الفصل الثاني
.
.
.
في مرحلةٍ ما من حياته يدرك المرء بأن أشواك الطُرق مسامير وان العقبات خناجر، وان الممات في سبيل الضوء الذي في آخر النفق هو مُجرد مُسمى يرتكز في آخر قائمة المخاوف، فأن يموت المرء في سبيل بلوغ المَرام مُباح لكن ان يعيش فارغاً وعاجز من أبلغ صور الحَرام .. تجلس على سريرها الفَردي الذي يأخذ زاوية من الغُرفه، امامها جهاز لابتوب مفتوحاً على مصراعيه وبضع اوراق ودفتر مُنهمكه منذُ ساعاتٍ في عَملٍ ليس من اختصاصها لكنها تلقفته حينما رماه أهله
تُمرر على صور شخصيه لعددٍ من الأفراد تم نشرها فيما مضىٰ على انهم مطلوبين امنياً بتهم لارتكاب جرائم جميعها أندرجت أسفل مُسمى الصعتري، ومَطلبها معلوم تُدقق في حدقاتهم باحثةً عن جبحي عَسل مائلتين للإصفرار حتى شردت لثوانٍ فيما تفعل .. ماذا لو استطاعت الحصول على صورته لتقديم بلاغاً واضحاً عنه؛ هل ستفعل !!
بعد اثني عشَر عاماً مروا سِراعاً هل ستخون النفس الذي تتنفسَهُ بفضله!
زفرت تُغلق جِهازها بقوه قبل ان تتجه الى النافذه، تُبصر من هُناك إمتداد المدينه امام عينيها، تلك المدينه ذات الرونق الكلاسيكي المُمتزج بالحضاره، شوارع مُكتظه وأسواقٌ حيويه، قصور حجريه متفرقةً هُنا وهُناك مازال سُكانها يحتفظون بإرث القُريمزاء وتاريخها، قبل ان تهتز مُقلتيها التي حدقّت بالجِبال المُحتضنه للمدينةِ بما فيها حيث ساقتها خُطاها التائهه منذُ عُمرٍ مضى لتقع فريسة الصَعتري وتنجو بأحدىٰ أعجوبات الزمَان
التفتت الى الخلف بعد ان سمعت الطرقات الخفيفه على الباب بعد دقائق من سماعها لضجيجٍ في الخارج عائد لسيلٍ من الشكوىٰ ماتوانت عنه والدتها حالما أقبل عليها هواري ..
هواري هو ابن الخاله الوحيد لبتراء ومن دواعي الأقدار وأعظمها كانت قد رضعت معه في الصِغر وهي ممتنه لذلك عظيم الإمتنان، تبّسمت لهيئته ونظراته المُعاتبه واللائمه قبل ان تشير له نحو السرير حيث تقدم جالساً هُناك بعد ان وضع متعلقاته الشخصيه بجواره وبادرت هي بالقول :لاتعاتبني على شي، اساساً لو ماساره جت الظهر وعَلمتها كان مادرَت ولا تهاوشنا .. هي الغلطانه
مسح هواري على وجهه بإرهاق من طول الطريق الذي امضى به مايقارب الثماني ساعات، زفر ثم علق قائلاً بهدوء تام :لا بتراء، محد غلطان غيركِ، انتِ قاعده تجازفين بروحك في كل فرصه تلاقينها وبدون تردد .. انا فاهمكِ انتِ شجاعه واقوى من انك تخافين من الموت بس وراك اهل؛ وراك ام ارمله وراك اخت يتيمه وأخ .. أخ صرتي له من الدنيا أمنيه وسُلطانه ! ما نستاهل ؟ انكِ تصونين هالروح عشاننا ؟
التقطت نفساً قوياً بينما تشيح بناظريها عن عيني هواري التي لمعت بإنكسار وملامه تقتل ولا تجرح، مسحت على وجهها قبل ان تتجه للجلوس على مقعد مجاور لمكتبها الصغير المقابل للسرير، وضعت يدها على حافة المكتب بينما تهمس :آسفه
اومئ هواري بعد برهه قصيره مكتفياً بهذا القدر من العِتاب الذي مل تكراره طوال أعواماً مضت وما انقضت، رفع رأسه ينظر اليها بينما ينبس مفصحاً عم في جعبته من اخبار :مريت على سيف قبل اجيكِ، يقول ان ابو شاهر رجال يده طايله في الجهاز الامني ومخلي الشرطه توقف على تك رجل، داهموا بيوت خاصه بناس مشكوك بأنهم ينتمون لصفوف الصعتري واعتقلوا منهم عدد كبير .. الموضوع طلع من يدنا هذي المره في تحرك جاد من الامن وان شاء الله يجيب نتيجه
اومئت قبل ان تزفر نفساً كُتم في صدرها لثوانٍ عِده اخرجت عُقبه بضع كلماتٍ بينما تمسح على وجهها :اللي خطف شاهر أعرفه
