الفصل الحادي عشر
_كيف حالك نادين؟
بإبتسامةٍ قابلتها سُمية وهي في طريقها إلى عملها،
فيما كانت الأخيرة تمر على دانة ليذهبا كي يبتاعا فستان الزفاف الذي فاجأها عاصم بموعده،
والأن عليها أن تنجز الكثير من الأمور في وقتٍ قياسي وجعلت دانة على أهبة الاستعداد لمساعدتها في الأمر.
_الحمد لله عمة سُمية، كيف حالك أنتِ؟
_بخير الحمد لله.. أتيتِ لدانة؟
أومأت بحماس:
_أجل، مهمة اختطاف عاجلة لإنجاز الكثير من الأمور العالقة، من ضمنها شراء فستان الزفاف.
فقطبت سُمية حاجبيها في استفهام.
_ظننتك ابتعته منذ أسابيع.
فهزت نادين كتفيها تتهرب من الاجابة الصريحة:
_اضطررت لإلغاء حجزه حين تأجل الزفاف.
بابتسامةٍ داعمة أجابتها سُمية:
_لا بأس، أنا متأكدة أنك ستجدين الفستان المناسب، وإن احتجتِ لأي شيء، لا تترددي في مهاتفتي.
لتومئ لها نادين.
_سأفعل.
وقبل أن تهم حماتها بالانصراف، سألتها الأولى بإهتمام.
_هل العمة نجوان بخير؟
فاستدارت سُمية مندهشة من السؤال.
_ماذا تعنين؟
_أعني.. أني رأيتها الليلة الماضية ترحل من عيادة عمي فاروق، فكنت أطمئن إن كانت بخير.
دهشة اعترت سُمية إثر ما تسمع،
ففاروق لم يذكر زيارة نجوان له حينما عاد أمس، بل وبكلماتٍ مختصرة على غير العادة أوى إلى النوم، ولم تدركه صباحًا قبل أن يذهب إلى عمله.
ضيقٌ عارم استعمر صدرها، ضيق متمثلًا في.. غيرة؟
تغار على فاروق؟
قطعًا تغار! فهو زوجها وحبيبها وتغار عليه من أيّ امرأة يُصَور لها خيالها إن بإمكانها الاقتراب منه.
أتغار من أختها؟.. قطعًا لا.. أليس كذلك؟
إذن ما سِر هذا الضيق الذي تشعره؟
ربما لأن نجوان كتابٌ مُبهمٌ بالنسبةِ لها..
فطفق عقلها يتساءل عن السر خلف زيارتها لزوجها!
كل هذا دار في خلدها في ثوانٍ هو ما استغرقته للرد على نادين بابتسامةٍ مصطنعة.
_لا تشغلي بالك، هي بخير.
ثم اردفت تُنهي حديثًا لا تملك له إجابات.
_علي الذهاب كي لا اتأخر على العمل، أراكِ لاحقًا عزيزتي.
وبرحيلها كانت دانة تهم بالخروج من البيت.
_أنت هنا، جيد.. أنا جاهزة، وطلبت سيارة الأجرة التي ستُقللنا إلى وسط المدينة، هيا، هيا..
قالت وهي تجذب يد صديقتها وتجرها للخارج، تنظر حولها يمينًا ويسارًا بحثًا عن السيارة التي طلبتها بتطبيق السيارات المستأجرة.
_ها هي.
قالت وهي تشير إلى إحدى السيارات المصطفة إلى جانب الرصيف واتجهتا إليها.
فتحت دانة الباب وركبتا وهما يلقيان السلام دون النظر إلى السائق الذي قطب جبينه وهو ينظر في المرآة الأمامية إلى الفتاتين في الخلف، والتي بادرت إحداهما بالثرثرة للأخرى.
_سنمر أولا على متاجر فساتين الزفاف، ثم علينا تأكيد حجز المصور و...
واستمرت في ثرثرتها لثوانٍ قبل أن تلاحظ عدم تحركهم بالسيارة، لتقطب جبينها وهي تنظر إلى السائق وتقول بنزق.
_لماذا لا تتحرك؟ هل أنت تائه ولا تعرف الطريق؟ هيا تحرك ليس لدينا النهار بأكمله.
