-يا مصيبتنا لو علمت أمي بما فعلته.
انقطع تنفس يافا التي اصطدمت بروّاد المشفى الذي وصلته توًّا وتخبطت في مشيتها متذمرة:
-سيقولون يافا التي تمشي بلا ذهن هي السبب.
عقدت حاجبيها وأكّدت لنفسها:
-بالفعل أنا السبب لقد نسيت في خضم تجهيزات خطبة مؤيد ومع ذلك غيم..
توقفت في مكانها وحذرتها:
-لن تخبري أحدًا أنني فوّت موعدك هذا الأسبوع وإلا..
أشارت يافا لعنقها بطريقة إجرامية فأومأت غيم بلا حيلة وركضت تجري خلف يافا التي فوّتت عليها موعدها الطبي في المشفى. وصلت إلى قسم الطبيب منذر وسألت عنه فأخبرتها الممرضة:
-الطبيب منذر خارج البلاد هذه الأيام.
ضربت جبينها متذكرة سفره بشأن أخته نجوى، كادت تستسلم قرب غيم الواجمة لولا أن التمع في مخيلتها إشعار تذكيري ذكرها بنسيبهم الطبيب سند، وإن كانت رها ليست شقيقتها فهي بمثابتها وأعز، استدارت حول غيم متحمسة:
-وجدتها، الطبيب سند هو من سينظم لنا موعدًا.
نطّت من فورها صوب الممرضة وسألتها:
-الطبيب سند القاضي أين هو قسمه؟
عنونت لها الممرضة مكانه فالتفتت لغيم وأملتها إشارة الركض وانطلقتا حتى وصلتا قسمه، وصلت مكتبه ووجدته مغلقًا فهمّت بسؤال المارّة، تبرع لها أحدهم:
-هو في المقهى الآن.
تنهدت بتعب ورفعت كفها مستفهمة فدّلها على الطريق. هبطتا السلالم وضاعتا في البحث عنه بهذا المقهى الواسع حتى ارتطمت برأسه الذي يعلو ظهره الواسع، شهقت تشير لغيم التي تم نضجها من التعب والركض:
-ها هو لقد عرفته من رأسه وخصلاته البنية الكثيفة.
حجمّت خطواتها حال قربها الوشيك من طاولته التي يشارك أحدًا ما فيها:
-إحم، السلام عليكم طبيب سند.
رفع سند رأسه والتفت لها فوجدها تقدم قدمًا وتؤخر أخرى، قطّب جبينه فيما يتعاون معها ببسمة عملية:
-وعليكم السلام تفضلي.
توقف سياف عن التركيز مع هاتفه فيما أراحته أنامله من انهماكها، فرفع رأسه مع تجاوب سند المرحب مع الفتاتان اللتان جاءتاه حتى بات وجهًا لوجه مع يافا
-لقد نسيت موعد شقيقتي وأنا في حالة اضطرارية لإجراء فحوصها اليوم فهلّا أمكنك أن تعطي لنا دورًا وتمشيه بسرعة؟
تحقق سياف من عينيه، حرّك الهاتف جانبًا كي يتأكد. تنفس بهدوء وطالع وجهها بتمشيط كامل ولم يجد في نفسه شكًّا، هذه يافا التي عرفها. تحركت حنجرته بتأثر تحكم فيه بسلاسة حين طارت مشاعره وباتت وجبة مسلية. فقد وجد شيئًا يعجبه دون أن يبحث عنه وهنا اكتملت متعته وهو يترك نفسه كاملًا للحديث الدائر. نقر سند على جسر أنفه وصحح وضعية نظاراته بعدما عرّفته يافا بنفسها، هو قبل دخولها كان خارجًا لقسم الأورام فله هناك جلسة مطوّلة، رمق سيّاف الذي اتكأ بمرفقيه على الطاولة في متابعة لحديثهما وطلب منه:
-سيّاف هذه من طرف منذر هلّا أمكنك مساعدتها فمواعيدي باتت على وشك!
تمطى فم سيّاف في كسل فيما يتناول دثار الإنسانية والمساعدة ويضرب على صدره:
-حسنًا قل لي أين هي مواعيدها.
استقام سند وفعل سياف مثله فرمقتهمها يافا بنجدة وتركت ثقل جسدها على قدمها المتحركة بتردد، أخبرها سند قبل أن يغادر:
-هذا سياف سيساعدك ويقضي أمر موعدك، بالشفاء لكما.
هزّت رأسها عدة مرات واستسلمت لسياف الذي قادها بعملية مطلقة نحو موعدها، لاحظ أنها لا تتبعه بل تمشي معه. توقف فجأة في منتصف الممر وسألها بجدية:
-ما هي العلاقة التي تربطك بـ الطبيب منذر؟
ارتدت للخلف مع مفاجأتها من حركته وتحريك عقلها بكون وجهه مألوفًا، نظمت حديثها سريعًا شارحة له:
-شقيقي يعمل في مصرفهم مديرًا للودائع.
