الموضوع: اغفرلي فِصامي
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-12-24, 06:57 PM   #55

آيات العزيبي

? العضوٌ??? » 509143
?  التسِجيلٌ » Dec 2022
? مشَارَ?اتْي » 181
?  نُقآطِيْ » آيات العزيبي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثاني عششر



.
.
.
.









بعد يومان .. كذبنا ان قلنا عادت الأيام الى مجاريها، فكل شيء بات مختلفاً، وكأنما الزِلزال توقف بغته لكن الحال بعده لايشبه الحالُ قبله، هناك مرحله جديده من حياة كل واحد تلوح بالأفق يسير الى الخيار المطروح امامه مجبراً لاطوعاً وجبراً عليه ايضاً الرضوخ لما بات عليه من حال

لكن هل يرضخ احدهم ؟

جميعهم شتى وجميعهم ينسلون من تحت الركام كي يحاولوا .. فقط محاوله لكنها محمله بكل الأمل والعزيمه بأن تغدو الايام افضل والحياه تستحق ان تُعاش بحق والا الموت في سبيلها والكفاح كفاح الى ان تبلغ الاجساد مثواها الأخير

وعلى رأس الجمع بيدر، ذاك الذي بات لايعرف للنوم طريقاً ولا للصحوه مذاق، يحيا في خِضم نوباته واوهامه وإنكساراته، وحيداً في الدار الموحِشه .. ربما ليس وحيداً فمدين عاد اليه وهماً وذلك على الاقل يؤنسه فيشكو اليه ويتحدث معه كما لو كان حياً .. بل اقرب اليه من مدين الراحل اقرب كثيراً وكأنه ليس الا نسجاً من اماني وآمال علقها ذات يوم على كتفي اخيه فأوقعها سهواً او عمداً

على مقعدٍ خشبي وحيد في الشرفة المهجوره كانت ترتكز انظار بيدر فيراقب خيال اخيه ويتبّسم، ابتسامه ليست صادقه فهو يعلم بأن ذلك ليس الا وهم وخيال مجرد خيال سيختفي بمجرد ان يأذن له هو بذلك الا انه خضع .. وآمن بأن ذلك هو باب الحياه الوحيد المفتوح امامه ( ان يموت على قيد الحياه )، اطرق برأسه ذو الشعر الكثيف الذي بات يهطل على عينيه فيزعجها، رفع كفه على مقدمته محاولاً تجنيبها قليلاً عن منتصف رأسه ثم قال هامساً :انا .. احاول اني احصل نقطة بدايه، جماعتك ماجوا حولي من يومها .. ما اعرف لهم طريق وهو قالي انتظر .. هالكلمه الوحيده اللي جاوبني فيها لما قلت له كيف اوصلهم ؟

رفع رأسه بعد برهه يسيره ونظر في وجه مدين الساكن على مقعده متكئاً على ظهره بكاريزما مميزه، مميزه جداً، ولطالما كان مدين مهيباً في نظر اخيه وايقونة تستحق ان يُحتذى بها وليته يقدر .. ليت ! فقط اردف بإستنكار مستفهماً :مدين انت كيف طحت في هذا الدرب ؟ .. انا مو قادر استوعب ! صح ماكنت اعرف شيء عن شغلك او من وين مصدر فلوسك بس كان هذا آخر شيء ممكن افكر فيه .. مخدرات !

لم يُجب مدين، او وهمه المزعوم بل بقي على حاله يراقبه صامتاً كما لو انه يُشاهد فيلما او مشهداً ممتع، بينما بيدر فقد زفر انفاسه ونهض بخطى ثقيله الى زاوية الشرفه يراقب النهار الذي بدا منذُ ساعه او ساعه ونِصف، مازال الوقت مبكراً فلا احد يسير هنا او هناك وبينما كفيه تضغط على سياج الشرفه عاد قائلاً :غيد ماصدقتني .. لما قلت لها بأني كنت ادافع عن نفسي هربت مني، حقها ! صح بس انا محتاج لها يامدين، كانت الحقيقه الوحيده في حياتي كانت القشه اللي تمسكت فيها وانا مابيني وبين الغرق الا نفس واحد ..

همس خافت جاء من خلفه، بصوت مدين الأجش الذي يفوقه خشونه بنسبه بالكاد تُلحظ حين قال :انت تبالغ بمشاعرك ناحيتها

كان صوتاً من قاع بيدر من قناعةٍ ما راسخه في جذوره الا انه لم يجرؤ على سماعها الا من فاه الوهم والخيال، فالتفت ناحيته واجاب بقناعةٍ اخرى تتفوق على تلك :شفت الحياه بعيونها لاول مره، تعشمت فيها ماتسحب اليد اللي مدتها لي ..

تقدم ناحية المقعد الفارغ واخذ يعيد ذات القناعه التي يتمتع بها، ذات الصفه التي يجدها لائقه بغيد وسيتغنى بها طالما هو حيٌ يُرزق :الحقيقه الوحيده .. بين كل السراب اللي عشته غيد هي الواقع اللي آمنت فيه مدين، انا ما ابالغ انا احاول اتمسك بحبل نجاة

زفر حين التمس الصمت ممن امامه وسُرعان ماتحول المقعد الى فراغ، لا احد يجلس عليه .. لم يجلس عليه احد منذُ تلك الليله التي قضى فيها مدين نحبه ورغماً عنه عادت به الذاكره الى تلك الليله فزم شفتيه واعاد الالتفات نحو ذات المقعد بينما يهمس بنبره اختلجها شيئاً من الشك بات ينتابه مؤخراً بعدما استطاع الاقتناع بأن كل ماحوله وهم حتى غدى يشك في هويته .. هل هو بيدر ؟ ام رجل آخر لايمت لبيدر ومدين بصِله ! :انت .. حاولت تقتلني ؟ .. مدين !