ليلتفت إليها السائق وهو يقطب جبينه في محاولة لفهم الموقف الذي وجد نفسه فيه بدون مقدمات.
_هل أنتن صديقات أختي؟
بادرهم بالسؤال المستفهم وهو ينظر الى كلتاهما بتوجسٍ من اقتحامهما سيارته فيما كان ينتظر أخته كي يقلها للتسوق.
اعتلت الدهشة الفتاتين ونظرت كل منهما للأخرى في تساؤلٍ عن جنون ذلك السائق،
لتنظر إليه دانة مرة أخرى وهي تقطب حاجبيها، ثم تنظر لهاتفها إلى تطبيق طلب السيارات الذي يوضح نوع السيارة مرفقة بصورة للسائق، والذي لم يكن يشبه بأي شكلٍ ذلك الشاب الذي يحدق فيهما في ذهول، فتشهق دانة بصدمة من الموقف.
_يا إلهي.
وتجذب ذراع نادين هامسة لها.
_أخطأنا السيارة، ليست هذه التي طلبتها.
فتتسع عينا نادين من الموقف المحرج الذي وضعتها فيه صديقتها، لتفتح الباب وتهم بالإسراع خارج السيارة، ودانة تلحقها وهي تتمتم للشاب.
_نأسف جدًا على الخطأ، اعتقدنا.. تشابهت علينا السيارة، عذرًا مرة أخرى.
لتسمعه يرد مع ابتسامة لبقة.
_لا بأس، لم يحدث شيء.
ثم لحقت بصديقتها والخجل يعتريها من رأسها لإخمص قدميها.
_يا إلهي ما هذا الموقف المُحرج؟
تمتمت دانة بينما نادين توبخها
_كان عليك التأكد من رقم السيارة قبل أن نركب، يا إلهي مؤكد يظننا مختلتان.
لتزفر دانة بضيقٍ من الموقف:
_ أعرف، أعرف.
ثم نظرت إلى صديقتها لثوانٍ، قبل أن تنفجر كلتاهما في الضحك من الموقف الذي تعرضتا له.
_يا إلهي دانة، ألن تكفي أبدًا عن التسرع ووضعنا في مثل هذه المواقف؟
ذكريني ألا أستمع إليكِ مرة أخرى.
قالت من بين ضحكاتها، لترد الاخيرة مقهقهه.
_وما ذنبي إن كان يمتلك نفس نوع السيارة ونفس اللون؟ إنها غلطته هو.
ثم وجدت سائق السيارة التي طلبتها يهاتفها ويخبرها بانتظاره لهما.
_وصل السائق، هيا كي لا نتأخر.
فتضحك نادين وهي تتبعها.
_تأكدي هذه المرة من السيارة قبل أن نركب.
....
تجلس إلى مكتبها منشغلة البال عما يدور حولها من نقاشٍ بين ليلي وأحد العملاء الذي يصر على موعدٍ مُحددٍ لاستلام طلبيته و ليلي تحاول إقناعه أنه من غير الممكن تنفيذ العمل في المدة الزمنية التي يريدها.
عقلها يعمل دون توقف محاولة تحليل ما علمته صباحًا،
أتراها المرة الأولى التي تزوره فيها في عيادته؟
أم كان هنا مراتٌ قبلها؟
ولما لم تخبرها نجوان بالأمر؟
لماذا لم يخبرها هو؟
تتفهم موقفه الى حدٍ ما، إلا إنها في الوقت نفسه تستنكر عدم افضائه بالأمر إليها.
تضارب في المشاعر هو ما تشعر به، ممزقة بين تفهمها وغيرتها وفضولها.
أتتصل به تسأله؟ أم تتغاضى عن الأمر؟
تهز ساقها في توترٍ حاولت التحكم فيه، لكن رغمًا عنها انفلت زمام أعصابها والجدل الدائر حولها يثير توترها أكثر، فهتفت بالعميل ثائرة بنفاذ صبرٍ على غير عادتها:
_يا أستاذ شرحنا لك أن ما تطلبه مستحيل!
نحن لا نملك عصا سحرية لتحقيق الأحلام!
ما تطلبه يتطلب جهدًا ووقتًا أكثر مما تتوقعه سيادتك، فإن لم يكن مناسبًا لك عرضنا، يمكنك البحث عن ما تريد في مكانٍ أخر!!