رفع هواري حاجبه بإستنكار وأمال برأسه مُستفهماً، اي عته تتفوه به الماثله أمامها للتو ومن اين لها معرفة فرد من اولائك الجماعه البربريه الشاذه عن مجتمعهم الحضاري ! دون ان يفتح فمه للتساؤل كانت ملامحه كافيه لتجيب بتراء مبرره :هو نفسه اللي هربني من الجماعه قبل ١٣ سنه
زفرت ثم عادت لتشرح الامر اكثر راميه بذلك سلسلة القلق على عُنق هواري، قلق من ان ترتكب هذه المرأه حماقةً ما تجرها نحو هاويةٍ محتومه، بينما هي استغرقت في الشرح قائله :عرفته من عيونه الصُفر .. يعني عَسلي مائل للصفار بشكل غريب وبطبيعة الحال ماراح تمشي كل يوم وتشوف واحد من نفس الجماعه بنفس العيون .. ع العموم انا كنت راح اشك في ذاكرتي خاصه ان الموقف قديم بس لا .. تأكدت انه هو نفسه
صمت هواري لثوانٍ عاقداً لحاحبيه بعد ان استوقفته كلماتها الاخيره فعلق حيالها مستفهماً :كيف تأكدتي؟
تبادلت معه بضع نظرات متعجبه من ناحيته، ومُتهربه متشتته من ناحيتها هي حتى نهضت تتجه الى الباب بخطى سريعه اثارت استغرابه قبل ان تهتف من هناك قائله :زينه هاتوا اكل عصير اي شي لهواري شفيكم!
سمع استغفار زينه التي مرت بها مُتجهه الى غرفتها متجاهله طلب بتراء برمته، فشَرَد هواري بحقيقة مقت زينه له منذُ اعواماً تجاوزت الأربعه لخرابٍ بقي متروكاً منذُ ذلك الحين كجرحٍ بِلا ضِماد، تجاهل افكاره حينما دلفت بتراء بصحن يحوي لفة ساندويش وعصير قائله :لقيت امي مجهزته لك
اومئ متمتماً بالشكر بينما يبتدأ تناول الساندويش، مُراقباً إنشغال بتراء بتمعن احدى الاوراق القابعه في يدها بتركيز شديد
.
.
.
يجتمع خمسه لاسادس لهم في هذه الليله على خلاف العاده حينما كانت الجلسات المشابهه لتلك تحوي عدداً لايُستهان به من شيوخ الصعتري وقاداتها يتبادلون نقاشاتٍ سُرعان ما احتدمت بأختلافٍ واضح في الاراء
يتقاطع شرود أديان لدقيقه غاص فيها فكره خاضعاً لهوامش عكرت صفو باله بالنبره الحاده للرجل المجاور له والذي شارك في الحوار مُنبهاً هذه الجماعه على خطورة الوضع الحالي :أربعه افراد على الاقل من جماعتنا بالسجن، شيوخ هاربه وبيوت أُنتهكت حرمتها .. المسأله وراها شخص مو قليل ولايمكن الاستهانه به
صمت الأربعه الباقيين لبرهه من الزمان بشرود، تسقط عيني أديان في هذه الاثناء على احدهم والذي كان ينظر اليه بحقدٍ واضح سُرعان ماترجمه بالقول :قتله ماكان الخيار الصحيح، على الاقل مو بشور الجماعه وانما بتصرف فردي متهور
نظر الرجل الكبير المترأس للجلسه نحو اديان الصامت عن الرد ثم اعاد انظاره نحو القائل معلقاً بشيء من الاستنكار :وأيش راح يكون رأي الجماعه يعني، نرده لبيته ونقوله معليش اخوي ماكنا ندري وراك راس مايلعب؟
زفر المعني وقبل ان ينبس ببنت شفه قاطعه رجُل آخر كان جالساً في الجهه المقابله لاديان قائلاً :مو عوايدنا البكاء على الاطلال! اللي صار صار ولازمنا نطلع من هالجلسه بحل مو بعداوات تشتت صفوفنا
حل الصمت لثوانٍ عِده بعقولٍ غاصت في التفاكير التي اقتطعها أديان مُشاركاً في الحوار بعد صمته منذُ البدايه بتساؤله قائلاً :مين اول واحد تمت مداهمة بيته؟
عقد الجميع حاجبيهم واجاب الشخص المقابل له بهدوء :الشيخ طلحه
اومئ أديان لكونه يعلم بهذه المعلومه مُسبقاً، ثم عاد ليتسائل بطريقه توضح جلياً بأنه يستخدمها كسبيل نحو هَدف مُعين :ليه الشيخ طلحه بالذات؟
هذه المره جاءه الجواب من كبيرهم المُسمىٰ بأبو عبدالله قائلاً :لانه من ضمن المطلوبين وهويته مكشوفه اساساً
تبّسم أديان لتلك الاجابه المتوقعه والتي تعتبر حلقه من حلقات السلسله التي أصبح يجمع حلقاتها بيسرٍ وسهوله :ومين اللي كشف هويته؟
ووكأن السيف الذهبي مَر على رؤوسهم اجمع فسكن المجلس في ذات الاثناء التي همس بها المجاور لأديان بشيء من الشرود :شاهر!
