استيقظت عنبر لتجد ان الستائر لم تعد حولها. تذكرت في الحال الكلمات الأخيرة التي سمعت السيد فيليبس يقولها، حالما جالت ببصرها حول الغرفة الصغيرة، ان السرير الاخر الوحيد هناك كان خاليا كما كان دائما، وانه كان يتحدث عنها. اصابها هلع لم تشعر به من قبل، ولأول مرة منذ ادخالها الى المستشفى وضعت اصابعها على الزر ورنت الجرس للممرضة. انها لا تريد ان تكون لوحدها.
كانت الدموع تجول في عينيها عندما حضرت الممرضة مسرعة لترى ما تريد، لكن عنبر لم تستطع ان تقول لها ما الذي يزعجها. كانت في الثانية والعشرين وتريد ان تعيش. اعتقدت انها لو قالت ذلك بصوت عال فستصبح في حالة هستيرية.
"هل الألم شديد؟" سألتها الممرضة بعطف، وهي تمسح دموع عنبر بمنديل من خزانتها. "اننا لا نستطيع اعطائك حقنة أخرى، يا عزيزتي، لأنه لم يمضي وقت طويل على الحقنة الأخيرة.
"ليس الأمر كذلك"، قالت عنبر وهي تبكي. .
"ما الامر اذن؟"، سألتها الممرضة جونز بنعومة. أمسكت بيد عنبر التي ضغطت عليها بشدة."تعالي، يمكنك ان تخبريني"، قالت لها بلطف، وعندما لم تستطع عنبر ان تخبرها، "انه موضوع ابويك! أليس كذلك؟" خمنت الممرضة، معتقدة ان الفتاة الباكية تبكي على والديها، مكثت الممرضة جونز مع عنبر قدر ما استطاعت، وعبر الأسابيع القليلة التالية كرست كل خبرتها واهتمامها لجعل عنبر تقف على قدميها من جديد.
اما من جهة عنبر فان تلك الاسابيع كثيرا ما كانت مؤلمة. لكن الألم الجسدي خف، ومع انها بدأت تعاني من كوابيس مخيفة، بدأت تتكيف مع فقد والديها، لكنها لم تستطع ان تتكيف مع معرفة انها ستنضم اليهما قبل نهاية الستة أشهر القادمة، كانت تصاب بالهلع في كل مرة يخطر ببالها التفكير، لكنها لم تستطع ان تقنع أي شخص بأنها سمعت السيد فيليبس يقول ذلك.
في نهاية الأسابيع الثلاثة أعلموها أن بأستطاعتها الذهاب الى البيت. انهم يرسلونني الى البيت لكي أموت، هكذا أعتقدت، وحاولت أن تكون شجاعة، لكنها عرفت بأنها لم تكن شجاعة بتاتا، مع انها حافظت على عدم اظهار مشاعرها عندما حضر السيد فيليبس لرؤيتها للمرة الأخيرة.
"لقد شفيت تماما"، قال لها، وجعلته يعتقد بأنها قد صدقته، وكان وجهها خاليا من أي تعبير وهي تصغي له. "لقد كانت لنا مناقشة حادة معك، ايتها السيدة الصغيرة، فلا تقومي بأي عمل أحمق وتفسدي كل عملنا الجيد".
"لن أفعل" أكدت له عنبر، معتقدة بما أنه لا يستطيع أن يطلعها على الحقيقة، فأنها قد تلعب اللعبة كذلك بطريقته. .
"عليك أن تأخذي الأشياء ببساطة لمدة ستة أشهر على ألأقل" كان يقول لها. فكرت، ستة أشهر، وحاولت أن لا تهلع من جديد بأن ما كان يقوله لها كان بأن ستة أشهر هي كل ما تبقى لديها. "ان عامودك الفقري كان مرضوضا بشكل ردئ تحت سقطة تلك الصخرة" واصل حديثه "وانت لم تساعدي بتاتا نتيجة محاولة الكفاح للخروج والوصول الى والديك، وقد أعطيناك دما، وفيما عدا اثار الغرزات التي قلما تظهر مع الوقت، فأن الندوب من الجروح الأخرى ستختفي تماما". ابتسم لها كأنه أعتقد أن الغرور كان القلق الوحيد الذي يجول في ذهنها في تلك اللحظة.
"أشكرك" قالت عنبر، لأنها لا تعلم شيئا أخر يتوقع أن تقوله.
