"أي عقل أجبرني على الانصياع لكِ؟!"
في نزق نطق بسؤاله الاستنكاري أثناء صعوده الدرجات خلفها، فاستدارت لتقول في حزم:
_توقف عن التبرم يا رجل واصعد بسرعة كي نعود إلى أمي قبل أن تستيقظ رواء وتبدأ في التنكيل بالجميع بفعل هذا الإزعاج الذي لم ترثه مني أنا بالطبع!
أوشك على الرد مُعترضًا على ملحوظتها الأخيرة لولا أنهما كانا قد وصلا إلى وجهتهما، فأطبق شفتيه مُضطرًا ووقف بينما طرقت الباب في هدوء ثم انتظرت..
باب كان ذات مرة لها حفرة بقلب جحيم لن تتوانى عن ابتلاعها، باب ظنت أنه لا يخفي خلفه إلا غريمة سارقة لتدرك بعد ذلك أنه يواري امرأة وحيدة هاربة!
رفعت إحدى كفيها لتتلمس ستارًا أثار ذعرها من قبل، فانفتح الباب وامتدت كف أخرى تزيح الستار..
ابتسمت في إشراق وهي تتطلع _كما اعتادت_ في عينين زرقاوين وكأنهما قطعتين من حجر كريم، ثم بادرت صاحبتها في حبور:
_كيف حالكِ يا حسناء؟
...
على أريكة بسيطة بالصالة الوحيدة في الشقة صغيرة المساحة جلست إيلاف إلى جوار زوجها، وقبالتهما وضعت المُضيفة صينية تحمل كوبين من العصير قبل أن تتراجع لتتخذ من المقعد الوحيد الفارغ مجلسًا..
كتف ناهل ساعديه واستحث زوجته على الانتهاء من زيارة اجتماعية يضطر خلالها للصمت لأنه لا يستطيع إيجاد كلمات مناسبة للمواساة.. مواساة بدا له أن زوجته بارعة فيها كما أثبتت خلال المرات السابقة كلها!
فمنذ أشهر أصرت إيلاف فجأة على زيارة شقيقة صديقه، حينذاك رفض هو ظنًّا منه أن الشك قد دخل قلبها مُجددًا، لكنها أقسمت له أنها تريد الاطمئنان على حالها وحسب، وأن ما خبرها بشأنها باليوم الأول للعيد عَمَّا عانته مع طليقها ثم إجهاضها قبل الوضع بفترة بسيطة بقى عالقًا في ذاكرتها ولا ينفك يُثير فيها شعورًا بالذنب جنبًا إلى جنب مع آخر بالقلق عليها!
ربما لم يرحل ارتيابه سريعًا، لكن بمرور الوقت كان مُضطرًا إلى الاطمئنان وهو يلمس هذا التعاطف الصادق بقلب زوجته تجاهها..
"ألم.. يصلك أي خبر بشأن حازم؟"
وجهت حسناء سؤالها إليه في خوف يبدو أنه صار جزءً لا يتجزأ من ملامحها الجميلة، توتر ناهل وبحث عن إجابة مناسبة فتابعت في ذعر التصق بعينيها:
_أخشى أن.. أن يكون قد تعرض للأذى من..
_اطمئني! هو بخير، تواصلت معه بضع مرات عقب خروجه من السجن، و.. خبرني أنه يبحث عن فرصة للسفر.
قاطعها قبل أن تستغرق أكثر في احتمالات لن تنتهي، ولن تزيدها إلا هلعًا، لكنها عقدت حاجبيها وهي تضبط وشاح رأسها لتسأله في دهشة:
_أي سفر؟!
تبادل نظرة مرتبكة مع إيلاف قبل أن يزدرد لعابه ويتحسس كلماته جيدًا، ثم قال في رفق بأقصى قدرة لديه على الإقناع:
_تعلمين أن فرص عمله بعد السجن ليست يسيرة، لقد واجه بعض الصعوبات في الاستمرار بأي منها، لِذا أنا أفهم تمامًا رغبته بأن يبدأ في مكان آخر.