صمت العميل في ذهول من انفعال السيدة، بينما قضمت ليلى شفتيها في حرج من رد فعل سُمية وهي تستغرب انفلات أعصابها بهذه الطريقة النادرة الحدوث.
صمتٌ متوترٌ مطبقٌ لثوانٍ ملأ ذرات الهواء،
وسُمية تُدرك ثورتها وصبها جام غضبها على الشخص الخطأ، ليأتيها رد فعل العميل الهادئ على غير المتوقع.
_وأنا لا أريد أن أبحث عن مكان أخر، أنا على استعداد لِتَقبّل الشروط.
فاعترى الحرج سُمية من لباقته بينما تبتسم ليلى محاولة تلطيف الاجواء.
_سيد إبراهيم لم تشرب شيئًا، ماذا نحضر لك؟
ليبتسم لها في لباقة.
_ بعض القهوة تفي بالغرض.
لتقول ليلى وهي تستقيم من مكانها.
_سأطلبها لك علي الفور.
ثم ألقت نظرة إلى سُمية قبل أن تذهب وأشارت إليها أن تهدأ قليلًا.
أخذت سُمية نفسًا عميقًا قبل أن تزفره ببطء محاولة تمالك زمام أمورها قبل أن تقول بأسف.
_أعتذر منك على انفلات أعصابي الغير مُبَرر.
_لا بأس، كلنا نمر أحيانًا بأيامٍ سيئة، وأنا أخمن أن يومك ليس الأفضل.
فالتزمت سُمية الصمت لوهلةٍ ولم تُعقِب على كلامه قبل أن تقول بعملية:
_طلبيتك ستحتاج على الأقل عشرة أيام للتنفيذ والتسليم، صدقًا هذا أقصى عرضٍ نستطيع تقديمه.
_وأنا موافق، وسأنتظر منك صور المنتجات فور أن يتم الانتهاء منها.
ناولها بطاقته الشخصية وهو يردف:
_هذه أرقامي الشخصية، سأكون بانتظار تواصلك معي على أحر من الجمر.
ثم ابتسم محاولة اضفاء بعض السكينة للأجواء.
_الحياة قصيرة ولا تستدعي أن يعكر صفو يومك ومزاجك أي شيء.
تبتسم سُمية بحرج وهي تتناول منه البطاقة،
وقبل أن تتمكن من التفكير في ردٍ مناسب، شردت نظراتها خلف عميلها وهي تتفاجأ بوجود زوجها بملامحه الجامدة والذي تنادى الى سمعه حديث رفيقها.
_فاروق.
تمتمت وهي تستقيم وتلتف حول المكتب متجهة إليه
_ماذا تفعل هنا؟
_كنت في فترة استراحة، فقررت المرور علي زوجتي لإحتساء القهوة معها.
قال مشددًا على حروف كلمة زوجتي،
فيما استشعرت سُمية نبرته الجادة، فاكتفت بالإيماء ثم قدمت احداهما للآخر،
فيسلم عليه فاروق وهو يرد بإقتضاب.
_ أهلا.
فتنحنح الأول وقال:
_حسنًا سيدة سُمية سأنتظر تواصلك بخصوص طلبيتي، بعد إذنكم.
بابتسامةٍ لبقة غادر المكان،
فنظر فاروق في إثره لوهلةٍ قبل أن يلتفت إلى زوجته التي جلست إلى مكتبها تحاول أن تحافظ على واجهة هادئة رغم صخب المشاعر داخلها.
_إذن ما سبب تعكر مزاجك كما لمّح السيد؟
بتهكمٍ استهل حديثه وهو يجلس إلى الكرسي المقابل لها، تهكمٌ منبعه نيران غيرةٍ اشتعلت جذوتها وهو يصل الى المكان، فيرى تباسط ملامح ذاك العميل الذي أثار استنفاره والذي كان في أوجه من الأساس نتيجة صراعه بين إرادته كزوج وواجبه كطبيب بخصوص ما سمع من نجوان.
ترفع سُمية نظراتها التي اكتست برودًا تقابل تهكمه وهي تُجيب:
_مجرد يوم سيء.
تهكمه لا ينقشع بينما يجيبها:
_يومٌ سيء ومزاجٌ عكر استدعى تعاطف السيد العميل.