"الطريقة المثلى التي يمكنك أن تشكريني بها هي أن تتبعي نصيحتي. لا ترتكبي أية حماقة. الرفع أو الحمل ممنوعان. الوقوف كثيرا ممنوع. عاملي جسمك بلطف لمدة ستة أشهر"، قال لها وهو يبتسم ثانية. .
شكرته عنبر من جديد، وقبل أن تغادر المستشفى ذهبت وشكرت شخصيا كل الممرضات اللواتي اهتممن بها، وبصورة خاصة الممرضة كارول جونز. نقلها جيمس كريسويل وأعادها الى المكان الذي شاهدته أخر مرة قبل أن تغادر في أجازة مع والديها.
"ها نحن هنا. لا أريدك يا عنبر أن تكوني لوحدك.هل أنت واثقة بأنك لا تريدين الحضور والبقاء معي؟ هناك مكان كثير وأنت تعلمين أن السيدة باغيت تحب أن يكون معها شخص لتتجادل معه". نظر بحب الى الفتاة الشابة التي كان يحبها كابنة.
"لا، يا عم جيمس. أنني أقدر عرضك" قالت له عنبر بابتسامة
"لكن – لكن علي أن أتكيف لبعض ألوقت على ألعيش بدون ألماما وألبابا ومن ألأفضل أن ابدأ ألان". حتى ألعم جيمس، لم تستطع أن تكشف ما يجب أن يعرفه أيضا كحارس لها. ان من المفروض على المستشفى أن يضعه في ألصورة. أعتقدت في سرها أن السيدة باغيت، مدبرة منزله، لديها ما يكفي للاهتمام به في منزل طبيب، مثل تلقي ألمخابرات الهاتفية العديدة، علاوة على مهماتها الأخرى، بدون أن يكون بين يديها مريضة في طور النقاهة.
أصر جيمس كريسويل على حمل شنطتها الى غرفتها. "ممنوع الرفع" راح يذكرها، عندما قالت أن باستطاعتها حملها بنفسها. مكث وتناول معها فنجانا من القهوة، وفجأة لم ترغب في البقاء لوحدها. .
كتمت شعورها المتزايد بالضجر، خاصة وأنها تعرف ما يتطلبه عمل العم جيمس، وأن من الاجحاف ابقاءه معها.
"سأعطيك وصفة لقتل المزيد من الألم"، قال قبل أن ينهض للذهاب. "هذه هي التي اعطاك اياها المستشفى ولن تدوم طويلا – تذكري الان" قال مازحا "لا شرب ولا قيادة سيارة وانت تتناولينها!".
ابتسمت له عنبر لأن ذلك ما توقعه منها. لم تقم بقيادة سيارة ونادرا ما شربت.
"لن أفعل"، وعدته قائلة. .
"سأزورك من حين لأخر، لكن تعالي وقابليني في العيادة اذا كنت قلقة حول شئ ما".
شاهدت نظرته اليها، واغتصبت ابتسامة وقالت له " سأكون على ما يرام الان".
لكنها لم تكن على ما يرام. حاولت ان تدفنه في أعماقها، لكن الذي أضيف الى ضجرها، كان فراغ البيت بدون والديها. دخلت الى غرفتها في اليوم الذي جاءت فيه الى البيت ودفنت مشاعرها في الحزن الذي غمرها، وجلست فقط على السرير حيث كانت تحييهما كل صباح عند شرب الشاي، وبكت حتى لم تستطع البكاء أكثر.
بعد مرور أسبوع على خروجها من المستشفى عرفت أنها اذا لم تفعل شيئا حول الهلع والانحطاط المتناوبان اللذان يعيشان معها فأنها ستنتهي قبل نهاية الستة أشهر. وفي وهن كامل توصلت الى حل مع نفسها. عمرها اثنان وعشرون عاما، فتاة عادية ذات ذكاء متوسط، هكذا أعتقدت. كانت جيدة في عملها مع شركة المحامين حيث عملت كسكرتيرة، لكنها عرفت من طريقة مواظبتها على تناول الأدوية القاتلة للألم أن تمضية اليوم جالسة الى ألة الطباعة سيجعلها تنام على ظهرها لمدة أسبوع – حتى لو أن العم جيمس سمح لها بالعودة الى العمل، وهي تعلم بأنه لن يفعل. لكن أين هي ومن تكون؟ مغلفة في شرنقة كما كانت في حب والديها، الوحدة العائلية المحببة، فانها لم تعرف شيئا عن العالم الخارجي. كان لها بعض الأصدقاء العرضيين، لكن لا أحد فيهم حرك مشاعرها وجعلها ترغب في الخروج معه بحماس. لكنها لا تستطيع البقاء هكذا، فعمرها اثنان وعشرون عاما، وفي خلال ستة أشهر ستكون ميتة. انتابها الرعب من جديد. ميتة، وهي بعد لم تبدأ العيش. سيطرت على هلعها، وقاومت لأبعاده من ذهنها. هل ستستقبله وهي ممددة؟ ألم يعد لديها المزيد من عظمة الظهر أكثر من الجلوس في البيت وأنتظاره؟ .