رفع اديان يده فوق فخذه بينما تعبث انامله بمفاتيح سيارته مُصدره بذلك ضجيجاً طفيفاً في ظل ذلك السكون الذي اخذ يراقبه بإبتسامه سُرعان ماتبادلت مع المقابل له الذي اومئ مُعلقاً :عصفورين بحجر واحد
دقائق قليله تلت ذلك الحوار وِضعت بها خُطة التخلص من التهمه برميها على الرجل المؤثر على الجماعه سلباً بسبب هويته المكشوفه وجرائمه المفضوحه والهارب بطبيعة الحال واضعينه هذه المره في مواجهه مباشره مع الامن واهالي القتيل الذي ترتمي اثيمة مقتله في ذِمة آخر
وحَالما تفرَق الجمع خرج أديان علىٰ وتيرةٍ من الهدوء والفتور، ركِب على متن السياره التي تنتظره عند البوابه مُشيراً لمحمد بالانطلاق بينما يورث سيجارته في حالةٍ مِن الصمت المطبق تبادلاها الى ان استقرت السياره على الطريق المعبد بعد قطعها للطريق الوعر النازل من المرتفع الذي تقبع فيه تجمعات الصعتري
اقتطع أديان الصمت آنذاك وهو يرى وجهته باتت في مرمى انظاره قائلاً :بكره راح يتصرفون بجثة المِهذار هذا والسالفه راح تتعلق على اكتاف طلحه .. راقب الموضوع بنفسك
نظر محمد نحوه بينما يطفئ محرك السياره على جانب الطريق متسائلاً :تتوقع خيانه!
همهم أديان كإجابه مترجلاً عن السياره عقبها بخطى قليله اوصلته في آخرها الى باب حديدي ضخم دفعه بخفه متوغلاً الى الداخل الفارغ من أي بشري او حياه، باحه مُظلمه ونافوره في المنتصف متيبسه من شِدة الجفاف
تصدر خطاه صوتاً من ضغطها على الاغصان المتيبسه والورود التي توفيت على الطُرقات، وككل مره يدلف بها الى هذا القصر المهجور تتأمل عينيه المبنى المرتفع بشموخٍ رغم جور الزمان، نوافذه المحطم زُجاجها وشبكات العناكب المستقره في الزوايا
مُتسائلاً هذا الكيان بداخله عن أي ذنبٍ ارتكبته هاته العائله حتى فَرق الله جمعها وهَجَر اهلها بعيداً عن مأواهم ! ترجل الدرجات ذات السياج الحديدي والمؤديه الى اسفل تحديداً الى قبو القصر حيث تعالى شيئاً فشيئاً صوت ضجيج احتكاك الصناديق ببعضها البعض والذي طغى عليه صوت احد الموجودين في الاسفل هاتفاً بقوله :ارحب ياشيخ اسفَرت وأنوَرت
تبّسم اديان في وجه القائل الذي كان يقف جانباً بهالة تدقيق واشراف، تقدم نحوه وتبادل معه صفاحاً سُرعان ما اقتطعاه بإشاحة اديان لانظاره نحو العمال المنشغلين بترتيب عدد من الصناديق المحكمه نابساً :تأكدت من العدد
اومئ الآخر ماداً اليه دفتر ملاحظات صغير كُتبت عليه بضع ارقام كانت شديدة الدقه مما جعل من اديان يهز رأسه بإيماءه خفيفه معيداً الدفتر الى صاحبه قائلاً :باقي موضوع التأمين، شددت على سلطان يحاوط المنطقه من الارتفاعات وانت عليك الارض يكفي نضمن مافي نقاط امنيه في الموقع