قهقه عاليه صدرت من مكانٍ ما، ليست لمدين بل لعمه الراحل، انكمش بينما يتراجع بخطاه الى السياج الجانبي للشرفه، يرى المعنى يتقدم ناحيته بسوطه الذي يقطر دماً .. حشر جسده بين السياج والحائط وهو يراقب السوط بحدقتين متسعتين تهتزان برعب .. يرغب في الصراخ، في ان يخبره بأن الندبات الاولى لما تُشفى بعد، مازال يعاني من الامها .. جلس على ركبتيه واحتضن جسده وحينها فقط صوت ضربه قويه من المبنى المقابل .. من الشرفه المواجهه له تحديداً

نظر وفوراً ميز كون باب الشرفه قد أُغلِق بقوه، هل كان هناك احداً ما يراقبه دون ان يلحظ ؟

وجد الفراغ حوله لا عمه ولا مدين فقط باب شقته يُطرَق بقوه فنهض من مكانه واتجه بخطاه المتعثره اليه وفور ان فتحه تم دفعه بقوه الى الداخل حتى كاد ان يقع، تماسك بصعوبه وهو يرى رجلان تختفي ملامحهما خلف اللثام اندفعا اليه وقيدا معصميه مع عينيه .. ثم دقائق قليله وسكن كل شيء حوله ثم راح في خِضم الظلام واللاوعي

.
.
.
.






















( هالمره بعديها لأجل خاطرها ، لاتختبرين صبري فيهم ، ماراح يعجبك اللي بتشوفينه مني .. )

كِلماته تِلك في مُخيلتها تتردد، تُعاد وتُكرر وفي كل مره تشعل فتيل غضبها أكثر، حنقها يتضاعف في كل ثانيه والوحده لاتُساعد على النسيان .. فقد بات المنزل خاوياً بِلا روح ولا حياه باهت والمحيا فيه لايُطاق، تدور في ارجاءه بلا هدف وعقلها لم ينكف عن التفكير في ابنائها الذين سُلبوا منها على حين غره قبل البارحه

تؤمن بأنها لم تخطأ، ربما بالغت قليلاً لكنها لم تخطأ فشهلاء ابنتها وهي من يجب عليها تقويمها ان اخطئت .. لايمكن ان يعاقبها على فعلٍ صحيح بانتشال ابنائها منها !

تركت الهاتف على منضدة الصاله بعد ان تعلق في يدها لما يُقارب الساعه، لم تبرحها منذُ ان انتهت من مكالمة شقيقتها الوحيده التي تقطن في منطقه بعيده، تعيد التفكير في نصيحتها .. هل هي سليمه ؟ ماذا لو جلبت لها المصائب ! لكنه لن يعيدهم بعد ان تلقفهم تؤمن هي بذلك بقدر ماتعرفه منه ..

سارت بخطى عجوله الى خزانة الملابس ومن بين طياتهم اخرجت ثوباً كان ملفوفاً بإحكام وبداخله كيس معتم، تأملته قليلاً والخوف بداخلها يقرع طبولاً، تلك ورقتها الوحيده الرابحه ضده .. الورقه التي تؤجلها منذُ اعوام فقط للحفاظ على ابنائها .. خوفاً من فقدانهم غفله

هل حقاً حان اوانها ؟

..

في جِهه أخرى كانت شهلاء تتمدد على فِراشٍ وثير رفقة شقيقها الذي يتشبث بأحضانها رغم انه نائم، تكذب ان قالت انها آمنه مُرتاحه فهي بطريقه او بأخرى تهفو الى منزلها الذي وِلدت وترعرعت به بل تهفو وتشتاق الى والدتها التي وان قسَت فهي أم والأم لاتُعاقَب بأبنائها

اعتدلت بجلوسها على السرير وأخذت تدفئ لؤي باللحاف، ثم نهضت تسير بخطاها الهادئه على الأرضيه التي تلسعها من شدة البروده، خرجت ورغم انه مازال باكراً الا انها توقن بأنه ستجده هنا او هناك، والدها ...

:صباح الخير يبه

باغتتها كلماته تلك فور نزولها من الدرج فأتجهت اليه حيث يجلس على اريكه مرتاحاً وبين انامله فِنجان قهوه، تبّسمت وقبلت رأسه بينما ترد التحيه قبل ان تجلس جواره حيث احتضن كتفيها وتسائل :مرتاحه ؟

زفرت شهلاء وشردت لثوانٍ، اسوأ ماقد يمر به المرء ان يجد نفسه مخيراً بين والديه، بين حنان الأم وآمان الأب .. ما فائدة الدفئ لو لم يكن المرء امناً وما فائدة الآمان اذا كان البرد يعتري الصدور، اعادت ناظريها لوالدها الذي يبدو بأنه تلقى الإجابه مسبقاً :مرتاحه .. وراح اكون مرتاحه اكثر اذا امي معنا

سكت والدها لبرهه قبل ان يعتدل بجلوسه ويعيد ساعده ليريح كفه على فخذه معلقاً بهدوء :راسها اقوى من الصخر، ماخليت طريقه تعتب علي ماسويتها معها، كأن كرهها لي كل يوم يتضاعف

رفعت شهلاء قدميها لتضمهما اليها واتكئت بذقنها على ركبتها قائله :راسها قوي بس قلبها طيب، متأكده من انها راح ترضى بيوم من الأيام .. عشان لؤي على الأقل مايستاهل يعيش متشتت

اومئ والدها بعد برهه فرأته ينظر الى الفراغ شارداً، تشهد هي على كل محاولاته لمراضاتها واقناعها بالعوده اليه، حتى انه ترك المنزل لتبقى هي به ولا ترحل الى عائلتها التي تقطن بعيداً لكن والدتها صعبه، صعبه بحق

رفع الرجل فنجانه واحتسى مابقي فيه قبل ان يتركه على المنضده ويستفهم حول تفاصيل سر النِزاع الذي حدث بينهن وقد تجنب هو مناقشتها فيه الى ان تهدأ نفسيتها قليلاً :تقول انك جايه على سيارة غريبه ! وش القصه ؟

كتمت شهلاء ابتسامة امتنان الحت عليها، ففي كل مره تراه ينتقي مفرداته عند محاسبتها على شيء ما كما لو كان يتجنب استخدام اي مفرده قد تشعرها بأنه لايثق بها فأجابت بعد لحظات بهدوء :حسيت بأني خرجت عن طوري، فوق الندم والحسره اكلني القهر .. رحت بإندفاع احاسبه على تصرفه اللي بسبته مات ريان .. وخاله نجوى، اعترف بالبدايه اجبرني اركب سيارته بس لما وصلنا قالي بأنه شاف حالتي النفسيه شينه لذلك اصر يرجعني للبيت بنفسه ..