وقفت على قدميها، وهي مستعدة لمقاومة القدر. لم تكن متأكدة ماذا كانت تفعل، لكنها تأكدت فجأة بأنها لن تستسلم. أنها ستحشو دماغها قدر ما تستطيع لتعيش ستة أشهر. التقطت معطفها وخرجت مسرعة من البيت. لم تكن لديها أية فكرة أين كانت ذاهبة في البداية، لكن كان هناك شيئ أكيد، أنها لا تنوي الجلوس في البيت وتنتظر الموت ليدعوها.
أنزلها الباص قرب وسط المدينة، واليوم بدلا من الاتجاه نحو الكاتدرائية كما فعلت بالامس، أدارت قدميها باتجاه مقهى يتجمع فيه عدد من معارفها. الشعور بالأمان الذي كان يعتريها حال دخولها الكاتدرائية لم يدم حال خروجها، لذلك فانها ستحاول ايجاد الأمان من أفكارها مع بعض الاخرين في مجموعة عمرها. .
لكن بعد تناول كوبين من القهوة ولم تشاهد أحدا ممن تعرفهم، أدركت حماقتها فجميعهم في العمل في هذا من النهار. كانت عنبر على وشك المغادرة عندما دخلت المقهى فتاة لا تعرفها.
شاهدتها سالي سميث رأسا، ونظرت حولها كما فعلت عنبر لترى اذا كان هناك شخص أخر هناك تعرفه، ولما شاهدت بأنه لا يوجد أحد تعرفه سوى عنبر، جاءت وأخذت مقعدا قبالتها.
"ألا تعملين؟" سألتها سالي، وهي تنظر حولها الى شخص ما ليتلقى طلبها.
"لقد تخلصت من المرض هذه اللحظة".
"اوه نعم، أسفة، لقد نسيت – لقد أخبرتني ليندا ارثر بأنها كانت تزورك في المستشفى. هل تحسنت؟".
"نعم. شكرا"، اجابت عنبر، وهي لا تريد التحدث عن نفسها، وسألت سالي اذا كانت تعمل.
"أعمالا مؤقتة في هذه اللحظة".
"شئ مضجر، أليس كذلك؟" اعتقدت عنبر. .
"هذا يتوقف على ما تفعلينه في وقت فراغك" ردت سالي. "لا يمكنك أن تقولي بأنني ضجرة، هناك دوما شئ ما يعمل في مكان ما". ثم توقفت لتطلب قهوتها، ونظرا لأن كوبها كان فارغا وعلى الأقل فان سالي شخص يمكن التحدث معه، طلبت عنبر كوبا أخر لا تريده. تابعت سالي حديثها قائلة "هناك المزيد من الحياة هنا اذا عرفت أين تبحثين عنه" ثم أعطتها ابتسامة العارفة.
لم تكن سالي سميث صديقة مقربة بصورة خاصة بالنسبة لعنبر، لكن نظرا لمعرفتها بمكامن الحياة، فقد حازت على اهتمام عنبر. لقد بدت سالي تتمخطر في الحياة بدون مبالاة، فلماذا لا تفعل هي نفس الشئ؟ حتى الان، وهي بلا عمل، بدت سالي غير مكترثة بالعالم، وعرفت عنبر، عندما تذكرت بأن سالي تعيش في شقة لوحدها، أن الايجار يجب تأمينه من مكان ما.
"أين يمكن للمرء أن يبحث عن كل هذه الحياة؟" سألتها، وهي تلتقط نظرة سالي الفاحصة عليها.
