع غضبه إلا أنه ولغرابة الأمر ظل هادئا يزفر الدخان من صدره قبل أن يجيبها بتعبير مبهم للغاية (لا، أنا أفضل أن تدخل البئر برجليها وبرغبتها، وإن أفلحت في دفعها لذلك حصلت على تذكرة خروجك منه، أليس هذا ما تريدينه؟!) فغرت شفتيها بدهشة وبسمته الخبيثة تتسع، مردفاً بنفس الخبث (إن دخلت هي خرجت أنت...انصرفي!) *** (بعد أسبوع) (المدينة السياحية) (مقر المجموعة غانم آل منصور) أسرع أسامة خلف نوران ليوقفها لكنه لم يلحق بها، فتوقف يزفر بحنق يحدث نفسه (تلك العنيدة، يا إلهي! كل ما أريده الحديث معها ...مر الأسبوع ولم أتمكن من رؤيتها مرة واحدة.) علا رنين هاتفه، فتنهد يرد على مخاطبه (نعم يا جارح، ماذا هناك؟!) أنصت لبرهة ثم رد عليه (أخبرتك بأن ما تفعله لن يأتي بنتيجة، الدكتور إسماعيل محق باستنتاجه، أحد ما يخفيها، أنا وأنت نعرف من قد يكون!) صمت مجددًا ثم رد عليه بعدها بقلق (أجل الليلة...وتلك الحمقاء تتهرب مني.) مسد جبينه يقول له مودعا (نعم، كل شيء على ما يرام لكن يجب أن تعود قريبا...سلام.) علا رنين هاتفه مجددا، فنظر إليه متنهدا بقلة حيلة، وفتح الخط بينما يمشي نحو سيارته (أمي مرحبا، أجل، أنا قادم.) *** (مدينة الجبال) منذ أن غادرت المستشفى وشعور غريب يغمرها، وكأن أحدا ما يراقبها أو يترصد لها. استعجلت من سيرها مانعة رأسها من التلفت خوفا أو شجاعة واهية، لا تدري حقا، لكن قلبها دق هلعا حين عاد شعورها ليحتل صدرها، فالتفتت رغما عنها تلمح ظلال الظلام، وعادت إلى النظر حيث موطئ قدميها، تشتم المكان وبؤسها الذي يجبرها على البقاء فيه، وما إن تراءت لها البناية المتهالكة حتى أطلقت ساقيها للريح. أغلقت الباب بعنف واستندت عليه تتمالك أنفاسها الفارة منها حين أجفلت على نبرته الذكورية الرخيمة (ما بك؟) رفعت رأسها وكفها ما تزال تمسك بصدرها، فبللت شفتيها وتجاوزته مجيبة بجفاء (لا شيء.) شيعها بنظراته الغامضة ثم سألها (ألم تقرري بعد؟) توقفت لتأخذ نفسا عميقا تهدئ به فرائصها ثم استدارت إليه تقول له بحدة، فقد طفح بها الكيل من كل شيء يحيط بها (لا أملك جواباً غير ما أخبرتك به! ألا تفهم؟! يا إلهي!) خفتت نبرتها التي تهدجت من فرض الضغوطات تبشر بغيث من غيومها السوداء لعلها تسقي جفاف أحشائها، فتجمد مكانه يحبس أنفاسه حين تغيرت نظراتها إلى الحزن، وسقط قناع الجمود عن قسماتها كاشفاً عن حقيقتها الكامنة... شابة صغيرة، ضعيفة كانت طوال الوقت تدّعي الشجاعة بردودها العنيفة كأخرى لا تكاد تفارق ذهنه ويشتاق إليها حد الوجع، حد البكاء، وحد الهروب منها، الهروب من لقائها الذي قد يضعفه، ويغريه باللجوء إلى الحضن الدافئ للعائلة الحقيقية، وهو لن يفعل! ليعفو عنه ربه وليسامحوه جميعا، لن يفعل حتى يستحق العيش بينهم بكرامة، ولا يكفي ما فعله، أجل لا يكفيه! وحين يحقق الهدف بمعالجة الأصل والجذور، حينها فقط قد يستحق الحياة بينهم. رمش بجفنيه مرة واحدة بالتزامن مع حركة تكاد تلمح من رأسه لينفض عنه وهن قلبه في حين كانت هي تتمالك نفسها عند أول الغيث لتعيده من حيث أتى، وإن لم تتخلص من رطوبته كليا (أمضيت عمري منذ وعيت على هذه الدنيا في البحث عن أجوبة لما تسألني عنه، هل تظن أنني سعيدة بحالي هذا؟! أنت لا تعلم شيئا، أنت...) زفرت بإحباط، فهم بالرد عليها لولا شجار الشقيقين المتكرر (ماذا فعلت لأبي حتى لا يهتم بغيابك عن المنزل؟ وحين أهاتف أمي وأطلب منها أن تريحني من حمقك ترد علي بأنها وأبي ملا منك ومن تصرفاتك الهوجاء وأرسلاك إليّ لأتحمل مسؤوليتك علّني أصبح رجلا حقيقيا! هل هذه خطة جديدة لتحويل حياتي إلى جحيم؟) نفخت سترة بضجر، وعادت للخلف خطوة بعيدا عن ذلك المارد الذي توقف بدوره دون حركة بينما الاثنان يبلغان جوارهما غير مباليين بهما (كما أخبرَتك أمي، لقد ملاّ مني ومن وجودي غير المجدي في المنزل، وأصبحا يُدَلِّلاّن عليّ لأتزوج، هل تصدق هذا؟! لم يترك أبي رجلا في الحي، وحتى في بلدتنا الأصلية يبلغ من العمر فوق الأربعين ولم يخبره عن ابنته العانس التي أكملت الأربعين، ولم ينظر إليها صنف ذكر تعِس!) لهثت سهر من فرط عصبيتها، وسترة تدعك جبينها تعباً، وإحراجا غمرها من نظرات يونس المدققتين بحدة (وماذا بيدي لأفعله لك بحالي ومسكني الوضيعين كما ترين بنفسك؟ ولا أحد من رفقائي يصلح كزوج حتى لو كان أكبر مني.) عبست سهر بشدة وقد فاض بها الكيل، ولم تعد تستطيع تحمل حقد قلبها خصوصا مع زواج ابنة خالتها 'المعزة' كما تلقبها منذ صغرها، غير قادرة على سماع مزيد من المقارنات والحسرة من والديها، فهتفت بحمق كأنها فاقدة للأهلية (افعل شيئا، لا يهمني كيف أو ماذا؟ دبر لي زوجا من الفضاء حتى! أنا مللت، ولم أعد أطيق نظرة الناس المشفقة والشامتة، ولا نظرة أهلي المتحسرة بضيق!) قفزت حواجبهم في نفس اللحظة تعجباً بينما هي تكتف ذراعيها متابعة بتصميم (أنت أخي، وأنا مسؤوليتك، وسمعت الشيخ يقول في أحد الدروس على شاشة التلفاز أن لا بأس في عرض الأب لابنته على الرجل الصالح، ولا نص يحرم ذلك في الشرع بل هي من السنن المهجورة.) مقلهم في اتساع، وهي تكمل مدافعة بمحاضرة حفظتها بمشقة على ما يبدو، تحرك يديها في كل اتجاه (حتى أنه ذكر في القرآن، لا أحفظ الآية لكنني أذكر منها أن صاحب مدين عرض ابنته على سيدنا موسى عليه السلام، كما قال الشيخ بأن عدة رجال من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام فعل ذلك، وأبي حاول وفشل به، وعليك أنت المحاولة.) صمتت رافعة ذقنها بعبوس، ومروان يعقب بدهشة يشوبها التهكم (الشرع يا سهر؟! الشيخ و السنن؟! منذ متى؟!) جعدت أنفها بامتعاض، وهو يكمل ساخراً بمقت (ما آخر أخبار المسلسل التركي يا سهر؟! ذاك الذي انقضت خمس سنوات ولم ينقضي بعد، والهندي الذي تتابعين إعادته كل صباح فقط