اومأ المعني واجاب مطمئناً اديان بقوله بينما يورث سيجاره :حادثة الصبح اشغلت الامن عن جهة الجنوب كل التركيز حالياً على طرفكم، اذا سويت مجزره هناك محد درى عنك مع ذلك حطيت الف عين تراقب اذا في اي تحركات امنيه مفاجئه
همهم اديان برضا بينما تشتد انظاره نحو احد العمال الذي اخذ يوجه قوله اليهما متسائلاً بشيء من التعب من ثقل الصناديق :على اي ساعه تطلع الدفعه ياشيخ؟
ثوانٍ فقط واجاب عنه الآخر بنبره تكفي لتصل الى مسامع الجميع بينما هو يتجه نحو جهه معينه من القبو :على الساعه ٢ الفجر، الهمه ياشباب باقي فقرة النقل راح تاخذ وقت كبير لاتتأخروا
راقب عودة الجميع الى العمل بهمه ودأب قبل ان يتبع خطوات اديان الى غرفة متوسطه تحتل مكاناً ما من القبو اتخذا منها مستقراً ومُستراحاً منفصلاً عن باقي اماكن الزحام والضجيج، اغلق الباب حالما دلف يراقب جلوس اديان في منتصف الاريكه منهمكاً في التدخين فنبس بتساؤل بينما يستقر جالساً على مقعد خشبي قريب :وش صار على الصحفي، تدري الجماعه برا قالبين البلد عليه
اومئ اديان بمعرفه تامه لابعاد تلك الواقعه وبهوية الرجل الذي قضى نحبه على يديه، مد ايسره امامه يراقب خشونتها بعد ان ارتوت بكمٍ هائل من الدماء متسائلاً عن عدد المرات التي تواجد بها مع عزرائيل في ذات المكان وهو يُلقفه ارواح أُناسٍ قتلوا على يديه او بأمرٍ منه وبشرودٍ اجاب :بكره يهجدون
صمت الآخر لثوانٍ بسيطه محاولاً قراءة الاجابه من هالة الماثل امامه حتى تسائل :قتلته؟
رفع اديان ناظريه نحو صديقه قيس ذو الهيئه التي تقل عنه جسمانيه ببشرة بيضاء وملامح هادئه معلقاً بقوله :راح تتلبس التهمه لطلحه، احداثيات موقعه راح توصلكم ببلاغ من مجهول وعليه تتحركون، كذا كذا هو راح يودع في السجن
زفر قيس انفاسه بهدوء وشيء من الكلل قبل ان يعلق حيال تلك الاقوال الاشبه بالاوامر بشيء من المنطقيه والواقعيه :تدري اني اواجه صعوبه في كل مره احاول فيها فرض رأيي، بالنهايه انا مجرد ضابط فوقي الف واحد يمشون كلمتهم علي وعلى قبيلتي كلها
صمت اديان لثوانٍ علق عقبها مستنكراً كم السذاجه التي لدى صديقه برفضه في كل مره يعرض بها اديان عليه امداده بأدله واثباتات حصريه تتيح له فرصة كسب قضيه شبه مستحيله ستؤدي بكل الاحوال الى ترقيته ! :كان ممكن تصير درجه تصعد عليها بس انت حنيّن
هز قيس رأسه الى الجانبين مفضلاً ان تقدم المعلومات ببلاغات مجهوله غالباً ماتبرر بأنها ناتجه عن انقسامات في صفوف الصعتري على ان تأتي من قبله لعدة اسباب معينه مجيباً بينما ينهض من مكانه متجهاً نحو طاوله في احدى الزوايا :لا اديان، ماراح اصعد على جثث الابرياء ولا راح احط نفسي بمثار شك، تهمة الارهاب مو سهله
قهقه اديان بخفه بينما يدعس على قطف السيجاره اسفل قدمه هامساً بهزء :ع اساس المتاجره بالسلاح حلال
.
.
.