مؤكد هذا أحد الشبان الألف والمئة الذين تقع في حبهم كل يوم، أخبرت نفسها بذلك مع حركة حاجبه البطيئة وملاحظته السريعة:
-أجل عرفته، نديم علّام أليس كذلك؟
هزَّت رأسها موافقة فاستدار بذات الطريقة المريبة وتبعته إلى قسم غيم.
تولى الإجراءات وتمّت تمشية دورها بوساطة كما طلبت، أشرف على كل لحظة لغيم ولم يتركها حتى تأكد من نتائج الفحص الدوري للقوقعة التي ترتديها غيم بفضل السيد علاء الذي تكفّل بحالتها علاجيًا. خرج برفقتهن من مكتب الطبيب المشرف وأخبر يافا بصرامة مرعبة:
-اسمي سيّاف، لا تنسيه وتذكري ذلك جدًا.
****
سحبت فِضّة فك أسنانها من فمها ووضعته في حافظة خاصة بالمحلول فيما تنادي:
-البصل سيّاف، رائحته وصلت حتى الغرفة.
وصلها صوته الذي توقف عن الغناء وأخبرها:
-لونه ما زال ذهبيًا، لا تقلقي أم سياف ستخرج من تحت ذراعي أشهى قلاية طماطم.
ضحكت فيما يصدر الزيت صوتًا منفجرًا مع سكب محتوى الطماطم عليه، رفعت كفها بتعب ولسانها يلهج بالدعاء له وفكّت ربطات ضفيرتيها. انتظرت دقائق فعاد إليها محملًا بصينية ضخمة وقدمها لها
-الآن ستخبريني أيهما أزكى طعامًا! أطباقي أم أطباق ابنة شقيقتك.
بسلاسة رفعها عن السرير وحرك ساقها السليمة ومدَّ الأخرى المبتورة وخفّض سريرها الطبي بمحاذاة الطاولة الخاصة به، ضحكت فيما يناولها أرغفة الخبز وقالت:
-كلا الأطباق لذيذة سياف.
ضمَّ قطعة خبز وغمسّها باللبنة ورفعها لفمها:
-لن أقبل، كوني ذات موقف واحد وأخبريني الحقيقة.
لاكت اللقمة في فمها:
-أقسم لك أن مذاق طهوكما واحد.
صرخ بمزاج نزق:
-اتقي الله أمي، نَفسي في الطهو لا يشبه نَفس ابنة شقيقتك التي تركت ضفائرك بلا تمشيط ولا تعديل.
رفعت كفها وبررت له:
-لا، لم تهمل شعري لكنني أنا من طلبت منها أن تمشطه اليوم.
نفخ شفتيه مشمئزًا:
-دافعي عن أساس البلاء والخراب فضّة، ابقي هكذا مدافعة.
ضحكت وأشارت له بكفها كي يقترب وجعلته يقبلها، ولدها وحيدها الذي لم يترك المنزل منذ حادثة ريبال، يسمح لخلود التي يستخدمها بشكل مأجور أن تمر لبضعة ساعات ويبقى طوال اليوم لأمه. شعرت بغضبه وسخطه وسمحت له أن يداوي نفسه بالقرب منها، فعمله مرهق ويقضي فيه أيامًا بعيدًا عنها. استسلمت له فيما يبلل شعرها ويقوم بتمشيطه وتركه في ضفيرتين صبغهما الشيب، أنهى آخر لمساته:
-قولي لخلود هكذا الناس تضفر.
ضحكت ورفعت كفها لضم الضفائر فأبدى انزعاجه:
-لم لا تحنّين شعرك أمي؟ دعيني أمر على نجيب الآغا في العطارة وأجلب لك بعضًا منها.
تأوهت بحسرة:
-هل بقي عطارة بني، لقد احترقت وانحرق خيرها كله، عظّم الله أجر نجيب في مصابه.
قطّب متذكرًا وتمتم من فوره:
-الناس تعاونت على جمع المبالغ لأجل خسارته لكنه رفض.
هزَّت فِضة رأسها:
-لن يقبل بني، لن تسمح له عزَّة نفسه بقبول الصدقات.
تكثف شيء حارق في عينيه فيما يسحب نفسه من وراء ظهرها:
-لم تجبره الحياة على قبول المال والتسول أمي، لذا لن يقبل الآن.
تركها في نتوء مرير استقر بحلقها، فسيّاف تسوَّل ومدَّ يده واستقبل ولا زالت تلك الذكريات تصاحب أنفاسه، زفرت بتعب وطلبت منه الاقتراب منها ومساعدتها حتى تنام وفعل. دثّرها جيدًا وبقي حتى لحظات سقوطها في غيبوبة النوم ثم تحرك من مكانه وهاتف سند الذي يتفاوض مع ابنة خاله على موافقتها الزواج من ريبال:
-أنا في حديقة المنزل، أمي نائمة ولا أحد عندها تعال واقضِ الليلة عندي. |