لكي تزعجي نومي!) تخصر بيد واحدة بينما يحك ذقنه بأخرى مسترسلا، وهو يرمقها بتهكم (والمنوعات الشرقي والغربي، والشعبي حين تقررين إنقاص وزنك على حد قولك وأنت تقفزين في كل اتجاه كمجنونة فرت من مستشفى المجانين... آه نسيت، وماذا عن المسلسل الكوري!! هذا غير الإنتاج العربي؟! أين وجدت الوقت بين كل ذلك لدروس الشرع؟!) عبست في وجهه، وهو يقهقه مستدركا (أم أن دروس الشرع مقتصرة على عرض الرجل لابنته على الرجل الصالح، أين هذا الرجل الصالح يا سهر؟! هنا؟! في بئر السواد؟! وا حسرتاه على حصيلة نسلك يا والدي؛ ابن مدمن، وابنة مجنونة فقدت عقلها عن آخره!) (مروان؟!) هتفت زاجرة، فتلفت حوله قبل أن ينظر إلى سترة، يقول لها بانفعال (سترة! أنت تساعدين الفتيات.) انتفضت تتخصر هي الأخرى بتأهب، ويونس يترقب بصمت بينما مروان يسحب شقيقته ليوقفها أمامها متابعاً بنفاد صبر (بحق كل مرة طلبت فيها مساعدة مني ولم أتأخر عنك، ساعديها وأبعديها عني، أنا رأسي يؤلمني ولم أجد من يشتري لي حجرا واحداً أو حتى لفافة تبغ تعدل مزاجي، فأنا مفلس.) قطبت سترة حاجبيها تستنكر بحنق (وماذا سأفعل بها أنا؟!) دفع بشقيقته حتى أوشكت على الاصطدام بسترة، قائلا بسخط (لا علم لي، تصرفي! لطالما ساعدتِ الفتيات، ساعدي هذه! اعتبريها من ضحايا المجتمع الأحمق!) فقدت بقايا صبرها تهتف بعصبية (من أخبرك بأنني أعمل خطابة؟!) كتف مروان يديه معقبا والآخر يقترب نحوهما بتأهب (لقد كنت للكثيرات أم نسيتِ أنني كنت العريس.) جعدت ذقنها ترد عليه بتهكم (المخدر والتبغ أتلفا دماغك، أين أي من تلك الفتيات اللاتي تزوجتهن؟؟! فكر يا ذكي!) عبس مقطبا فشوح بيديه قبل أن يستدير هاربا من الموقف (لا شأن لي، جدي لها حلا! أنا ذاهب كي أعدل مزاجي إن وجدت مالا!) شيعوه بنظرات غير مصدقة، وهو يفتح الباب فوجد أخرى كانت تهم بدقه، فتراجع هاتفا بصدمة من هيئتها المزرية (رباب ...ماذا حدث لك؟) تقدمت نحو سترة تلقي بنفسها عليها وتنوح (سترة، هل ترين ما فعلوه بي؟ أنا لم اعد أطيق!) تأملوها بتمعن مريب، وسترة تدفعها قليلا لتسألها بينما تتفحص الكدمات على وجهها وعنقها، وملابسها المشققة من الجوانب (ماذا حدث يا رباب؟! من فعل بك هذا؟) رمقتها بحقد عزوه لمن فعلوا بها ذلك، وهي تجيبها (أنت تعرفين من يفعل هذا وأكثر! أنا لا أريد العودة لمثل ذلك مرة أخرى! أرجوك ساعديني!) فتحت سترة فمها وأقفلته مرات عدة لا يسعفها لسانها بكلمة واحدة، فاستدركت الأخرى متشبثة بها (أنت وعدتيني إن قررت التوبة حقا ستساعدينني.) هزت سترة رأسها مستسلمة، وضمتها مشفقة تحثها على المشي نحو غرفتها، فقالت سهر بريبة (أليست هذه من العا...) (سهر اصمتي والحقي بي!) قاطعتها سترة زاجرة، فعبست تلتفت إلى شقيقها الذي عبس أكثر منها مشيراً لها كي تطيعها، فزفرت بحنق وهي تخطو خلفهما. (من تكون؟) سأل يونس مروان وهو يضيق مقلتيه ريبة، فأجابه الأخير قبل أن ينصرف (ظننتها من مومسات البئر في بداية معرفتي بها وبعد مدة، لا أدري! هناك شيء ما غامض حولها، لكن ما أنا متأكد منه أنها دائما ما تحوم حول سترة.) شد يونس على قبضتيه وقد أظلمت مقلتاه حقدا وكرها شديداً لنوعية رباب، وشيء ما آخر أبى الاعتراف به. *** (المستشفى القسم النفسي) مسد إسماعيل أعلى أنفه وهو يحرك عويناته من مكانها، يرفض التخلي عن هدوء أعصابه على عكس زوجته التي نطقت بشيء من العصبية (يا سيد خَلف، ما تطلبه منا مستحيل، ابنتك ما تزال تحت الملاحظة، وبعيدة كليا عن موعد الخروج هذا غير أن التحقيق مستمر، وينتظرون مني إذنا لتدلي بأقوالها.) انتفض الرجل من مكانه واقفا، يقول لها برفض وتوتر (لا داعي لذلك، فنفسيتها معلولة كما تقولين، وكل ما ستقوله لن يصدقوه، أليس كذلك؟) تناظرت وزوجها قبل أن يربت على يدها مهدئا ثم نظر إلى الشاب الذي يرافق والد المريضة، يجلس على المقعد المجاور لعمه؛ يوجه له الحديث لمعرفة ما يفكر به (الفتاة في أسبوعها الأول من العلاج، ولم تبدأ بعد بالاستجابة كليا، وبعد محاولتها لإنهاء حياتها لا يمكن التكهن بردود أفعالها لكن حين نقرر أنها تستطيع الإدلاء بأقوالها فكل ما ستقوله سيكون صادرا عن إنسان مستقر عقلياً.) أومأ له الشاب برزانة، وأمسك يد الرجل الأكبر منه سنا والمتوتر لكي يعود إلى الجلوس، قائلا (أتفهم ذلك يا دكتور لكن أفراد العائلة قلقون عليها، ونريدها أن تعود إلى البيت دون أن تنقطع عن علاجها، تعرفون بأن حبسها في المستشفى يضخم من حجم الفضيحة.) زفرت طائعة، وإسماعيل يسأله ما شغل باله منذ أن لمح الشاب برفقة الرجل (هل أعرفك من قبل سيد جاسر؟) أومأ له الشاب نفيا مقطبا بحيرة بينما إسماعيل لم يجد وقتا للتفكير حين رن هاتفه، فاستله من جيب سترته ليجيب مخاطبه (أجل، أنا في مكتبي، سأنتظرك! ... حسنا.) أنهى المكالمة، واستقام واقفا يقول لهما بصراحة وبتعبير مجامل (من فضلكما الوضع واضح، ابنتك لن تخرج من هنا إلا بعد أن تستكمل علاجها، ولن يمنعها أحد عن الإدلاء بأقوالها للشرطة.) صك الرجل أسنانه بقوة، وغيظ فهمّ بالهتاف لكن الشاب منعه مبتسماً ببرود يرد عنه (مفهوم يا دكتور، شكرا لكم.) وقفت طائعة هي الأخرى تنفخ بتعب، والرجلان يهمان بالمغادرة حين دخل شخص آخر وتوقف الزمن بهم جميعا. *** (المدينة السياحية) (منزل أهل نوران) انضمت إلى المائدة أثناء العشاء مرغمة، سلمت على خالتها وابنتها وتجاهلت أسامة بعد أن منحته إيماءة بسيطة، فقلدها محافظا على قناع مبتسم برسمية، خصوصا بعد مجموعة الوصايا التي تلقاها من والدته دون ذكر مراقبة أخته وزوجها له. وإن كانت "المجمد المتنقل" تهون عليه الأمر بتحملها نصف غرابة الأمر وبالتالي نصف مراقبتهم لهما أيضا. أخفى بسمة جانبية وهو يلمح خالته تلفت نظرها بدفعة خفيفة من كوعها، مشيرة لها كي تبتسم في وجوه الضيوف. (كلي يا أختي، لست بحاجة لدعوة عزيزتي.) ابتسمت غالية بدفء، ترد على أختها بمودة (الطعام لذيذ، شكرا لك.) ضحكت أختها تمازحها بالقول، والبقية بين مراقب بتسلية، ومشفق و....