نُحاول .. ان يبدو كُل شيء منطقياً او على الاقل عادياً لكن الحقيقه تكمُن في ان العُمر إستثناء وكُل لحظه فيه لها وقعها الخاص وترانيمها المميزه ولاشيء هنا يُساعد على التجاوز او التخطي
تلك المرأه ذات الاقدام الهَشه اتخذت لها طريقاً وعِراً مُظلما وأحمالها على كتفيها ثقيله فكيف تضع احداها جانباً وتمضي ان كانت ستصل خالية الوِفاض!
في غُرفه تقبع اسفل مستشفى القُريمزاء العام تجوب بتراء هُنا وهُناك باحثةً عن مطلبها شِبه المستحيل بين رفوف مُحمله باعدادٍ مهوله من الملفات، يُحاوطها الغُبار الذي تراكم مع مرور السِنين على اغلفة الملفات المنسيه
يشرد الانسان للحظه في كون كل سطر فيها كان يحوي مصير انسان قد اندثر ومابقيت سوى بضع احرف مازالت مُسطره بحبرٍ على ورق وكأنه كيانٌ لم يكُن يوما، زفرت بينما تصل الى آخر رف يندرج ضمن العام ٩٢ كان يحوي ايضاً عدد لابأس به الا انها ومع مرور الدقائق وَصلت الى مُبتغاها
تقرير اولي يشير الى وفود حاله لطفله تعرضت لجريمة الضرب والتعنيف التي اودت بحياتها، ولاده مبكره وطفل تم تسليمه الى الجهات المعنيه في الدوله .. لاشيء دون ليشير الى هوية المرأه او حتى مكان الطفل الا انها وعلى اي حال التقطت صوراً لكل اوراق الملف قبل ان تعيده الى مكانه وتخرج بإبتسامه قابلت بها صديقتها المسؤوله على قسم الارشيف قائلةً :شكراً ملاك ممنونه لمساعدتك والله
تبسمت المعنيه ايضاً وبينما تقف من خلف مكتبها واضعه يمناها على كتف بتراء قالت :هذا اقل شي اقدر اسويه للقُريمزاء، احنا اللي ممنونين لكمية التفاني اللي قاعد نشوفها منك رغم كل التهديدات والخطر
احتضنت بتراء بضع اوراق وملفات بين يديها الى صدرها واومئت ببهجه لسماع بضع كلمات تقدر لها مجهودها، تبادلت مع ملاك جمل قصيره أُختتم بها ذلك اللقاء قبل ان تصعد الدرجات المؤديه الى الدور الاول تزامنا مع اصوات الضجيج عند بوابة الطوارئ التي وحالما اقبلت عليها ابصرت تلك المرأه ذات المظهر الحضاري المُهندم تصرخ بهستيريه ملفته بذلك انظار الجميع اليها بشفقه
توقفت بتراء بجوار مقاعد انتظار تراقب بعينيها المهتزتين ذلك المنظر الحزين بينما تلتقط اسماعها كلمات المرأه تباعاً والتي لم تتوقف حتى بمحاولات تهدئتها من قبل اقاربها
تضع يديها على رأسها دلالةً على عظمة مُصابها الاليم وتصرخ بينما تنظر في الارجاء لعل هناك من يكذب ذلك الخبر الذي حل عليها كالفاجعه التي لا اطمئنان عقبها قائله :يُمـه وِلدي ويـنه، تكفـون جيبـوه لاتقولـون مـ..ات، تكفـون جيبوا ضنـاي ..
وذلك الصُوت الحَاد والصَرخات الباكيه طغى عليها صوت الإسعاف الذي توقف امام بوابة الطوارئ لبرهه يسيره هرول عقبها المسعفون الى الداخل بينما يجرون سريراً مُغطاه بقُماشٍ أبيض كدلالة على وفاة الكيان القابع عليها، لفت انتباه بتراء وجود عدد من افراد الشرطه والضباط قد تبعوا الإسعاف حتى تقاطع فكرها برمته على صرخات المرأه التي تعالت بينما تجلس على ركبتيها خائرة القوى هاتفه :يـابـعد قَـلبـي ياشـاهـ..ر ..