وما زادها تهكمه الا برودًا،
رغم أنه في وقتٍ أخر كانت لتسعد بجذوة الغيرة التي تنضح من عينيه، لكنها الأن تصارع أفكارها الخاصة المتشحة بغيرتها هي والتي تتمحور وتدور حوله.
_مالي أنا وتعاطفه؟ هو ألقى ملاحظة عابرة لم أتفاعل معها.
_ولم تنهريه أيضًا!
لتقارعه سُمية بالرد الحازم.
_ثِق أني كنت لأوقفه عند حده إن كان تمادى، احترامًا لك، ولنفسي أولًا.
ثم أردفت بنبرة أكثر لينًا:
_لكن أحيانًا نوضع في مواقفٍ يعجز فيها العقل عن التصرف الصحيح التزامًا منا بحدود اللباقة التي نتحلى بها.
يزفر محاولًا تهدئة نيران غضبه والتماس الهدوء، فيما نظرت هي إليه بتمعن وهي تشعر تغير حاله عن هدوءه المعتاد.
_ما بك فاروق؟ أنت متوتر!
فيتنهد وهو يرمقها بالنظرات المتفحصة،
عقله يخبره بمواجهتها بما علمه وألا ينجرف وراء استنتاجات قد لا يكون لها أساسٌ من الصحة، فيقرر أن يقطع طريق حيرته.
_سُمية.. أريد أن أسألك شيئًا بخصوص خالد.
تضيق عينيها استغرابًا
_خالد؟ ماذا به؟
ليسألها مباشرةً دون مواربة.
_كيف انتهى به الأمر تحت رعايتك حين كان صغيرًا؟
سؤاله أثار المزيد من حيرتها ولكنها أجابت:
_أنت تعلم.. نجوان تخلت عنه لوالده عقب طلاقهما، وبعدها هو تزوج وانشغل بأسرته متخليًا عن مسؤولية خالد، فربيته مع عاصم.
_ألم يرغب والده أبدًا بضمه لإخوته؟
هنا صمتت سُمية وقد أخذها السؤال على حين غرة، ليتابع هو أسئلته.
_هل رغب بذلك والسفر به، لكنك منعته من ذلك بالقوة؟
هنا إزداد توترها من سيل أسئلته التي على ما يبدو تنبع من معلوماتٍ عرفها مؤخرًا، ولكن كيف له ذلك؟
لا يوجد سوى شخصان فقط على دراية بالأمر، أحدهما المعني بالسؤال، والأخر لم يكن ليتكلم أبدًا،
والسؤال في ذهنها ترجمته لكلماتٍ تحاول بها مدارة توترها.
_من أين لك بهذا الكلام؟
_لا يهم المصدر، المهم المعنى.
ينظر إليها بتمعنٍ محاولًا قراءة دواخلها وهو يمني نفسه أنها لم تكن لتكون بتلك القسوة!
سُمية الحنون لم تكن لتفعل ذلك!
_هل صحيح أنك حرمت ابن من والده وإخوته قسرًا؟
تعتصر قبضتيها في توتر وبصوتٍ حافظت على ثباته متجنبة التقاء نظراته قالت:
_أنا أمتنع عن الرد.. هذا ماضٍ انتهى وولّى منذ زمن!
ليُصدم من ردها الذي خاب أمله به و بها.
_أنتِ لا تنفين الأمر!
فتعاجله بالرد نافية.
_ولا أقره!! فلتدع الأمر وشأنه فحسب.
ينظر إليها فاروق لا يدري فيما يفكر وهي ترفض إعطائه فرصةً للفهم.
_لا أفهم كيف أمكنكِ فعل ذلك.. بل لماذا؟
يسألها مستفهمًا بنبرةٍ مستنكرة وخيبة أملٍ تلوح من نظراته،
فتجيبه هاتفة وقد تملكها التوتر:
_أخبرتك أنه ماضٍ وانتهى، فلا يحق لك محاسبتي عليه وأنت لم تكن جزءًا فيه!
فأنا لم أحاسبك على علاقة نجوان بك وترددها على عيادتك، رغم أنه أمرٌ حاضرٌ بيننا!