سكتت قليلاً ووجهت ناظريها لوالدها الذي اطرق بأنظاره الى المنضده يراقبها بصمت وتركيز، ازدردت ريق فمها ودافعت عن نفسها بقولها :انا غلطت صح، ماكان لازم اروح من الاصل بس .. قلبي واجعني يبه احس ان لي سبب بكل شيء صار لنواره واهلها .. والله ماكان قصدي احط امي بموقف محرج مع الجيران انا اصلا ماكنت راضيه ارجع معه

وجه والدها ناظريه اليه، بدا العتب جلياً في عينيه حين قال بهدوء :غلطك كبير ياشهلاء من يوم رحتي للقسم، نواره صديقتك واهلها يهمونك انا ما اختلف في هذا لكن انا ويني ؟ يوم ارسل لك واقولك ياشهلاء وش محتاجين ليه ماتقولين الصدق ؟ انا ماراح اعرف الغيب وانتي تدرين ان معارفي مالهم آخر اي واحد اطلبه راح يتكفل بكل الاجراءات ..

تنهدت شهلاء واومئت بخضوع معترفه بكامل خطئها رغم كونها تعلم بأنها لو لجئت لوالدها لوجدت والدتها معترضه على ذلك، ثم قالت :وعد آخر مره اسويها، انا اصلاً ما اعرف اتحمل مسؤوليه مثل هذي .. اللي صار خلاني اكتشف عجزي، اللي يقهر يبه ان الثمن غالي .. ما اعرف اذا انا قادره بيوم من الايام اتخطى هالكارثه والفقد والحسره

عاد والدها ليحتضنها وهذه المره ضمها الى صدره بينما يهمس بخفوت :ربك رحيم يايبه قادر على انه يرقع قلبك ويمنحك الصبر والسلوان .. خذي فتره ريحي فيها وبالوقت اللي تحبينه راح آخذك لأمك واعتذري منها مهما كان انتي بعد غلطتك كبيره

تمسك شهلاء بقميصه وكأنها ترغب بالدخول الى صدره فتحيا الباقي من عمرها بين اضلاعه الحانيه

.
.
.
.






















بُكاء الروح لايُسمَع بل تفضحه العينين فتراهما تتموجان بالقهر والكمَد وذاك ذاته هو حالُ غيد .. لم تتوقع خِلاف ذلك اساساً فمنذُ اللحظه الاولى وهي تشعر بأن هناك شيء ما تركته خلفها، شيء جمدته نظرة الخُذلان من عينيه فأبى ان يرافقها في هروبها

تتربع وتعبث يديها بالرِمال اسفلها، بينما عينيها غارقه في الموج المتلاطم امامها، الخروج مبكراً كان اقتراح ملاذ التي لم تنم طوال الليله الماضيه، فتراها بوجهٍ شاحب نالت منه الهالات وخيم عليه الأسى .. يوم واحد فقط ماتبقى على اليوم الموعود .. اليوم الذي تواعد عليه الجميع دون ان يأبه احد برأيها والحُجه (تستطيعان معاً تسوية الخِلاف - مجرد سوء فهم - لحظة غضب)

بُح صوتها وانكسرت نبرتها فخرجت مُشبعه بالخُذلان حين قالت :يمكن عندهم حق .. غيد انا ابالغ ؟

نظرت اليها غيد بهدوء قبل ان تتكلم بمصداقيه قائله :من حقك تزعلين لو مازعلتي وما اخذتي موقف راح يستخف فيك، راح تصير عاده له .. يجوز ان الانفصال بكبره مبالغه بس هذا مايعني انك ماتوقفينه عند خط احمر يحرم يتجاوزه مره ثانيه

اهتزت عيني ملاذ وهي تستمع لقول غيد ذاك، جميعهم يملكون ذات وجهة النظر بإختلاف الطريقه التي ينمقونها بها، لكنها نافره ! هناك شيء ما ينفرها يبعدها الف خطوه عنه يُشعرها بأنها لاتخطو الا ناحية مهلكه وخراب ! قاربت نبرتها الى البكاء عندما نبست بقولها :احس بأني .. غيد انا مو متقبلته مو متقبله اخطي هالخطوه معه، مدري يمكن عندكم حق بس يمكن مو هذا السبب .. انا متأكده من اني كنت اميل له وكنت طايحه له ...

قاطعتها غيد حين قالت بنبره هادئه لكنها تضج بالحقائق والتي يجب ان تُسلم بها ملاذ :ماكنتي تحبينه ملاذ، كان مجرد ميل واعجاب ورضا، شيء بديهي هالمشاعر تتغير حسب شخصيته وتصرفاته اللي تشوفينها منه لان لو كان حب راح يخليك تشوفين اللي صار بنظره مختلفه على الاقل ردة فعلك ماراح توصل لرفض الارتباط فيه وهذا ينطبق عليه بعد

سكنت ملاذ قليلاً تتفكر فيما تسمع بينما غيد اردفت :الموقف الاخير هو المتحكم بمشاعرك الحين وهذا طبيعي ترى لانك ماتعرفين عنه شيء فقاعده تبنين مشاعرك له حسب اللي يظهر لك منه .. يعني حتى نفورك منه الحين راح يتغير بمجرد ماتتعرفين عليه بدون قيود وحدود

ثم اشاحت بناظريها الى الشاطئ ذاك الرفيق منذُ الصغر والذي الى القريب كانت تراه بحراً وهي ابنة الساحل التي لاينافس حب البحر في فؤادها الا صوت امواجه ثم وبين ليله وضحاها باتت تراه معقداً، مخيفاً ومُظلم يشبهه كثيراً وكأن احدهما انشطر من الآخر فأصبحا نِدان ضِدان كسالبٍ وسالب وقالت بشرود :لايمكنك ان تحب البحر وانت تقف على الشاطئ، يجب ان تغوص اعماقه، تضربك امواجه، تضرب قدمك صخره، وترى قاعه المظلم. فتلمس عيوبه، وترى ظلماته، وتعرف كيف يغضب، وبعدها فقط إما ان تحبه كله .. او تكرهه كله.

اعادت ناظريها الى ملاذ واردفت اضافه الى قول احمد توفيق الذي تلاه لسانها :يبدأ الحب عندما ينتهي الحماس.

ورُغماً عن دمع عينيها المتكتل همست ملاذ بإبتسامه :هالكلام ينطبق عليكِ اكثر مني، اذا دققنا فيه بتطلعين عاشقه مغرمه !