وكل شيء عقب تلك الكلمه اصبح مجرد طنين اطبق على مسامع البتراء التي اوقعت جُلُ مابيديها وتقدمت بخُطى مُهروله نحو جِهة واحده، ثوانٍ مرت كما وكأنها اعواماً غابره بين الخطوه وأُختها تُصارع سقم فكرها وسواد الواقع، تكذب الف مره كل ماسمعت وتنكر كل ماترى
دفعت يد المسعف الذي حاول منعها وتماطت ترفع الغطاء عن وجه الراقد حتى بان لها شحوب تلك الملامح المخضبه بالدِماء، وجه لايشبه وجه شاهر لكنه يحمل ذات ملامحه! هل يفتعل الموت كل ذلك الكم من الخراب، وهل تداوى صدَمات الواقع الا بالهيستريا الفَذه ؟ اول من وقعت عليه عينيها بعد ان اُبعد شاهر من مرمى ابصارها احد الضباط المتواجدين، تقدمت نحوه تقبض على سترته بكفيها بينما تصرخ في وجهه بلومٍ وكُره وبنبره متهدجه باكيه :يقتلونا ويرتكبون فينا ابشع الجرائم وانتم ويــ..ن، وينكم عنا ماتقولـي شمسويه لكم الصعتري حتى تسكتون على كل اللي قاعد تسويه فينا
تراجعت بضع خطواتٍ الى الوراء تحت انظار الضابط وجميع المتواجدين المترقبه، اشارت بيدها نحو المكان الذي ذهبت اليه سرير شاهر منذُ بُرهه وعادت لتردف هذه المره بنبره متجرحه وشِبه خافته كما وكأنه تعيش حاله من الصدمه :قتلوه بدم بارد، وانتم بس تداهمون بيوت فارغه وتعتقلون ناس وهميه، لـ متىٰ ؟
اشاح الضابط بناظريه الى الجانبين بشيء من الشتات والتأنيب قبل ان يعود لينظر اليها مجيباً بنبره محمله بحفنه من الحزم :احنا نسوي اللي نقدر عليه
رفعت بتراء يدها على جبينها لثوانٍ يسيره قبل ان تتقدم اليه رافعةً اصبعها السبابه على صدره قائله بنبره اقرب الى الأمر ولاتخفى عنها الكراهيه :اجل صار لازم تسووون اللي ماتقدرون عليه، مالبسوك ياها عبث
اغمض عينيه بقل صبر بعد ان اشارت في قولها الاخير الى بزته العسكريه قبل ان يتشتت فكره بصوت احد الافراد الذي تقدم نحوه قائلاً :سيدي وصلتنا اخباريه بموقع الجاني، صدرت اوامر بالتحرك
اومئ قيس قبل ان يعود بناظريه نحو تلك التي تنظر اليهما بتحدٍ وحُقد، تراجع خطوتان الى الخلف قبل ان يخرج من المستشفى بأكمله بينما هي اتجهت نحو مقاعد الانتظار، جلست هُناك بوهنٍ وضيم تمسح وجنتيها بخشونه لدمعٍ تمردَ على زيف القوىٰ، تراقب عينيها الاوراق الواقعه اسفل اقدامها تلك الجهود التي كان ثمنها روحاً أزِهقت بلا أي شفقه، ورُبما اكثر مايؤلم ذلك الفؤاد الجريح هو ان شاهر قد دفع الثمن بمفرده تاركاً خلفه خارطة طريق مخضب بدمائه وتضحيته العُظمىٰ
شعرت بأذرع هواري تلتف عليها فأسقطت رأسها على صدره حيث استسلمت هناك الى ضُعفها وهشاشة مشاعرها، وذُرفت دمعُ الرِثاء من عينيها صمتاً وإنكساراً
.
.
.
على أريكه جِلديه متكئه على احد اضلع المكتب المغلق، يجلس أديان مقابل لمنضده حوت عداداً طائلاً من الأموال المتراكمه، بين انامله سيجاره وعلى كتفه شاله العَربي بإهمال، تعبث يده الاخرى بأحد جيوب بنطاله بلا اي هدف بينما الآخر يجاوره بوتيره من الهدوء والانسجام في خِضم العمل، يضع الاموال في آله العد دفعاً قبل يلفها بالمطاط ويضعها جانباً في رزم متجاوره
زفر بضجرٍ من رتابة الحال قبل ان يخرج من جيبه ورقه صغيره كان قد دون عليها قيس المبالغ مقسمة على ثلاثة حصص مستثنياً منها حصة العمال، وضعها جوار محمد ونبس قائلاً بينما ينهض من مكانه الى جهة النافذه :حط حصتي بجيبك اذا فهمت خطه
قهقه محمد بخفه حينما وقعت انظاره على خط قيس الأشبه بالنقش على الصخور فعلق بينما يربط الحزمه بالمطاط :هذي اللغه البابليه ولا ايش!
