هدية صيف بسم الله الرحمن الرحيم
هدية صيف
في أحد أيام الصيف الحارّة، كانت الشابة الصاعقة الجمال "لينا" تجلس على شرفة منزلها المطل على المدينة، تتأمل السماء الزرقاء الواسعة. لقد كانت وحيدة لأن والدها بحكم عمله خارج البلاد معظم شهور السنة ووالدتها توفيت منذ عامين. ولم يزل والدها لم يتخطى موتها بعد بل يكاد هو نفسه يموت حزناً وكمداًعليها. وبينما والدها في الخارج يكابد الأمرين كانت هي مستقرة في موطن رأسهم بحكم عملها.
لكن منذ فترة وبعد أن بدأت تتعافى من موت والدتها صدمت هي في نفسها وأخفت عن والدها الأمر حتى لا يعاني الأمرين وقد لا يتحمل أبداً فاجعة أخرى.
والآن وبعد قرار إخفاء أخبارها عنه وصمودها بمفردها يوجد في قلبها غصة وكأن هناك شيء مظلم يجثم ويخيم على حاضرها. ويطفئ بريق ورمق الآمال في قلبها. لقد كانت تعاني من مرض مفاجئ جديد وخطير للغاية، وكان الأطباء قد أخبروها بأن الحياة التي أمامها قصيرة جداً، ربما عدة شهور فقط أو أيام قليلة. فلا أحد يدري بالضبط شيئ عن مرضها. وبأنه في العملية الجراحية التي قد تُجرى لها قد يكون الحل، ولكنها قد تودي بحياتها وتؤدي إلى موتها أيضًا ونسبة التعافي من العملية ضئيلة جدا وفيها مجازفة شديدة. وبما أنها كانت تعلم بأن الفرصة ضئيلة جداً، فقد قررت أن تختار طريقًا مختلفًا.
قررت أن تترك كل شيء وراءها وتذهب إلى شاطئ البحر. فلربما تكون تلك هي الأيام الأخيرة من حياتها، وربما كانت تحتاج فقط إلى مكان هادئ، حيث يمكنها أن تجد بعض السلام قبل النهاية. وكانت أيامها تمر ببطء على الشاطئ، تقضيها في المشي على الرمال، والاستمتاع بالمياه الباردة، وفي كل يوم كانت تطلق العنان لناظريها مخترقتان الأفق الممتد أمامها، وكأنها تبحث عن شيء أو عن أي شخص بدون أن تشعر؛ يوقف زحف اليأس ويهدئ من قلق يتآكلها بدون أن تدري على الرغم منها.
لكن في يوم من الأيام، بينما كانت تجلس على رمال الشاطئ، أهداها الصيف هديته فاقترب منها رجل شاب كان يبدو غريبًا عن المكان.و كان يرتدي زيًا أبيض، ونظراته تحمل نوعًا من القلق والجدية. "أنتِ مريضة، أليس كذلك؟" سألها بصوت هادئ.
نظرت ليناإليه بدهشة، لكنها سرعان ما أدركت بأنه طبيب، فقد كان هناك شيئًا ما في عينيه يعكس معرفته العميقة بالمشاعر البشرية.
"أنتِ مصابة بنفس المرض الذي أخصص دراستي له" قال الطبيب الشاب، الذي عرفته فيما بعد أنه يدعى "سلام". بدأ الحديث عن حالتها، وكم كانت تعرف عن مرضها، وعن قرارها بترك العلاج والعيش ما تبقى لها من الوقت بهدوء. لكن سلام لم يقتنع بهذا القرار.
لقد كان هناك يعمل في نفس المستشفي الذي تتعالج فيه والذي اكتشفت فيه مرضها. وكان يأمل بأن يقوم بإجراء الجراحة الخطيرة لها. وعندما تخلت عن التمسك بالحياة وقررت عدم المحاولة في نفسه صنف قرارها بأنه نوعاً ما نوع من الإنتحار بطريقة أو بأخرى. وأصابه ذلك في الصميم ولا يدري لماذا؟! فلقد كان مدرباً تدريباً عالياً على ألا يتعاطف مع المرضى تعاطفاً سلبياً يؤذيه أو يؤذيهم.
ولكنه معها هي لم يستطع. فوجد نفسه ينزلق نحو التعمق في التعلق بها وبحالتها وبالاستماتة في الحفاظ على حياتها والإبقاء عليها سليمة مهما كان الثمن أو كانت التضحيات. وكان واضحاً للغاية مع نفسه، فهو لم يكن يشفق عليها أبدا. ولا يعتبرها فقط حالة إنسانية. بل تخطى مرحلة الحالة الإنسانية إلى أنها أصبحت كأنها نفسه التي بين جنبيه. وأصبح مرضها شغله الشاغل بدون أن تدري هي به وبمشاعره.
"أنتِ شابة وجميلة، ولا يجب أن تستسلمي هكذا" قال سلام. "العملية التي أخبرتك عنها ليست بلا خطر، لكن هناك دائمًا أمل. قد تكون لديك فرصة للحياة، ومن المستحيل أن تعرفي إذا لم تحاولي."
كان حديثه وحرصه على علاجها بنفسه يعكس هياماً عميقًا، وكان قلب لينا قد بدأ في التردد. فلم تكن قد فكرت أبداً في العودة في قرارها والعودة إلى الأطباء ومحاولة الشفاء بعد كل ما مرّت به من آلام وقرارات، لكن كلامه شدّها بطريقة غير عادية. فزارته مرة أخرى في عيادته، وبدأت تشعر بأن هناك شيئًا ما في قلبها يحيا من جديد.
ومع مرور الأيام، بدأ الحب ينمو بينهما بصمت. وكان سلام يحاول إقناعها بإجراء العملية، بينما كانت هي تشعر بأن قلبها ينبض للمرة الأولى. وكانت تحب تلك الطريقة التي كان يراها بها: فهو لم يكن يراها كمريضة، بل كإنسانة تستحق الأفضل وجديرة بالحياة.
وفي النهاية، وبعد الكثير من الحوارات والقلق، قررت لينا بأن تخضع للعملية. وكانت تعلم بأن هناك خطرًا كبيرًا، ولكنها أيضًا كانت تشعر بأنها لا تريد أن تترك الحياة وتغادرها بدون أن تحاول. ولو شفقة على والدها ورأفة به..
وبعد أسابيع من الصراع والمخاوف، جاءت اللحظة المنتظرة. ونجحت العملية بفضل يد سلام الخبيرة، وعادت لينا إلى الحياة، لكن لم تعد كما كانت. بل كانت أكثر قوة، وأكثر قدرة على تقبل الحياة بكل ما فيها من تحديات.
ومرت الأيام، ومع كل لحظة كانت تشعر بقيمة الحياة أكثر. ولم يكن سلام مجرد طبيب بالنسبة لها، بل أصبح حب حياتها. وقفت على شاطئ البحر مرة أخرى، ولكن هذه المرة، كان الأفق يلمع أمامها بالأمل، وكانت تعرف بأن حياتها ليست مجرد أيام معدودة، بل رحلة جديدة بدأت للتو.
بكل الإحتمالات المبهجة الممتدة أمامها ومع من لم يتركها في رحلة علاجها الحالكة وقدم لها قلبه لتحيا فيه. وصب روحه في عمل المستحيل ليتم شفاءها بجميل فعاله.
التعديل الأخير تم بواسطة شروق منصور ; 30-11-24 الساعة 02:53 AM |