مطت راوية شفتيها وأفرغت إحباطها:
-ما الذي قصدته خالتي احتسان أمي؟ هل ترمي لنا أن لا نعمل حفلًا كبيرًا في الخطبة لأن الزواج بعد شهرين؟
نفخت نوال التي صبّت من قدر الرشوف فوق الأرز وردت:
-لا أعلم، لا أعلم وإن كان الزواج قريبًا سنصنع لك حفلًا لم يمر مثله.
وزعت الحمص والعدس على وجه الإناء واضافت بحماس:
-ما رأيك بقاعة سراب القاضي في الخطبة؟
كشرت راوية وأشارت لنفسها بترفع:
-هل سأذهب لفضلات سراب وأمها؟ لا لقد رأيت فندقًا يفوق قاعة سراب.
مصمصت نوال شفتيها وحديث احتسان كون الزفاف سيكون قريبًا يتلاعب في عقلها، هي تريد ثوبًا ضخمًا وحفلًا استثنائيًا وخائفة ألا يفعل نديم ذلك مع المصيبة التي وقعت فوق رؤوسهم والحادث الذي تعرض له نادر وتكفّل به شقيقه.
-أيًا كان أمي، أود حفلًا لم يحدث مثله في البيادر ولو اضطر نديم لأن يأخذ قروضًا من مصرفه.
وضعت نوال كفًا فوق كف واقترحت عليها:
-اسمعي، أخبريه أنك لا تودين حفلًا الآن وبعد أسبوع اقترحي عليه ما تنويه.
حركت راوية الحديث في عقلها وترجمت مخاوفها:
-لا أريده أن يهرب مني ويظنني صائدة أموال.
نفخت نوال وقرصتها:
-لا تخبريه عن الفندق والثوب إلا بعد عقد القران، الآن لا تخبريه كي لا يطير منا.
ثم أشارت لهاتفها وذكّرتها:
-وهذا الشيء ستدّعين كسره ليجلب لك واحدًا جديدًا.
ازدردت راوية لعابها وعادت لدهن جسدها الأبيض الذي لا يحتاج المراهم ونزقت:
-سراب لن تحضر على ما يبدو.
ردت عليها نوال من فورها:
-هذا أفضل لا نود وجود نعيق الغربان فوقنا.
تنهدت راوية بإحباط وتذكرت حال آرام:
-وآرام أيضًا لن تحضر بسبب والدها.
جهّزت نوال زينة الطبق وضحكت:
-لا نريد واحدة منهما، أخبرتك لا أود رؤية غيرك في الحفل لن تغطي عليكِ إحداهما وستكتسحين الحضور بجمالك.
أصاب راوية ما قالته أمها:
-أنا أجمل منهما ووجودهما فارق معي أمي.
شوحت أمها بكفها غير راضية:
-ماذا أفادك وجودهما؟ هل تودين سراب التي يقول عنها الناس تمنعت عن زوجها لعيب بها أن تحضر؟ تخيلي لو سمع نديم لفك الخطبة.
اشتعلت راوية وأخبرت أمها:
-عمها أحمد يقاضي الناس التي تقول هذه الأشياء أمي.
سخرت نوال متهكمة:
-هه، سيقاضي آل البيادر على حديثك هذا.
استغفرت راوية ونوال تتابع:
-والأخرى التي سمعت والدة يزن تخبرني أنها تتواصل معه وهي على ذمة خطيبها.
ازدردت راوية لعابها بخوف وسألت بحذر:
-كيف؟ ماذا قالت أمه؟
تنهدت نوال والتفتت إليها تخبرها:
-ما سمعته والدته قالت أنها تتواصل معه.
انحرق صوت راوية:
-حرام، أقسم بالله حرام ما تفعله وتقوله الناس، هذا ظلم.
أخرجت نوال الطبق وتمتمت ساخطة:
-لا تحلفي غير عن نفسك.
****
صبيحة اليوم التالي حاولت الالتقاء بآرام خفية، جاءت آرام ومررت رسالة لسراب كي تأتي، تأخرت سراب عليهما قليلًا فيما تغمر راوية آرام بالأحضان.
-خطوبتي غدًا آرام، ولن أعمل حفلًا ستكون جاهة ومعها شيخ لعقد القران.
تبسمت آرام لها وتمتمت لها بالتوفيق فأضافت راوية:
-نديم لا يريد حفلًا تقليديًا في المنزل بل غالبًا سنصنع حفلة الخطبة في فندق «...»
غامت عينا آرام بفرحة وبثت لها الدعوات فتمتمت راوية بنزق حالما لمحت زول علياء وابنها بلال الذي يمشي رفقتها على الشارع العام.