تبّسم اديان بخفه بينما تتوه انظاره في الجِبال الموحشه التي تحيط بالأنحاء الخاويه الا من قله من المنازل التي لاتقطن بها العائلات الا فيما ندر، وغالبيتها تستخدمها الجماعه في نواحٍ متعدده
التقطت مسامعه صوت القداحه من خلفه والتي استخدمها محمد في توريث سيجارته يعم الصمت عقبها لدقائق يشرخ سكونها صوت عد الآله وعند آخر رُزمه طُرق باب الغرفه واطلت من خلفه سُلطانه تحمُل في كفيها طبقي حلوى دوماً ما بَرعت في اعدادها، تقدمت من الجالس وضعت امامه واحداً تحت انظار أديان الذي شَرد في كف محمد التي قبضت على قُطف السيجاره غير آبه بإشتعالها قبل ان يتقاطع شروده بتقديم سلطانه الطبق الآخر اليه
مد يده بعد ثوانٍ من الصمت المُربكه والتي دققت بها عيناه في خاصتيها حتى اهتزتا من الإرتباك، التقط الطبق واشار الى سلطانه بالخروج في جمودٍ تام، اتم محمد عمله في ظرف ثوانٍ قليله وتناول طبقه ثم خرج بينما اديان مازال شارد الذهن ضائع، قبل ان يضع الطبق على سطح المكتب دون ان يتناول منه شيئاً وخرج يجوب ارجاء المنزل باحثاً عنها حتى استقرت يداه تدفعا باب غُرفتها دون استئذان
وجدها امام المرآه تسرح شعرها الذي يمتد على ظهرها كما وكأنه لحافاً ساتراً، سقط المشط من يدها وتراجعت خطواتها بفرط ارتباك واستنكار هامسه :خير ياشيخ؟
نظر اديان نحو نقطه من فراغ قبل ان يعود بأنظاره اليها بينما يغلق الباب متقدماً نحوها قائلاً :أديان
اومئت لمراتٍ عده وتراجعت حتى التصق ظهرها بالحائط بالخلف، اهتزت مقلتيها بخوفٍ وهَلع واخذت تبتلع ريق فمها الذي بدا اشبه بالحجاره او اشد قسوةً، بينما اديان فقد اقتطع المسافه حتى توقف على بعد انشات من سلطانه، وضع يديه على الحائط خلفها مُحاصراً ذلك الجسد المرتعش كورقة خَريف عبثت بها الرياح، دنى منها وهمس على مقربةً من وجهها الحَسَن قائلاً :تدرين عينكِ اذا زاغت وش يصير ؟
الصقت رأسها بالحائط كما وكأنها تحاول تهشيمها خلفها واصفَر وجهها بينما تومئ بخفه للذي اردف بقوله :أسويكِ مُعلبات لكلاب الشوارع، وربي عالم اني اديان ومايردني احد
قبض على كفِه قبل ان يضعه بشيء من القوه على قَلب سُلطانه الذي يقرع طبول الهَلع في جوف صدرها، اغمضت هي عينيها بألم بينما تلتقط مسامعها كلماته الأخيره المُستهزئه :رفاهيات الحُب وخرابيطه انتهت بتوقيعك على ذاك العقد، فلا تحديني اسويك آلة تفريخ هنا
وزع انظاره على ملامحها المُصفَره، عينيها المغمضتين وشفتيها المُرتجفه قبل ان يبتعد بضع خطوات يُراقب هالتها المنكمشه بفزع، ذلك اكثر من مُرضي فلاح على شفتيه شبحُ ابتسامه وغادر مغلقاً باب الغرفه خلفه بشيء من القسوه والقوه حتى افتز جسدها وجلست ارضاً خائرة القوى تبكي حُباً اندثر وحياةً حُكم عليها بالموت منذُ ان وِلدت
.
.
.
قبضت اناملها على عُلبة الحمضيات بشيء من القوه، تشعر بالغضب متفجراً فيها والحُزن يخيم بظلاله على الروح والمدينه، حتى الطُرقات رُغم الزحام بدت لها رتيبةً وتشكو حُزناً يؤرقها، يستحق شاهر ان تبكي عليه كل القريمزاء ذلك الذي قدم روحه قُرباناً للنجاة والحياه
شعرت بكف هواري التي تقبض على كفها، اخرج العلبه البريئه من فرط ضغط اناملها ووضعها جانباً، ثم نبس بنبره هادئه :بتراء فكري بأن الاقدار بيد الخالق والله غالبٌ على امره، مو من حدنا نعترض !
