جميل أن تتعلم من دروس الحياة ألا تحتفظ إلا بالذكريات الجميلة
أن تتعلم العفوية والسذاجة إن شئت مع الوجوه الجديدة
لكن احذر!!
احذر أن تكون عُرضة للخداع الذي يوقعك في هاوية الطريق ، حينها سيتحول الجمال إلى قبح و العفوية إلى كتمان يخفي وراءه بركان خامد ينتظر ثوران حممة فتحرق الأخضر واليابس.
تجلس على طاولة لفردين بمفردها في آخر المقهى بجانب الحائط الزجاجي ، تتأمل الطقس الغائم بالخارج وقطرات المطر الرقيقة تحتضن الزجاج والأرض.
الناس بثيابهم الشتوية يحملون مظلاتهم ، منهم من يركض قبل اشتداد المطر ، وآخرون يتهادون في سيرهم مستمتعين بهذا الطقس الجميل.
تنهدت بعمق تنظر إلى كوب قهوتها تحتضنه بين كفيها تستمد من حرارته ما ينزع برد الشتاء الذي يفلحها.
الشتاء بالنسبة لها حكاية من الأساطير ، قصة انتعاش يرويها البرد ويترجمها المطر ، وتأنس بها الأرض والبشر!!
لكن هذا الشتاء كئيب ، أسود من ظلمة بئر عميق ، كسر دفئه وحلاوته ما يحدث في الآونة الأخيرة.
لم تفطن لمن يتأمل حركاتها منذ أن دلفت بمعطفها الأخضر يهبط باتساع أسفله حذاء ذو رقبة عالية ، وقبعة صوفية تحمي رأسها وأذنها من البرد..
صمتها ، تأملاتها للخارج ، طريقة نظرها لكوب قهوتها كأنها نظرات عشاق ممزوجة بالحياء في لقائهما الأول ، ارتباكها وتوتر نظراتها كأنها خائفة ويظن أنه يعلم السبب.
رفع كوبه واقترب منها بابتسامة عذبة قائلًا بلباقة :
- هل يمكنني مشاركتك باحتساء القهوة؟"
رفعت أنظارها إليه بحاجبين معقودين بتعجب سيطرت عليه سريعًا وأشارت للمقعد المقابل بترحاب :
- بالطبع تفضل"
ما إن جلس حتى أشهر كفه أمامها بتعريف عن نفسه :
- دعينا نتعرف.. أنا قيس النجار ، طبيب"
شعرت بسلاسته وروحه المرحة فابتسمت قليلًا تبادله التحية واضعة كفها الصغير في منتصف راحته قائلة بخفوت خجل:
- وأنا ساندرا.. ساندرا القاضي ، لا أعمل"
رفع كوبه يرتشف القليل متلذذًا بحلاوته ، ثم رفع حاجبه بلمحة إعجاب :
- أعشق هذا المكان ، قهوته لا مثيل لها"
ضحكتها الخافتة لم تصل لعينيها أظهرت قلقها منه ، وأخفضت نظراتها إلى كوبها ورفعته تتذوق حلاوتها بعد ثنائه عليها ، فأومأت بموافقة على رأيه دون حديث.
مال يستند بمرفقيه على الطاولة مشبكًا أنامله ، ضاقت عيناه خلف عويناته الشفافة وقال فجأة :
- أرى القلق في عينك ، جسدك يصدر الكثير من الطاقة السلبية التي ملأت ذرات الهواء من حولك ، وأظن أعلم السبب!!"
رفعت حاجبها الأيسر بتعجب مشوب بالسخرية تضع كوبها مكتفة ذراعيها على سطح الطاولة تبتسم ابتسامة جانبية تتشح بالبرود تخبره :
وما هو السبب من وجهة نظرك أيها الطبيب؟""
اقترب بجسده منها يكتف ذراعيه مثلها يبتسم بثقة لاحت في نظراته السوداء من خلف عويناته هامسًا :
" السبب الذي بث الرعب في المدينة هذه الأيام..
السبب الذي سرق النوم من أعين الجميع ليصبحوا كالذئاب ينامون بعين مغلقة والأخرى مفتوحة.."
صمت قليلًا يناظرها بنظرات ثعلبية ، يرفع حاجبه بتحدي أن تعارض حديثه ، رصد انتفاضة جسدها في جلستها بالرغم أنها لم تتحرك قيد أنملة لكن عينه التقطتها!!