-انظري إلى ابن امه، يقولون أنها خطبت له عروسًا جديدة.
تنهدت آرام ورمقتهما بلا اهتمام:
-هنأ الله سعيد بسعيدة، اللهم حوالينا لا علينا.
ضحكت راوية فيما تضيق عينيها:
-أ تعلمين أنهم يشيعون الطعن في شرف سراب ويخبرون الجميع أن الخلل منها.
لم تكن آرام في مزاج لتبادل الأقاويل والأخبار المهمومة بل لديها طاقة متفجرة وتود تفريغها وعفراء حامل ولن تستخدم فرسًا لا يخصها ولا يمكنها الركض أو خوض شجار، حين رأتها راوية بهذا الحال لم تشأ سؤالها عن أحوالها مع يزن. واكتفت بكيل الشتائم إليه، رفعت آرام رأسها لها وحين رأت الشرر يتقادح من عيني راوية سألتها:
-هل نفعل ما كنا نفعله ونحن صغار؟
تحققت منها راوية ولمّا رأتها تنسحب نحو الحصا والحجارة سألتها:
-نقتص لسراب؟
أومأت آرام في قوة وركعت بين العشب الأخضر الطويل وفعلت راوية مثلها، وبدأتا في قذف بلال ووالدته بالحجارة، تخطت أول حجرة بلال فالتفت مصعوقًا لما خلفه ولم يجد أحدًا، بدأت علياء برمي الدعوات والسباب فأخبرها بلال:
-هؤلاء صبية صغار أمي، الآن سأوبخهم.
استدار وتوجه نحو رمي الحجرات فانهالت عليه بقوة وردته للخلف فكان همه النفاذ بنفسه وصوت راوية يصله:
-أيها النذل الخسيس قليل الرجولة والحياء.
تحكمت آرام في قذف حجرة كبيرة ورمتها صوبه فركض بلال بأمه وصوت آرام اللاهث يصله:
-الصبية يمتلكون رجولة أكثر منك يا ابن أمك.
ضحكت راوية ومسحت آرام وجهها، حين غابا عن ناظريهما، قفزتا من مكانهما وتسحبتا بين العشب كي لا يعرفهما أحد وانفلتت كل واحدة نحو منزلها هربًا.
****
تعرقلت كفا مؤيد في تثبيت ربطة عنقه وفشل، مسح العرق المتصبب عن جبينه مع رسالتها الأخيرة الصوتية
«لا تتأخر نديم، أنا أنتظرك»
لقد سمحت له بشق الأنفس أن يتبادل معها بضعة عبارات صباحية، فالعروس خجلى ولا تعرف كيف تتبادل الكلمات معه. دخلت عليه يافا مصفقة وحين رأت حاله تقدمت منه تضحك:
-أعرف أن العروس هي التي تتوتر لا العكس كما يحدث معك.
ضرب رأسها وتمتم لها بتوتر:
-اضبطيها جيدًا دون تعليقاتك المستفزة.
أتمّت ربطها وضبطتها فيما استغرق مؤيد في حمام عطري قبل أن يتم غزو المكان من احتسان وجيشها، دمعت عيناها ووجهها يحف وسامته وطوله وكل العلامات التي المتمددة على وجهه التي صنعت منه رجلها ومؤيد اليوم، اقتربت منه وحاوطته بذراعيها ولسانها يلهج بالدعوات والحب.
-شيخ الشباب حبيبي، الله يتمم لك على ألف خير.
انحنى نحوها وقبّل كفها مستمتعًا بفيض حنانها ودعواتها.
-حبيبتي الغالية أجمل أم عريس، عساك ِ تفرحي بنا جميعًا.
دخلت يافا مجددًا بالبخور ووقفت على المنضدة وحوطت جسده به.
-هيّا بنا لا نود التأخر عن جاهتنا.
مثّل الجاهة الكريمة السيد ناظم الفقيه وحشد من عشيرته وجاء والده كضيف منبوذ اختار مكانه بعناية. ساق إلى راوية ثوبًا اختارته لعقد القران برفقة يافا واستجاب لها بعدم عمل حفل الليلة، ومرعي والدها يطلب منه أن يلغي حوار الحفل بأكمله، يلبسها الدبلة هنا ويكفي.
وصلوا قبل المغرب، أدّوا صلاة المغرب وانطلقوا حتى منزلها وابتدأت المراسم بخطبة ناظم الفقيه وشهادة ابنيه وانتهت بـ
-بارك الله لكم وبارك عليكم وجمع بينكما على خير.