عادت عنبر تقول لها وهي متشوقة الان لأي شئ قد تثيرها به سالي
"انني أشعر بنزوة قليلة هذه اللحظة". قالت سالي "ليس لدي ترتيب لأي شئ الليلة – تعالي الى المدينة في حوالي الثامنة اذا أحببت – وسنحبو كالجراء.
عنبر لم تحبو كالجرو في حياتها، لكن لأنها بدأت تستعد تلك الليلة للقاء سالي في الفندق الذي ذكرته، اعتقدت بأن أي شئ سيكون أفضل من البقاء في البيت بأنتظار الأشهر لكي تزحف. .
كانت تجربة جديدة لها لتدخل بار فندق وحدها. كان البار مزدحما وسالي لم تحضر بعد. شاهدت عنبر البارمان ينظر أليها، عرفت أنها وضعت المزيد من أحمر الشفاه، في محاولة كيلا تحط من قدر سالي التي كانت متحررة تماما بمكياجها. نظر أليها البارمان مستغربا، فرفعت رأسها قليلا وذهبت الى البار وطلبت ويسكي.
"لا – كما هو" قالت له، وهي تتعجب مما فعلته الان لحين مجئ سالي. نظرت حولها بحثا عن مقعد ولاحظت كرسي بار فارغا على بعد خطوات. لم يكن لكرسي البار ظهر، وهي بحاجة الى المسند الذي يؤمنه لها الكرسي، لكن ماذا يهم، لقد تناولت الدواء الذي يقتل الألم وبامكانها تناول المزيد منه لدى عودتها الى البيت اذا بدأ ظهرها بالاحتجاج.
اقتربت من كرسي البار، شاهدت بأن هناك كرسيا أخر شاغرا بعده، حسنا، سيكون هذا لسالي عندما تأتي. أن عملية تسلق كرسي البار كان جديدا بالنسبة أليها، وأجفلت عندما لم تتمكن في المرة الأولى وانزلقت حتى لامست قدماها الأرض.
" هل تريدين بعض المساعدة؟" سألها صوت عميق فوق أذنها، ونظرت الى أعلى وهي تغمز، وبدون مزيد من الضجة نزل الرجل الطويل الداكن الشعر عن كرسيه، وأمسكها حول خصرها وبدون جهد رفعها على الكرسي. .
"أشكرك" تمتمت، غير سعيدة بالطريقة التي كشفت عن ركبتيها، لكن الألم المؤقت نتيجة الحركة المفاجئة جعلها ترغب في القيام بأي عمل تجاهه.
وصل كأس الويسكي الخاص بها، والرجل الذي أجلسها على كرسيها وجه اهتمامه الى مشروبه أمامه. قامت عنبر بتجربة مصة اختبارية من كأسها، دون أن تفكر كثيرا به، لكن نظرا لأنها ذاقت الطعم الردئ للدواء في المستشفى فقد اعتقدت أن بامكانها انهائه.
أين كانت سالي؟ تمنت لو أنها تسرع في المجئ الى هنا. جالت بعينيها، ولما شعرت كأن كل شخص ينظر أليها، أدارت عينيها بسرعة الى كأسها حالما شاهدت رجل البار يلقي عليها ما يمكن أن يوصف فقط بالنظرة العارفة وفي حيرة من أمرها الان حول نسيان كل شئ حول تخطيط حبو الجرو،الشعور بالهلع الذي كان الان مألوفا لها عصف بكيانها، ونظرت الى الرجل الذي على الكرسي التالي لكرسيها، تريد شخصا ما تتحدث اليه – دون أن يهمها من هو، فأي شخص سيساعدها على التخلص من هذه اللحظات التي لا تحتمل. .
شاهدته ينظر في كأسه بكابة، ووجهه عابس. لم تدري ما الذي يعتريه، ولم تكترث. انه لن يموت قبل انقضاء ستة أشهر، وهمومه تعتبر لا شئ اذا ما قورنت... ابتلعت شعورها بالرغبة في الصراخ، وانفجرت في همهمة هشة، أي شئ لابقاء أفكارها في مكانها.
"في صحتك" قالت هي، وعندما أدار رأسه لينظر أليها كأنها ظهرت لتوها من كوكب أخر. "بكل تأكيد، لا يمكن أن تكون الأمور بهذا السوء". اعتقدت بأنه سيعيد اهتمامه للتأمل في كأسه، وبدا أنه على استعداد لتجاهلها. "الشمس ما زالت ستشرق لك غدا" اضافت تقول بسرعة، وهي تغتصب ابتسامة كلفتها غاليا. حالما أبعدت عنها التفكير بأنه لم يبق لها العديد من الأيام المشرقة.