لم تجبه لكن نظراتها إليه المليئة بالتوتر ، الخوف ، التعجب من قرائتها أخبرته أنه حاز على تفكيرها وانتباهها بالكامل ليكمل حديثه :
"تلك الحوادث المنتشرة في المدينة صحيح؟!"
ابتلعت ريقها بصعوبة تتململ في جلستها قبل أن ترفع نظراتها إليه وقالت بنبرة بدت قوتها مصطنعة :
"وهل تظن أنه سبب يُدعى للخوف والقلق أم إننا نبالغ في ردة فعلنا؟"
ابتسم بمرح ورفع سبابته يعدل من وضع نظراتها أعلى أنفه ورفع كوب قهوته يرتشف منه آخر قطراته التي تحتوي على عصارة حبيباتها وأجابها بدبلوماسية :
"بل إن لم تخافي فستكونين حتمًا مريضة!!
الجميع يعلم من بشاعة الحوادث التي تحدث أن مرتكبها فاق الخطورة بعدة مراحل"
ابتسم ينظر لها بطمأنينة ثم أكمل :
"لكن إن تركنا الخوف يتملك منا فسنكون كالأحياء الأموات..
نعم هو لا مفر منه يتوجب علينا تقبله لكن لا يمكن السماح له أن يستحوذ علينا ويقودنا ساندرا ، فالخشية من حدوث أمر سيء، يوقعنا في شر ما هو أسوأ"
حركت رأسها باعتراض ترمقه بتعجب ودهشة لمغزى حديثه.. يطالبها بعدم الخوف والعيش كما لم يحدث شيئًا!!
بأي عقل هذا والغموض يلفح الجميع من ضمنهم هي؟!
كيف يضمن لها أنها ليست الضحية القادمة لذلك المجهول؟
الخوف يخرج من رحم الجهل!!
بنبرة مليئة بالإحباط قالت :
"ذلك الذي تطالبني أن أكفّ عنه ما هو إلا ألم نابع من توقع ما هو الآتي من ذلك الطريق المظلم المطعم بالغموض!!
لقد سقطت تسعة عشرة ضحية سيد قيس ، وجميع من تم قتلهن نساء!!
أليس هذا مثير للشك؟!"
قهقهة ساخرة صدرت منها وهي تلتفت برأسها تطالع السماء التي تكاثرت بها السحب وتساقطت زخات المطر ، تشعر أن عباراتها وتفكيرها تضيع بين تلك القطرات ، فيتوحد الحال في انسجام مطلق بين قسوة البرد الذي بدأ ينتشر في الأفق وبين ظلام المجهول.. وقالت :
"سفاح النساء كما يقولون!!"
أعادت عينها للصامت المتأمل لحركاتها ، نظراتها ، يرصد كل خلجة من خلجاتها فتعطيه نظرة أشمل عن تلك الجالسة والذي فرض نفسه على قوقعتها ، فقالت بسخرية واضحة للعلن تشهر كفها أمامه :
"هل يمكنك أن تضمن لي أنني لن أكون ضحيته القادمة؟
حينها أعدك أنني لن ألقي للموضوع بالًا وسأمضي في حياتي سعيدة ، مرحة"
انتفضت بقوة واضحة للعيان عندما أمسك بكفها بين راحته يضغط عليه برفق ومال بجسده للأمام أكثر يقرب رأسه منها ، نظر لها مجبرًا حدقتيها للخضوع تحت سطوة نظراته ، وبنبرة خشنة واثقة يلحفها نوع من الغموض لم تفهمه قال :
"لا يخاف إلا الجبان ، الخاطئ الهارب من خطيئته..
إن كنتِ ساندرا واثقة تمام الثقة أنك لم تفعلي ما يقودك للخوف والهرب فلا داعٍ لكل تلك الدراما التي تعيشين بها"
شعرت أن نبرته تحولت فازداد توجسها منه خاصةً عندما قال :
"في حياة كل إنسان منا أمور لا يتحدث عنها ولكنها تؤثّر في نمط معيشته ، في مواقفه ، وفي آرائه..
منها ما هو صحيح ومنها ما يظل طوال حياته يندم عليه"
جذبت يدها من دفء راحته تضعها في أحضانها تفركها بتوتر لاح في حركة حدقتيها المتذبذبة بين حدقتيه وابتلعت ريقها بصعوبة وهي ترفع يدها تجذب القبعة أكثر على أذنها قائلة بخفوت وصوت يكاد يسمع :
"ماذا تقصد أنا لا أفهمك؟"
ضحك بمرح وعاد بظهره للخلف يمسك حافة الكرسي بكف والآخر يتلاعب بكوبه الفارغ ، يغمز لها بتسلية :
"أقصد أنني أكثر من سعيد أنني التقيت بكِ ساندرا ، حقًا كنت بحاجة لمقابلة شخص جديد لا يوجد بيننا سابق معرفة كحاجتك تمامًا..