اتسعت عيني غيد وهزت رأسها بنفي تام بينما تشيح بناظريها الى البحر مره اخرى قائله :ما اعرف عنه شيء صاحي، كل اللي اعرفه ينفرني منه الف خطوه للورا .. انا متعاطفه معه غير كذا يعتبر غباء مني

ضيقت ملاذ عينيها كما لو كانت تدقق في مدى صحة قولها قبل ان تستفهم بطريقه ساخره :ينفرك ؟ لك يومين تبكين ومكتئبه وحالتك ماهي حاله وينفرك ؟ غيد انتي واضح متجاوزه مرحلة التعاطف بكثير

هزت غيد رأسها بخفه قبل ان تعلق بينما ناظريها مثبته على البحر :راح انتظر .. حكم القدر والنصيب

.
.
.
.






















هل سيتكرر ذات السيناريو ؟ ام سيغدو الوضع أسوأ .. كل مايتبادر الى ذِهنه يخبره بأن الحال هذه المره لن يشابه المره السابقه، كان مجرد إنذار ولم يفلح بالنجاه منه ! للتو حتى شعر بأن آثار التخدر انسحبت من اطرافه وبدأ يشعر بها الا انه لم يستطع تحريكها، عقد حاحبيه واخذ يقاوم محاولاً النهوض او على الاقل فهم الوضعيه التي هو بها قبل ان يُدرك بأنه مقيداً بالحِبال على مقعدٍ ما

اغمض عينيه المعصوبتين بقوه واخذ يهز رأسه برفض للفكره، رفض لذلك الكم من الجنون الذي يعيشه .. هل هو في فيلم او مسلسل ! اتعيش الخلائق هكذا ام هذا محتوماً عليه هو ليقع في كل مره في شراك المصائب التي لايتقبلها عقلٌ او منطق .. التقطت مسامعه اصوات خطوات تتقدم ناحيته ثم نبره حاده انتفض لها جسده :بيدر عمر الطارق

يا الهي .. ما الذي يحدث !

يدٌ امتدت بقسوه لإبعاد تلك العصابه عن عينيه لتتضح له الرؤيه شيئاً فشيئاً ورغم الظلام النسبي استطاع تمييز تلك الملامح التي حبست الأنفاس في صدره فأخذ يبادل انظاره بين الرجل المقابل له والآخر الذي يقف بجواره ذاك غير المحسوب على البشر مطلقاً .. ازدرد ريق فمه وهمس بخوف :انا .. ماسويت شيء كنت راح اجيب لكم الفلوس

تقدم غالب منه خطوه عاقداً يديه خلف ظهره قائلاً بسخريه :خليك من الفلوس يبه، سولفلي كيف طلعت من السجن ؟

التقط بيدر نفساً طويلاً وراح يحاول السيطره على ارتباكه وتذكر كلمات سقراط التي صفها امامه كعُذر ايقن للتو مدى سُخفه .. هل كان يجازف به هذا المجنون ! الا انه لايملك سواه لايملك حجه اخرى يستطيع ان يرميها عله ينجو بها :ماضبطوا شيء معي، انسجنت يومين بسبب البلاغ المتقدم ضدي ولما فهموا ان مافي اي دليل افرجوا عني

رفع غالب حاجبيه كما لو انه لم يصدق ماتبادر الى مسامعه الا انه سايره بإستفهامه :ووين كانت الفلوس والملف ؟ كنت جاي تخدعنا، لهذي الدرجه انت بايع روحك ؟

هز بيدر رأسه ومازال في اطار محاولة التشبه بهالة مدين الواثقه الا انه يحاول فقط والمحاوله لاتعني النجاح دوماً :موجودين بشقتي، ماكنت راح اجازف بنفسي واجيبهم معي .. و وطريقة التسليم هالمره مختلفه

قهقه عاليه صدرت فأخترقت مسامعه وتردد صداها في الأرجاء، ابتلع ريق فمه وهو يراه يتأخر خطوه، يرفع يده التي تتبعتها انظار بيدر الى ان استقرت على ذاك الضخم فحول ناظريه اليه ووجده يتقدم منه بطريقه خشنه انتهت بلكمه حطت على وجنته وتبعتها اخرى فأخرى ...

.
.
.
.






















لايُوجد ماهو أقسى من فرحٍ ناقِص، بسمه غير مُكتمله وضحكاتٍ لم يكن القلبُ منبتها، يومان مروا لم يعُد فيهن هِشام الى منزله بعد ان ترك سالي على بابه وغادر .. انشغلت اسمهان بإبنتها وتجنبت كُل حديثٍ قد يضم هِشام في سياقه، كما ان لولوه باتت تتجهز للمغادره الى منزلها هي الاخرى استعداداً للمناسبه القادمه التي قد تقدر على قشع غيمة الأسى تلك التي احاطت بكل العائله فغدى كل واحداً منهم في فُلكٍ أسود يسبح

تدورُ سالي امام والدتها وجدتها بفُستانها ذو البياض المُشِع فتلتف اطرافه حول قدميها لثوانٍ قبل ان تستقر مُنسدله برِقه تليقُ بها دون سِواها .. ابتسامه لطيفه تُزين مُحياها وبتساؤلٍ تنبُس :كيف ؟ لايق علي ؟

دمعت عيني لولوه وهي ترى حفيدتها قد عادت الى ذروة بهجتها وحيويتها بعد كل مامر من مُصابٍ أسود وبحبٍ اجابت مُبالغةً في مديحها تماماً كما تُحب سالي :كأنك القمر وانا جدتك، ماخذه منه كل حسنه ونوره

تقهقه سالي بخفه بينما تنظر لوالدتها مُنتظره منها جملة مديح هي الأخرى فوجدتها شارده والأسى يلمع في عينيها، لم يفت عن سالي كون اسمهان تحيا حُزناً ما فتخفيه في صدرها وتواريه عن عيني ابنتها .. فتقدمت لتقرفص امامها محتضنه كفيها، جفلت اسمهان وهمست مستفهمه :سالي .. شفيك ؟

ازدردت سالي ريق فمها، دنت تقبل كفي والدتها ثم قالت معلقه على حالها الغَريب :لاتخفين حزنك عني، انا ابي اشوف الضحكه بعيونك قبل شفاهك