نظرت اليه بتراء واخيراً بعينين ممتلئتين بالدمع لكن الابتسامه تأخذ مكاناً من ذلك الحزن وتتجلى قائله بنبره شديدة البحه :مو زعلانه عليه، زعلانه على خيبة امله فينا على كل وجع حس فيه واحنا غافلين تاركين مصيره بيد ناس ماتخاف ربها، زعلانه على وطننا الجبان الراكع للبرابره الهمج
زفر هواري مشيحاً بعينيه نحو قارعة الطريق رفع انامله يمسح دمعه تمردت عن مقلتيه، شم انفه والتقط انفاسه قبل ان يعود بأنظاره اليها قائلاً :شاهر رجال قارب على الاربعين من عمره وعيه كان كافي انه يعرف وش ينتظره بنهاية هذي الطريق ويعرف الواقع احسن مني ومنك، ماخاب امله فينا لانه ماتأمل شي اكثر من اننا راح نكمل من المكان اللي وقف فيه
اومئت بتراء بعد ثوانٍ يسيره واخذت تمسح الدمع الذي بلل وجنتيها تزامناً مع توافد سيارات الشرطه التي توقفت امام بوابة المبنى تباعاً، ترجلت عن سيارة هواري كما تبعها هو وتوقفا في استقبال الافراد والضباط الذين ترجلوا عن السيارات يجرون رجلاً مكبل اليدين ملتحي وذو جسد مفتول، عقدت بتراء حاجبيها بينما تدقق في عينيه ذوات اللون الفحمي حتى اختفى من امامهما الى داخل المبنى
التفتت نحو هواري في ذات الاثناء التي قدم بها الضابط الى حيث استقامتهما قائله لكلاهما بثقة تامه :مو هذا اللي خطف شاهر
صمت هواري لبرهه يراقب اليقين الذي يشع من عينيها بينما الضابط عقد حاجبيه وتسائل بإستنكار :شدراك؟
زفرت بتراء وتقدمت خطوه تشرح له الامر بإنفعال كما وكأن حياتها تتوقف على ذلك :انا كنت موجوده لما خطفوا شاهر، اللي خطفه رجال عيونه صفر، طويل وجسمه متوسط مو مثل هذا، وحتى سنه مايجي بعمر هذا اللي جبتوه
جمد الضابط قليلاً قبل ان يعود للتساؤل هذه المره بحاجب مرفوع وهاله اشبه بالاستهزاء :عيونه صفر؟
رفعت بتراء رأسها قليلاً بضجر قبل ان تعود لتوضح بطريقه اقرب للمنطق والعقلانيه :مو صفر صفر، يعني عسلي مائل للاصفر، مو صعبه تميزه من بين الف واحد ..
قاطعها الضابط داحضاً قولها بما يراه اقرب الى المنطق قائلاً :اللي خطفوا شاهر كانوا جماعه عددهم فوق العشره، فيهم قاده واتباع بس المسؤول عن عملية الاختطاف بشكل عام هو هذا اللي القينا القبض عليه، الباقين نقدر نجيبهم عن طريق اعترافاته .. اقدرلك كونك صحفيه وناشطه حقوقيه ويهمك كل تفصيل في قضيه تعنيكم بشكل اكبر لكن ما انصحك تخاطرين بروحك في ظل هذي الظروف .. ماحد وده يسمع بجريمة قتل جديده
صمتت بتراء لبرهه بعد قوله فتدخل هواري مقدماً الشكر للضابط الذي غادر على الفور بينما هواري امسك بكتف بتراء قائلاً :يلا خلينا نرجع للبيت، لازم ترتاحين شوي
اومئت بتراء وتبعته بهاله من الصمت والسكون المريب .. بينما الضابط فقد دلف الى مكتبه والتقط هاتفه مجرياً اتصالاً قال فيه :راح ارسلك معلومات صحفيه كانت شاهده على اختطاف شاهر، وصفتك بشكل دقيق اعطيها يومين وتجيبك من اسمك لمقاس حذيانك
مرت قهقهات اديان عبر مسامعه بينما يجلس على مقعد خلف مكتبه مستمعاً لاديان الذي علق قائلاً :أرسل يابوي، عَدِل كيفي
.
.
.
وَحدي أُراود نَفسي الثَكلىٰ . |