فغرت حسناء فمها وأغلقته في حيرة تحاول استيعاب ما سمعت، وما لبثت أن سألته بلا تصديق:
_هل سيتركني؟!
ازداد اضطراب ناهل مع رؤية وقع الخبر الذي أجَّلَه عليها، فسارع بالقول في ثقة تمنى ألا يُكشف زيفها:
_مُحال! لقد كاد يموت ذعرًا لأجلكِ وهو بالسجن، لكنه بالتأكيد علم أنكِ بأيد أمينة الآن، أنا بنفسي أقسمت له برعاية الحاج بيومي والخالة إكرام الدائمة إياكِ.
زجرته إيلاف بنظرة تحثه بها على الصراحة، لكنه أشاح بوجهه بعيدًا في رفض، لتقول هي بِجدية:
_إنه يخشى طليقكِ يا حسناء.
تطلعت إليها حسناء في تساؤل فتابعت بنبرة أكثر رفقًا وإشفاقًا:
_يعتقد أنه يرغب بالانتقام منه، لِذا لا يريد المجازفة بالمجئ إليكِ فتتعرضين للأذى على يد طليقكِ بسببه.
والحسرة التي لمحها تهبط على وجهها قبل أن تنبثق العبرات من عينيها كانت آخر ما رآه ناهل، فقد رفعت كفيها حتى لا يُفضح ضعفها أكثر فما كان من إيلاف إلا أن هَبَّت لتجلس على المقعد نفسه رغم ضيق المساحة، واستقام هو في حرج ليخرج من الشقة مُقررًا الانتظار في الخارج.
...
لدقائق أخذت حسناء تبكي وهي لا تصدق بعد أن شقيقها قد رحل دون أن يخبرها، وربما رحل غاضبًا منها لأنها تسببت في ضياع حياته بشكل غير مباشر..
بالتأكيد ناقم عليها، وبالتأكيد يندم على اندفاعه لأجلها والذي أودى به إلى مصير مُظلم بعد أن كان شابًّا ذكيًا لطيفًا لديه خطط طموحة لِمستقبل واعد!
في حنو ضمتها إيلاف لتستقبل كل أنين وحدتها على صدرها بترحاب، دقائق طويلة مرت حتى أفرغت ما في جعبتها من بكاء لتعود إلى حزن صامت، فزع مُستمر، وتشاؤم لا تدري أهو من فعل الشيطان أم هو تحذير لها بالقادم!
تراجعت إلى الخلف على مضض وجففت وجهها لتطرق به أرضًا في خزي من انهيار فضحها أمام هذه المرأة التي تثبت لها يومًا بعد يوم أن هناك أُناس بهذا العالم لا يحملون سوى الحب والعطف في قلوبهم.
ورنين رسالة وَرَدَت إلى هاتف إيلاف تدخل ليقطع الصمت فقامت بتشغيل التسجيل الصوتي لتسمع مُناغاة طفلتها، ابتسمت تلقائيًا في شوق وقالت:
_يبدو أن طفلتي قد استيقظت بالفعل.
ونظرة متلهفة التقطتها بعيني حسناء والتي لم سألتها بعد تردد:
_هل.. هل أستطيع رؤية صورتها؟
في تعاطف رمقتها إيلاف فطل الخجل من نظراتها لتتابع آسفة:
_أعتذر.. أنا لا أعرف لماذا أ.. أعتذر..
_ها هي!
قاطعتها إيلاف وهي تضع هاتفها بين يديها حيث صورة صغيرتها التي تخطف قلب أيًّا من يتطلع إليها، ابتسمت حسناء في حنو فأردفت إيلاف مازحة:
_كما ترين أنها جميلة كأمها وشديدة العصبية كوالدها، بالمرة القادمة سأجلبها معي، جهزي أقوى مُسكن للصداع!