انطلقت الأحضان والتهاني من الجميع حتى أدخلوه لها. استقبلته أمه عند الباب وأخذته لعروسه. لقد تخيل لحظته الأولى كثيرًا، وجد نفسه كشاب يرسمها معها منذ أضحت له بصيغة رسمية. كل ما تبنته مخيلته كان بعيدًا عمّا يشعر به، عمّا حوّطه من تعويذة كسرت كل اتزان يملكه أو يظن نفسه كذلك. لا شيء يشبه البداية، أو الاستحواذ، أو نيل امرأة أعجبتك، تحركت حنجرته مع لفيف الأصوات والزغاريد ولم ير في كونه سواها، تقلص التواجد البشري إلى عدم وتركها هي القِبلة، كانت زاهية، فاتنة تشبه كل الأشياء التي بدت أبعد من أحلامه البريئة، ثوبها أبيض بالكامل غطاه بضعة نقوشات السنبلة حفت جوانبه نقش المناجل عن كل طرف. بسّط كفيه وتناول كفيها، أثنى كفه اليمنى فوق كفّها وضمها بتملك فيما يهيمن على جسدها بحرارة ويلفها في مصافحة تطرقت فيها شفتيه لجبينها ووجنتيها ثم عاد لجبينها.
-راوية من كل حسن راوية، سبحان الذي كمّلك.
انشقت الحروف التي جهزتها وبلعتها رجفتها وريقها الجاف. كل ما خططت له ذهب سدى، كانت لها تجاربها لم تكن تلك أول كف تستلم كفها، ولم يكن أول رجل يتعدى مساحتها، ومع ذلك هي تذوب، أناملها تتجعد وتتقرفص عروق ذراعيها، والوخزات تضربها من كل جنب. كان أخطر شيء عاشته، أومض مسار نجمي شوّش رؤيتها، ما أسوأ حروفها وما أشد سخفها حين همست بصوت يتلاشى:
-مبارك علينا نديم.
مارست أنامله غلظتها في سحبها وشدها له فيما يهمس بصوته الذي يقصف عينيها.
-حين أكرمني الله بعثك إليّ، ليتك مباركة راوية مثلما جلب وجهك الخير لقلبي.
تحكمت في نفسها، أن تبدو واثقة، ووجها في وجهه، لكن السبق انتهى لصالحه وخرجت بصفر كارثي، حضوره، وخشونته، وكل لمحة بربرية من وجهه الذي يطمسها بقوة تثير جنونها وتزحف بولعها به أسفل مسامها. سألت حالما تم إخلاء المكان:
-هل أعجبك شكلي الليلة؟ وثوبي هل أعجبك أيضًا؟
حرصت نظراته أن تكون مهذبة وفشلت، كان في عمر تجربته الأولى وانفضح، انخنقت لهفته عليها فطلب:
-هل يمكنني احتضانك؟
كل جلسات الخجل والأدب والثقة ودروس كيف تحافظين على نفسك بعيدة المنال عنه:
-أرجوك افعلها، أنا أريد الإحساس بك، فما أشعره أنني في رحلة خارج الوعي.
ضحك ولاعبت سبابته شفته الممتلئة، لم تشأ النظر إلى أنامله نقطة ضعفها، بل انتظرت اكتساح ذراعيه لجسدها. ما حدث أبعد من ذلك، أكثر من ذلك، احتوى، ضم الفراغ وجسدها، سحب الفضاء الشاسع في عقلها وأخذه، بطريقة واحدة لا تفسير لها، كانت لأول مرة في صندوق مغلق عرف كيف يستوعبها.
تنشّق رائحة عطرها، لامس أنوثتها وعرف معنى الالتحام فيما تتزلج حروفه فوق أذنها والحجاب يفصلهما:
-أتمنى لو أنني أبقى في هذا المكان.
تهدج صوتها الذي غرق في نبعه فالتهمت منه ما يبقيها في سكرة سحره فيما تنفض تنهيدة ذائبة:
-نديم سيدخل إلينا أحد ويرانا.
****
-اهدأي راوية وألغي حفل الخطبة، الشاب صرف تحويشة الخطبة من أجل أخيه فلا تخرجي شياطيني من محلها وأحرمك إياه.
نددت راوية بأمها وقد اتكلت لعواطفه نحوها:
-لن يرفض لي طلبًا أمي، هذه فرحتي.
شدت أمها ذراعها وأخبرتها من بين أسنانها:
-حفل خطوبة مناسب، شأنك شأن بنات البيادر ما الذي تحملينه أكثر منهن؟
عقدت راوية ذراعيها فوق صدرها واتخذت موقفًا معاديًا:
-لا، لن أقبل أمي.