عقدت اسمهان حاجبيها وهربت بحدقتيها الى الفراغ المُحيط بينما تُعلق بقولها :اي حُزن، دامكِ قدام عيني حُره معافايه مايهزني حُزن ولا زعل

هزت سالي رأسها برفض لتصديق قولها ذاك، نظرت الى جدتها التي اومئت تحثها على طرح الموضوع ذاته الذي تفكرن به الاثنتين وتتجاهله اسمهان منذُ يومان مرت .. اعادت ناظريها الى المعنيه وقالت مستفهمه :هِشام ؟

سحبت اسمهان كفيها من يدي سالي بتوتر وبمُكابره قالت :مايهمني .. بعد سواته مايهمني وينه جاء ولا راح .. هو يدري اني ماعاد طايقه اشوف خلقته حتى

اومئت سالي واراحت ركبتيها على الأرض بينما مازالت تجلس عند قدمي اسمهان وبنبره هادئه نبست بقولٍ بدا مُتعقلاً ليس وكأنه خارجاً فاه سالي التي يبدو بأن السِجن قد نال من فِكرها فروضه :ما اخفيكِ بالبدايه زِعلت وتعصبت وبنفس اللحظه ادركت شيء كنت معميه عنه .. وقتها اكتشفت ان مو كل اللي نشوفه هو الوجه الحقيقي وان مشاعرنا احياناً تعمينا عن اننا ندرك الحقائق، هشام احتاج لعفراء لأجلي انا ولو ان نيته فيها مُختلفه كان اخفاها عننا ولا كنا عرفنا عن تواصله بها

نظرت اسمهان في عيني سالي، ولم تقتنع بما قالته ابنتها، فالخيارات امامه كثيره وكونه انتقاها هي ليس له مبرر الا واحداً فقط :وليه اختارها دون غيرها .. الحنين ؟

سكتت سالي قليلاً قبل ان تضع احتمالاً آخر بقولها :مش يمكن يكون الثِقه ؟ يعرفها وبينه وبينها ود قديم وذكرى راح تحطها عفراء بعين الاعتبار عشان تساعدني ؟ بالنهايه قبل عشر سنوات من الحين كنت اناديها عمه !

هزت اسمهان رأسها برفض للايمان بالفِكره تلك، هي اكثر من تعرف زوجها وانه مازال حبيساً لركام تلك العلاقه التي حتى مرور السنين الغابره لم يثنيه عن دروبها .. فهل ستثق بأن عفراء تلك التي رأتها غير قادره على تطويعه وقد بات ارق من ذي قبل ؟


صوت القُفل الذي إحتضن المُفتاح كان كفيلاً بأن ينبه الثلاث فهربت من صدورهم تنهيدة راحه، بأنه عاد واخيراً .. استقامت اسمهان تبتعد بخطاها عن ابنتها التي تبعتها بالنهوض وامسكت بساعدها حينما دلف هِشام وبنبره هادئه قال بينما يوزع انظاره عليهن اجمع :السلام عليكم

خلصت اسمهان ساعدها من كف سالي وابتعدت بخطى عجوله الى غُرفتها تحت انظار هشام الذي شيعها بعينيه قبل ان يزفر ويتقدم الى والدته مقبلاً رأسها ماراً عبر مسامعه عتابها :الله يسامحك ياهشام، هالفتره كلها مافكرت تسأل او تطمنا ؟

اعتدل بإستقامته وبينما يجر سالي الى حضنه اجاب بهدوء :كنت عند فياض وانشغلت معه

عقدت لولوه حاجبيها وتسائلت بشيء من القلق حول ذاك الذي لم يظهر منذُ ان سُجِنت سالي بل انشغل بها عن كل من حوله وحتى بعد خروجها لم يجد احداً له ظِل :انشغلت معه ؟ وينه هو بعد ! لا هو ولا عزيز ولا احد منكم فكر يدق على الباب مرتين بس ويطمني عن حاله ووين اراضيه .. بعد هذا العمر تبوني انا اللي اسأل عليكم وادوركم ؟

تنَهد هِشام وبينما يخرج هاتفه النقال من جيب بنطاله ويرميه على المنضده اجاب مبرراً غيابه وانقطاعه حتى عن التواصل معهم هاتفياً :لقيته مسخن وحالته حاله ولما دخلته تحت المويه ابتل جوالي واحترق، مافضيت اصلحه حد ماتطمنت على فياض اليوم

رفعت لولوه يدها الى صدرها وبنبره مهتزه قالت :كل هذا ومحد منا يدري ؟

نظر هشام الى سالي التي اشاحت بناظريها الى جهه اخرى بينما يجيب بنبره لائمه لها حين قال :جربت اتصل من جواله لقيت حرمته المصون مدخلته الحظر هذا غير عن انه متوحد ماعنده غير كم رقم مايفيدوا احد

لولوه ايضاً نظرت الى سالي لكنها تجاهلت الأمر واخذت تتسائل عن حال فياض حالياً ومُطمئناً جاء جواب هشام بينما تتعلق انظاره بباب غرفته واسمهان :لله الحمد داوم اليوم، هذي للحين راكبه راسها ؟

امسكت سالي بكفه الكبيره بين رقة كفيها وهمست برجاء وعينين لامعتين اثارت ذهول هِشام الذي اعتاد مقتها لعلاقتهما على الاقل ان لم يكن مقتاً له هو الآخر :راضيها عمي .. تكفى والله شايله بخاطرها عليك كثير وانت مطنشها لك يومين مافكرت تبرر موقفك او تجبر بخاطرها

ابتعد هشام خطوه واخذ ينظر لسالي بشيء من التقييم قبل ان يرفع مفتاح يحك به طرف حاجبه مستفهماً بشيء من التعجب :مبدلينك ؟ فياض بالحظر وانا طالع منه !

اشاحت سالي بناظريها الى جهة فراغ وبينما تشبك اناملها اجابت قائله :ترى ماكنت حاظرتك لاتفتري علي !

ضحكت لولوه وتبّسم هشام بخفه، رغم ان موقفها من فياض اثار حنقه خاصه بعد ان اخبره فياض عن الموقف الاخير بينهما والذي رآه لايستدعي كل ذلك الصد ليس بعد مابذله فياض لأجلها وكل ذلك الجنون الذي خيم عليه لشأنها .. الا انه بالتأكيد لن يدخل وسيطاً في نزاعهما التافه وهو بحربٍ مع زوجته العنيده .. قاطعت لولوه افكاره حين قالت بينما تجر سالي من يدها لتجلس جوارها :رح انت لزوجتك وخليها لي هذي انا اتفاهم معها

تعلقت انظار سالي بهشام بشيء من الرجاء الا انه ضحك بشماته ثم اتجه بخطاه الى غرفته وكُله أمل بأن سيقدر على اذابة حصون الجليد التي حالت بينهما بغته

.
.
.
.






