ألقى الرجل عليها نظرة طويلة، مستوية وهو يسأل، "هل تعتقدين؟".
"انني دائما أفعل ذلك"، أجابت وهي مسرورة لأنه لم يتجاهلها. لو أنها تستطيع فقط ابقاء الحديث معه مستمرا حتى تصل سالي الى هنا!
ان أي شئ هو أفضل من أفكارها الخاصة. "انني لم أشاهدك هنا من قبل، فهل هذا صحيح؟" سألته عنبر. انها هي التي لم تكن هنا من قبل، لكنه لا يعرف ذلك.
تجاهل سؤالها ونظر الى كأسها قائلا "هل تريدين كأسا أخر" وغمز بعينيه، وكانت نظرته ازدرائية.
شعرت عنبر بنوع مختلف من الهلع حالما أدركت انه اعتقد بأنها تحاوره ليشتري لها كأسا، فأجابته بقولها "ليس في هذه اللحظة". أدارت وجهها بعيدا عنه كيلا يلاحظ مرضها. عندئذ توقد الغضب في أعماقها، وأدارت جسمها لتلقي نظرة نحو الباب لرؤية اية أشارة تنبئ بقدوم سالي، حركتها هذه جعلتها تشعر بوخزة ألم في ظهرها.
"ربما تريد ان تشتري لي تلك الكأس فيما بعد؟" سمعت نفسها تقول له. كان لكلماتها الأثر الذي جعل الرجل يدير رأسه في اتجاهها. وافق قائلا لها "ربما"، ثم بوجهه المدرك سألها "كم عمرك؟" .
"فوق سن القبول"، أجابت عنبر، وهي تفكر ما الذي يهم على أية حال. انها تريد اختبارا جديدا، أليس كذلك؟ مع أن هذا الرجل بدا كأن لا شئ جديد بالنسبة اليه ليختبره.
"من نظرتك، أنت على استعداد للقبول" أجاب بفظاظة، وأدار رأسه بعيدا، فرحت لأنها لا تريده أن يرى الاحمرار المميت الذي لون خديها بفعل كلماته.
"لا أحد من قبل اشتكى من ذلك".يا الهي، ما هذا الذي تقوله هي؟ كانت لديها فكرة بأن هذا الحديث الهش قد تعمق كثيرا. انه سيقول شيئا ما في أية لحظة وليس لديها أي دليل عن الذي يتحدث عنه. .
قال لها ببطء "انني لا أشتكي من شئ، فالفتيات من أمثالك لديهن منفعتهن". لم تكن من قبل متأكدة مما يعنيه. تململت على كرسيها، والألم في أسفل عامودها الفقري يقول لها بأنه يتوجب عليها أن تجد كرسيا بمسند لتريح ظهرها عليه.
"هل أنت كثيرا ما تستخدم فتيات مثلي؟" لم تقصد أن تقول له أي شئ أكثر من ذلك. انه خارج تجربتها، لكن وخز الألم كان كافيا ليذكرها بأن بأن اندفاعها المستقبلي محدود.
"انني لم أدفع لتلك الأنواع من المتعة" قال ببرود.
"من طلب منك ذلك؟" والتهب وجهها، وهي لا تدري ما الذي جعلها تلتصق بكرسيها، ثم أنكرت ذلك التفكير. أنها تعلم فعلا. هي بحاجة لشخص ما ليبعد عقلها عن أفكارها، ومع أن حديثه كان مقرفا فهو على الأقل أدمي أخر.
"هل تقدمين نفسك بدون مقابل؟" سألها بجفاء.
"انني لا أقدم نفسي على أية حال" قالت، وهي تتمنى لو أنها لم تقل ذلك، لأنه الان سيفقد أهتمامه الضئيل بها، وستترك عرضه لأفكارها الرهيبة.
"هل خرجت فقط للأغاظة؟" سألها على غير أنتظار.
"لقد أخترت الرجل الخطأ، يا صغيرتي". وضع كأسه الفارغ على البار، واعتقدت بأنه سيغارد في أية لحظة. .