في تلك الليلة وفي نزهتهما التي أخذها إليها في أرجاء البلدة وحقق لها ألف مطلب وثقتها جميعها بعدما استبدل هاتفها وأتى لها بواحد حديث، عممت اللقطات على كافة محطات التواصل الاجتماعي، ثم نهجت بخطتها، شالته بهدوء مدروس حيث واجهة زجاجية ضخمة تضم أثوابًا لعرائس. تنهدت بحالمية أوقفته ودفعته:
-هل أعجبك؟
تمتمت بنظرة بريئة:
-كم تمنيت أن تكون حفلتي في فندق جميل وأرتدي ثوبًا يماثله.
كلامها مسَّ رجولته فانطلق من فوره:
-وما الذي يمنعنا من عقد حفل خطوبة كما تحبين.
هزت كتفيها بيأس:
-أمي تقول أن لا داع لها يكفي ما صرفته من أجل أخيك.
عيناها بارقتان بالحزن والألم الذي يكتسي بوابات الأمل، كانت كأي شابة تحلم، ولا يحق لأحد منعها مما تريده حتى لو اضطر لقصم نفسه. اتخذ مكانًا يلاحمها وسحب كفها بكفه:
-سنعقد حفلًا على ذوقك الأسبوع القادم.
****
بعد وقت أخذها لاستراحة تنام فوق مطل جبلي مرتفع، استأنست في المكان وأنست، لاعبت أناملها قشّة العصير المُثلَّج وسألت بعد همسها اسمه:
-لقد أخبرتك تطلعاتي كثيرة ومتطلباتي أكثر و قد تبدو مُرهقة، إلى أي حد ستذهب في إرضائي؟
وجدت عيناه لمعة عينيها، فيما تشكلت بسمة ناعمة حول شفتيه التي أطلقت الردَّ من فورها بثقة:
-إلى حد أكون فيه راضٍ عن نفسي.
أطلَّ الطمع المرتقب مع تفرقة شفتيها بخيبة إذ توقعت نفسها قبله هو، فلم يتأخر بتتمة ضاعفت درجات استحقاقها:
-بأنني أرضيتك!.
تجول فمها في بسمة تمطت وأذهبت بغرورها بعيدًا فسألت:
- لو طلبت الغيم أو ما هو أبعد منه.. ستجلبه إليّ؟
اهتز كتفه مع ضحكة خافتة راقبتها مستمتعة وأجاب فيما تتنفس خياشيمه دخان لفافته:
-إمم، سأرفع من سقف طموحك وأتجاوزه للسماء!، هل يرضيكِ؟
أمالت برأسها واندفعت في ثرثرتها التي أفقدت صوت المخطوبة نغمته وعادت لنغمة راوية الحقيقية:
-أرسلك إلى الفضاء، أطلب منك نجمة وتعود لي بالقمر، أليس كذلك؟
هزَّ رأسه فيما يثبت كأس القهوة المُفسد طعمها بالسكر المحروق وحوائج الكريمة المخفوقة التي لا يحبها ولم يرغب بها ولا يعترف بها أصلًا من أصول المزاج بل لافتة ضرورية في قوائم الأثرياء، في حين كل ما احتاجه وتاق إليه عقله المحشو بالحسابات كأسًا من الشَّاي ولأجل خاطرها وافق على طلبها، الذي فوجئ بأنها وثقته من فورها على صفحتها الشَّخصية :
-أجل، ونكرر ديباجات صفحات العشاق وملصقات المراهقين.
انطلق ضحكها رنَّانا، وشفتاها مع لسانها الطويل سرقوا لون الفراولة وتلطخوا بها:
-يبدو لي أنكَ ختمتَ مناهج الترندات كلها!؟
بسط شفتيه مؤكدًا بيأس:
-أجل، والفضل كله للأديبة يافا.
أخفت حنقها من ذكر أخته الفاتنة وركّزت على هدفها:
-ألن تحقق لي ترندًا واحدًا وتترك لي صعود الموجة؟
ضم كفيه البارزة عروقهما وهو يؤكد بثقة:
-أجل راوية، لو طلبتِ النجمات سآتيك بالقمر، وهذه ليست فقرة ترويجية كي أبهرك بها، بل هذا أنا مؤيد مع كل الذين أحبهم.
يروي ظمأها، فكّرت في ذلك وهي تستمع إليه مشدوهة، لكن لا، لن تنل كفايتها، فنبعه عذب حلو المذاق ونبعه لا ينقطع وهي العطشى!، ضمَّت أناملها في بساط مريح أسفل ذقنها وتأملته، نصَّ فمها تنهيدة ناعمة فيما ارتدى صوتها شذر النجمات وطاف أرجاء الفضاء وعاد مُحمَّلًا بالسِحر:
-صارتْ السماء بحوزتي مُذْ بِتُّ معك، فهلَّا تغريني نجماتها أو أعبأ بالقمر؟
**** |