غاضب (كنت لأخبرك كما يفعل الناس في مثل هذه المواقف أن العروس من طبخت لكنك خالتها وأدرى بها.) ضحكت غالية وباقي أفراد العائلة بينما نوران تكز على نواجذها غيظا، وهي مطرقة برأسها على طعامها. (هل العروس مستحية؟) ألقت نزهة بتدخلها المتهكم بتعمد، فرفعت رأسها بحدة ووالدتها تنظر إليها بقلق من ردها الذي ألجمه رد خالتها على ابنتها بنبرة ذات معنى (ولماذا ستخجل؟ نحن عائلة واحدة، ونوران ابنتي قبل أن تكون ابنة أختي.) ظل أسامة مراقبا لها، وكأنه ينتظر بركاناً نشطاً سينفجر في أي لحظة، يشاركه إحساسه زوج خالته وابنه الذي تدخل بمرح بعد أن أكملت غالية حديثها (هي بالتأكيد عروس لكننا لم نسمع ردها بعد، واحذري خالتي هناك منافس في الساحة.) التفتوا إليه جميعا ونوران التي احتبست أنفاسها في صدرها، فرفع كفيه باسما بحرج (يجب أن تخبروهم بالأمر، أليس كذلك؟) قطب أسامة جبينه حائرا في نفس اللحظة التي نظرت فيها والدته إلى أختها باستفسار أجاب عليه زوجها (صديق مقرب مني، خطبها لابنه لكننا أخبرناه عن أسامة.) زفرت غالية براحة اختفت حين أكملت أختها بفخر لا تعرف كيف هز أحشاء ابنتها برعب حقيقي(لكنه أصر، وقال إن هي رفضت ابن خالتها أنا أولى بها.) "أنا أولى بها.... أنا أولى بها" ظلت العبارة تدور في رأسها ساحبة الدماء من وجهها والأنفاس من صدرها؛ لماذا لم يقل "ابني أولى بها" أو حتى "عائلتي أولى بها"؟ لم تسمع عتاب خالتها لأختها، ولا مراقبة أسامة الغامضة، والمدققة لها، ولا حتى نظرات اللوم من أبيها نحو أمها التي تراجعت تتأسف وتعتذر لشقيقتها، كل ما كان يدور في رأسها التعبير الذي علق فيه كقرص مضغوط قديم، أقسم على عدم رحمتها بصخبه: "أنا أولى بها... أنا أولى بها" فجأة انهالت عليها الصور المعذبة لروحها وتمادى بها العذاب إلى تغير صورتها وهي صغيرة لتحل مكانها صورتها الحالية فاختنقت باشمئزازها وفرار أنفاسها من رئتيها، ودون وعي انتفضت واقفة تهتف بلهاث (أنا موافقة!) التفت حولها الأنظار المتفاجئة، فنظرت إلى خالتها ثم إلى أسامة تكمل بنفس اللهاث (أنا موافقة على الزواج منك أسامة... عن اذنكم لحظة.) خطت مبتعدة، وأسامة يشيعها بنظرات لم تعد متشككة بل واثقة من أن ابنة خالته بها خطب ما، وخطب جلل. أجفل على زغرودة من فم خالته التي قامت لتنقض على أختها تمطرها بالقبل والتهاني، والأخيرة لم تقصر تبادلها نفس السرور. وبينما أسامة يشارك العائلة تهنئة بعضهم البعض على النسب القريب ببال مشغول بها وبكل ما هو قادم، كانت نوران تطلق العنان لشهقات بكائها وللمرة الأولى في حمام بيتهم الداخلي. رفعت رأسها إلى المرآة، ترمق انعكاسها البائس، تهمس بحرقة (العلقم أفضل من السم القاتل.) *** (مدينة الجبل) (منزل آل عيسى) وضعت حق الكتاب أمامها على طاولة المطبخ حين توجهت رواح إليها بالحديث الذي انسل من حلقها بإشفاق (ليست على طبيعتها.) تنهدت حق وردت عليها بإشفاق (إنها على ذاك الحال طوال الأسبوع، أنا قلقة عليها.) أسندت رواح ذقنها على كف يدها تقول لهما بانزعاج (لم تعد ترد علي مشاكساتي لها، وحتى الصغار لا تستجيب لمرحهم، ساهمة طوال الوقت.) أومأت حق بإشفاق وقلق حين تدخلت الخالة شمة، وهي تضع إناء الخضار على مائدة المطبخ حيث تجلسان (حذرتها من قبل ونصحتها بأن تحمد ربها على نعمه، لكنها جاحدة، نحمد الله على أنه سافر فقط، فماذا كانت لتفعل لو تركها حقاً؟!) ابتسمت رواح بحزن، وحق تعبس بحيرة، بينما المعنية تجلس في الحديقة الخلفية على درجات سلم شرفة غرفتها. في قرارة نفسها تنتظر مكالمته اليومية، نبرة صوته الدافئة، وكلماته المطمئنة لها بأن كل شيء سيكون بخير رغم التخبط في قراراتها، مشاعرها، رغباتها، ورغم عنادها بتحديد مصير حياتهما. تنهدت وهي ترفع رأسها إلى النجوم تفكر بأن شعورها نحو منصف واضح لا شك فيه، فقلبها ينبض باسمه، وأنفاسها تتسارع ما إن تمتزج بعبير عطره، ولا تتخيل حياة تعيشها دون أن يكون فيها حاضرا ببسمته التي تجمع الخجل والمرح، دون دفء وجوده، وحنو أفكاره وتعابيره. ابتسمت تلقائيا حين دغدغ فؤادها بذكره الحسن لكنها سريعا ما وأدت تلك البسمة، تتنازعها الظنون والشكوك بشأن منظومة الزواج ككل، تخشى حياة كالتي عاشها والدها مع زوجته وعشيقاته، حياة تزلزل الأرض تحت قدميها لذا هي في حاجة ملحة لرؤية أخيها، تحتاج لمن تتحدث معه عن ماض تشاركاه معاً وتقاسما آلامه، ويجب أن تتأكد... لا تعلم كيف؟! لكنها تحتاج لأخيها وبشدة، وبطريقة ما تتمنى أن ينهي حيرتها بانضمامه إلى عائلتهما واحتوائهم له كما فعلوا معها، ستحصل أخيرا على سلامها النفسي، وحينها قد تسلم مقاليدها وتستسلم لحبيب قلبها وتبني معه كيانا لهما تأمل أن لا ينهار فوق رأسها يوما ما. شعرت باهتزاز هاتفها بين كفيها، فنظرت إلى شاشته بشرود واجم، وردت أخيرا بنبرة لامسها الحزن (مرحبا.) (ماذا بك تغريد؟ لماذا أنت حزينة؟!) اتسعت بسمتها والدموع تفر من مقلتيها متدحرجات على وجنتيها المكتنزتين (كيف عرفت أنني حزينة؟!) أطلق نفسا عميقا عمق ما يشعر به نحوها ثم رد عليها بنفس حزنها (كما عرفت أنك الآن تذرفين الدموع بينما تبتسمين.) مسحت وجنتيها، تقول له بمزاح تتهرب به منه (هل أصبحت كاهناً؟!) أمالت رأسها على الهاتف، تسمح لنبرته بالتسلل إلى جوفها باعثا بدفئه بين جنبات أحشائها (لا أحتاج للتكهن فيما يخصك تغريد، أنا فقط أشعر بك يا صغيرة.) حافظت على بسمتها الهادئة دون رد، فاستدرك ببعض المرح (لماذا لم تستنكري بعبوس، وتنفي عنك صفة الصغر؟!) عادت ترمق النجوم بوجوم بينما تعترف له (لم أعد أريد أن أكبر يا منصف.) لاذ بالصمت كي يستدرج خبايا نفسها التي يحفظها أكثر منها، فاستطردت (اكتشفت أنه من الجنون أن يتمنى المرء الكبر، الصغر رحمة وراحة... وأنت كنت محقاً، لقد استعجلت الزمن وكبرت قبل الأوان.) سكنت دون أن تحيد بأنظارها عن النجوم، فهادنها بالقول اللين (إنها سنة الحياة، الصغير يستعجل الزمن ليكبر، والكبير يتمنى أن يعود صغيرا، لكن أتدرين أين يكمن السر؟!) همهمت بهدوء، فأجابها وهو يضع كفه على قلبه يتأمل نفس النجوم في مدينة أخرى بعيدة، ومن نافذة بيت والده (أن يكون المرء قنوعا بما لديه، ومسرورا به.) عبست تسأله بخفوت هامس (كيف السبيل إلى ذلك؟) سمعته يتنهد قبل أن يجيبها بنفس الهمس (أغمضي عينيك.) (ماذا؟!) تساءلت بحيرة فابتسم يردد عليها طلبه (ثقي بي وأغمضي عينيك.) أسدلت جفنيها ووجهها إلى السماء (لقد فعلت.) لم يخبرها بأنه فعل مثلها بينما يخاطبها بنبرة رخيمة هادئة وساكنة (تخيلي نفسك وحيدة، وحياتك بلا عائلة؛ لا وجود لإبراهيم فيها بحبه الأبوي وحمايته لك، لا وجود لجدك فيها بحنانه وحمايته لك، ولا إسماعيل بتفهمه وحمايته كذلك، ولا عيسى بمرحه ومشاكساته، وحميته نحوك، لا وجود للقرود الصغار، وأمهاتهم؛ حق بحكمتها واستيعابها الغريب لجميع أفراد العائلة، الدكتورة طائعة بتعاملها العملي المراعي، والواعي، وحتى رواح بمشاكساتها لك، تخيلي نفسك تستيقظين يوما دون أفراد عائلتك، كيف ستشعرين؟!) اعتصرت جفنيها كما تعتصر هاتفها بكفها، تجيبه بنبرة تهدجت ببكاء حارق (أعرف كيف ستكون حياتي من دونهم، فراغ وعذاب، لقد كنت هناك من قبل!) لهف قلبه عليها فهمس لها بعشق وشوق (تغريد.) لكنها استرسلت تفضي بعذابها كي يحمل عنها كما عودها؛ هو حبيبها الصابر عليها دوما حتى قبل أن تكتشف ذلك (هل تعلم ما هو أسوأ من ذلك يا منصف؟!) أدرك أنها لا تنتظر منه جوابا ينتظره هو على أحر من الجمر الملتهب (حياة لا وجود لك فيها، لن أستطيع تحملها... لن أستطيع!) تنهد بفيض أحاسيسه ثم قطع لها وعدا ظن بأنه لم يكن في حاجة لقطعه لها كي تثق به (مادام في صدري نفس، لن أتمنى سوى حياة تجمعني بك وأنت أدرى بذلك، فماذا بك يا صغيرة؟) مسحت عن شفتيها الدموع لتستطيع التفسير له (أخشى من عنادي وتخبطي، وطيشي، لذا أدعو الله أن تراني دائما صغيرة عديمة الخبرة والحكمة، فتجد لكبريائك الحجة الدامغة فلا تيأس مني أبدا.) ضحك منصف من بين غيوم الوجوم والحزن القاتمة ثم رد عليها (اتفقنا إذن، فأنا أيضا أخشى أن تنضجي فتدركين قدرك الحقيقي، وحينها قد لا ترضين بي.) تركت الصمت يعبر له عن امتنانها، وحبها له والذي يغوص في أعماقها فاستدرك بنبرة تشي بعذابه (إنها على طرف لساني يا صغيرة، عبرت عنها بكل فعل وقول يجوز لي، ولا أستطيع النطق بها بل لا أريد إلا وأنت حلالي، فلا أغلى عندي منك، ولا أخشى من فقدانه سواك.) فتحت فمها ترد عليه ببهجة ألمت بقلبها (حقا؟! ألم تقلها بعد؟!... غريب! فأنا أسمعها كلما التقيت بك أو تحدثت معك.) أغلق النافذة واستلقى على السرير، يرد عليها بسرور تفشى عبر أحشائه وانعكس على صفحة وجهه (ماذا سأقول سوى الحمد لله.) ضحكت ثم شاكسته (لكنك لم تخبرني ...عنك.) تلونت بسمته بمكر ثم قال لها بذكاء مراوغ (الصغار يشاكسون من يهتمون بهم لذا أعرف أنني ما أزال في المنطقة الآمنة.) قامت من مكانها عائدة إلى غرفتها، بينما تناديه بامتنان (منصف؟!) نعم يا صغيرة!) أغلقت باب الشرفة، واستلقت بينما تشكره بحب لمعت به نظراتها (شكرا لك.) تنهد مجددًا ثم رد عليها (مرحبا يا صغيرة.) *** (المستشفى) ترجل جارح من سيارته مسرعا ليلتقي بالدكتور إسماعيل، وليسأله معروفا مهما بالنسبة له؛ لأسبوع وهو يبحث في كل مكان ويتبع كل خيط، وعيّن مراقبين لذاك الحقير أكبر أخوة غانم آل منصور بعد استنتاجات الدكتور دون جدوى. المشكلة أنه لا يعرف عنها سوى كل ما يتعلق بطفولتها، حتى شكلها وهي طفلة يحفظه عن ظهر قلب، لكنه لا يملك شيئا يخصها وهي في سن الخامس والعشرين، وهذا يقيد رسغيه، ويشعل نار الغل في أحشائه. تنفس بسخط لا يريد الاعتراف لنفسه بما يشعر به أكثر انفعالا فيتلفت كل حين، ويدق قلبه حينا آخر إذا مر جوار طيف يعود به إلى الماضي. لقد تعب من كل شيء بين الجبال ويريد الرحيل عنها، لكنه في نفس الوقت قلبه البائس يشعره بقرب تحقق هدفه. التفت باحثاً عن الرواق لينعرج إليه، ومنه إلى مكتب رئيس القسم، ودفع الباب الموارب بخفة بعد أن منحه دقتين. رفع رأسه باحثا عن الدكتور وليته لم يفعل، إذ أن ما شعر به بعد ذلك هو شلال من الماء البارد انسكب على رأسه بصقيعه ثم جدار صلب ضرب جبهته بقوة جمّدت عقله للحظة لو طالت لكانت رحمة به، إلا أن الرجلين أمامه تحديدا الأصغر عبارة عن مرآة تعريه عن كل قناعاته بصلابتها، هكذا وفي ثانية أو حتى أقل. تقدم إسماعيل وقد غلب ظنه الذي استولى على عقله منذ أن دخل عليه الشاب ابن عم المريضة بلسم خلف ثم ومض فكره بمقاربة أخرى لم يدرك أنه نطقها بنبرة أعلى (خلف!) التفتوا إليه جميعا، والصدمة مرتسمة على وجوههم، فأضاف إسماعيل بدهشة (جارح خلف، جاسر خلف.) بلل الشاب شفتيه الجافتين، يهمس بشرود صادم (جا...) لم يكمل النطق باسم شقيقه الذي التفت إلى طبيب النفوس يخاطبه بنبرة باردة، وجافة (هل يمكننا التحدث على انفراد دكتور، لأنني سأرحل الليلة!) تلكأ إسماعيل قليلا ثم قال له بنبرة لا تشي بما تموج به نظراته من غموض (سبحان الله ... تلك الفتاة التي أنقذتها على السطح تكون ابنة عمك.) جحظت مقلتا جارح، وعمه يهتف بنفس الصدمة (أنت من أنقذها؟) حل عليهم الصمت مجددًا، وجارح يحرك شفتيه دون صوت فأعاد جاسر حديثه بنبرة أعلى (بلسم.) نظر إليه بنظرة نافذة، فابتسم له بحزن يستدرك (أجل، إنها بلسم يا أخي.) *** (بئر السواد) مالت نحوها تهمس لها بريبة، وهي ترمق المرأة صاحبة القطط ترمقهن بنظرة مخيفة، تضم قطة بنية ناعمة تمسد فروتها بينما التي تشبهها حقا هي السوداء التي انتصبت بدورها متأهبة في وجوههن (ما بها هذه المرأة؟) ردت عليها سهر بخوف وقرف (لا أعلم، إنها هكذا دائما ثم كيف لا تعرفينها فهي من نفس نوعيتك.) عبست رباب تحدجها بنظرة غاضبة (وما هي نوعيتنا يا آنسة؟) رفعت سهر ذقنها، ترد عليها باستعلاء (أنت تعرفين جيدا ما أقصده، وبالطبع أنا آنسة، وسنوات عمري الأربعين شاهدة على ذلك، فالعنوسة خير من...) زمت شفتيها تحركهما جانبا فزفرت رباب، تهم بالرد عليها حين قاطعهما سؤال أم القطط (من يشغلك؟ فرع البئر أم الواجهة؟) تجمدت قسمات رباب واندفعت الدماء عبر شرايينها، ترمقها بصدمة فتدخلت سهر تستفسر منها ببلاهة (ما هي الواجهة؟) ابتسمت إشراق بسخرية ترد على سهر دون أن تحيد بعينيها عن رباب (إنه موضوع لا يعنيك يا سهر بكل سنوات عمرك الأربعين.) تشنجت ملامح سهر بينما إشراق تكمل بعد أن أطلقت سراح مقلتي الجامدة بصدمة (ماذا تفعلين هنا على أي حال؟) هزت سهر كتفيها بجهل، فقالت لها سترة التي أحضرت صينية العشاء من الجانب الآخر للغرفة (سترافقني لأيام يا خالة، ورباب أيضا.) رمقتاها بحيرة وإشراق تخاطبها بنبرة متهكمة، وهي تدير وجه القطة تقرب أنفها من وجهها لتداعبها (أنت دائما ما تبحثين عن المشاكل، منذ صغرك، قالتها آمنة رحمها الله.) لمعت مقلتا سترة وردت عليها متهربة من حزنها (هيا لتناول الطعام، بسم الله.) اقتربتا من الصينية فطلبت منها إشراق، وهي تبتسم بنفس غموضها دون أن تتحرك من مكانها (احملي نصيبي ليونس آل عيسى.) التفتت إليها سترة بدهشة، وسهر تنطق ببلادة (لا أصدق أن هذه المرأة أنجبت ابنا لآل عيسى.) انتفضت حين ألقت عليها إشراق أحد قططها، السوداء فصاحت سهر وهي تحاول الفكاك منها قبل أن تنقض عليها سترة وترميها أرضا لكن بعد أن قامت بخدشها على رسغها. (ابني يونس، ابن يونس آل عيسى.) زمجرت بها بوحشية أرعبتهن، فردت عليها سترة بمهادنة وهي تعيدها إلى مكانها وتعيد إليها وعليها قططها (أجل، إنه ابن آل عيسى، ابن يونس والجميع يقر بشبهه الكبير بأبيه ويعرفون باعتراف أبيه به يا خالة.) ابتسمت لها كمجنونة تتقلب من حال إلى حال في لحظة، تجيبها وهي تربت على وجنتها برقة غريبة (حقا؟!... أليس كذلك؟!) هزت سترة رأسها بتأكيد فاستدركت بنفس الرقة (هيا، احملي إليه الطعام، إنه جائع ...أنا متأكدة.) استدارت برأسها إلى الفتاتين المتكومتين على نفسيهما خوفا، فأضافت إشراق بسخرية مشوبة بلمحة مبهمة، وهي تعيد وجهها إليها (لا تخشي عليهما مني، ولا عليّ منهما بل أخشي على نفسك منا جميعا، هيا اذهبي!) قطبت جبينها بانزعاج؛ ها هي تلك الكلمات الغامضة مجددًا، اعتدلت تحذرهما قبل أن تنصرف (كلا طعاميكما، ولا تسببا فوضى، ومن الأفضل لو تلتزمان الصمت حتى أعود.) شرعتا في تناول الطعام وسهر تهمس بخفوت ساخط (ساحرة شمطاء!) رمقتها رباب بنظرة زاجرة، وهي تفكر في سؤال إشراق الذي لم يغادر بعد مركز تفكيرها حتى أجفلتهما نبرتها الهادئة تحمل بين طياتها تهديدا خطيرا، فنظرتا إليها تداعب قطها البني، وكأنها تحدثه لا هما (سترة بلهاء ساذجة، تظن أنها ستصلح الكون، لكن ما نراه نحن البشر بلاهة وسذاجة رب البشر يراه صلاح وتقوى، وآه من صالح دخل تحت حمى ربه وتولى أمره، يعيد كيد عدوه ومتربص به في نحره ويدمره تدميرا، وأنا سبق وشهدت على ذلك.) تلكأت وهي تلتفت إليهما بنظرة اقشعر لها جسديهما (فالويل لأعدائك يا سترة، الويل لهم.) *** (أمام باب المستشفى) ترك إسماعيل زوجته في السيارة لكي يودع الجارح قائلا له بلطف (أعتذر إليك لأنني لم أربط الخيوط ببعضها، كنت لأنبهك.) لم تفته تلك النظرة المتزعزعة من عينيه، وهو يرد عليه بجفاء لم يتعمده مع الطبيب الذي نزل بحدقتيه إلى كفيه المكسوين بقفاز، يتأمله كيف يدعكهما ببعضهما كل لحظة، وكأنه يتأكد أنهما في مكانيهما (لا تعتذر يا دكتور، عائلتنا كبيرة، ما كان لك لتعرفهم جميعا.) نظر إليه إسماعيل مقترحا عليه بنبرة مهذبة (إن أردت أرشح لك طبيبا أو طبيبة في المدينة السياحية، هناك أطباء محترفين وبارعين في مجالهم.) ضم شفته للحظة ثم رفع كفه إلى ياقة سترته، وكأنه يشعر بالبرد قبل أن يغير دفة الحديث (ماذا عن بلسم؟! أقصد، يجب أن نعرف هوية المجرم.) توحشت مقلتاه مع آخر جملته، فقال له إسماعيل بجدية (أظن أن والديها يعلمان أكثر مما أفصحا عنه.) جعد أنفه بضيق يقول له بتقرير (لن أستغرب ذلك، فكل ما يهمهم هي صورتهم وسمعتهم بين الناس، حتى بين أفراد العائلة الواحدة لكنني لن أدع الأمر يمر سدى، والمجرم سيدفع الثمن غاليا.) ابتسم إسماعيل ينبهه إلى ما يفوته (انتقامك لغيرك كثر يا جارح، ماذا عن انتقامك لنفسك؟) إنه يحاصره، كلاهما يفهمان ذلك، لكنه لن يكون الجارح إن لم يفلت منه بذكاء (لقد نسيت ما أتيت من أجله.) تنبه إليه غاضاً الطرف عن تهربه الواضح منه (أتمنى أن ألتقي بصديقك الشرطي، أظنه برتبة ضابط ممتاز؟!) أومأ له إسماعيل بحيرة، فأكد عليه (نتائج المراقبة تنم عن شبهات كثيرة حول كبير آل منصور، لا أظن شيئا كهذا قد يفوت الأمن لذا أريد الاجتماع به وقد يصل حديثنا معه إلى معلومات تفيدنا.) جعد إسماعيل ذقنه يرد عليه بتفهم (أنت محق ... طارق بالفعل قد يساعدنا عن طريق ذاك الرجل، فأنا طلبت منه البحث عن الفتاة لكن لم أربطها بشقيقها من قبل.) هز رأسه موافقا ثم قال له (شكرا لك، تفضل لتغادر، الوقت تأخر، والدكتورة معك، آسف على تأخيرك.) (حسنا لا داعي للأسف، سأتصل بطارق وأعلمك بالأخبار، اعتني بنفسك.) احتل مقعد السائق في سيارته، وراقب إسماعيل وهو يغادر برفقة زوجته بسيارتهما ثم أطلق سراح زفرة طويلة وهو يتكئ على المقود، يسند عليه رأسه الذي يشعر به سينفجر من ضغط ما يحتشد داخله من هموم. فرت منه خيالاته إلى الماضي رغما عنه وقد حدث جل ما كان يخشاه، لكنه تهرب من كوابيسه، واكتفى بذكرى طفولة غابرة مع فتاة صغيرة، كانت فردا مهما من حلقة لعبهم كلما اجتمعت العائلة. ضحكاتها ما تزال عالقة في ذهنه كأغلب ذكرياته مع عائلته، فكيف ينسى؟ وأنى له أن ينسى! أجفل على طرقات متتالية على بلور النافذة، فرفع رأسه إلى فرد آخر كان له يوما ما الحياة بأكملها. ظل يرمقه للحظات وكأنه ينتظر منه التلاشي فيصح ظنه بكونه مجرد سراب، أو بكل بساطة ينتظر منه المغادرة، لكن الآخر أصر على رغبته يشير له لكي يفتح البلور، فتنفس برتابة ثم ترجل من سيارته يهتف بضيق (ماذا تريد يا جاسر؟) ابتسم المعني بحرج، يمسد خلف عنقه فعادت كل ذكرى تخصه لتملأ كيانه أم هي حقيقة لم تغادر من الأساس! بل كان يتجاهلها بكل حقد تمكن من قلبه (أنا آسف، لكنني اشتقت إليك، لقد مرت السنوات يا جارح... أعوام طوال، ألم تنس بعد؟ ألم تشتق لأهلك، لوالدتك، ولوالدك؟.... إنه مريض بالمناسبة، ولا يتمنى سوى رؤيتك، قد لا يتحرك بها بلسانه لكن مقلتيه تجحظان تأملا في وجهي، وأنا أعرف بأنه يبحث عنك في ملامحي.) احتدت ملامحه بتعبير ناقم ولسانه ينطلق بنبرة تلظت في كبد (والدي ... ها؟! الرجل الذي طردني من البيت دون رحمة، كأنني كلب تعثر به على ناصية الشارع ربما لو كنت كلبا كان ليشفق علي!) عبس شقيقه بوجوم يحاول رأب الصدع بينهم وبين أخيه الأصغر منه بعام (إنه والدنا وأنت أدرى بعصبيته ثم هو طردني أنا أيضا، هل تذكر؟) تشنجت شفتا جارح ببرود يجيبه بسخرية قاسية (أجل، وكنت أذكى مني، فنفذت بجلدك وتركتني لكلاب الشوارع! لقد نمت في مكب النفايات لكي اختبئ منهم، وكنت على وشك....) قطع حديثه وقد شعر بالغثيان يصعد إلى حلقه، فتشكل الذنب على وجه شقيقيه يهم بالاعتذار إليه والتوسل لو اقتضى الأمر (جارح.) قاطعه هاتفاً بغضب (لا فائدة من الحديث، لذا أرح نفسك! بنيت نفسي بعيدا عنه، وعنكم، ولا أظن أن غيابي يهمه في شيء.) استدار ليعود إلى سيارته، فقال له جاسر يحاول مرة أخرى (إنه يعرف عنك كل شيء.) تلكأت كفه على حافة باب السيارة، فاستدرك الآخر بأمل (المرحوم بإذن الله غانم تواصل معه قبل وفاته بمدة، وكان يوافيه بكل أخبارك، قد يكون قاسيا وغير متفهم لكنه والد بعد كل شيء.) لحظات إضافية تجمدت فيها أطرافه قبل أن يجلس على المقعد ويغلق الباب، ومن ثم انطلق بسرعة، وشقيقه يومئ بحسرة وحزن غائم لم يغادر صدره يوما، يسكنه بذنب عظيم. *** (بئر السواد) كانت ستعود بصينية الطعام حين يئست من رده أو إيجاده حين انتفضت بخوف على هتافه خلفها (من أنتِ؟!) التفتت تبحث عنه حتى لمحت جسده يحتل إحدى زوايا الفناء الواسع، يرمقها بنظرة مظلمة كالظلمة التي يتوارى بها، مضيقا مقلتيه بغضب فتقدمت نحوه لتضع الصينية على الأرض قبالته، وهي تخاطبه بحنق (أرعبت قلبي، كف عن طرح نفس السؤال، أنا لا أعرف من أكون، أنا فقط سترة.) شهقت حين طوق رسغها بكفه الضخمة، يمنعها من الاستقامة بجذعها، وحدق بمقلتيها الظاهرتين تحت نور القمر الباهت، يحدثها بهدوء خطير (في البداية جزمت بكونك مومس من بئر السواد حين وجدتك مع وال... إشراق، وموقفي كان واضحا حيالك لكن بعدها، أصابتني الحيرة بعملك في تنظيف المستشفى، وعدم وجود رجال يحومون حولك لكن الليلة عدت أميل إلى ظني السابق، فإن لم يكن هناك رجال، هناك مومسات يحمن حولك، وأمنٌ يحيط بك على أرض الظلمات، فمن أنت يا سترة؟) تكومت ملامح وجهها، وهي تسحب يدها من قيد كفه الضخمة، ترد عليه بألم وضيق (لا يهمك من أكون، أطلق يدي! أنت تؤلمني ...آآه!) أرخى أصابعه حول رسغها فشعر بملمس سائل لزج جعله يقطب بريبة، وأمسك يدها بكفيه متسائلا بقلق تفاجأ من انبثاقه داخله (دم؟!.. من أين أتى؟!) جذبت كفها تنفخ في الجرح الصغير، وتجيبه بحنق منه ومما يجعلها تشعر به من تخبط وحيرة، ودقات قلب مسرعة، وكأن الرعب الذي تعيش فيه لا يكفي (إحدى قطط والدتك المتوحشة.) استقام واقفا يقول لها بانفعال (يجب أن نذهب للمستشفى حالا!) كان دورها لتجعد جبينها متسائلة بدهشة (مستشفى؟! إنه جرح صغير.) اقترب منها ليهل عليها بطوله يستفسر منها بحيرة (هل سبق وخدشتك قطة؟!) هزت رأسها نفيا فأمرها بحزم وهو يتجاوزها (إذن إن لم تحبي الرقود لأيام بسبب حمى خدش القطط! الحقي بي لكي نذهب للمستشفى! لتحصلي على حقنة واقية.) رفعت رسغها تنظر إلى الجرح بشرود، ودقات قلبها تصم أذنيها حتى هتف يوقظها من سهوها (تحركي!) اهتزت ثم فرت من أمامه، وهو يهمس بقلق حقيقي (ماذا تفعلين يا أمي؟! أنا لم أعد صبيا غرا كي لا أفهم أنك تدفعين بالفتاة إلي دفعا، ما هي خططك؟ وأين أجدك أيها الدرويش؟) *** (منزل البروفيسور في مدينة الجبال) مشط شعرها بروية ثم مسد عليه بكفه يداعبها بحنو (حبيبة البابا أكلت واستحمت، وارتدت ثياب النوم، ومشطت شعرها، والآن إلى النوم.) ضحكت بنعومة أبهجت قلبه، فقبل وجنتها الزهرية وحملها إلى سريرها الصغير حيث استلقت الصغيرة، وجلس جوارها تارة يلمس وجهها، وأخرى يربت على رأسها، والبسمة الحانية لا تغادر ثغره بينما يقرأ لها أذكار النوم، وهي كأنها تشعر بتعلقه اليائس بها ترفع أصابعها الصغيرة كل حين باحثة في معالم وجهه، وحين يغزو النوم عينيها تتشبث بعنقه وتقرب منها جانب وجهه بلحيته حيث عشها الآمن، تلصق به جانب وجهها الصغير، فتنام قريرة العين وتنسيه نفسه هناك مستمتعا بتلك المشاعر التي يعتبرها رحمة من رب عظيم لم يكن يحلم سابقا بأن يحظى بها، حتى تأتي صباح وتربت على كتفه كي يأوي إلى فراشه. ترك باب غرفتها موارباً كعادته، وضم زوجته يرافقها إلى الغرفة المقابلة، هامسا لها كي لا يوقظ صغيرتهما (ما أزال أنسى نفسي جوارها، أظن أنني لن أتعود أبدا، وسيظل وجودها يبهرني، ويحملني على بساط السعادة السحري.) ضحكت صباح وهي تقبل جانب وجهه، وتدعو له بحب كبير تكنه له (لا حرمها الله منك، ولا حرمني منكما، أنتما سعادتي التي لم أتخيل يوما أنني سأحصل عليها.) التفت إليها يرمق وجهها بتلك النظرة التي تحيرها، كأنه يتأكد من تعبيرها عن قولها بغير تصديق لِحظه ثم غمزها مشاكسا بقوله (ما الذي جعلك تحبينني هكذا؟! لا علم لدي! مع أنهم يطلقون علي البروفيسور.) اندسا تحت الغطاء، واستكانت على صدره تجيبه بجذل (وأنا ما أزال أستغرب كيف تحقر من قدرك، يكفي أنك أنت البروفيسور مختار العربي.) ابتسمت حين شعرت باهتزاز صدره، ورفعت وجهها إليه لتتأمل حسن بهجته التي تنقص من سنوات عمره الكثير (لست سوى عجوزاً نزقاً يدّعي الهدوء بينما ليس هناك من هو أشد عصبية منه! وفضولي مجنون!) عضت شفتها بعتاب تراقبه بحب وإعجاب حتى صمت ثم لمعت مقلتاه بلمعة دافئة، مستدركاً بنبرة تتأرجح بين العاطفية والمرح (لكنني أحبك، لم أكن أتخيل أنني سأحمل هذا القدر من المشاعر لأحد كما أحمله لك ولصغيرتنا، خصوصا حين تمنحينني هذه النظرات فتصبح أفكار رأسي العبقرية لعبة بين يديك.) قهقهت بصخب ثم ربتت على لحيته برقة، تهم بقول شيء ما حين صدح رنين هاتفه فعبست بحيرة مثله تسأله بدلا مما كانت ستقوله له (من سيهاتفك في مثل هذا الوقت؟) عاد لسخريته وردوده الجاهزة بتهكم (إنها عشيقتي، أخطأت التوقيت.) ضربت أعلى كتفه عابسة بطفولية، فضمها لتعود إلى مكانها في نفس اللحظة التي فتح فيها الخط وخاصية مكبر الصوت، فصدحت من الهاتف نبرة ذكورية تئن ألما تجسدت في كلمات رغم بساطتها إلا أنها أبلغتهما بوجع مخاطبه (أنا سأتزوج بعد أسبوع واحد.) منحته صباح نظرة قلقة، فأومأ لها مطمئنا ثم قبّل رأسها بخفة قبل أن يبتعد قليلا عنها بينما يلغي خاصية المكبر، ومجيبا بحذر (حسنا، مبارك لك، من معي من فضلك؟) أتاه الرد مفعما بالبؤس والوجع (أنا أشعر بنفسي تحت جبل ضخم يجثم على صدري وأنفاسي، إنه ألم رهيب لم أعد قادرا على تحمله.) ألقى البروفيسور رأسه على الوسادة يرمق السقف صامتا ينتظره ليكمل بوحه (أشعر بنفسي في غابة مظلمة، كلها أشواك وحفر، لا أكاد أخرج من واحدة حتى أقع في أخرى، أنا أختنق، أنا...) سكت فقال له البروفيسور بنبرة هادئة، وحذرة (الدنيا كلها حفر، منا الحذر منها فيظل يراقب موطئ قدمه فيتفادى بعضها، الخطرة منها، ومنا معصوب العينين، فلا يرى أمامه ويظل يتخبط بينها.) كان على وشك الشتم حين ظن بأنه خسر الغريب البائس، وما لبث أن ابتسم بظفر، والنبرة الحزينة تصله عبر الأثير يتساءل صاحبها بضياع ورجاء يائس (تلك العصابة، هل يمكن التخلص منها؟! وهل لتلك الحفر تأثير دائم على من وقع فيها؟) تنهد البروفيسور برده المشفق (نعم يمكن، فالإنسان يتعلم من المهد إلى اللحد، والحفر قد تترك أثرا بليغا في النفس إن فقط لم تتعالج منها وتعتزلها لمدة كافية لتنساها، فمن نعمه سبحانه على الإنسان النسيان، والفرق بين النسيان مع عدم المعالجة والنسيان مع المعالجة الصحيحة كتعافي العظم على عِوجه، وتعافيه وهو مثبت في مكانه الصحيح ... هل فهمت؟) كان رده الصمت لبعض من الوقت، فانتظر بصبر يدعو الله أن لا يفقده (ساعدني.) نطقها وحيدة منفردة، بليغة عن كل كلمة توسل قد يضيفها، فأسرع البروفيسور يجيبه (بكل تأكيد، هل ستخبرني باسمك؟!) أتاه الرد غامضا ومتباعدا (وهل يهم ذلك؟!) جعد البروفيسور ذقنه باستغراب يعقب (في الحقيقة لا! أنا فقط أحب أن أنادي من أحدثه باسمه لكن إن لم ترغب بذلك، أنت حر.) وصلته زفرته العميقة، قبل أن يقول له بشيء من السخرية (بلا أسماء أفضل، أما أتعابك فقط أخبرني برقم حسابك، وسأحولها إليه.) أصدر البروفيسور ضحكة تنم عن راحة صدره، ورد عليه بحذر ما يزال يلازمه مخافة فقدانه (لا أسماء، ولا أتعاب، لأول مرة سأحاول تقديم علاج نفسي عبر الهاتف لشخص مجهول، وأنا مهتم بالنتائج أكثر منك فلنجعلها إذن صفقة أدعو الله أن تكون مربحة لكلينا.) شعر به يهدأ، ونبرته تتسم بالرزانة أكثر، وهو ينهي المكالمة (اتفقنا...سلام.) أسرع البروفيسور بالقول (بإذن الله، متى ما هاتفتني ستجدني.) نطق الرجل بكلمة شكر بالكاد التقطها البروفيسور قبل أن يغلق الخط، فوضع هاتفه على المنضدة جواره، واستدار ليجد زوجته تبتسم له قائلة قبل أن تضمه بمحبة خالصة (وتسألني لماذا أحبك؟) ابتسم بشرود يفكر بالغريب بينما يضم زوجته إليه وأفكاره تتشابك بسرعة بديهة عالية التيار. *** (المستشفى، قسم المستعجلات) تقدمها ليخفي شفتيه اللتين ضمهما ليكبت ضحكة فرضت نفسها عليه؛ الفتاة القوية تخشى الإبر، وتدّعي الشجاعة إلى أن لمحتها في يد الممرضة فتراجعت رغما عنها، تسألها بشحوب إن كان هناك دواء يشرب أو يبلع بدلا من الحقن ثم استسلمت لمصيرها بعد أن نفت الممرضة وجودا لأي دواء آخر في المستشفى سوى الحقن. وما أذهله في نفسه قلبه الذي كان على وشك الخروج من صدره حين تدحرجت دمعة صامتة على خدها الأسمر، فمنع نفسه بمشقة من أن يقترب منها ليطمئنها أو حتى يضمها؛ عند تلك الذكرى استولى الجمود على ملامحه القاسية غير متقبل لذاك الضعف، مما جعله يطرح تساؤلا آخر حول صحة ظنه تجاه أفعال والدته. استلم بعض الأوراق من الاستقبال، فطلب منها أن تدون بياناتها، فاقتربت من الحاجز الرخامي ترمق الأوراق بنظرة مذهولة (إنها ورقة بيانات، يجب أن تكوني على علم بها، فأنت تعملين هنا.) أخبرها فبلعت سترة ريقها تجيبه بتوتر (أنا أنظف البلاط والحمامات فقط.) جعد جبينه بحيرة، وقد زحف الاحمرار على وجنتيها طامساً الشحوب الذي كان قبله، فسألها بفضول (هل تعملين هنا بشكل رسمي؟) رمقته بوجوم ثم أومأت له نفياً، فقال لها يونس مشيرا إلى الأوراق (تفضلي واملئي الورقة، لقد أوشك الليل على الانتصاف.) ازداد عبوسه، وهي تمسك القلم بشكل يوحي بأنها ربما لم تمسك بواحد من قبل، تحوم به فوق الورقة بيد مرتعشة حتى استدرك بريبة بعد أن لمح حبات من العرق تتلألأ على جبينها (هل أنتِ بخير؟) حدقت به ببلاهة وقد نسيت ألم الحقنة وخوفها فلم يكتسح جهازها العصبي سوى الإحراج والخجل الفظيع الذي لم يغمرها قبلاً، وهي تنطق بنبرة خجلة (أنا لا، لا..) حثها بنفاد صبر من تمتمتها (أنت ماذا؟!) ألقت بالقلم على السطح الرخامي، تهتف بنبرة باكية وجدت لها مخرجا لتفيض بحمم أحشائها (أنا أمية!). التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 18-07-24 الساعة 06:25 PM | ||||