"لا تذهب" قالت له بيأس، واعتقدت أن شيئا ما في صوتها دخل الى اعماقه، فبدلا من أن يقف ويبتعد عنها، أعاد قدمه التي نزلت الى الأرض على كرسي البار.
"هل يمكنك أن تعطيني سببا معقولا كيلا أذهب؟"
"حقا لا" ونظرت عنبر في كأسها. أنها لا تستطيع أن تخبر أي شخص تعرفه عن حاجتها لرفقة، ولم تكن على وشك البدء مع غريب. "انني متضايقة قليلا الان مع نفسي. أنا... أنا فقط... اعتقدت أنه قد..." تلعثم صوتها. لم تنظر اليه، لكنها عرفت أن توسلاتها له بالبقاء قد مرت بدون أكتراث. ثم فوجئت عند النظر اليه تسمعه يقول: "ان لدي ما يكفيني من مشاكلي الخاصة، ولا حاجة لي لسماع مشاكلك، لكن نظرا لأنني متضايق أيضا..." ونظر الى كأسها وقال لها
" هل انت مستعدة الان لتلك الكأس؟".
"لا" وابتسمت مسرورة لبقائه. "هل تعيش قريبا من هنا؟" سألته وهي تريد التحدث، لكنها لا تدري ما يقوله المرء في هذا الوضع الغريب فقد وجدت نفسها منغمسة فيه. تأكدت فجأة بأن سالي لن تأتي الان، لانه مضى على جلوسها هنا أكثر من نصف ساعة.
"انني أعيش غير بعيد من هنا" قال، دون أن يخبرها أين، وأدركت عندئذ أنهما مهما تحدثا حتى يحين موعد ذهابها، يأب أن لا يسمح بادخال شئ ذو طبيعة شخصية في حديثهما. أخذت جرعة أخرى من كأسها. .
"انت اذن لا تقيم في هذا الفندق؟" سألته بذكاء عندما مرت لحظات دون أن يتحدث أحدهما عن شئ.
"في الواقع، لهذا المساء فقط".
"اوه". الصوت الصغير هرب منها. ثم عاد عقلها الى ما قاله حول مشاكله الخاصة. لقد قال لها بأنه يقيم غير بعيد من هنا، فلماذا اذن يقيم الليلة في الفندق؟ لم تجد جوابا لذلك، واخذت جرعة أخرى من كأسها، وهي تخفي قشعريرة سرت في جسمها. ربما كان متزوجا، خطرت لها هذه الفكرة فجأة، وألقت نظرة خاطفة على يديه لترى بأنهما خاليتين من الخواتم، مع أن ذلك لا يعني الكثير. ربما تخاصم مع زوجته؟ احساسها بالحشمة هدد بالتغلب على حاجتها له ليكون معها، لكن ليس هناك من ضرر في الجلوس هنا والتحدث معه.
"ان كأسك قد فرغ تقريبا. لقد لاحظت بأنك تتململين على ذلك الكرسي. ما رأيك في أن تأخذي الكأس التي وعدتك بها في غرفتي المريحة؟".
عندئذ عرفت عنبر تماما ما كان يطلبه. لو أنها ذهبت معه الى غرفته، فأن ذلك يمكن أن ينتهي فقط بطريقة واحدة. أن أشارته لها بأنها تتململ على كرسيها لا تعني بأنه يعرف أن ذلك كان بسبب الوخز في ظهرها. لماذا يجب أن لا تذهب معه الى غرفته؟ معها أو بدونها سيذهب قريبا، وهي لا تريد ان تترك لوحدها. قاومت الخوف الذي كان يجول في خاطرها، واجبرت نفسها لكي تتذكر بأنها في الثانية والعشرين ولم تذق بعد طعم الحياة، لكن في الجزء العلوي من عقلها كان التفكير لو انها ذهبت معه فلن تكون وحيدة.
"هل أنت متزوج؟" انفجرت قائلة. .
نظر اليها مندهشا، كأنه لم يعتقد بأنها من نوع الفتاة التي لديها شكوك.
"لا" قال بعد دراستها لثانية أو اثنتين. "انا لست متزوجا". ثم توقف. أن القرار كله الان لها، وهي تعرف نوعا ما بأنه لن يضغط عليها.
"ربما ستكون غرفتك مريحة أكثر" وجدت نفسها توافق، وأسدلت الستار على عقلها عندما نزلت عن كرسيها بمساعدته، شعرت بأن كل العيون تلاحقها حالما غادرت البار بصحبته