لكن حسناء رحلت بأفكارها إلى عالم آخر، غير أن كفها _لا إراديًّا_ حطت على بطنها الضامرة والتي يومًا ما انتفخت بجنين كان بمثابة الدافع الوحيد لتحمل عنف والده..!
ازدردت لعابها ورفعت كفها عن برودة تكتنف جسدها كلما استعادت لحظات كانت قاب قوسين أو أدنى من الموت فسبقها الرضيع قبل أن يذوق قطرة واحدة من لبنها!
_اللهم بارك! إنها حقًّا جميلة، حفظها الله لكما!
رددت في صدق وأعادت الهاتف إلى صاحبته، تلك التي قررت التحدث في الأمر الذي يؤرقها منذ فترة، فسألتها في اهتمام:
_هل تعجبكِ الشقة هنا؟
أومأت حسناء برأسها إيجابًا في امتنان لمن تساعدوا على إنقاذها، إلا أنها أضافت في رغبة _لم تبحث خلفها_ بالفضفضة:
_لكنني أريد الرحيل.
تطلعت إيلاف إليها تشجعها في صمت على المزيد من البوح، فأطاعتها:
_خائفة.
بدا أنها ستكتفي بهذا القدر، لولا أن حانت منها نظرة إلى الباب المغلق لتستكمل بنظرة مُرتعدة ونبرة مُرتجفة:
_الليل مخيف بشدة، الليل لا يمضي، أشعر أنه سيصل إليّ في أي وقت، ولو ظهر ثانية بحياتي سيُحيلها إلى جحيم!
وسكتت ثم تابعت وهي تكتف ساعديها طلبًا صامتًا للحماية:
_أشعر أنه سيؤذيني مُجددًا بعدما قتل طفلي وحرمني من شقيقي، أتصور ما قد ينتظرني من مكروه خلف هذا الباب.
شاركتها إيلاف خوفًا قد زارها من قبل بعدما استمعت للتفاصيل من العم بيومي منذ مدة، لتتابع حسناء في ابتسامة لم تستطع إيلاف إلا الاعتراف أنها _رغم وجعها_ خلابة:
_لكن الصباح يأتي ومعه تصل الخالة إكرام، لها طباع والدتي نفسها _رحمها الله_، صارمة لكنها تحمل بقلبها حنانًا لا حدود له، شديدة العناية بي إلى حد يُشعرني بدلال لم أتنعم به من قبل.
أومأت إيلاف برأسها في موافقة، فتابعت حسناء بارتباك:
_لكن.. هذا الوضع لا يورثني راحة!
_لماذا؟!
في دهشة سألتها إيلاف فأجابتها بشجاعة:
_أريد أن أعمل، أريد وظيفة، أنا وحازم نملك بناية صغيرة جميع شققها مؤجرة، لكنه هو من كان يجمع الإيجار، ومنذ.. منذ سُجِن لم أستطع الذهاب لطلبه، كما أنني الآن لا أجرؤ على الخروج!
في حماس عاجلتها إيلاف ما إن سكتت:
_خبريني بالعنوان وسأطلب من ناهل أو شقيقي أن يجمعه!
ربتت حسناء على كفها في شُكر ثم أومأت موافقة، لكنها عادت لتتابع وقد وجدت الفرصة للثرثرة:
_الأمر أكبر من ذلك يا إيلاف، لست أشعر بأي رضا وأنا أتلقى الإحسان من الجميع، أنا.. سالمة، مُتعلمة، أستطيع شغل أية وظيفة بسيطة لا تستدعي خروجي من الشقة.
رنت إيلاف إليها ببصرها في تفكير فأضافت راجية:
_أتستطيعين مساعدتي؟ أتستطيعين إقناع الخالة إكرام؟
حافظت إيلاف على صمتها الحائر ، فساد الرجاء مع اليأس تتمة عباراتها:
_ربما.. ينشغل عقلي قليلًا عن انتقامه الآتي لا محالة!
... |