أحيانًا الجلوس مع الغرباء يعطيك الكثير من الراحة للتحدث عما يجيش بداخلك دون قلق أو تردد ، ذلك الذي لا تستطيع التحدث به مع الأقربين"
صمتت تناظره بسكون غريب ونظرات موافقة على حديثه ، بالفعل كمن كانت بانتظار تلك المحادثة وهذا اللقاء ، كانت تريد الافصاح عن خوفها ، وقلقها بعيدًا عمن تعرفهم!!
انتبهت لبقية حديثه يقول :
"ولا تقلقي أيتها الجميلة ، أظن أنه لن يقترب منكِ فرقتك تلك وجمالك لا يمكن أن يكون صدر منه أي خطأ تعاقبين عليه ، كما أنه عما قريب ستتخلص المدينة من هذا القاتل للأبد"
رفعت عيناها له عندما وقف يجذب هاتفه ومفاتيح سيارته يهم بالانصراف بعد أن رفع إصبعيه على جبهته مشيرًا لها بـ "إلى اللقاء" بابتسامة صغيرة.
عقدت حاجبيها بدهشة من حديثه ترجمها سؤالها الذي هتفت به من مجلسها أوقفته به :
"كيف لك أن تكون بهذه الثقة؟"
التفتت لها برأسه يميل بها قليلًا على كتفه ، فغمز لها بتلاعب ماكر وقال مكملًا التعريف عن نفسه قبل أن يتركها في دهشتها التي غمرتها بأكملها بعد جملته :
"لأنني الطبيب المشارك في التحقيق في هذه الحوادث وعما قريب سآتي به إلى العدالة حلوتي"
★★★★★★★
تنهمر الأمطار بغزارة
ارتبكت الشوارع
أُقفلت المتاجر
عم الصمت وبقى فقط صوت الماء
الكل يسرع باحثًا عمّا يحميه من المطر ، وها هم الأطفال هاربين لبيوتهم احتماءً من مائه ، فأغلقت الأمهات الأبواب وأحكمن إغلاق النوافذ.
وقف خلف نافذته يضع كفيه في جيبي بنطاله الأسود ، عارِ الجذع كأنه يتحدى برد الشتاء القارص أن يقترب منه ، يرفع رأسه للسماء البارقة تكسر ظلامها الدامس ..
يشعر بها ساخطة على ما يفعله فيقابلها ببسمة ساخرة لا يهمه رأيها ، يغريه سخطها بشدة ليكمل في طريقه!!
ضوء نيران المدفأة الحجرية من خلفه ينعكس على ظهره يخفي وجهه فأحاطته هالة من الغموض الشديدة.
التفتت يرفع علبة سجائره السوداء يأخذ إحداها ويقترب يجلس القرفصاء أمام الحطب المشتعل ، يمد يده بالسيجارة يشعلها من لهبه ، يضعها بين شفتيه يتنفس دخانها يملأ به رئتيه ثم نفثه أمامه ليختلط مع الدخان المتصاعد من المدفأة.
نهض يقترب من الحائط المعلق عليه لوحة خشبية مربعة تأخذ مساحة لا بأس بها يلتصق بها عشرون صورة لفتيات لكل منهم بصمتها في حياته ، متناثرات بطريقة عشوائية وبطريقة مائلة على فراغ اللوحة ، تسعة عشرة منها عليها علامة
"x"
يذكر نفسه أن عمله انتهى معهن ولم يتبقَ سوى تلك الفتاة التي تتوسط الصور ببسمتها المشرقة البريئة التي وقف يتأملها بأعين ضيقة ونظرات مريبة غامضة ، ثغره يرسم بسمة في ظاهرها ساخرة لكنها تخفي الكثير لا يعلمه غيره!
رفع سيجارته يملأ رئتيه بالنيكوتين ثم نفثه عليها مكونًا سحابة أمامه كانت كالحاجز بينها وبينه يهمس لنفسه بإقرار :
"اقترب اللقاء عزيزتي ، لا تعلمين كم أنا مشتاق لرؤيتك التي جعلتني قطعت كل هذا من أجلك.. فقط من أجلك" |