بعد الجامعه خرجت الى السوق وحيده، تكفلت بالتحضير لخِطبة ملاذ التي رفضت حتى اختيار فُستانها او اللون الذي ترغبه .. احاطتها الحيره وهي تدخل وتخرج من المحال بلا اقتناع فذوقها لايُشابه خاصة ملاذ مطلقاً وتعرف شقيقتها حق المعرفه تلك التي لاتقتنع بسهوله ولا بأي شيء كان

جلست على مقعدٍ بلاستيكي اخضر مقابل طاوله تشاطره ذات اللون امام بوابة احد المطاعم الموجوده في ذات المول، اتكئت على ظهر المقعد وراحت تفكر في كيف ستحل المُعضله وهي قد استنفذت كل طاقتها بمحاولات اقناع ملاذ بأن ترافقها فواجهتها برفضٍ قاطع

اخرجت هاتفها بعد لحظات واخذت تجري اتصالاً هاتفياً بسالي لاجئه اليها كآخر حل معها وبالفعل اجابت سالي فوراً بقولها :هلا بغيدوه شعندك متصله على غير عوايدك

زفرت غيد وبينما تعبث يدها بحقيبتها المتروكه على المنضده قالت :محتاجتك بأمر ضروري، ملاذ مارضت تجي معي للسوق عشان اجهز لخطبتها وانا ماعرفت اختار لها فستان !

سكتت سالي قليلاً حائره في امر ملاذ الذي اختلف فجأه، هي ربما كانت دائماً لاتميل للتحدث عن عزيز او ذِكره وهو بعيد لكنها ايضاً لم تكن رافضه له ! وجهت ناظريها الى غرفة هشام المغلقه ممايعني انه نائم لكنها ورغم ذلك وافقت بقولها :بجيك، ارسلي لي بأي مكان انتي

تنفست غيد براحه والتمعت على شفتيها ابتسامه متمتمه بالشكر قبل ان تقوم بالفعل بإرسال موقعها لسالي، اشارت للموظف في المطعم وقالت فور ان تقدم اليها :شاي عدني ثقييل بالله عليك

جفلت حين جُر المقعد المُقابل لها واخترقت اسماعها بقول خرج بنبره ثقيله موجهاً الى الموظف بينما انظاره تستقر عليها هي :اثنين شاهي عدني، ثقله قد ماتقدر

..

توقفت عند باب الغُرفه تطرقه مراراً وتكراراً بخفوت خوفاً من وصول صوت طرقاتها الى جدتها التي حتماً ستقوم بتقطيعها وصلاً، تعض على شفتيها وتسير هنا وهناك .. لايعقل انهم لم يسمعونها ! هل يقومون بتجاهلها للتو ؟

يأست من ان الباب سيُفتح فصعدت الدرجات بعجاله الى غرفتها، بدلت ملابسها البيتيه الى بنطال جينز وبلوزه رياضيه تحمل شعار فريق فياض المُفضل وحينما استقامت تنظر الى نفسها عند المرأه تبدلت ملامحها الى اخرى مشمئزه فأخرجت بلوزه اخرى ورمت هذه الى الشبك الصغير الخاص بالقمامه في ركن غرفتها هامسه بحِده :راح تتبدل الادوار يا ابو الشباب نشوف كيف راح اخليك تلبس فستان باربي من هوسك فيني ..

ارتدت بلوزتها والتقطت عبائتها وكل حاجيتها وكذا حذائها في يدها قبل ان تترجل بعجاله وتعود الى الوقوف امام باب غرفة هشام ووالدتها تطرقه بقوه اكبر هذه المره ففتح في وجهها وخرجت اسمهان بملامح حاده رغم اثار النوم التي بها، تنحنحت سالي بحرج وقالت :ابي هشام يوديني السوق ضروري عشان ملاذ

سكنت اسمهان قليلاً قبل ان تشير الى الغرفه بلا مبالاه قائله بينما تتجه الحمام القريب :صحيه

عقدت سالي حاجبيها واتجهت بناظريها لهشام النائم على سريره بعمق متسائله بداخلها عم اذا كان لم يستطع مصالحتها ! دلفت بخطى سريعه ورمت حاجياتها على الاريكه ثم شرعت بمحاولات ايقاظه التي كانت معاناه اخرى الى ان فتح عينيه بثقل وهمس بإستنكار :شعندك !

تنفست سالي الصعداء وبينما تتجه الى الاريكه لتشرع في ارتداء عبائتها :غيد متصله علي تبيني ضروري ضروري موضوع مايحتمل التأجيل ولازم الحين تاخذني للسوق عشان ننقذ ملاذ، تخيل للحين ماعندها فستان للخطبه .. ولازم اكسسوارات وكعب وتنسيقات حتى لو الحفله ملمومه على الأهل لزوم التصوير والتوثيق

رمقها هشام بنصف عين مستعجباً حماستها تلك كرجل يمقت التسوق حتى لشراء ساعة يد معتمداً بكل احتياجاته على زوجته يتعجب كيف النساء تميل لهذه الاشياء المستفزه بنظره، كاد ان يعود للنوم للحظه بينما هو شارد فأرتفعت نبرة سالي تنبهه بإستعجال :عمييي لاترجع تنام ماعندنا غيرك يساعدنا !

تأفف بضجر قبل ان يزيح الغطاء عنه وينهض معلقاً بحنق واستخفاف :والله لو انه نداء الجاسوسات، انشهد ان معكم ثياب اكثر من شعر راسي

تجاهلت سالي الرد عليه منشغله بالإستعداد للخروج بينما هو اخرج ملابسه من الخزانه وخرج من الغرفه بثقل وضجر

..