ذُهل من كلامها وانفعالها الذي يُقر بفعلتها دون الحاجة لكلمات، ذهول أخر ممتزجٌ براحة لمعرفتها بزيارة أختها له والذي كان يُثقل صدره،
لكنه رغمًا عنه سأل.
_كيف عرفتِ بأمر زياراتها لي؟
_نادين رأتها وأخبرتني.
تنظر إليه بلومٍ وعتاب:
_لماذا لم تخبرني؟
_لأنها تزورني كطبيبٍ نفسي، وأنا لا أفشِ أسرار مرضاي.. من البديهيّ ألا أخبر أحدًا حتى لو كانت أنت.
ثم أردف قائلًا وخيبة الأمل تغزو مُحياه.
_كما أني لا أحاسبك سُمية، أنا كنت أريد أن أفهم ما الذي دفعك لفعل ذلك، فأنتِ لست بهذه القسوة!
أو هكذا ظننتكِ!
لكن بما أنك ترفضين البوح بالأمر، فأنا حتمًا لن أجبرك.
ثم استقام وهو يردف.
_وإجابة سؤالك عن كيفية معرفتي بالأمر، من نفس الشخص الذي ترغبين بمحاسبتي عن علاقتي المهنية بها.
قالها بنظرة لومٍ لم يقدر على مداراتها، فكلامها كان به من الاتهام ما لم تقبله كرامته، فأردف ببرودٍ اعترى كلماته.
_سليها هي كيف عرفت بالأمر.. أو لا تسأليها، هذا شأنك.. على العودة إلى العمل.
ثم انصرف دون زيادة كلمات، بينما سُمية تنظر في أثره مصدومة من معرفة نجوان بالأمر، أترى بكر أخبرها؟
و منذ متى تهتم أختها بأي أمر يخص خالد؟
وعلى سيرة الأخير التقطت هاتفها تتصل بأختها،
لا يجب ان يصل الأمر لخالد!
لن تسمح لها بإخباره!
لن تسمح لها بتشويه علاقتها به كما تحاول على ما يبدو تشويه علاقتها بفاروق دون سببٍ واضح، فاروق الذي هيأ لها الفرصة وجاء يحاسبها متأثرًا بما دسته أختها في رأسه، ولكن لكل مقامٍ مقال!
والأولوية الأن لبتر الحديث عن ذاك الأمر.
_أين أنتِ نجوان؟
قالتها سُمية بحزم دون تلفظٍ بسلام.
_أرسلي لي العنوان فورًا.
....
في المجمع التجاري للتسوق
_أمرٌ غريب، ماذا كانت تفعل لدى والدي في عيادته؟
سألت دانة نادين التي كانت تجول بعينيها بين فساتين الزفاف المُعلّقة، تحاول التقاط ما يجذبها.
_لا أدري، ويبدو أن العمة سُمية لم تكن تعلم بالأمر أيضًا حين أخبرتها صباحًا.
ثم التقطت أحد فساتين الزفاف وهي تردف.
_أُخبرك سرًا؟ أنا لا أرتاح لهذه المرأة، بها شيءٌ مُريب.
_أنتِ أيضًا شعرت بذلك؟ ظننت أني وحدي من استشعر ذبذباتٍ غير مُريحة بشأنها.
أقرت دانة، فتُجيبها صديقتها:
_لست وحدك، لكني لا أذكر ذلك أمام عاصم، هي خالته في نهاية الأمر لكنها ليست مُقربة منهم، أو هكذا فهمت..
حمدًا لله على ذلك حتي لا يتأثروا بطباعها الباردة.
قالت وهي تضع الفستان على جسدها تتفحص شكله أمام المرآة بينما دانة تشرد قائلة:
_الأمر مُريب، فامرأةٌ مثلها بتلك العجرفة لن تلجأ لطبيبٍ نفسيّ من أجل علاج.
فالتفتت إليها نادين.
_لماذا إذن قد تزره؟
_لا أدري، لكني لا أشعر بالارتياح.
قالت وهي تشرد في تفكيرها قليلًا ثم نفضت رأسها تستعيد تركيزها مع صديقتها.
_هذا الفستان رائع، لما لا تجربيه؟
_أظنني سأفعل.
ثم أخذت الفستان لغرفة القياس لتجربته، ثم عادت إليها وعلي وجهها نظرة عدم اقتناع وهي تنظر لنفسها في المرآة ثم إلى انعكاس دانة التي زمت شفتيها وهزت رأسها رفضًا للفستان دون كلمات
قلبت نادين مقلتيها وهي تخاطب انعكاس صديقتها:
_سيء، فهمت.
فابتسمت دانة بسماجة وهي تومئ لها، فالتقطت نادين فستانًا آخر لم تقتنع به صديقتها، لكنها قررت قياسه على أية حال،
فيما جلست دانة تتصفح هاتفها حين دخل عاصم وهو يبحث بعينيه عن زوجته.
زوجته!
ابتسم للخاطرة ولهفة قلبه تسبقه،
فحين علم منها أنها ستحضر اليوم لاختيار فستان الزفاف، لم يستطع أن يقاوم رغبته لمرافقتها، لكنها رفضت متحججةً برغبتها أن تفاجئه يوم الزفاف بطلتها،
فانصاع لرغبتها لكنه لم يقدر على كبح جماح رغبته للحضور، عله يسترق لمحة منها تهدّئ شوقه إليها.
وكأن قلبه كان غافيًا تحت سطوة عقله الذي أرهقه ضجيج أفكاره التي لازمته لوقتٍ بدا كالدهرِ،
وحين اتخذ قراره بعيش حاضره محاولًا تخطي قُبح ذنبه وكسر قيود أوهامه التي تزوره بين الحين والحين،
انتفض قلبه مُفجرًا كل المشاعر التي حاول وأدها في مهدها تجاه مالكة قلبه، فانجرف خلف مشاعره غير مُبالي بأي قيود.
رفعت دانة رأسها عن الهاتف لترى عاصم يبحث عن نادين، وحين رآها أشار إليها بتساؤلٍ صامت عن مكان نادين، فحادت عيناها تجاه غرفة القياس حيث كانت الأخيرة، فقرر دون تفكير أن يدخل إليها،
همت دانة ان توقفه، فنادين حتمًا ستقتلها ان عاصم رأها بفستان الزفاف،
لكنها عدلت عن الفكرة، فكم مرة تُتاح لنا الفرصة لاقتناص لمحة سعادة من العمر؟
فقررت بمكرٍ مسايرته في جنون مبادرته بأن تُلهي الفتاة المسؤولة في المتجر عن صديقتها وتسألها أن تُريها بعض فساتين السهرة كي لا تقاطعهما بالداخل.
سمع عاصم صوت نادين من غرفة القياس.
_أعتقد أن قياسه غير مناسب دانة.
ليقتحم مكانها تزامنًا مع شهقة نادين المصدومة.
_ماذا...؟
ماتت الكلمات على شفتيها وهي تنظر لانعكاس عاصم في المرآة وهو يوصد الباب خلفه، للحظة توقفت أنفاسها وهي تستدير إليه.
_عاصم.
لم تزد عن الهمس بإسمه في ذهول ونظرتها تتوه في بحر عينيه التي غزتها نظراتٌ لم تعتدها بعد منه والذي ذاب إثرها قلبها
هو.. هنا؟
وهو.. أخذ يروي شوقه إليها وهو يشملها بنظراته العاشقة وهو يراها بفستان زفافٍ رقيقٍ مثلها هادئ التفاصيل، منديل رأسها يُخفي شعرها رغم بضع الخصلات الحمراء المتمردة التي أطلت منه
كانت تبدو كالملاك في هيئتها!
وكم فاق جمال الواقع أحلامه!
حبيبته تقف أمامه بتوردها الذي يذوب أمامه مقاومته لرغبته للاقتراب،
عينيه كانت تجوبان ملامحها التي صارت له موطنًا يود لو يسكن إليه.
اقترب منها خطوة، فتراجعت نادين مثلها وهي تستوعب وجوده هنا، في غرفة القياس.
_عاصم ماذا تفعل هنا؟
_اشتقت.
كان كل ما همس به بقوة عاطفته وهو يقترب خطوة أخرى تراجعتها نادين فلم تجد غير صلابة المرآة خلفها بينما اقترب خطوة أخرى،
قلبها يطرق بعنفٍ في صدرها وكلمته الوحيدة مع عُمق نظرته تبعثر مشاعرها شتاتًا
ازدردت ريقها وتمتمت بتوترٍ
_عاصم لا يصح تواجدك هنا، هيا أخرج وإلا..
_وإلا ماذا؟
قالها بابتسامة جانبية ونظرة عابثة أكثر استرخاءً وترتها أكثر فقالت مهددة إياه.
_سأصرخ.
_اصرخي.
وكلمته غير المكترثة بتهديدها الواهي تزامنت مع اقترابه أخر خطوة تفصله عنها،
فباتت تفصلهما فقط مسافة أنفاسهما التي اختلطت،
اقترابه منها هذا الحد واقتحامه إياها أثار داخلها توترًا من نوع آخر، توترٌ وارتباكٌ من حضرة الحبيب، توتر من خطر ليس بخطر مُميت، وإنما خطر انهيار أعصابها من قربه منها بهذا الشكل، فهي لا تزال تستوعب تلك المشاعر المتدفقة منه إليها.
_عاصم.
همست ترجوه بعينيها ولا تدري ماذا تطلب، يلامس بأنامله خدها المُتورِد بتقديسٍ وهو يهمس بدوره
_نبض عاصم الثائر أنتِ نادين.
يميل إليها وفي اقترابه يتوتر قلبها الذي حار بين أن يطالبه بالابتعاد أو الاقتراب أكثر، يميل ويحط بجبينه على جبينها فتغلق عينيها من أثر اللحظة، وتستمع إلى آهه خافتة تهرب بين أنفاسه.
_آهٍ من شوقي إليك نادين، آهٍ من شوقي لسكنٍ بين ذراعيك واحتوائك داخلي.
حطت يداها على صدره تبغى دفعه، لكنها وجدت نفسها تتشبث بقميصه وحرارة كلماته تُرخي أوصالها،
تراجع قليلًا لتحط شفتيه على جبينها في قبلة عشقٍ وتقديرٍ قبل أن يهمس لها.
_خمسةُ أيام فقط.. خمسةُ أيام نادين.
فتحت عينيها تنظر إليه برجاءٍ أن يرحم مشاعرها وهمست:
_أخرج عاصم، أرجوك.
فداعبت ابتسامة ملامحه وهو يومئ لها.
_حسنًا سأخرج، لكني لن أرحل، سأنتظر انتهائك في إحدى المقاهي كي أوصلك للبيت.
ثم مال إليها وطبع قبلةً حطت على خدها وجانب فمها، اضطرب لها قلبها أكثر وأكثر، قبل أن يتراجع وعلى وجهه ابتسامة عاشقة وينسحب خارج غرفة القياس،
تضع نادين يدها على صدرها وهي تطلق سراح أنفاسها التي حبستها، تحاول تهدئة قلبها ولملمة أعصابها قبل أن تتسع ابتسامتها تدريجيًا من فرط السعادة التي تشعر بها، لا تصدق أن هذا عاصم الذي كان قبل بضع أسابيع متباعدًا عنها وهوةٌ سحيقة تفصل بينهما، والأن هي أقرب إليه من نفسه، هي الأن وبكل بساطة.. أكثر سعادة من أي وقتٍ مضي..
وفي الخارج قبل قليل كانت دانة تتفحص الفساتين و عقلها يهيم بملامحٍ وجدت نفسها تشتاق إليها، ليقفز من أفكارها متمثلًا أمامها وصوته يباغتها
_اختاري الأزرق.
فتنتفض مستديرة إليه متسعة العينين من تواجده هنا، وكأن قلبها استحضر تواجده حين فكرت فيه.
تداركت ذهولها سريعًا وهي ترد عليه مُتشحة بالهدوء رغم توترها المُستحدث في وجوده.
_ولما؟
ليرد خالد بكل بساطة وابتسامة صغيرة تداعب شفتيه.
_لأنه يُعبر عنكِ، يُميزكِ.
فتورد خديّها واستدارت بنظراتها عنه تلملم شتات مشاعرها وهي تتمتم.
_لما أنتَ هنا؟
فتقابلها ابتسامته الماكرة.
_جئت لأتسوق.
فتلتفت تنظر إليها بحاجبٍ مرفوع.
_في متجر فساتين زفاف؟
فيرد عليها باسترخاءٍ وكلماتٍ مبطنة مما يلوح في نيته التي صارحها بها قبلًا.