25-02-18, 03:31 AM | #292 | |||||||
مشرفةوكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وبطلة اتقابلنا فين ؟
| اقتباس:
صباح الخير حبيبتي اسفة لانني تأخرت في الرد شكرا لك حجم الكون ... انا سعيدة برايك جدا جدا واتمنى ان القادم ينال اعجابك اكثر تحياتي 😍😍😍😍😍 اقتباس:
حبيبتي انت الاجمل الفصل كل صباح احد باذن الله تحياتي اقتباس:
الحمد لله هذا يدل على تطور قلمي وانا جدا فرحة برايك ومرحبا بيك وباهل اليمن وكل الأقطار العربية يشرفني حضوركم ويا رب القادم ينال اعجابك اكثر تحياتي🌷🌷🌷🌷 🌷🌷🌷 مرحبا بيك يا قمري 😍😍 | |||||||
25-02-18, 04:12 AM | #293 | ||||
| يالله ماتمنيييت يخلص الفصصصل ابدااااا كل شخصية من ااشخصيات في الها سحر خاص فيها هاد الجزء من الروايات القليلة يلي ماعم اقدر ااتوقع أيا شي منها تمنيت لو ستنيتها تخلص واقراها كاملة لانو التشويق فيها موطبيعي أبدعتي بهاد الجزء 💜بالنسبة الي حيكون نقطة تحول كبيرة بمسيرتك الكتابية 💜تسلم ايييدك مرة تاتية | ||||
25-02-18, 09:56 AM | #295 | ||||||||
نجم روايتي
| أصررت على قراءة الفصل رغم تعبي و مرض أولادي. ...رغم أنه فعلا حزين و القضية لا تعالج إلا بالألم إلا أنه رائع ...الطرح و الحروب النفسية للأبطال ...أغلبهم وضعوا المفتاح في باب الشفاء و اكيد التحسن قادم و كل على حسب ضيوفه. ..القفلة فعلا صادمة ...سلمت يداك | ||||||||
25-02-18, 10:55 AM | #298 | ||||
| صباح الخير ياقلبي الفصل كان بيجنن شو ما حكينا قليل عليكي ما في كلام بيوصف روعة هالفصل كنت مندمجة مع الأبطال لدرجة عنجد زعلت لما خلص الفصل ما تمنيتو يخلص نوران شخصية بتحرق القلب أنو معقولة كمية هالعذاب اللي عاشيتو معقولة في أنسان توصل فيه الندالة لدرجة أنو يتعدا ع حرمة بيت رفيقو ومين بنت صغيرة عاشت كل عمرها بتعاني من العقد النفسي بسبو وهلق وصلت فيه ندالتو أنو يخطبا لأبنو بس ليضل يتحرش فيها هلق هية وافقت ع أسامة من الضغط الي عليها شو حتعمل لما تفيق من الصدمة وتعرف اللي عملتو شو حيصير وأسامة بيوجع القلب عنجد وأخيرا قرر يتعالج خطوة كتير منيحة هالثنائي كتير مأثر فيني كمية العذاب اللي عاشو هالانين مو طبيعي و ع أيد أقرب شخصين لازم يكونو ألن يونس في بعقلو كتير تسؤلات عن هوية سترة محتار ما بيعرف شو حقيقتا هل هية إنسان منيحة عم تساعد غيرا ولا من بنات بئر السواد وأمو ليش عم تحطا بطريقو لشو بدا توصل بالأخير سترة كمية الحقد اللي حواليها ما حتخليها بحلا عنجد نرعبت عليها بهالفصل لشو بدن يوصلو وليش حطو رباب بطريقو كتير خايفة عليها وانهيار بنهاية الفصل كان بوجع القلب جارح بصراحة لهلق ما فهمت قصتو شو هالشغلة اللي عملا بتخلي أبوه يقلعو من البيت بس أكتر شي فاجئني أنو طلعت بلسم بنت عمو ولا تغريد كتير زعلت عليها عايشة حالة من التخبط بين حبا لمنصف وخوفا أنو يكونو نسخة تانية لأبوها بس هوة حبو واضح لألها ولازم تكون عرفت درجة حبو لأها البروفيسور عقد ماكنت حبو بالجزء التاني هلق حبيتو أكتر حنيتو ع بنتو وخوفو عليها ومساعتو لأسامة عنجد كبر بعيني كتير تسلم أيدك يا قلبي فصل بياخد العقل | ||||
25-02-18, 11:25 AM | #299 | ||||
مشرفة منتدى قلوب أحلام
| الفصل مستوفي حقه بجد إنت راااااائعه يا مني جميل قوي حب البروفيسور وصباح وتقديرها ليه وأخلي شئ انها بتقوله كده وأيامه أخيرا قرر يساعد نفسه لكن بستر ربنا يستر علي ستره من رباب ايلي مش عارفه أقول عليها ايه 😒مش معني إنك عاوزه تخرجي من الدمار تدمري غيرك وتكون الثمن المفروض تكون عارفه الاحساس ده وتخاف علي غيرها منه إشراق كلماتها صحيحه ميه في الميه وأتمني إن رباب تستوعبها نوران خايفه علي بنت أخوها وده طبيعي ومش هيكون لبنت أخوها بس لا ديه بالنسبه للي طفل هيكون معرض لنفس الموقف ياتري ايه ايلي حصل بين جارح ووالدها عشان كده طرده لان مهما كان مش الحل طرد الاولاد نتيجه لخطأهم لأنه أمر خطر جدا تسلم ايدك منون | ||||
25-02-18, 12:22 PM | #300 | ||||||||
| هل تعملين هنا بشكل رسمي ؟)... رمقته بوجوم ثم أومأت نافية الأمر، فقال يونس بضجر يشير إلى الأوراق... (تفضلي املئي الورقة ... لقد أوشك الليل على الانتصاف ....)... زاد تقطيبه، وهي تمسك القلم بشكل يوحي انه ربما تجهله، او انها لم تمسكه من قبل، تحوم به فوق الورقة بيد مرتعشة. ليقول بعد ان لمح حبات من العرق تتلألأ على جبينها .. (هل أنتِ بخير؟؟..) حدقت به ببلاهة وقد نسيت كل ألم الحقنة وخوفها، فلم يكتسح جهازها العصبي سوى الاحراج وهي تنطق بنبرة خجلة .... (أنا لا ..... لا ...)... حثها بنفاذ صبر من تمتمتها... (أنت ماذا؟!).... ألقت بالقلم على السطح الرخامي، تهتف بنبرة باكية، وجدت لها مخرجا لتفيض بحمم أحشائها .... (أنا ....أمية ....)...... سترة لا تقرأ ولا تكتب وهي امية وليست جاهلة فهي ترشدها فطرتها النقية لعمل الصواب .... ربما خربشة هذه القطة تكون سبب في يكتشف وجودها طبيب النفوس وسبحان مقدر الاقدار | ||||||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|