ازدردت غيد ريق فمها تنظر اليه من تسريحة شعره المُرتبه الى ملامحه ذات الرونق المُختلف عن عادته، وانتهاءاً بملابسه المهندمه، حتى جسده يبدو امتن قليلاً فهمست بإستغراب :بيدر ؟

اتكئ على ظهر المقعد، يرى عينيها تجول فيه بشيء من الذهول والتقييم، اناملها تضغط على حقيبتها بتوتر كما لو كانت خائفه منه، فأشاح بناظريه الى الارجاء معلقاً بقوله :شرايك ؟

ازدردت ريق فمها واطرقت بناظريها الى اناملها، هناك بهجه تحاول ان تطفو على سطح عينيها الا انها خجِله من الظهور، ليس بعد كل ماحدث وكل مايختلجها من اضطراب وتناقض حوله، بينما هو فقد اعاد ناظريه اليها بأريحيه وقال :ليه ساكته ؟ بإمكانك تفتحين موضوع حول اي شيء ! سبب تفضيلك للشاي العدني مثلا !

رمشت غيد بينما تنظر اليه عاقدة الحاجبين تحاول ربط مايقوله مع القالب الذي وضعت به شخصية بيدر فلا تجد اي رابط ! هل كان بيدر سيظهر امامها مهندماً هكذا ام كان يستغلها ويخادعها ! رأت الموظف يتقدم بوضع الاكواب امام الاثنين وسمعته يشكره قبل ان يغادر فالتفت اليها مردفاً كما لو كان ينبهها :غيد !

رفعت ناظريها اليه بعد لحظة شرود قصيره متسائله بما تعجز هي حتى عن استيعابه :انت بيدر ؟

قهقه بخفه واعتدل بجلوسه قبل ان يتكى بكلتا يديه على الطاوله واستقرت انامله على طرف الكوب ثم قال :انتباهك مواسم .. لسنه كامله كنت تحت مرمى انظارك اراقبك وتراقبيني واول ماشفتي بيدر اقتنعتي انه انا !

دوار احتل رأس غيد فجأه، فتراجعت تتكئ على ظهر المقعد بإستسلام، ما الذي يحدث هنا ! من المنفصم هي ام بيدر ام هذا الميت الذي بُعث من موته فجأه ! شعرت وكأنها ترغب بالهرب من هذه المدينه بأكملها علها حينها تنجو من هذه الدوامه غير المفهومه .. ثم اخذ الضباب يتضح شيئاً فشيئاً حينما اردف مدين وقد فهم ماتعيشه من حيره وشتات :بيدر مريض بالإنفصام وثنائي القُطب، نِصف الحقائق اللي في ذاكرته عباره عن اوهام وخيالات وللاسف انه واصل لمرحلة عدم التمييز بين الوهم والحقيقه

مازالت عيني غيد فارغه، تنظر اليه بذهول ودهشه محاوله لملمة اقطاب فكرها والتركيز فيما يتحدث به هذا المجنون الآخر، ازدردت ريق فمها ومن خارج وعيها تسائلت :يعني انت ميت ولا حي !

تبّسم مدين بخفه قبل ان يقهقه رغماً عنه فالأمر يبدو جنونياً من زاويته هو كذلك، اما هي فقد لمعت عينيها وبدت على مقربه من البكاء حين همست بإستنكار واعتراض :طيب انا وش ذنبي ! احس بأني قربت اجن !

تنهد مدين واومئ قبل ان ينطق وعينيه تغرق في عينيها تلك التي افتعلت بأخيه اهوالاً في ايام قلائل كما أسرته هو لعامٍ كامل قبل ذلك :مالك ذنب، تقدرين تديرين ظهرك له وعهد علي ماعاد تشوفين خياله .. بس بالمقابل انتي تقدرين تاخذين بيده للحياه الصحيحه، بيدر شاف فيك امل وحقيقه، اكتشف الحياه لاول مره معك .. ما اكذب اذا قلت لك بأنك اول انسانه يجالسها بعد امه، وانك اول شخص من بعدي يطلبه بيدر مايخليه وهو اللي يهرب من الناس كأنهم اعداءه

رآها تنظر اليه مميله برأسها، متعاطفه والشفقه تلمع في عينيها الحائره لكنها لن تصل الى الاطمئنان بتلك السهوله ليس بعد كل ما اكتشتفته من حقائق تناقض ابسط ماكانت تظنه من الثوابت، اسم، هويه، محيا او ممات ! كل ما صدقت شيئاً حصلت على نقيضه فوراً !، عبث بهاتفه لبرهه يسيره قبل ان يمده اليها قائلاً :هذا آخر مقطع تسجل لبيدر بالكاميرا في البلكون .. اليوم الصبح

" غيد ماصدقتني .. لما قلت لها بأني كنت ادافع عن نفسي هربت مني، حقها ! صح بس انا محتاج لها يامدين، كانت الحقيقه الوحيده في حياتي كانت القشه اللي تمسكت فيها وانا مابيني وبين الغرق الا نفس واحد .. "

" شفت الحياه بعيونها لاول مره، تعشمت فيها ماتسحب اليد اللي مدتها لي .. "

" الحقيقه الوحيده .. بين كل السراب اللي عشته غيد هي الواقع اللي آمنت فيه مدين، انا ما ابالغ انا احاول اتمسك بحبل نجاة "

وضعت الهاتف من يدها فور ان انتهى المقطع فرفعت كفيها الى عينيها تحجب عن ناظريه دمعها المتساقط بلا توقف، تحاول ابتلاع غصة الم تخنق حنجرتها بل تحاول السيطره على نوبة البكاء والإنفجار تلك، والمشهد القصير ذاك كان كافياً ليجلسها امام حقيقة انها كاذبه ..

ان بيدر قد نال من فؤادها ماناله وان شعورها ناحيته لم يعد ملك يديها بل متمرداً نافراً من سيطرتها، وانه ليس كأخيه .. تلك المشاعر التي داهمتها فجأه وهي ترى مقطع له لم يظهر فيه واضحاً حتى بينما هب تجلس امام مثيله الذي لايختلف عنه الا فب تفاصيل تكاد لاترى .. كل ذلك يدل على شيء واحد حقيقي لاكذب فيه ولا بهتان ( ان الشيء المختلف في بيدر قد رأته هي ووقعت له دون ان تدري )

رفعت ناظريها المحملين بدمع العين اليه وبنبره نالت منها البحه قالت :كيف اقدر اساعده ؟

.
.
.
.




