_ربما ساقني القدر إلى هنا كي أُلاقي مصيري، وربما هناك زفافٌ يلوح في الأفق، فلقائنا هنا حتمًا ليس صدفةً وقد جئت لأراك.
قال كلمته الأخيرة بحرارة شعرتها واربكتها، فقضمت شفتها وتورد خدها يزداد،
كلماتها المشاكسة التي كانت تقذفه إياها كلما التقته تهرب منها ولا تجد ما ترد على كلماته، الصريحة منها والمستترة،
ابتسامة جانبية منه تزامنت مع قوله.
_أو تعرفين، ربما عليك اختيار فستان زفافٍ أبيض، فحتمًا سنحتاج أنا وأنت واحدًا قريبًا.
تتسارع نبضات قلبها إثر تلميحه الصريح، ولكن تعود إليها روحها المشاكسة وهي تجده يتحدث بكل تلك الثقة، فتنظر إليه بحاجب مرفوع.
_ما هذا الغرور الذي يصور لك أني موافقة؟
لتتحول نظرته المرحة إلى أخرى مُترقبة، جادة ومتلهفة، فهو لم يسمع منها ردًا على تصريحه بمشاعره إليها، أيكون قد تسرع بالاعتقاد أنها تبادله ولو قدرًا قليلًا من المشاعر؟
فيسألها بترقبٍ تمكن من مداراته.
_إذن أنتِ ترفضين؟
يطلب منها ردًا صريحًا إما أن يحيي قلبه، او يرديه قتيلًا بين يديها،
فما بخلت عليه بالرد العفوي الذي نبض من قلبها وان شابه التوتر.
_أنا لم أقل ذلك.
فتتسع ابتسامته إثر ردها بينما هي تقضم شفتها لتسرعها بالكلام.
_أعني.. أقصد..
تمتمت بتوتر ونظراتها تحط على كل شيءٍ الاه، فيبتسم لجانبها الخجول والمتوتر والذي كان آسرًا له.
_علي الإعتراف أني أُحبُ جانبك الخجول، بجانب بالطبع جانبك المشاكس الذي يناكفني.
قالها بمرحٍ كي يمحي توترها فما كان منها الا الابتسام، ثم أردف بنظرة ولهٍ لم يقدر على مُداراتها
_أما جانبك الحنون فيأسرني.
فتوردت مجددًا وكلماته تغازل أنوثتها برقة، لكنها نهرته قائلة بجدية مصطنعة:
_توقف عن مغازلتي، وإلا اشتكيتك للعمة سُمية كي تتصرف معك.
ابتسامته تتسع مكرًا بينما يجيبها بتحدي:
_ سُمية ستكون أول المؤيدين عندما أخبرها برغبتي بالارتباط بكِ، فهيا اشتكيني.
قال وهو يقترب من مجالها خطوة، فتتراجع وهي تشعر بارتباك لذيذ غزا مشاعرها وهي تتمتم مُتهربة منه.
_ أنا.. سأذهب لأقيس الفستان.
قالتها وهي تلتقط الفستان الأزرق دون وعيها والذي اختاره لها وهربت من أمامه،
فتتسع ابتسامته وهو يتابعها بعينيه حتى اختفت،
ثم ظهر عاصم الذي اتجه إليه، جاذبًا إياه من ذراعه متجهًا إلى باب الخروج وهو ينوي أن ينتظر نادين في إحدى المقاهي،
فيتمتم ابن خالته معترضًا وهو ينظر في أثر دانة متراجعًا بظهره مع عاصم إثر جذبه اياه.
_انتظر.. أنا لم أرى الفستان الأزرق بعد..
بعد قليل أخرجت دانة رأسها من غرفة القياس، تنظر في الخارج لتري إن كان لازال متواجدًا، في نفس الوقت الذي أطلت نادين برأسها من غرفة القياس الخاصة بها تنظر في إثر عاصم،
لتصطدم بنظرات دانة، فتمتمت باستغراب.
_ماذا تفعلين؟
فاعترفت دانة وهي تذوب في مشاعرها:
_اهربُ من خالد.
فعقدت صديقتها حاجبيها في استغراب
_خالد؟
فأومأت دانة بينما السعادة تغزو ملامحها.
_يا إلهي نادين لن تصدقي ما حدث