ورضيتُ حين مضيتَ عني
قد قُلتَ لي يوماً تمني
فأملتُ الا تخلو مني
أقُتِلتَ ام مازلت حيا

زفر نفساً حاراً من صَدره بينما يتكى على ظهر مقعده لم يزل على متن سيارته التي توقفت للتو عند المنزل الكبير المحاط بسورٍ متين، تلتقط اسماعه ذاك الصوتُ العذب من مسجِل السياره المُتغني بزفة الشهداء في عُرسِ المنون بـ (زفوا حبيب القلبِ إني .. لله دُري رُغم حُزني .. القاهُ في جناتُ عدنِ .. في موطنِ الفردوس حيا)

شردت عينيه في الطريق وقد اتت هذه الأغنيه من الراديو بغته فراح يتسائل في طيّات روحه .. هل بقي لنا من جِنان الخُلِد مكان بعد ان تزاحم فيه أهلُ غزه؟

التقط انفاسه بعد ان حُبست في صدره ثم راح يستغفر في سره عل كثرة الإستغفارات تلك تأتي بالفرج في هذا الكربِ العظيم، بينما يرى باب المنزلِ يُفتح ويخرج منه الرجل الذي ينتظره ثم رفع حاجبيه وهو يراها تتبعه رفقة شقيقها الصغير فترجل عن سيارته وتلقائياً وضع يده على سلاحه المُستقر في حزامه معدلاً وضعيته

تراجعت شهلاء خطوه برؤيته واتسعت عينيها بذهول، تنظر لوجه والدها الذي لا يبدو بأنه تفاجئ او استنكر وجوده فتقدم ناحيته خطوتين بينما ينبس بإبتسامه :هلا يابو شاهين !

وبينما تستقر انظار سقراط على شهلاء المُرتابه بينهما اجاب بهدوء وقد حول ناظريه الى الصغير الذي ينظر اليه بإبتسامه واسعه :هلا فيك .. ابو لؤي

عقد عُثمان حاجبيه، نظر ناحية ابنته واشار اليها بالصعود على متن سيارته ففعلت سريعاً كما لو كانت هاربه من الموقف برمته تتخابط خطواتها وتجر اخيها معها رغم اعتراضاته وقربه الى البكاء ..

تقدم عثمان من سقراط وكاد ليستفهم عن سبب حضوره ونظراته الغريبه ناحية ابنته حينما كانت ليست عاده متوقعه منه الا ان سقراط قاطعه بقوله بينما يتكى على باب سيارته الموصد :جت زوجتك للقسم .. قدمت بلاغ ضدك عند الضابط هِشام

زفر عُثمان وقد كان ذاك آخر ماتوقعه آشار الى سيارته التي يجلس بها ابنائه يراقبونهم بتوجس ثم تسائل :بأني اختطفتهم ؟

اومئ سقراط بعد برهه قبل ان يجيب بينما يخرج علبة سجائره ليورث واحده منها :في سبب آخر .. للحين مصره تورطك .. وبالتالي راح تورطني معك، انا محيت كل الادله اللي ضدك بس اللي معها يقدر يوديك في ستين داهيه

سكت عثمان لبرهه بينما ينظر اليه وقد خمن تماماً مايقصده سقراط بقوله وماقد يكون بحوزة زوجته السابقه ذاته السبب الذي انفصلا لأجله ولم تقبل منه بعد ذلك لا عُذرٍ ولا حُجه، شتت ناظريه في الارجاء قائلاً :هشام مو غريب، يدري بكل التفاصيل قادرين انت وهو تتخلصوا من ...

نفث سقراط سموم سيجارته وقاطعه بقوله المُقتضب :المقابل يا عثمان !

اعاد عثمان ناظريه اليه سريعاً واعترض بقوله المستنكر :دخلت صاحبك في وسطهم يا سقراط ! كسبتك ثقتهم وانت تتمنى تطولها .. كل اجراءاتك القانونيه مافادتك ولا قدرت تعطيك فرصه انك تتقدم خطوه وحده في درب غالب الرضوان

اومئ سقراط وتقدم من عثمان خطوه هامساً بحِده :صاحبي مُختطف مو مضمونه سلامته

رفع عثمان كلتا يديه على جانبيه وبإنفعال راح يتنصل من مسؤوليه كتلك وهو الذي لم يعد يملك مع غالب اي قُرب قد يعينه :وانا ماعاد لي مكانه في قلب اخوي .. لاتتوقع اقدر اساعدك اكثر من كذا !

وكل ذلك لايمرُ على سُقراط مرور الكِرام فهو لن يترك طرف حبل قد يوصله في النهايه الى غالب مهما كان ركيكاً او طويلاً دامه الحبلُ الوحيد المتاح حالياً فقد آن اوان المُجازفه :سلّمني غالب بكبره، زمن المناورات انتهى راح اكتفي باللي معي من ادله

عقد عثمان حاحبيه واستفهم بشيء من التوجس :كيف اسلمه لك ؟

زفر سقراط واعاد الاتكاء على سيارته حين وصل للفقره المُمتعه في الأمر برمته فهو هُنا يضرب عصفورين يرغبهما بشده بحجرٍ واحد :اذا عندك مناسبه ماراح يشاركك فرحتك ؟

بهتت ملامح عثمان ولوهله ضاع حائراً في المعنى الذي فهمه فأنكر بقوله :ماعندي مناسبه !

حينها فقط تبّسم سقراط بخفه واشار الى سياره الآخر حيث تجلس شهلاء قائلاً بخفوت :عندك مناسبه

وكما لو ان قوله ذاك نفض عثمان فتراجع خطوه الى الوراء ببهوت، ينظر الى سقراط تاره والى سيارته تاره اخرى والصدمه تشل حواسه .. ثم هز رأسه بدهشه معلقاً بعدم تصديق :انت ماكر ياسقراط، دهائك مرعب !

.
.
.
.






















‏لا تقرئيني
‏من خلالِ ملامحي
‏إن الملامح لا تُضئُ صفاتي
‏بي كبرياءُ الآلفين جراحهم
‏والمثقلين بحكمةِ السنواتِ
‏الهابطين إلى جحيم نفوسهم
‏والصاعدين إلى اكتشاف الذاتِ
‏نحن - الصباحيّين - عشاق المساء
‏نختار نصف الضوء والعتمات
‏نأوى إلى دمعٍ يخُص عيوننا
‏وإلى ابتسامٌ ساطعُ القسماتِ.


آيات العزيبي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس