الفصل الثامن عشر
تفحصت فيرنا لمرة لا تعرف عددها مجمل الوثائق و الدلائل التي ارسلها لها سانتو في هاتفها، انه حقا بصدد الطلاق و هذا قبل أن يجمع القدر بينهما، اذن فلم يكذب عليها؟ و هي ليست السبب في هز هناء أسرته؟! لكن الحاجز بينهما نفسه و لا يتزعز ولا شيء سيغير رئيها.. هي لا تنوي الرد أبدا، هذا الرجل الذي هز مشاعرها لن تقبل به في حياتها مهما فعل، انه محرّم عليها و ستمنحه فرصة التراجع، برئيها الأسرة مهمة للغاية، الم تكن تعسة لأنها لم تحصل أبدا على يوم واحد بين والديها؟ انها ترى نفسها في ابنته، تلك الطفلة تتألم بالتأكيد بسبب فراق والديها و لا تنوي أن تشارك في حزنها، لسيما ان تراها تأخد مكان المرأة التي يفترض أن تبقى للأبد بجانب زوجها.
عادت تقرأ مجددا رسائله، أصبحت كلماته الأخيرة ناشفة، انه عصبي لأنها تستمر في تجاهله، و ماذا بيدها فعله؟ لقد كانت واضحة للغاية معه في تلك الجزر الشاعرية، أخبرته بأنها لن تدخل علاقة مع رجل متزوج، و لتكون صريحة مع نفسها... لا تريد دخول علاقة بتاتا...
أهذافها واضحة، و تنوي الطيران في نهاية الشهر الى كينيا كما هو متوقع و ستنسى سانتو، جورجينا و كل ما يؤلم صدرها، و كأن هذه الأخيرة تعرف بأنها تفكر فيها رأت رقمها على شاشة هاتفها، ان تعمدت عدم الرد فهي تعرف عنادها، ستجدها في البيت قبل أن تغرب شمس اليوم:
" ما الأمر ؟؟"
" لما لم تسحبي شهريتك؟؟" سألتها والدتها بصوت حازم.
" تبدين متفاجئة..." قالت فيرنا وهي تعصر على ركبتها المتألمة بأصابعها:" كنت واضحة معك في آخر مرة، لا أنوي أخد فلس منك بعد اليوم..."
" لماذا؟؟" سألتها والدتها، بدأ صوتها يفقد من حزمه:" لأنني قلقة عليك و أرفض سفرك الى بلاد غريبة؟؟"
صمتت فيرنا، فكرت في الدير مجددا، في الأم ماريا، كي تمنع نفسها من أي تحرش في كينيا أو حتى من محاولات جورجينا لإدخالها بالقوة الى عالم ترفضه بالمرة... أمامها فرصة لحماية نفسها من كل المطامع:
" قررت تكريس حياتي للرهبنة! "
جورجينا اختنقت في صوتها لدرجة أنها لم تستطع نطق 'ماذا'؟ بالطريقة الصحيحة، تحب ارشادات الأم ماريا و صوتها الحنون، و تعرف بأنها خلقت كي تساعد الناس و لما التعمق في خدمة الله أيضا؟؟ لم تتخد حقا قرارها الا انها تعرف بأنه الأصح لانقاذها من مطامع أمها، أو حتى من اصرار سانتو الذي يبدو بأنه يحمل لها أكثر من حب عابر، انه نوع من الهوس و تعرف بأنه لن يتأخر بالقضاء على مقاوماتها، لأنها... في أعماقها، تشاركه هذا الشغف... تحلم ليلا برجل متزوج و هذا يشعرها بالعار... قلبها يتمزق و لا وقت لها لمواجع الحب المستحيل.
" هل تريدين قتلي؟؟" سألت جورجينا بصوت محطم عندما استعادة سيطرتها على مشاعرها:" هل تنوين القضاء علي؟؟ لما تفعلين بي هذا لماذا؟؟"
أغمضت عينيها تشعر بالذنب بينما تلمح غصة في صوت أمها، لكنها تقوم بالصواب بإبعادها.
" أجهل لما قراري يفقدك صوابك؟؟"
" كل قراراتك تفقدني صوابي لأنها كلها خاطئة..." صرخت بها أمها من الجهة الثانية لدرجة أنها شعرت حقا بحريق كلماتها على وجهها:" سفرك اللعين الى كينيا و الأن... و الأن تقررين بين لحظة و أخرى أن تغلقين نفسك في الدير؟؟"
" أريد الذهاب الى كينيا كراهبة ... بهذا... لن يمكنك القلق علي..."
" تستخذمين الرهبنة لحماية نفسك..." أجزمت جورجينا غير مصدقة:" فلانتينا... شيء ما حذث لعقلك... أنت لا تعرفين معنى التفاهات التي تلقين بها... لكن بحق السماء الا تنظرين لوجهك في المرآة؟؟ أنت خلقتي كي تكوني نجمة... أنت رائعة الجمال يا ابنتي لما تريدين بكل قوة دفن هذا و تجاهله؟؟"
منذ صغرها و هي تغني في جوقة الكنيسة الصغيرة للقرية، انها دوما بصدد مساعدة الراهبات و حتى الكهنة في كل المناسبات و ربما هذا ما دفعها للوقوع في حب الأعمال الخيرية، لكن ان تنضم اخيرا الى الدير الذي طالما انتمت اليه لا يشكل لها أي عائق، كما أن الأم ماريا تراها مناسبة لخدمة الله و من قدرتها على حياة البتولية، وعموما... لا ترى نفسها قادرة يوما على الزواج أو حتى الحصول على أطفال.
" فلانتينا... حبيبتي..." اعادها صوت جورجينا، مكسرا:" أعرف بأنني أخطأت بحقك كثيرا لكنني هنا اليوم لأكفر عن أخطائي... ان كنت بصدد فعل هذا لمعاقبتي فأخبرك بأنني دفعت الثمن منذ أن فقدت والدك... كنت أحبه بشدة و رغبت بالاستمرار معه الا ان زوجي آنذاك رفض الطلاق هل تفهمين؟؟ كنت مستعدة لأدير ظهري لأبنائي بلا استشناء فقط لأكون معك و مع والدك"
" أنت تكذبين..." شهقت بينما ترفض استعاب هذه الأعذار المخزية، كيف لها أن تدير ظهرها لخمسة أبناء؟؟ 'ميرابيلا' ثم 'كوزيما' 'و سيزيا' توأمتين.. 'سيزار'و أخيرا 'دوناتيلا ' مدللة الكوستانسو، ثم قررت جورجينا خيانة زوجها المريض مع شاب في مقتبل العمر كي تحمل بها هي، دومينيكو كوستانسو لم يكن غبيا و عرف بأنه من المستحيل ان يكون حملها منه، بعد سنتين من الحب السريري بين والديها اتت هي الى الحياة..." أبي جسد لك الاغراء التام، وجه وجسم جميل أثار رغبتك لوقت قصير فحسب... توقفي عن اختلاق الاعذار جورجينا لأنني لا أصدق بأن امرأة مثلك يمكنها أن تدير ظهرها للنعيم الذي يضمنه زواجها من الكوستانسو "
" فلانتينا أرجوك اسمعيني... سوف تدمرين حياتك"
لكنها أغلقت الخط، لم يعد بإمكانها تحمل صوتها، ان كانت رغبتها في الالتحاق بالدير عابرة فهي اليوم واقعية أكثر، انها الطريقة الوحيدة التي ستنقذها من والدتها، و ايضا... من مشاعرها المحرمة لرجل متزوج.
* * *
البحث عن الهوية، البحث عن الحقيقة، البحث عما فعلته حقا الحياة بالشخصين الذين يجري دمهما في شرايينا، من هي المرأة التي ورتثت كل قسمات وجهها؟ خائنة مراوغة و متلاعبة أم ضحية أناس أصحاب نفوذ؟ و الرجل الذي ورتث عيناه الذهبيتين؟ هل هو مغتصب سافل بلا ضمير أم أنه ضحية مثل والدتها؟ كل هذه الأسئلة تدور بلا توقف في رأسها و ستجن ان لم تجد لها جوابا.
الجار منحها عنوان الهاربين، في الواقع هربوا أميالا عن مالقا، هذه الأميال التي تبلعها سيارتها بلا أدنى جهد، مسحت الدموع من عينيها، انها قوية نعم، لكن التعب النفسي و الجسدي تمكنا منها في النهاية، انها ترغب فحسب بمعرفة الحقيقة لا قتل أحدهم، و بما أن الجميع يرفض منحها أجوبة فهي متأكدة بأن القصة أكبر مما قاله روكو و والدته، أبقيت عيناها على الطريق بينما بحثت في العلبة الأمامية عن الصورة ووجدتها بسرعة، و ضعتها أمامها لترى اليونور بنظرات تعسة و ابتسامة حزينة تحمل طفلة بين ذراعيها، وهي تلك الرضيعة ... كانت عوارض النفاس عليها، لكن كيف للمرأة التي ربتها الا تنبس بكلمة لها؟؟ أو حتى ترك رسالة لعينة في حال حدوث شيء؟؟ لما رآى الجميع أن الصمت أفضل الحلول اليها؟؟ ضمت الصورة الى قلبها بشدة الى أن شعرت بأصابعها تحرقانها تحت الضغط، عادت الدموع تنهمر على خديها فتركتها تنزل لعلها تبعد هذا الضغط المريب من صدرها، البحث عن الهوية... كم هذا مؤلم الا تعرف لمن تنتمي حقا و ما حدث بالضبط لوالديها الحقيقين و ما دخل خوسيه في كل هذه الدراما.
خوسيه التي اختارت أن تكون عرّابة توأميه و أقسمت أن تحميهما كل حياتها، الرجل الذي سهر عليها بعد أن استلم وصايتها، صحيح انه لم يكن دافئا يوما، كان يعيش زواجا تعسا للغاية، تقلباته المزاجية الشديدة جعلتها دوما حذرة، لم يتقرب منها سوى مؤخرا، عندما حصل على التوأمين الذين منحاه رغبة في الإستمرار بعيش حياته بطبيعية.
استمرت دموعها في النزول الى ان جفت من تلقاء نفسها، استعادت رباطة جأشها ما ان لمحت مدخل los pueblos blancos، رغم تعاستها ميزت مناظرها الطبيعية الجميلة والمميزة. تقع القرىة البيضاء على قمة التلال مما يجعلها تبرز من بعيد، الدليل الالكتروني يدلها على اتخاذ طريق فرعية، خففت السرعة كي تترك مجموعة من السياح بالمرور، هز أحدهم يده اليها شاكرا، كان يملك ابتسامة شبيهة بإبتسامة اليساندرو، زمت شفتيها كي لا تنفجر مجددا في البكاء، كم تحتاجه بجانبها في هذه المتاهة التي قررت الدخول اليها لإكتشاف نهايتها، هذا اذا كانت لها نهاية.
" أنت من تدفعينه خارج حياتك بينما هو يصر على البقاء بإتصالاته و رسائله"
رددت لنفسها، اليساندرو لم يتخلى عنها، هي التي تخلت عنه، انه ابن يانيس ايميليانو، حتى ان قطعها الصلة بصوفي يجعل هذه الاخيرة تبحث عنها من خلال خوسيه و سيسيليا، اكتفت فحسب برسالة تخبرها فيها بأنها في فترة نقاهة شاسعة و تحتاج لأن تكون بمفردها... الوحيد الذي لا يحتاج لإذنها بالبقاء في حياتها هو روكو... يمكنه الدخول و الخروج متى شاء هي تعرف... لأن من ضمن كل أولوياته... مصلحة خوسيه تكون في المقدمة.
توقفت سيارتها في المكان الذي يشير اليه نظام تحديد المواقع، بقيت جامدة مكانها تتطلع الى البيت الأبيض بالحديقة العشوائية حيث نمت فيها كل أنواع الزهور مما جعلها متوحشة قليلا، تجهل ما ينتظرها وراء هذا الباب حيث يختبئ الراميريز منها، لكنها مضطرة لهذه المواجهة، انها بحاجة لمعرفة من تكون.
قفزت من سيارتها و احتك حذائها الجلدي ببعض الحدة مع الحصى، الحياة ليست صديقة... ليست صادقة، الحياة تمنحنا الفكرة العامة لموضوع كي تجبرنا على التقاط أبعاده، قد يعتقدها البعض محظوظة، ورتثت عينا الفونسو و ثروته الكبيرة، انها تنتمي لأرقى العائلات الاسبانية الراقية، حبيبها من الايميليانو، و تعيش في شقة رائعة تطل على سانترالبارك في منهاتن، ثم تستيقظ على حقيقة ان كل هذا بلا أهمية أمام سباقها مع رجل ميت تلاعب بماضيها، رجل مختفي منذ سنوات و يستمر بالتحكم بها كدمية خيوط... يانيس الذي لم ينجح الزمن بإزالة هيبته اللامنتهية، التقته في مناسبات قليلة، لكنه كان يحط عليها تلك النظرات التي تقول لها بأنها ضمن مجموعته الخاصة التي يضعها على الرفوف و يستمتع بها... انها بيدق من ضمن بيادقه التي يحركها كما يشاء...
دقت على باب المنزل و حبست انفاسها الى ان سمعت وقع اقدام و ظهرت فلاحة بعمر لا يمكنها تحديده، لكنها ليست عجوز، تطلعت اليها و عبست ثم شحب وجهها قبل ان تنادي على زوجها الذي شمت رائحته القوية حتى قبل أن يظهر، تفحصاها هما الاثنين بنفس الاصرار قبل أن يخرج الرجل ويغلق الباب وراها حاميا المرأة بين الجذران:
" مالذي تريدينه منا أيضا؟؟"
" يمكنني شراء المعلومات ان كان هذا يهدء من غضبك ..."
" سبق و تلقينا المال كي نختفي من تلك المزرعة... "
" ممن تلقيت المال؟؟" سألته بإصرار:" من يدفع لكم للتهرب من لقائي؟؟"
صمت الرجل، أخرجت دانيلا من حقيبة ظهرها دفتر شيكاتها و زركشت رقما قبل أن تلوح به أمام أعين الرجل النهمة:
" أعدك الا أخبر أحدا عما ستخبرني به... أعدك الا ترى وجهي مجددا ان حصلت منك عما اريد..."
مد يده الى الشيك لكنها أبعدته عنه قائلة:
" ستحصل عليه عندما تخبرني عن اليونور كورتيز... انا الطفلة التي كانت تحمل بها بينما تنغلق عليها جذران تلك لمزرعة...مالذي تعرفه عنها أيضا ؟؟"
أدخل الرجل يديه في جيب بنطلونه قائلا:
" اعرف انك ابنتها فأنتما تتشابهان كنقطتي ماء..."
هذه الملاحظة سحقت قلبها بلا رحمة:
" أريد أن أعرف ما حدث في الماضي... "
كانت تحترق على جمر الانتظار، الرجل يدرسها بتمهل، ان كان راغبا في تصديق وعودها بإلتزام الصمت، اذن فأحدهم يمنعها من الوصول الى الحقيقة؟؟ من هو؟؟ خوسيه؟؟ روكو؟؟ يانيس من قبره اللعين؟
" اسمعي... لم تكن تلك المرأة مسجونة لدينا لقد قمنا برعايتها الى أشهر حملها الأخيرة... السيد عاد ليأخدها الى ايطاليا..."
" السيد؟؟ تقصد يانيس ايميليانو؟؟"
بدى الانزعاج على قسمات الرجل، رباه... هذا الاسم يثير مشاعر كل انسان، حتى و هو ميت يستمر بالتسبب بالذعر لمن حوله.
" نعم... " بصق بصعوبة و كأن هذا يكلفه مجهوذا:" تلك المرأة لم تنجبك عندنا... بل في ايطاليا... "
لم تتمكن دانيلا منع نفسها من التعجب من تثبيت هذا الرجل معلومة جاره الذي اكد أن يانيس أخذ اليونور الى ايطاليا في أشهرها الأخيرة، ظهرت المرأة خلفه مجددا، في يدها ورقة مزركش عليها بالحبر الأحمر كلمات تبدو عصبية، التقطتها منها و تعرفت فورا على خط اليونور من خلال مذكراتها، وضعت يدها على صدرها تحبس العذاب الذي مزقه في هذه اللحظة:
" عكس ما تظنين لم نكن أعدائها... "
قرأت الكلمات مرات عدة دون ان تفهم المغزى، يبدو و كأنه عنوان، هزت عينيها الممتلئتين بالدموع نحو المرأة متسائلة:
" ما هذا؟؟"
" زركشت لي عنوانها في ايطاليا... كانت خائفة الا تعود... طلبت مني المساعدة ان اختفت اخبارها"
انهمرت الدموع على وجنتيها، لم تعد قادرة على التحكم في ساقيها، ركبتيها ترتعدان بشدة تحتها، مالذي فعلوه بها؟ مالذي اجرموه في حق والدتها المسكينة؟؟ والدتها الحبيبة؟!
" نحن لا نريد مشاكل..." قالت المرأة بصوت تتخلله الشفقة.
" لن أخبر أحداً عن هذا اللقاء أقسم لكما..." أكدت من خلال روحها المكسورة:" هل احتفظت بشيء آخر منها؟؟ "
رأت الزوجين يتبادلان النظرات، لكن الرجل سبق زوجته في القول:
" كم ستدفعين؟؟"
" هذا يكفي..." نهرته زوجته بصوت غاضب:" الم تتعب مع هذه القصة؟؟ هل يجب ان نستمر في عيش أشباحهم؟؟ " أعادت نظراتها اليها و قالت لها" و كأنها كانت تتوقع زيارتك ذات يوم... تركت لك عدة رسائل... لكن، لا أحد يعرف بها و قد يتسبب ظهورها بالكثير من المتاعب لنا... لقد أمرونا بإخلاء المكان ما ان وصل المتحري قبلك... لكنني لم أعد قادرة على تحمل هذا الثقل... اليونور كانت رقيقة معي... أنا مدينة لها لسيما و قد وافقت بإستلام أمانتها قبل أن يأخدوها قسر الى ايطاليا..."
هزت رأسها بينما عاطفتها تخنقها أكثر و أكثر، و كأن أفعى ضخمة أحاطت رقبتها و تشد عليها بكل قوة... اليونور تركت لها رسائل مع امرأة غريبة و لم تتركها مع ناديا التي هي شقيقتها؟؟ يبدو أن المرأة أحست بمعاناتها و بأزمة الرهاب التي بدأت تهددها، أمسكت بذراعها و قادتها نحو المنزل الأبيض.
بعد قليل كانت تجلس على طاولة خشبية، بين يديها فنجان حليب بالشوكولا، برئي المرأة هذا سيساعدها على تجاوز أزمتها، راقبتها تجلس أمامها، صندوق قديم بين يديها، وضعته أمامها و أخرجت ثمان رسائل محكمة الاغلاق، اذن فالمرأة لم تقرأ محتواها و وفيت بوعدها لوالدتها.
" كتبتها خلال حملها" قالت المرأة و هي تضعها أمامها، زوجها الواقف ورائها لا يبدو سعيدا بهذه الهدية التي ظن أنها ستجلب له الكثير من الأموال." ثمان رسائل... ثمانية اشهر حمل... قضت شهرها الأخير بعيدا..."
لم تتمكن من ابعاد عينيها عن الرسائل المصفرّة بفعل الزمن، تجهل ما كتبته لها اليونور في عز أزماتها، تجهل ما تحويه تلك الكلمات، فجأة لم تعد دانيلا الشجاعة التي تبحث عن ماضيها، أصبحت جبانة أمام حفنة أوراق تحمل رائحة الغموض.
" لقد أتى بها أهلها في شهر حملها الأول..." بدأت المرأة بالشرح:" كانت بعمرك و ربما أصغر بقليل... في البداية، صدقنا ادعاء والدها الذي اخبرنا بأنها تعاني مع عقلها و بأنها تعرضت للاغتصاب، لذا وافقنا على اخفائها من رجل ينوي الحاق الأذى بها، في البداية ... اليونور لم تدافع عن نفسها و عن اتهاماتهم لها بالجنون، لم نسمع منها كلمة خلال الشهر الأول و تعاملنا معها على اساس شابة متضررة نفسيا، لكنها عندما ادركت أن الكل قام فعلا بهجرانها أصبحت عنيفة، أظن لأن والدها وعدها بالعودة لكنه لم يفعل، و زيارات شقيقتها كانت متتالية لكنها لم تسمع كل توسلاتها، اكتشفت بأنها ليست مجنونة... بل شابة ينون تخليصها من حملها بكل الطرق... لم تكن ثرثارة و كانت لا تتوقف عن الكتابة و الكتابة، ثم في ليلة... تقربت مني و طلبت مني أن أرسل بضع رسائل عنها... تقول أنها لوالد طفلها... بأنه سيأتي ما ان يعرف بأنها مسجونة هنا و بأنه يجهل ان كانت حامل منه... "
" قالت ذلك؟؟" سألت دانيلا بينما الأمل يغزوها:" اذن فأبي لم يقم بإغتصابها؟؟"
هزت المرأة راسها بالنفي:" هذا ما حاولوا ايهامنا به... اليونور كانت عاشقة لوالدك... كانت متأكدة بأنه سيجدها و سينقذها و يعيش ثلاثتكم في سعادة..."
" الشيء الذي لم يحدث؟؟"
لم ترد المرأة اكتفت بالصمت و منحها نظرة أسف، عدة عناصر من مصلحتها تشويه صورة اليونور المسكينة، حتى بعد موتها تدفع ثمن علاقتها مع الفونسو... لكن شيء غير مفهوم بالمرة... اين خوسيه من كل هذا؟؟ وصيها عشقها لدرجة انه فضل الالتحاق سريعا بها بإهمال صحته، اذن فاليونور كانت تتوسل الفونسو في مذكراتها و ليس خوسيه، ثم تذكرت كلامه تلك الليلة، عندما تراجع عن صورة الملاك الذي تظنه قائلا:{ كنت حبيبا سيئا... لم أتمكن من الوفاء} ... مسدت صدغيها بألم بينما يعود كلامه اليها، رأسها سينفجر حقا، و لا تجرؤ للان على الاقتراب من رسائل والدتها، عادت تتفقد الورقة المزركشة بالأحمر، العنوان يشير الى منطقة ما في كابري بإيطاليا... اذن فهي خُلقت هناك؟؟
رأت المرأة تدفع بصندوق الرسائل نحوها :
" لا أملك ما يمكنني تقديمه لك غير أمانة والدتك... لا يمكنني مساعدتك أكثر من هذا..."
هزت برأسها متفهمة، أمسكت بصندوق الرسائل و ضمته بين يديها، تشعر بحرارة والدتها من خلاله...
" قد تجدين الاجابات المتبقية في العنوان..." همست لها المرأة مشجعة.
ابتسمت دانيلا ابتسامة تعسة:
" أتمنى ذلك..."
* * *
من الممكن تحليل السلوكيات والمواقف المختلفة المتعلقة بالسرعة، الفرضية القائلة بأن الجنس والسرعة متعادلان، وهو بالـتاكيد في أعلى نشوته بينما يترك العنان لسيارته في باحة السباق الخاصة بأرشيبالد، يعشق أن يجلس خلف المقود، أن ينسى كل ما حله ليجعل انجازه يهتز تحته، بعد خمسة عشر دورة حلبة بدأ يشعر بأن مزاجه يتحسن، لكن السرعة مثل الجنس، مثل الهروين، متعتها محدودة الفترة، سرعان ما عادت ملامح يانيس ايميليانو اليه، حازمة، قاسية، ملامحه شخصيا بعد عدة سنوات... ارتجفت أصابعه على المقود بينما يركز على الطريق المنعرجة أمامه.
{ مالذي آملته في النهاية؟؟ بأنني أقدم شهادات الميلاد للقيطين أمثالك؟؟ أنت لست سوى ابن عاهرة ... كنت أعاشر أمك فحسب و أرميها ما ان انتهي منها و ان كان يجب أن أبحث عن كل اللقطين الخاصين بي فالائحة ستكون طويلة للغاية... " راقبه يغادر مكتبه، يشمر على ساعدين قويين جدا مقارنة بسنه، يانيس رائع مقارنة بعمره، انه يهتم بجسده، يملك هالة السياسين و المجرمين في الوقت نفسه، انه شيطان بأجنحة من نار، وهذه النار أحرقته كما كلماته:" النصيحة الوحيدة التي سأعطيك أياها هي أن تختفي من أمامي و الا تظهر مجددا في ايطاليا... عش حياتك بعيدا عن ماضي والدتك الراقصة... فأنا لا أملك ما يمكنني منحك اياه، الولدين الوحيدين الذين أملكهما هما روكو و اليساندرو... أما فيما يخصك، فلست سوى ثمرة ليلة ساخنة لإمرأة أمضت لياليها بفتح ساقيها لكل من يمر في طريقها...."
خفف السرعة عندما نمت الاشارة الى أنه يبالغ في دفع المحرك لأقصاه، كان يضغط على فكه لدرجة يشعر به على وشك التحطم تحت المجهود، الدموع في عينيه اخفت عنه الطريق، هذا العذاب في صدره يأبى الاختفاء، كل الحقد و الكراهية التي ولدهما بشأنه كل هذه السنوات، يانيس فعل كل ما في وسعه ليبعده، ليكرهه، ليحتقره، لينبذ أصوله الايطالية، و في الوقت نفسه... منحه اسمه.
لكن لماذا و اين المعنى من تصرفاته القاسية معه في الماضي؟؟ ان كان يصدق المعلومات التي منحها له روكو ليلة اختطافه لبريانا فيانيس اشترى له مستقبلا بعيدا عن الايميليانو و ايطاليا، اشترى له جاك ارشيبالد، اشترى له النجاح، اشترى له مستقبل زاهر، و ان كان يصدق الاوراق فيانيس اعترف به بعد ولادته مباشرة، شهادة الميلاد تحمل اسم 'سانتو كيليان دافيس ايميليانو' و اكدت ناومي بأن اسم والده الكامل هو {Yannis Santo Davis Emiliano}... لم يكتفي بمنحه شهرته، بل اسمه كاملا... و كأنه يتقاسم معه الروح و ليس فقط الشهرة.
اذا كان يحبه حقا لما نبذه بحق الجحيم؟؟ لما تركه يكبر وحيدا بينما كان بإمكانه تبنيه و تربيته بين ابنائه كما يفعل الجميع... لما ابعده عنه و بأسوء الطرق؟
" أنا أفضل بدونك..."
هذه الكلمات كانت تشعره بالراحة من قبل، لكن هذا الفضل يعود الى يانيس، ان كان يقود هذا المحرك الشديد القوة فلأن رئيس العصابات الاجرامية الراقية رسم له هذا المستقبل، انه مدين له بكل شيء... كل شيء.
خفف السرعة بحركة جافة مما تسبب بدوران السيارة بشكل خطر للغاية، فجأة بدأ كل شيء يدور من حوله، و شعر بأن السيارة ستنقلب على سقفها، بعد عدة امتار أخرى شعر بها ترتطم بشيء صلب ثم تتوقف أخيرا، بقي مكانه بلا حراك، قلبه يخفق بسرعة، موجات مقدسة من الأدرينالين تندفع في شرايينه، كان ينظر أمامه دون القدرة على التحرك، غير مصدق بأنه مازال على قيد الحياة.
أغمض عينيه لتمتزج الدموع بالعرق، مد يده الى خودته ليبعدها ثم رأى فريقه يركض نحوه بينما يخرج من السيارة التي فقدت خلفيتها، لكن شعر بأن قلبه يتوقف عن النبض عندما اكتشف بأن فريقه يتوجه نحو الرجل الممدد على حافة الطريق، جسد طفلة بجانبه.
" أوكتافيا"
صرخ بكل قوة وهو يركض اليهما، بدأ عقله يسترجع الأحذاث، المكابح التي تسببت بدوران خطر للسيارة، ارتطامه بشي وهذ الشيء هي الصفائح الحامية التي تحطمت كليا، وصل الى ابنته التي كان نصف جسدها تحت... اليساندرو؟؟"
بكل قوته أخرجها من تحته، كانت فاقدة الوعي، ما ان وصل أعضاء فريقه حتى بدات ميغان بالشرح لاهثة، وجهها مصفر من شدة الصدمة:
" ركضت أوكتفيا نحو الساحة ما ان رأت سيارتك، اليساندرو حاول تجنيبها السقوط فسقطا معا بسبب الاصتدام...."
" أوكتافيا..." كرر سانتو و هو يصفع وجهها برقة بينما اهتم رجاله باليساندرو الذي أحذث صوتا متألما بينما يحاولون تقليبه على ظهره:
" هل هي بخير؟؟" سألت ميغان في الوقت نفسه الذي فتحت فيه اوكتافيا عينيها الزرقاوين و التقطت نفسا عميقا.
ضمها سانتو اليه بقوة، و احتل مكان الخوف و الرعب الغضب العارم، مالذي تفعله ابنته في ساحة السباق التجريبي؟؟ أين ايموجين بحق الشيطان؟؟
" اليساندرو ...." انحنى على أخاه الصغير الذي كان شاحبا مثل الأموات:" هل أنت بخير؟؟"
" لا استطيع تحريك ذراعي..."
" اللعنة..." زمجر سانتو قبل ان يبدأ بالصراخ على الجميع." اطلبوا الاسعاف حالا..."
بعد اربيعن دقيقة في المشفى الخاص، أشعة أوكتافيا أقل خطورة من أشعة اليساندرو، هذا الأخير كسر ذراعه، بينما اوكتافيا تعرضت لبضع رضوض، لم تقتل بفضل حماية هذا الأخير لها، أخبرته ميغان بأنه انطلق خلفها ما ان انتبه الى أنها تركض نحو ساحة السباق، لكن حاذتثه تزامنت مع وقوفهما في الحافة مما تسبب باختلال توازنهما، اليساندرو ضم اليه الصغيرة و عرض نفسه لصدمة الأرض... لو كانا في طريقه، لقتلهما على الفور، كل غضبه انكب على ايموجين التي اذرفت كل دموع الجسد، هناك شيء غير مفهوم... أوكتافيا تعرف بأن منطقة السباق محضورة كليا عليها.
دخل غرفتها بعد ان انتهى الطبيب من اعادة فحصها، وجهها الجميل متورم، تم تنظيف الدم من أنفها، شعر بقلبه يحرقه بشدة، دنى منها ليضمها مجددا الى صدره و يتحسسها كي يتأكد بأنا ماتزال على قيد الحياة، انه مدين لاليساندرو... كم القدر ساخر.
" أنا بخير أبي..." أكدت له بإبتسامة رقيقة.
" مالذي اتى بك الى حلبة السباق أوكتافيا؟ المكان خطر و انت تعرفين هذا جيدا.."
بدأت تتجاهل نظراته و تعض على شفتها السفلة بعصبية:
" أريد أن أكون معك كل الوقت..."
هذا التصريح جعله يدنو منها مجددا كي يعانقها و يضمها الى صدره بقوة، يحمد الله ان الحاذثة مرت على خير، ابنته بخير، اليساندرو بخير... بغض النظر عن الكسر في ذراعه... شم رائحة عطر ايموجين حتى قبل أن يراها، أوكتافيا القت بنفسها بين ذراعيها، راقبهما معا، متعلقتين ببعضهما البعض:
" لم نفقدك حببتي انت هنا" همست لها ايموجين بغصة.
" أنا بخير أمي..." سمع الصغيره تقول.
" لما ذهبت الى الحلبة؟؟ تعرفين انها ممنوعة عليك؟؟"
" أحب البقاء بجانب أبي..."
ابتسم لها عندما هزت نحوه نظرات معتذرة، مد يده ليلامس شعرها الأشقر الذي انزلق بين أصابعه، مسحت زوجته دموعها و تمتمت:
" انها المرة الأخيرة التي تتهورين فيها أوكتافيا.. أمنعك من التسبب لي و لوالدك بخوف مماثل... أعرف بأنك تحبين جدا البقاء بجانبه طوال الوقت لكنه رجل مشغول لذا أمنعك من التهور"
" الخطأ ليس خطئها..." وجهه سانتو الكلام اليها اذ لم يعد قادرا على التحكم في غضبك" لو لم تهمليها لما أتت الى الحلبة للبحث عن1ي..."
" تظن أنني تعمدت تعريضها للخطر؟؟" سألته بلهجة تتخللها الصدمة، مما دفع أوكتافيا للتدخل بينهما.
" أرجوكما لا تتشاجرا... "
النبرة اليائسة لأوكتافيا كانت بمثابة لكمة لمعدته، بلع هياجه و سعوره في ذاخله و دنى منها بينما تمد ذراعها نحوه، التقط يدها ليقبلها بحرارة ثم يبعد شعرها عن وجهها:
" نحن لا نتشاجر طفلتي... "
" بلى..." تمتمت وهي تغرس رأسها في صدره و تفرك وجهها في قميصه" لا أريدك ان ترحل مجددا ..."
قبل أن يجيب أخدت ايموجين الدور وهي تضع يدها على شعرها:
" لن يرحل أوكتافيا... "
رفض الهجران... هذا ما تعيشه ايموجين و يبدو انها وضعت بجدية نصب عينيها افشال كل محاولاته بالابتعاد، التقطت نظراتهما من فوق رأس ابنتهما، تعرف أن الاعتراف بالانفصال هو خطوة حاسمة في المضي قدمًا و الانتقال إلى شيء آخر، و لا يبدو أنها تنوي الاستسلام، يعرف بأن محاميه عاودوا الاتصال بها لاستئناف الاجراءات، وهي لا تريد مواجهة الحقيقة وتفضل إنكار أسباب الانفصال تمامًا، انها تعيش في حالة إنكار حاد سيؤدي حتمًا إلى تعقيد عملية تعافيها و يؤثر عن تعافي أوكتافيا.لن يسقط في نفس الأخطاء والفخاخ التي سبق و وقع فيها من أجل ابنته... يريد حريته ... يريد فيرنا.
" لن أرحل من حياتك أوكتافيا مهما بعدت بيننا المسافات... عليك الا تنسي أبدا بأن والدك يحبك بشدة..."
لوت شفتها السفلى، أوكتافيا ذكية، و يبدو انها انتبهت بأنه يقصدها هي فقط في هذا الكلام.
" لن تعود للعيش معنا في ميامي..؟؟"
" مهما يؤول اليه الوضع فلن يقل حبي لك... سأكون دوما بجانبك وقتما احتجتني هل فهمتي عزيزتي؟؟"
هزت رأسها بالايجاب و تشبتث به أكثر، هذا التوضيح العاجل كان بحاجته ليضع زوجته مكانها و كي تكف عن استغلال كل الظروف لقمع خططه:
" يجب أن أطمئن على اليساندرو عزيزتي، هو من قام بإنقاذك"
رآها تومئ برأسها الصغير الذي عاد يقبل خصلاته الشقراء الناعمة و يحمد الله ان اليساندرو كان في المكان و الوقت المناسب، عندما خرج من الغرفة اخد مكانه والدي زوجته و لوكا الذي كان ينتظر في الرواق اختفى كما ميغان، لم تكن أمامه سوى ناومي التي هاجمته ما ان رأته:
" تعمّدت فقدان السيطرة لأذية اليساندرو هيه؟؟!..." هذا أسخف ما قيل له في كل حياته، ان كان ينوي أخاه الصغيرة فبالتأكيد لن يؤذيه جسديا بل عمليا" روكو كان محقا في قلقه على عائلته... انت تلاحق أولائك الناس!..."
استدار نحوها و تبثها بنظرات جليدية:
" هل من الممكن أن تُخفضي صوتك؟؟"
" الى متى ترغب بإخفاض صوتي؟"
تقصد بالتأكيد سر الصورة المعلقة في مكتب أخيه، تنهذ و مسح على وجهه ببعض العصبية:
" صدقا ناومي... هذا اليوم هو الأسود في حياتي، كدت أفقد حياتي بينما أفقد السيطرة ثم اكتشف بأنني تسببت بإسقاط ابنتي التي كانت لتموت لو لم يتم انقاذها في الوقت المناسب... فهل تظنين بأنني تعمدت الاذى لها؟؟"
" ليس لها ربما له ولم تنتبه الى أوكتافيا بأنها في الجوار..."
" تفسيراتك مثيرة للشفقة!..."
تركها خلفه وهو يقصد غرفة الفحص مجددا، متمنيا ان يكون الطبيب قد انتهى من اليساندرو، الا انها التقطت ذراعه لتمنعه من الابتعاد، انها لحوحة مثل شقيقتها.
" ماذا أيضا؟؟"
" ما علاقتك بهم؟؟ لما تربط صداقة مع اليساندرو بينما شقيقه يكرهك بشدة؟؟ مالذي يفعله وجهك في تلك اللوحة.؟؟؟"
" ليس وجهي ناومي..."
" لا تظن بأنني سأتسلم...من الأفضل أن تخبرني الحقيقة لأنني لا أنوي البقاء على فضولي أو حتى غموضك"
" حسنا فليكن..." زمجر وهو يلصقها بالحائط خلفها و يقول بصوت منخفض:" انا ابن الرجل في اللوحة، و أقسم أن أخرجت كلمة من هذه الشفاه فسأعمل على الا تتكلمي مجددا لبقية عمرك"
عندما تركها تستعيد توازنها كانت قد فقدت كل جرأتها و شجاعتها، تتطلع اليه كالعائد من الموت:
" انت ابن جاك أرشيبالد..."
" بالتبني..." صحح لها بلهجة قوية، عليها أن تدرك بأنه لا يمزح:" هذه المعلومة لا يعرفها أحد سوى روكو و اليوم صرت تعرفينها ايضا... و ان قررت التحامق يوما... فليست حياتي فقط ما ستكون في خطر بل حياة أوكتافيا... هذا سري أنا و لا أنوي تقاسمه مع ممتهني ا الاشاعات و القيل و القال هل أنا واضح؟"
* * *
بريانا ملتصقة بالعرّاب على المقاعد الفاخرة للطائرة الخاصة التي تقوم بإقالتهما الى وجهتهما الأفريقية، بقي خافيير يراقبهما من مكانه بينما سانتياغو في المقعد على يساره لا يمنحهما قدر الاهتمام الذي يمنحه لهاتفه، انزلقت نظراته على الفاتنة السمراء التي تمنع رجل الأعمال من تفقد حاسوبه، انه يراه مسترخيا معها فقط، مبتسما، متخليا عن دفاعاته، بلع ابتسامته بينما يراه يستسلم لها و يهجر حاسوبه كي يأخدها بين ذراعيه و يجلسها على ركبتيه... هذين الاثنين... متعلقان حقا ببعضهما البعض... فكر بينما تقوم الجميله بهمس شيء في أذنه مما يدفع هذا الاخير للضحك.
وصلت المضيفة بالمشروبات، منحتهما طلباتهما و قادت عربتها نحو الثنائي الملتصق و الغير قابل للفصم، حول عيناه عليهما و اعادهما الى رجل روكو الأمين، أقطب بينما ينتبه للصور التي يتفقدها عبر الاسلكي، كان حساب صوفي في تويثر ، و سانتياغور يتفقد كل صورة و كل كلمة مكتوبة.
" تملك ضعف لشقيقة الرئيس سانتياغو؟؟"
هذا الأخير لم يهز عيناه نحوه أو حتى يخفي ما هو بصدد فعله:
" سيكون افضل لو اهتممت بأمورك لنفسك أيها الأحمق"
ضحك خافيير بخفث، القى مجددا نظرة نحو العراب الذي مازال يحتفظ بحبيبته فوق ركبتيه، اصابع هذه الأخيرة بين خصلات شعره، لكنها تحاوره بخفث و بسرعة وهو يبدو عليه الاهتمام الكامل، و كأن العالم تلاشى و لم يتبقى غيرهما... العرّاب مغرم.
" ستكون أنت الأخمق عندما يكتشف بأنك تتجسس على حساباتها!..."
" هذا عملي..." قال الرجل وهو يقوم بتكبير على جملة مكتوبة:" التجسس على حسابات صوفي هو عملي... و الأن هل يمكنك تركي و شأني و الاهتمام بأمورك؟؟"
كشر خافيير قليلا و استرخى أكثر في مقعده الفخم و المريح قائلا:
" لا أملك ما أفعله سوى ازعاجك سانتياغو..."
دون ان يبعد عيناه عن مقالات صوفي و سخافاتها و صورها دس سانتياغو أصبعه الأوسط تحت أنفه كرد أخير، مما جعل ابتسامة خافيير تتسع أكثر... هوايته الأكيدة و المسلية بعد التجسس عن أعمال روكو و هي دفع سانتياغو للجنون بملاحظاته، ان كان البرازيلي يظن بأنه غافل عما يشعره نحو صوفي فهو واهم، في كل مرة تكون مشكلة بين العرّاب و شقيقته المدللة، يضع نفسه بينهما، مستعدا لتلقي غضب الرئيس على رأسه مقابل حماية محميته الشرسة التي لا تعرف الاحتفاظ بلسانها داخل فمها... ولغرابة الأمر... الشرسة الصغيرة تتبخر قسوتها أمام سانتياغو فقط.
بما ان هذا الاخير لا ينوي فك التوثر بينهما و الذي يتعمده منذ التحاقه للعمل عند الايميليانو و الجميلة الفاثنة تحاول جذب العرّاب الى غرفة النوم الجانبية بكل ثمن فلم يتبقى له سوى النوم لأن أمامهم عدد طويل من ساعات الطيران ، عدّل وضعية مقعده و مد قدميه أمامه معترفا أن المكان أشد راحة من سريره في شقته الصغيرة في فلوريدا.
" حذائك نتن" سمع سانتياوغو يلاحظ بهدوء.
القى خافيير نظرة على converse القديمة المتناقضة مع رقي التصميم الذاخلي للطائرة، أمسك بقدمه ليقربها من أنفه قائلا:
" ليس حذائي سانتياغو انما هي ملابسك الداخلية..."
ثم أعاد رأسه الى الوراء و اغمض عينيه مبتسما بينما يسمع شتيمة رفيقه التي تعمدها واضحة في مسامعه ، ثم دون انتظار دس بدوره أوسط أصابعه في وجهه و اعاد يده اليه مسمتعا بإنتصاره الصغير.
وسحبه الماضي اليه بسرعة...
كان يكره سماع صوته، عندما يعود من العمل يصبح الجو في البيت كئيبا و انفعاليا و لا يُطاق، والدته السمحة تنغلق ملامح وجهها، تحميهم وراء ظهرها لتواجه وحدها غضبه الذي لا سبب له، انه ينفعل من اجل لاشيء، يدخل في نوبة غضب عارمة كلما سقطت عيناه عليه شخصيا، وهذه الليلة لا يبدو طبيعيا، دخل الى البيت بنفس الانفعال، بنفس الوحشية، سافانا مريضة، ملتهبة، حرارتها عالية و بالرغم من ذلك تحاول الدفاع عنه، لكن هذه المرة لا ينوي تركه يسلخ جلده بلا اي سبب، اليخاندرو ينزوي بعيدا في كل هجوم، سافانا أرتهما مخبأ في المطبخ، يهربان اليه كلما لاح الخطر، راقب توأمه يأخد برأسه بين يديه، يضغط على ادنيه كي لا يسمع أصواتهم العالية و المهددة، يرتجف مثل ورقة في مهب الريح، سفانا تلقت الضربة الاولى لأنها لا تنوي تركه يقترب منه، الضربة الثانية كانت اقوى و لطخ دمها وجهه و ذراعه، كل شيء يمر ببطئ كلقطة مريبة في فلم رعب، الاشياء من حوله لا تتحرك بالسرعة الاعتيادية، عيناه عالقتان على اسنان دييغو المصفرة من شدة الكحول و سجائر الحشيش، كانت النار تخرج من انفه و عيناه، يجن جنونه لأن بينه و بين ضحيته عائق، و هذا العائق هو والدته المريضة بالقلب و المحسوبة الأيام.... كان موتها مضمونا، فتستمر لحمايته مخاطرة بنفسها.
شعر بقبضة دييغو على كتفه، أصابعه تنغرز في لحمه، اليخاندرو يترك مكانه كي يندفع نحوه لحمايته، يتلقى هو الاخر ضربة ترميه في الطرف الاخر من الغرفة، والده مصاب بالجنون... يريد شفي غليله فيه لجرم لم يقترفه... هو لا يحبه بكل بساطة... تحسس خصره ووجد مراده، قاوم ليتخلص من قبضته القوية ووجه مسدسه الى وجهه فورا، الفوهة مهددة و اصبعه على الزناد مستعدا لقتله:
" اهدأ ميندوزا... "تحول وجه دييغو الكريه و المتجهم ببطئ الى ملامح ارستقراطية و نبيلة...العرّاب يجلس القرفصاء أمامه... يده القوية على كتفه و الاخرى على سلاحه ليبعده عن وجهه:" كنت تتخبط في كوابيسك هل انت بخير؟؟"
شعر بالدم ينسحب من شرايينه، يتخبط في كوابيسه؟؟ مالذي قاله بحق الجحيم؟؟ ببطئ اعاد سلاحه الى خصره ووضع فوقه كنزته، بريانا تقف وراء خطيبها، تتطلع اليه بقلق صادق، بينما سانتياغو يبدو مستمتعا للغاية بالعرض، حتى انه لم يمنع تفسه من منحه ابتسامة متهكمة و رفع نحوه كأس شرابه ... آه اذهب الى الجحيم!
" آسف... أظنني غفوت...!"
" هذا ما يبدو... " أجاب روكو وهو يبعد يده على كتفه و يستوي في وقفته واضعا كلتا يديه في جيوب بنطاله الكحلي ووجه كلامه لسانتياغو:" أسقيه كأسا... انه يرتجف..."
ادار لهما ظهره مع خطيبته بعد هنيهة، سانتياغو مد له كأسا تحت أنفه و همس له كي لا يسمعه غيره:
" أنت تصرخ مثل الفتيات..."
" اذهب الى الجحيم ..."
اتسعت ابتسامة هذا الأخير وهو يلقي بجسده الضخم - الملتحف بأفخر القطع عكسه- على المقعد، فهو يفضل جينزه الممزق و ال convers و كنزاته بشعاراتها المتعددة، أناقة سانتياغو لا علة فيها... يبدو كرجل أعمال.
رجل أعمال يخفي في حقيبة أوراقه بندقية رقمية بالغة الدقة... سانتياغو قناص ماهر للغاية... سانتياغو خطر.
بلع محتوى كأسه دفعة واحدة مما الهب حلقه و معدته لكن منحه الدفئ و ابعد الخوف عنه، بدأت حواسه بالهدوء، انتبه الى أن روكو هو من يثبته بنظراته ولا يزيلها أبدا... هل قال شيئا عن عمله؟؟ هل اكتشف العرّاب من يكون؟؟
* * *
بطاقة اعتمادها لا تعمل، بالكاد تصدق دانيلا هذا صباح اليوم الثالي بينما تحاول شراء بطاقة طائرة الى كابري من مطار مالقا، الموظفة أكدت لها أن بطاقتها لا تعمل و لم تقبل الشيك الذي اقترحته، ابتعدت عن الطابور لتسمح لأخرين بشراء بطاقتهم او منحها للموظفة، بقي ثلاث ساعات على مغادرة الطائرة و عليها ان تسرع بإيجاد حل ان رغبت بإكمال رحلتها في ماضي والدتها، جرت رجليها المرهقتين نحو الكراسي الخالية و رمت نفسها و حقيبة ظهرها عليها، رن هاتفها و رأت اسم خوسيه، اذن فقد توصل الى رسالة الرفض لبنكها:
" مالذي فعلته بحساباتي؟؟" صرخت فيه ما ان سمعت صوته.
" الطريقة الوحيدة لتجيبي على اتصالاتي" بدل الصراخ كان يتكلم بهدوء من الطرف الثاني:" أين أنت دانيلا؟؟"
فركت صدغيها المتألمتين بشدة، عينيها عادتا لسبحان في بركة من الدموع،انها جائعة، مرهقة و ممزقة، منذ ان غادرت القرية نحو مالقا لأخد الطائرة و راسها لا يتوقف عن التفكير و التفكير، أمضت ليلتها في فندق المطار ورغم وجود سرير الا انها لم تتمكن من اغلاق عينيها، كانت تدور حول الرسائل التي تركتها اليونور دون ان تقربها، و رغم كل فضولها الا انه لم تتمكن من فتحها..
"أين أنت ؟؟" عاد صوت وصييها للتكرير مع تشديد في لهدته المتغطرسة.
"أنا في الجحيم هل تعرفه؟؟" صرخت به مما تسبب في اثارة انتباه بعض المسافرين.
" بالتأكيد أعرفه لأنني أعيشه كل يوم..."
التقطت نفسا عميق و توسلته بصوت منخفض:
" أرجوك وصيي... أنا عالقة بدون أموال..."
" أين أنت؟؟" عاد ليصر بنفاذ صبر.
عادت تلتقط أنفاسها، ممزقة بين الاعتراف و الاحتفاظ بالامر لنفسها، ثم.. لا يمكنها الاعتراف له بشيء لايمكنها معرفة ان كان حاليا في صفها ام ضدها
" أحبك خوسيه..."
" دانيلا لا... انتظري"
قطعت الاتصال عليه... بقيت للحظات تحتفظ بهاتفها تحت ذقنها، عيناها مثبتتان على ارضية المطار الامعة، الناس تروح و تجي دون ان تمنحها اهمية، بدون مال رحلتها تتوقف هنا، لا يمكنها ان تخبر خوسيه عما تقوم به، ان عرف فلن يعجبه ما وصلت اليه من اسرار، ووعدت أولائك الناس ان تحتفظ بسرهم، اذن عليها ان تجد مصدر مال آخر... آيا... لا يمكنها ان تطلب مساعدتها لأن خوسيه يطلع على كل مصاريفها، سيسيليا سترفض لأنها دوما لجانب ابنها... بقيت تحملق للحظات اظافية الى الارض قبل أن تقرر كتابة رسالة... الكلمات تراقصت امام عينيها، أبقت أصابعها على الخانة الخضراء، تتردد لارساله و عندما فعلت اتصلت بها صوفي فورا:
" أيتها المجنونة قلقت عليك..." ابعدت الهاتف عن اذنها بينما صوت هذه الاخيرة ياتي مجلجلا" لما لا تردين ؟؟ أخبرتك بأن الأمر عاجل؟"
" كنت ... شديدة الانشغال مؤخرا اعذريني... كما انني على خلاف مع خوسيه... جمّد أرصدتي..."
" ماذا؟؟ّ" و بدل ان تسبه كما هي عادتها انفجرت ضاحكة من قلبها، ان كان الوضع يسليها فهي لا تدرك في اي معبر مريب تمر حاليا." آسفة عزيزتي... قبل سنتين تصرف روكو بنفس الطريقة معي ..."
" و لما لست متفاجئة...؟" علقت دانيلا متهكمة:" اسمعي... صوفي..."
" انت اسمعي..." قاطعتها صوفي متنهذة و قد التقطت انفاسها و استعادت جدّيتها:" اليساندرو يسأل عنك..."
" صوفي ليس الان رجاءا..."
" لقد كسر ذراعه جراء حادث.." سمعت صوفي توضح كأن صوتها آتي من مكان آخر:" وعدته الا أخبر أحدا... لسيما مجنون الحماية روكو...لكن بعدك يذبحه دانيلا، هو لم يقل ذلك حرفيا الا ان اسئلته عنك و طريقة كلامه... نبرته... صدقيني انه يعاني و أظنه يحبك أكثر مما توقعت"
شعرت بأن ارضية المطار تهتز تحت قدميها، لا بد أن صوفي لم تفقه لصدمتها اذ انها استمرت في الشرح و الشرح و الثرثرة مثل عادتها، اليساندرو تعرض لحاذث، هذا كل ما استوعبه عقلها، طلب من صوفي التوقف عن الكلام و هذه الأخيرة لم تفعل الا بعد ان صرخت بها بان تغلق فمها:
" اليساندرو في نيويورك؟؟"
" في شيكاغو..."
نعم... كيليان ارشيبالد، انها الفترة التي دعاهما لحضور السباق السنوي في شيكاغو، مررت يدها على صدرها جهة قلبها، كان يعتصر بشدة لدرجة تمنعها من التنفس بشكل صحيح، اليساندرو في كفة و ماضيها في كفة أخرى، لا تعرف مسار من تتبع في هذه اللحظة... أغمضت عينيها بشدة و عندما عادت لتفتحهما كانت وجنتيها مبللتين بدموع اليأس... هل يمكنها فقط نسيان يانيس ولو للحظة ووضع حقدها و كراهيتها جانبا؟؟
" هل هو بخير؟؟" سالت صوفي بصوت لاهث بعض الشيء و كأنها بصدد الركض:" مالذي حدث له بالضبط؟؟"
" انزلق على ما يبدو و دفعت ذراعه الثمن... هيا داني... اذهبي اليه... أعرف بأنك متيمة به رغم هذه القطيعة التي لا أفهم رأسها من ذيلها... "
هزت راسها بالرفض، لا يمكنها الذهاب اليه، انها قريبة جدا من الحقيقة، تشعر بأنها ستعرف ما يحاول الكل اخفائه عنها قريبا... لكن تخيل اليساندرو بذراعه المكسورة حاجته اليها تثلج حماستها... طالما وقف بجانبها في كل الظروف... حتى انه طلب يدها ليبعد خطط خوسيه بتزويجها.
" أحتاج للمال صوفي... هل يمكنك مساعدتي؟؟"
" بالتأكيد يمكنني... " أكدت بلطف:" عزيزتي داني... انا مستعدة لبيع روحي للشيطان مقابل رؤية خوسيه فاقد السيطرة... تجهلين المتعة التي اشعر بها حيال ذلك...أحب رؤية وجه خوسيه و روكو عندما تنفلث زمام الامور بين من ايديهما..."
رغما عنها ابتسمت دانيلا، صوفي لن تتغير ابدا، انها المناضلة القوية لحرية النساء و عدم اضطهادهن.
" كم أحول لحسابك؟؟"
" حساباتي مجمدة لا يمكنك تحويل شيء... لكن... على الفور اشتري لي تذاكر سفر..."
" تذاكر سفر الى أين؟؟"
فكرت دانيلا مجددا، رأسها يحرقها، عينيها تحرقانها، قلة النوم و التفكير و القلق مما يمكنها اكتشافه، تعرف بأنها فقدت الكثير من وزنها، من روحها، لقد اصبحت ظل نفسها مؤخرا، موضوع اليونور يلاحقها كالشبح ليل نهار، وهي مرهقة للغاية... مرهقة حتى آخر خلية... لكن الى اين تنوي شد الرحال في هذه اللحظة؟؟ الى ماضيها هي أم ماضي اليونور؟؟
* * *
{ عزيزي خوسيه...
صاحب الرجولة السيادية التي تسحق ناظرها... صاحب الأشباح المظلمة... صاحب مقولة 'الحب هو أفيون الضعيف ... نقص الوضوح... تمويه لطيف لممارسة الجنس'
أتيت الى أحضاني هشا و رغبت بفرصة لأن ما تشعره نحوي لا يُقهر... ثم استيقظت بفراغ في الذاكرة... تحاشيتني بكل الاساليب الممكنة... كنت آمل لو كانت تلك هي البداية حقا.
ما هو سر نكرانك للوقائع؟؟ دفنك لكل ذكرى لا تروقك؟! لا يبدو أنك تعيش أبدًا في الوقت الحاضر ولا تشعر بالارتياح أبدًا.
ثم تلتم شظاياك بوجوده... ذلك الشخص الذي تصبح أمامه رجل صغير لا يهمه سوى رؤية الرضى في نظراته، و هو من الوفاء بحيث يبحث عن نفس الرضى في وجهك...
عزيزي خوسيه... تقول بأنك غير قادر عن الحب.... كن متأكدا بأنك مغرم حتى أذنيك... و ليس بإمرأة.
فولائك تركته لهؤلاء...
لسيما له هو...}.
باريش و جد ممون جديد كما وعدها و من خلال تقاريره فيبدو أن المنتوجات تتوافق مع طلبياتهم، هذا الأمر أفرحها جدا لدرجة أنها لم تتوقف عن الشكر لله الذي انقدها من مصيبة حقيقية، في الجامعة التقت كارلوس الذي اتى خصيصا ليحتفل معها بهذا النجاح، طلبا القهوة في كافتيريا الجامعة، مثل المعتاد ينير الشاب يومها باساليبه المرحة، و لأنها سعيدة جدا بحصولها على شحنتها في الوقت المناسب تشعر و كأن أجنحة نبثت لها و ستطير من شدة ما تشعر بنفسها خفيفة.
" نخب النجاح..." قال لها و هو يلامس فنجانه بفنجانها.
" نخب الصداقة الطيبة..." غمزت له وهي تتذوق من شرابها اللذيذ:" مالذي يدفع رجل ذكي جدا مثلك ليختار الشرطة العلمية؟؟ ابرزت مهارتك في التجارة كارلوس..."
" حكم امرأة نابغة يسعدني سيدة مارتينيز..."
لمعت عيناه بتسلية بينما تضربه على كتفه:
" هل انت مضطر لنطق اسمه؟؟"
هز كتفيه و ضحك بخفث قبل أن يستعيد جديته و يشرح لها:" كنت مهووس بالأفلام البوليسية و طالما وجدت الشرطة العلمية مثيرة للاهتمام... المسألة تحتاج الى تركيز كبير جدا و ذكاء و فطنة... لم تكن مسألة أرباح بقدر ما كانت تحقيق حلم مراهقة.."
وضعت آيا ذراعيها على الطاولة، تتطلع الى الوجه الوسيم أمامها، انه في سنها تقريبا، يكبرها سنتين ثلاثة لا أكثر و لم تسأله يوما، في ظروف اخرى كانت لتدخل معه جديا في علاقة حب، فهو محب مثلها للعلم، للعمل، ذكي مجتهذ، و يمكنها الاعتماد عليه في كل الظروف، انه يميل بشدة للدعابة و ينجح بإضحاكها كل الوقت... هل ستأمل المرأة صفات أكثر من هذه؟!
" هل ستوقعين عقدا مستمرا مع الممون الجديد؟؟" سألها وهو يلقي نظرة من حوله، قلق فجأة.
" وقّع خالي عقد أولي لستتة اشهر بنفس الثمن لنفس الجودة..." اتسعت ابتسامتها بينما يحول نظراته الزرقاء الصافية اليها " أنا سعيدة للغاية..."
ابتسم بلطف و امسك يدها في يده ليمسدها مشجعا
" تجدين الحلول لكل شيء... خوسيه ابله كي لا ينتبه للكنز الذي يعيش تحت سقف بيته"
هذه الملاحظة ايقظت فحسب كل فضولها الدائر نحو خوسيه منذ زواجهما
" لا اريده ان ينتبه كارلوس... تعرف بأن لا رغبة لي بالبقاء تحت اسمه" اومأ بالايجاب " خوسيه و اساليبه... و اسراره... لا امرأة ستتمكن من تحمله... انه رجل لا يعرف الحب"
" عرف الحب في حقبة ما" سمعت كارلوس يقول " لم يتمكن من الزواج بها لأن والده منعه... لم تكن من اسم معروف وهو كان موعود للمرأة التي تزوجها بعد ذلك.."
شعور غريب اخترق صدرها... هل اشباحه متعلقة بحب ضائع؟؟ من المستحيل تخيله في جلدة عاشق... خوسيه مريض بالخيانة، مريض بالشك، مريض بكل ما يدفع امرأة للنفور منه.
" لا أصدق كلمة... ذلك الرجل عاجز عن الحب..."
هز كارلوس فنجانه لشفاهه و انهى مشروبه قائلا:
" لكن هذا بالضبط ما حصل له... و لعلمك... حبيبة خوسيه القديمة هي خالة دانيلا... أخبرني والدي أنهما متشابهتين كنقطة ماء..."فتحت شفاهها بذهول، هل هي بصدد الدخول الى دوامة الا فهم؟؟ ان كانت اليونور من اسرة فقيرة و اسم غير معروف فمن اين أتت دانيلا بكل تلك الأموال؟؟ شيء لا يفهمه عقل أو منطق... " يجب أن أرحل عزيزتي... أراك بعد عودتك من باريس؟؟"
انه يستمر في استفزازها بهذا الشأن، منذ ان أخبرته برحلتها نهاية الاسبوع مع خوسيه و هو يسخر منها.
" ستمر علي؟"
" سأفعل دوما كل ما تريدينه ايا الجميلة... احذري خوسيه... انه ليس سهلا فإنتبهي لنفسك ارجوك"
عندما رحل بقيت مكانها تقلب في عقلها المعلومات الجديدة، حبيبة خوسيه تشبه دانيلا... شيء حقا مثير للاهتمام! هل هذا ما يجعل زوجها في كل حالاته عندما تبتعد عنه ابنته بالوصاية؟؟ تذكره بحبيبته ؟ و اين هذه الحبيبة؟ لما لم يعود اليها خوسيه رغم موت والده و زوجته؟ أم أنه يميل بإستمرار للفتيات الصغيرات مثلها هي؟
" مرحبا آيا... حبيبك الوسيم رحل سريعا هذه المرة"
كارول من اول الطالبات اللواتي تعرفت عليهن في الجامعة، وهي في اسبانيا لتعزيز لغتها الاسبانية، في الجامعة الكل يعرفها على اساس آيا ماريا أذاروفا، طالبة قادمة من المجر و من أصول تركية و بوسنية، خوسيه مارتينيز لا يدخل اطلاقا في حياتها الجامعية.. لا أحد يعرف بأنها زوجته.
" مرحبا كارول... " رحبّت بها ثم دعتها للجلوس:" سبق و شرحت لك بأنه مجرد صديق..."
" لا ينظر اليك كصديقة... ذلك الوسيم هائم بك... و أظنه يعجبك أيضا... رأيت نظراتك اليه..."
حتى و ان كان يعجبها حقا، و مع الوقت تزداد اعجابا بشخصيته، فمالذي يمكنها ان تفعله في حالتها الراهنة؟؟ محبوسة في شرك تجهل كيفية الخروج منه!
كارلوس يشبه بشدة اليخاندرو في خصال عدة، أحيانا يذكرها به، لسيما عندما يحط يده على كتفها و يخبرها بأن كل شيء على مايرام.
" كيف حال إبنك...؟؟"
" إنه مع والدتي..." كذبت، الكل أيضا يعتقد بأنها أم عزباء :" وهو بصحة جيدة ..."
"من الرائع ان والدتك هنا تدعمك... " قالت الفتاة بإبتسامة.
" أنا محظوظة بها..." قالت وهي تحتسي أخر قطرات قهوتها:" حان موعد المحاضرة، علينا التحرك..."
" رأيت اعلان الأمسية في الحرم الجامعي الأسبوع القادم؟؟ هل ستأتين؟؟" سألتها كارول وهما تتمشيان بين الطلبة نحو القاعة الشاسعة حيث بدأ الأخرين بالدخول اليها.
" لا أدري..."
" هيا عزيزتي... سوف نستمتع بشدة..."
لم ترد، ابتسمت لها فحسب... عليها ان ترى ان كان لعمرها بقية بعد نهاية الأسبوع مع خوسيه، لن يكون الأمر سهلا على الاطلاق، تجهل بأي طريقة ستكون الأمور بينهما في باريس لسيما بعد الذي صار بينهما تلك الليلة... هشاشة خوسيه لا تبتعد اطلاقا عن رأسها... ذلك الرجل هو لغز كبير، وهي... لا تريد اكتشافه، لأنه لا يهمها اكتشافه بقدر ما يهمها الابتعاد عن دماره قبل فوات الأوان.
* * *
كانت بريانا تقف على نافدة غرفة النوم التي تطل على تلال بيضاء رائعة تحبس الأنفاس، جزيرة روكو مختلفة عن الجزر اليونانية الخاصة التي آلفتها، هذا المكان متوحش الجمال، ناعم في الوقت نفسه و رائع مثل صاحبه، وليس البانورما المذهلة ما تحبس نظراتها، بل الرجل الفاثن الذي يتريض على ضفاف بحر أيوني بمياهه الصافية المتلألئة تحت أشعة الشمس الذهبية، انه فاثن... حبيبها أشد بهاءا من كل ما يحيطه اللحظة بينما عضلات صدره تهتز تحت ركضه، كان يرتدي بنطال سبور، قسمه العلوي عاريا، انه على أرضه و يمكنه فعل ما يشاء في خلوته، و هي تعشق هذه الخلوة الرائعة... كما سبق و أخبرها... يمكنهما أن يفعلا كل مايرغبان به بعيدا عن الأعين الفضولية... الا ان هذه الحميمة لن تدوم... بعد منتصف النهار ستصل ظيفته... ظيفتهما كما يصر روكو.
لا يمكنها ان تجسد تلك المرأة في صورة، تتخيلها عجوز روسية امضت حياتها في القاء الأوامر، روكو يفضل لقائها بعيدا عن ايطاليا، بسبب... أعماله الأخرى... أعمال يانيس التي- حتى بعد موته- ماتزال نشطة للغاية.
عندما اقترب من الفيلا اختفت من مجاله البصري، تفقدت حالها في المرآة و عادت الى سريرها بين الشراشف، الوقت مازال باكرا ولا تنوي تفويت عناقات الصباح، يكون ناعما عندما يتمنى لها صباحا سعيدا
ادعت النوم بينما يدخل الغرفة، تسمعه يتخلص من ملابسه... خطواته تتجه الى الحمام، ثم صوت مياه الدوش، تحفظ تفاصيله عن ظهر قلب، يمكنها تخيله بصدد الاستحمام دون حاجتها للتجسس عليه، سبقته رائحة الصابون بينما يلتحق بها، حاولت ردع ابتسامتها وهو ينحني عليها و يقبل جبينها قبل ان يحط شفاهها قرب اذنها ويهمس بسخرية ناعمة:
" اعرف بأنك مستيقظة... رأيتك على النافذة"
فتحت عينيها و تعلقت بعنقه قبل ان يبتعد، خلت توازنه فسحقها بثقله، لكن هذا لم يؤثر بها، تحب ثقله عليها، استنشقت رائحته المسكية ملئ رئتيها بينما تغرس انفها في عنقه و تضمه اليها بكل طاقتها، مازلت بشرته ندية، نظيفة، ورطبة، كان يلف منشفة حول خاصرتيه و لسعادتها لم يتمسك بها بينما تنزلق.. ترغب به و بطفل منه.
" ظننتني سرية "
" لا يمكنك ان تكوني سرية بريانتي... اعرف بأنك موجودة دون الحاجة حقا لرؤيتك"
يعجبها عندما يحسسها بأنه لا موانع بينهما، بأن شعورهما متبادل، روكو توأم الروح، شعلة الروح، الرجل الذي خلقت له.. فقط له.
القبل الناعمة اشتعلت، لاجديد في التهابهما الفوري، يكفي ان يضع يده عليها حتى تشتعل مثل عود الثقاب، تأخرا كثيرا في السرير و لم تخرج منه الا و أنوثتها مكتفية، و ربما ابنهما بصدد التكون وهذا ما تأمله، منذ ان أوقفت حبوب منع الحمل وهي تأمل أن تتحقق أمنيتها الغالية، طفل من روكو... هل يوجد طموح أكثر من هذا؟؟ ستعيش لهما فقط... من أجلهما لما تبقى من عمرها.
أمضيا بقية الصباح في السباحة بين البحر و حوض السباحة، تشمست طويلا بكسل بينما فضل روكو العمل لساعة قبل العودة اليها كي يسبحا مجددا بين امواج البحر الرائعة.
تم نصب خيمة بديعة تحت ظلال اشجار النخيل حيث تناولا طعام غذائهما، لا تنكر ان الوجبة كانت لذيذة للغاية لكنها ليست معجبة بالطعام الافريقي بينما روكو، الايطالي روكو فضل بالتأكيد طبق الماكرونا بزيت زيتونه الذي لا يفارقه، بعد الغذاء احتسيا كوكتيل كحولي قرب المسبح مما جعلها تشعر بالخمول أكثر، استرخت عينيها تحت دفئ الشمس لكن الظل حال بينها و بين الحرارة، فتحت عين واحدة ووجدت روكو بصدد تعديل المظلة عليها:
" مالذي تفعله؟؟"
" أهتم بصحة امرأتي... لا أريدك أن تمرضي..."
ابتسمت و تنهذت بإكتفاء، مدت يدها نحوه فإلتقطها وجلس بالقرب منها، قربت يده من شفاهها ووضعت عليها قبلة حارة:
" تحميني دوما بأجنحتك الفضية دون ايميليانو؟؟"
هز يدها الى شفاهه ليقبلها بدوره:
" أنت من يجعلني ملاك بريانا... بدأت أشعر بفضلك... شكرا لك"
شعرت بالدموع تحرق عينيها...و للمرة المليون تتسائل عما فعلته لهذا الرجل القوي كي يحبها الى هذه الدرجة دون انتظار مقابل، لن تذرف الدموع لأنها سعيدة، للدموع ذكرى سيئة للغاية، قضت سنواتها الماضية في محاولة دفع ديميتريس لحبها، لكنه كان معمي بشدة بحب الفاثنة الشقراء شانيل كاريرا... زوجة ابن عمه.
ثم تجسدت شانيل في يوليا فولكوفا ... شعرت بريانا و كأن فكها سيسقط أرضا بينما تقف بجانب روكو ليستقبلا في نهاية اليوم الامبراطورة الروسية.
المرأة التي نزلت من المروحية مع رجالها عكس العجوز التي تخيلتها منذ ان أخبرها روكو عنها، لقد كانت... كانت قنبلة.
رمشت مرارا بينما تأمل أن تنقلب الصورة الى عجوز بغيضة، لكن الملاك الرائع وسط فستان أبيض و جدائل شقراء مثل حقول القمح لم تختفي، بدت كعروس تتقدم نحو عريسها... هذه الفكرة لم تعجبها، وجدت نفسها تبحث تلقئيا على أصابع روكو الذي اضطر لإخراجها من جيبه كي يشبكها بأصابعها، يوليا لم تعرها ادنى التفاتة، نظراتها الخضراء الرائعة متوقفة عنده هو وحده، و كأن لا شيء بعده...
هل هذه المرأة حقا على رأس منظمة قوية نشاطها الأسلحة أم أنها عارضة أزياء؟؟ كانت الرياح تتلاعب بفستانها الذي يلتحف بها مثل الحلم، كانت تملك صدر جميل للغاية، عموما... أكبر من صدرها شخصيا، خصرها نحيف جدا بينما وركيها... اللعنة... هل ستبقى في هذه الجزيرة لمدة ثلاثة أيام معهما؟؟ مستحيل...
" روكو..." بدت نغمتها متنهذة و كأنها بصدد ممارسة الحب معه.
" يوليا..." تقدم نحوها بدوره لكنها لم تتركه، بقيت أصابعهما ملتحمتين الى ان اجبرها على تركه لمصافحة الضيفة التي لم تكتفي بذلك، بل قبلت وجنتيه بحرارة..." دعيني اقدم اليك..."
" بريانا..." قالت الروسية الفاثنة وهي تمنحها ابتسامة شاسعة:" المرأة التي خطفت قلب العرّاب... لقد حاولت معه... لكنني لم أنجح... عليك منحي سرك..."
حاولت معه؟؟ هزت عينيها نحو روكو الذي كان يهرب منها كشخص يشعر بالذنب، صافحت المرأة التي مدت اليها يدها، أصابعها كانت ناعمة للغاية، كل شيء فيها يذكرها في شانيل... فجأة أصيبت بالذعر و خذلتها ثقتها في نفسها و حتى في روكو الذي كان يضاجع المرأة بنظراته... يلتهمها...لا يرفع عينيه عنها . هذا الأحمق منوم بواسطة هذه الشقراء ذات المظهر الرهيب.
ثم هجرها كي يهتم بضيفته، أو هذا ما خيل اليها، ربما عاد يلتقط أصابعها مجددا، لكنها لم تعد تشعر بوجوده معها، كل اهتمامه مع الأخرى، ثم ضحكت يوليا بنعومة...
ضحكتها دعوة صريحة للاختلاء بها في غرفة النوم.
" بريانا..." عادت الى الواقع بينما روكو يحملق اليها بعبوس:" ما رأيك أن تُرين ضيفتها جناحها؟؟! سأتكفل برجالها..."
بلعت ريقها بصعوبة، يوليا تتطلع اليها بفضول ممتزج بتسلية، النساء تفهمن بعضهن جيدا، وهذه المرأة تمتهن القتل و تسيطر على امبراطورية احتار الأخرين في انزالها من عرشها، كيف لها الا تشم رائحة الغيرة التي بدأت تفوح منها بقوة:
" بالتأكيد حبيبي..." أجبرت نفسها على ترك اصابعه التي تيبست بقوة عليه، لا تدري ان كانت قد كسرت احداها..." رجاءا اتبعيني..."
" أنا لا أتبع أحدا..." قالت رئيسة المافيا الروسية دون ان تفارق الابتسامة وجهها.
" هل تروقك كلمة رافقيني؟؟"
" هذا أفضل..."
انجليزيتها باللكنة الروسية تجعلها أكثر اغراءا، لم تخفي المرأة اعجابها بالجناح الذي أمضت شخصيا وقتا لتجهيزه لها بورودها المفضلة، لو علمت بأنها غريمتها لوضعت الافاعي بدل الزهور، سمعتها تتنهذ وهي تطل من الشرفة الدائرية لمنظر البحر و السماء و كثبان الرمال البيضاء.
" روكو يملك ذوقا مميزا كالعادة..." سمعتها تقول، و شعرت بأنها تتحرق لإظافة { الا فيما يخصك}
" انه كذلك..." قالت بريانا بينما عيناها تلتهمان المرأة الهيفاء.
" أرى بأن هناك بركة سباحة..." قالت يوليا بحماسة:" رائع جدا... أخبري العرّاب ان نجتمع على كوكتيل الترحيب حول المسبح... المياه المنعشة ستبعد عني ارهاق السفر..."
بقيت متيبسة مكانها، هل هذه المخلوقة تنوي الظهور بثوب سباحة أمام خطيبها؟؟ لم تفكر حتى في هذا الاحتمال... ان كانت مثيرة لحد الجنون بهذا الفستان فكيف ستكون عليه بدونه؟؟
وهي عليها استضافة هذه القنبلة تحت سقف البيت و الاهتمام بها و ان تكون تحت راحتها الى ان ترحل كما يتوجب عليه دورها كخطيبة العرّاب، عليها تقبل رؤيتها تهز وركيها الرائعة في ثوب سباحة و الابتسام لروكو و التهامه بنظراتها الخضراء المشعة.
" نملك حديقة رائعة ستروقك..." قالت بريانا في محاولة يائسة لإبعاد فكرة المسبح على رأسها.
اتسعت أكثر ابتسامة الضيفة:
" افضل بركة السباحة... "
عندما خرجت من الجناح لم تقصد أبدا الدور الأول لإعلام روكو بأماني السيدة، بل توجهت جناحها و اغلقت عليها بالمفتاح كي تتمكن من افراغ الضغط على صدرها قبل مواجه الحقيقة مجددا... يوليا فولكوفا لم تكن عجوزا بشعر مستعار أو فم فارغ من الاسنان، بل امرأة رائعة تخفيها كليا... و قد لمحت بأن ثمة شيء جمع بينها و بين روكو.
زفرت بيأس كي تخرج كمية النار التي تشتعل بحدة في صدرها، انها بحاجة للصراخ ما طاب لها، ان فعلت فستثير انتباه كل سكان الفيلا.
تخللت اصابعها شعرها الأسود تبحث في الجناح عما يمكنه اخراجها من حالة اليأس التي استحوذت عليها، رأت الوسائد الوثيرة، ارتمت عليها لتخنق الصرخة التي أخرجتها من أعماقها، وضعها مثير للشفقة هي تعرف... لكن سبق و عاشت هذا الجحيم... شانيل أعمت بصر ديميتريس كما ستعمي يوليا بصر روكو.
بعد ان افرغت جمام غضبها، تفقدت زينتها و كأن شيئا لم يكن ثم غادرت غرفتها تقصد روكو.
يوليا لم تظهر بثوب سباحة فحسب، القطعتين بالكاد تخفيان صدرها الرائع و مؤخرتها، كان ابيض اللون وسط بشرة برونزية، شعرها الاشقر المصفف في تموجات شهية تتلاعب حولها، صندالها الصيفي العالي الكعبين يمنحها ساقين رائعين تحسدها عليهما أشهر عارضات الازياء، لم يكن روكو فقط من يركز ببصره عليها. سانتياغو و خافيير أيضا... و لتكن صريحة مع نفسها... هي أيضا مأخودة بها.
المرأة واثقة للغاية من سحرها، كانت أنيقة حتى في طريقة جلوسها على الكرسي الذي قدمه لها روكو كما يتوجب دوره عليه.
" أتمنى أن جناحك يروقك... بريانا شخصيا من اهتم بزهورك..."
" مازلت تتذكر نوع الزهور التي احبها!" قالت يوليا مبتسمة له تلك الابتسامة التي تمنحها النساء المغرمات لرجال حياتهن.
" المعلومات عنك متاحة في الانترنت..." تدخلت بريانا واضعة حد لنظراتها نحو خطيبها:" كان من السهل العثور على ما يروقك... اعذروني سأحضر المشروبات"
ثم وقفت من مكانها، غير قادرة على تحمل هذه الغيرة التي تنهش جسدها مثل السكاكين، من الأفضل لها الانسحاب قبل أن تلقي بنفسها عليها فتمزق وجهها الجميل بمخالبها الى أن تكتفي، فريق كامل من الخدم يقوم بخدمتهم لكنها قالت أول ما جاء على لسانها كي تهرب من رغبتها العارمة في القتل.
في المطبخ لم يتأخر روكو باللحاق بها، كانت تغلي من الغضب، من القهر، من الغيرة، هاجمته ما ان شعرت به في الجوار، كانت تصنع الكوكتيل و تتسائل كم كمية سم ستكفي لقتلها؟؟
" مالذي اتى بك؟؟ الا يفترض بأنك في اجتماع عمل؟؟"
" هل أنت بخير؟؟"
لم يعد بإمكانها التحمل، تركت كؤوس الكوكتيل وواجهته من خلال دموع الغيرة في عينيها:
" بالتأكيد أنا بخير... لما تظن عكس ذلك؟؟"
بقي عابسا ينظر اليها و بينما ترفض قطعا الاعتراف له بغيرتها القوية من الشقراء الروسية بقيت على حذرها الى ان رأته يستسلم.
" فليكن حبيبتي... اتركي الخدم يهتمون بالخدمة و ابقي لجانبي..."
بلعت ريقها لكن الغيرة لم تجتاز حلقها... ثلاثة ايام... رباه... لما قبلت المجيئ؟
* * *
هز اليساندرو راسه نحو الباب ما ان دخل كيليان ارشيبالد الى غرفته الطبية، هذا الشبه الشديد مع والده يربك حواسه في كل مرة، حاول ابعاد تأثره و الابتسام، القلق في نظرات الرجل أكبر من أن يطمئنه بمجرد ابتسامة.
" كيف تشعر اليوم؟؟"
" بعد ربح ارشيبالد السباق أشعر بانني بخير..." قال اليساندرو، عموما فاليوم سيخرج من المستشفى، أخبرته والدته بأن يعود الى صقلية لأمر عاجل لا يقبل التأخير، أمام تردده اضطرت للتعرية على مخطط روكو، لكنه لا يرى نفسه عائدا بدراع مكسورة، و أيضا ما أخبرته به والدته لا يمكنه ان يتجاهله, عليه النزول مجددا من اجل شقيقه.
" تابعت السباق في التلفزيون؟؟" سأله كيليان وهو يدنو منه أكثر قبل أن يحشو يديه في جيوب بنطاله.
" المهدئات حالت دون وضوح الرؤية الا أنه... لا أظنني أهذي اليس كذلك؟؟ سيارتك فازت؟"
اتسعت ابتسامة كيليان مما أنار وجهه، هذه الابتسامة المطابقة لوالده الذي كان يمنحها لفرد واحد في العائلة، صوفي.
" فزنا نعم..." ثم هز بذقنه نحو ذراعه المجبسة:" هل تتألم كثيرا أم بإمكانك استقبال شخص مهم؟؟"
أقطب اليساندرو في الوقت نفسه الذي شعر بحركة قرب الباب، هز عينيه نحو شبح المرأة التي تبدو مترددة في الدخول، رمش كي يتأكد من الرؤية و عندما استعاب عقله الواقع ترك سريره نحوها في الوقت نفسه تركت دانيلا الباب وهرولت نحوه، بعد لحظة كانت بين ذراعيه، من الرائع الشعور بدفئها و رائحتها مجددا، كانت ذراعه تعيق حقا التواصل مع جسدها مئة بالمئة الا انهما سرعان ما وجدا وضعية اكثر راحة .
" افتقدتك حبيبتي"
" افتقدتك أكثر..." هزت رأسها اليه، لا تبدو متوهجة مثل دانيلا التي عرفها، كانت قد فقدت من وزنها، هالات سوداء تحيط عينيها، بدت مهملة عكس الشابة التي تهتم بشدة بمظهرها، ناقوس الخطر دق في رأسه، أمسك بذقنها ليحملق في وجهها:
" مالذي يحذث معك؟؟ لما انت في هذه الحالة؟..."
" يانيس لم يكن سهلا..." قالت بصوت منخفض الا ان كيليان يبدو أنه يلتقط كل كلامهما:" كيف وقع الحاذث؟"
" اليساندرو بطل... قام بإنقاذ ابنتي من الموت..." تدخل كيليان هذه المرة، يمكنه ان يرى الامتنان في نظراته الزرقاء:" سأبقى مدين له..."
" لم افعل شيئا..." عاد اليساندرو ليعترض لمرة لم يعد يعرف عددها:" اي شخص كان ليمنع طفلة من الخطر... ما يحذث انني كنت في المكان و اللحظة المناسبة"
كانت دانيلا تستمع لحوار الرجلين دون ان تبتعد عن حضن اليساندرو، تتفادى النظر الى كيليان، الشبه بينه و بين يانيس يغرقها اكثر في تعقيدات الماضي، ورغم ذلك تعامل مانغا الاعمال المشهور كجنتلمان حقيقي ما ان اتصلت لتستعلم عن مكان خطيبها حتى انه اتى شخصيا ليقلها من المطار، لم يكونا قد تبادلا الكثير من الكلام، لكنه طرح عدة اسئلة متعلقة باليساندرو، بدى فجأة مهتما بمعرفته أكثر.
" سوف أترككما لأنهي معاملات خروجك ..." سمعت صوت رجل الأعمال في ظهرها قبل ان يخرج من الغرفة و يتركهما بمفردهما.
جلسا على حاشية السرير، يدها على فكه النامية، مازال رجلها يطفح وسامة حتى و هو يرتدي الجبيرة.
" هذا الرجل يشبه والدك بشدة..." قالت فجأة بينما عقلها يرفض الابتعاد عنه:" مكانك كنت لأسرق عينة منه و ارسلها للمختبر كما فعلت أنا مع خوسيه... انا متأكدة ان تكون النتائج ايجابية..."
لم يرد اليساندرو، بقي فحسب ابهامه يلامس خدها، عيناه متبثتان على وجهها، يتأخر عند كل تفصيل، فجأة فتح باب في عقلها، شهقت قبل أن تقول بخفث:" أجريت فحوصا... اليس كذلك؟؟"
" انه ابن يانيس..." أكد اليساندرو متنهذا:" أجريته قبل خمس سنوات بينما تتعدد لقاءاتنا... لم أهمل الشبه بينه و بين أبي..."
" روكو يعرف؟؟" سألته غير مصدقة أن ظنونها في محلها.
" انه يعرف... لكن مؤخرا فقط... لم أرغب يوما بإخباره مخافة عن عواقب اكتشافه للموضوع..."
" و كيليان يعرف بقرابتكما؟؟" عادت تلح بينما قلبها يتسابق بشدة.
" أظنه يعرف أيضا..." أجاب اليساندرو وهو يدفع شعرها الى الوراء بعيدا عن وجهها:" جاك ارشيبالد تبنى كيليان... بقية القصة أو كيف حذث ذلك اجهله كليا, و احترم تكثمه... حياته الحالية افضل ، اسم الايميليانو ثقيل ... انظري الى روكو... عبئ مسؤوليات اعمال والدي لا تتركه يعيش حياة طبيعية... نحن لم نختار والدنا دانيلا... ليس من حقك معاقبتي بهذا الشأن"
وهي، عبدة لمشاعرها ، أومأت برأسها. لقد اتت اليه بدل الطيران الى كابري لاكتشاف مكان ولادتها، قد تستأنف بحثها لاحقا لكن معرفة انه مصاب لم تتركها تفكر مرتين في واجهتها القادمة، انها تحبه بشدة، قد يكون ابن يانيس لكنه لا يشبهه اطلاقا، اليساندرو رقيق و حنون و هو بنفسه هجر صقلية منذ سنوات بسسبب ثقل وزن اسم الايميليانو، دنت منه ووضعت شفاهها على شفاهه في قبلة ناعمة
" فقدت عقلي اليساندرو... ارجوك اغفر لي"
" لا بأس حبيبتي... حاولت ان ابقى متفهما حتى النهاية... لكنني انوي دعمك لتعثري على الحقيقة كاملة...لن ننفصل مجددا دانيلا... هذه الأسابيع كانت مثل الجحيم بدونك"
" و انا أيضا... كان من الغباء وضع المسؤولية عليك اليساندرو... أنا حقا آسفة... اعدك الا يتكرر الأمر"
مرغت انفها في ثنايا قميصه تشتم رائحته بنهم، لقد افتقدته اكثر مما هي قادرة على الاعتراف به، تعب الايام الاخية عاد لها دفعة واحدة لكن وجودها بالقرب منه يطمئنهاا و يمنحها القوة، يقول بأنه ينوي دعمها حتى النهاسى، فهل سيتقبل اليساندرو حقيقة يانيس؟ سابرينا حاولت حمايته و لا يبدو انه مطلع على كل زوايا والده المظلمة مثل روكو... فهل سيكون قويا لمواجهة الحقيقة الكاملة؟
* * *
كان الجو ثقيلا، محملا بالكهرباء، بالنظرات الهاربة، الملتوية، العميقة، يبدو أن يوليا تتسلى بخطيبته، انه يعرفها جيدا، يحفظها عن ظهر قلب، انها تمساح شرس في الأعمال، سيدة قوية للغاية، وهشاشة بريانا بمثابة حفنة هواء نقية لها، تماما كما كانت له عندما اصطدمت بسيارته لأول مرة... هذا ما يحذث الفرق في العالم الذي ينتمي اليه هو و يوليا... الالتقاء باناس طبيعين بمشاعر و أحاسيس .. الشيء الذي فقداه مع الوقت بفضل ممارساتهما الخطرة، حذرهما و قياس كل تصرفاتهما و قراراتهما، انتقل بنظراته بين المرأتين، وجبة العشاء تمر ببطئ شديد، ضيفته تتعمد التأخر وهو في الحقيقة سئم دفعها لبريانا لحد الفوران.
" اذن فأنت مصممة يخوت؟؟ أخبرني روكو بأنك موهوبة للغاية..."
ابتسامة بريانا القسرية أشعرته برغبة شديدة لحمايتها، مد يده ليمسك بيدها و يعصر عليها برقة:
" خطيبتي امرأة متفوقة وذكية... انها امهر مصممة يخوت في العالم..."
لمعت اسنان يوليا تحت ابتسامتها الشاسعة:
" روكو ايمليانو صاحب ذوق نسائي عالي دائما...لكنه قلما يكون مكتفيا"
حطت بريانا عينيها في عينيه، رفع اصابعها الى شفاهه متفاديا وخزات يوليا المتسلية:
" أتى القمر ليزيح الظلمة من صدري..." هذه المرة منحته خطيبته ابتسامة حقيقية" صدقيني يوليا... هذه المرة أنا مكتفي للغاية... أتمنى فحسب أن تقبل بي الى آخر أيام حياتها..."
كرد عليه انحنت لتقبله برقة قبل أن ترمي ظيفته بنظرة متهكمة:
" هل ترغبين ببعض القهوة سنيورينا يوليا...؟؟"
" بالتأكيد شكرا لك.." اجابت يوليا دون ان تختفي الابتسامة من شفاهها المطليتين بالحمر الفاقع، بينما بريانا تأمر بإحضار القهوة قالت ضيفتهما وهي تمسح شفاهها بمحرمة:" الم يخبرك روكو بأن هناك اتفاق بين والده و والدي بالزواج للاحتفاظ بمصالحنا المشتركة؟؟"
استرخى روكو في مقعده، انه يعرفها جيدا، مشهد العاطفة امامها لم يبعدها عن رغبتها بكسب الكلمة الأخيرة.
" هل هذا صحيح؟؟" سألته بريانا بصوت مشحون.
" هذا صحيح..." تكلمت يوليا بدلا عنه، اشبكت أصابعها الأنيقة تحت ذقنها :" بعد ان أدرك أبي بأنه رزق بطفلة في عمر صغير ألغى الاتفاق لخيبة يانيس..."
حط روكو نظراته على الشقراء الفاثنة التي فعلت في الماضي كل ما استطاعت لتمنعه من الابتعاد، اذن فهي تعرف بشأن صوفي أيضا! انها تحاول هزهزته، تحاول مفاجئته، منذ وصولها وهي تحاول ربح الجولة، تنوي غرس اوثادها في ارضه، لكنه وحده من يربح الحرب.
" يانيس كان يملك أحلامه... و أنا أحلامي..."
لا يبدو أن كلماته تعجبها، راقب نظراتها الخضراء تتوهج أكثر:
" كان صاحب رؤى شاسعة الأبعاد... رجل تمكن من كسب الجميع ووضعهم تحت السيطرة.. لن يعيد التاريخ مثله..."
" لحسن حظ هذا البشرية..."
وصلت القهوة، لكن يوليا لم تلمسها، عيناها متثبتتين عليه، تبدو و كأنها تجلس على جمر مشتعل:
" تنوي مناقشة الأعمال أمامها ؟"
ضغطت بريانا على يده، و كأنها تعارض بأن يتركها على الحياد، الا انه لا يملك الخيار، يوليا خطرة عندما تفقد صوابها، و لا يبدو أن الشراب الذي استهلكته حسّن مزاجها.
" في مكتبي..."
" أفضل فضاء مفتوح... لنتمشى قرب الشاطئ..."
غادرت المكان دون ان تترك له حرية الرفض، بقيت بريانا متيبسة مكانها، تجاهذ كي تحتفظ على ملامحها محايدة.
" اخلدي للنوم عزيزتي... قد يطول اجتماعي ..."
" تريدني ان انام بينما ستجتمع بخطيبتك السابقة؟؟ هل تسخر مني؟؟" سألته بنبرة عدم تصديق.
" لم تكن يوما خطيبتي... ذلك الكلام انتهى قبل أن أنهي دراستي الجامعية ... "
وقفت بينما عيناها تشتعلان نارا:
" أجهل نوع الاعمال التي تنوي مناقشتها بها لكنني ارى بأنك تعجبها روكو... و يبدو ان هذا الاعجاب متبادل..."
هز حاجبيه متفاجئا من هذا الاتهام، لا الوقت و لا المكان مناسبين لأزمة غيرة، الا أن ردود أفعالها تعجبه و يجهل لماذا يشعره هذا بالاكتفاء.
" انت مخطئة..."
لكن لا يبدو انها ترغب بسماع احتجاجاته، اكتفت بدورها بمغادرة المكان.
كانت يوليا بصدد اشعال سكارها، مازلت نظراتها تتوهج ببعض الوحشية، لم يكن القمر كاملا، اشار الى سانتياغو و خافير بالا يتبعاهما، كانت قد تخلصت من صندالها و تركته على الرمال، تلتزم الصمت بالتأكيد بصدد جمع الكلمات المناسبة الذي هو متأهب لها مثل عادته:
" كيف تجرؤ بالكلام.. بكل ذلك التنال عن والدك..؟ بالكاد أصدق" تمتمت من بين اسنانها.
" نسيت انه تمت عبادته طويلا..." علق متهكما و هو يدلف يديها في جيوب بنطاله.
" ومازل ... برئيك لما العلاقات بيننا قوية و مثينة؟؟ ذلك الرجل تمكن من خلق نوع من القرابة التي لا تشوبها شائبة... المافيا الروسية بنفسها انحنت امامه و استراجيته مكنت الجميع من التقدم... مازلنا نتبع خطواته حتى اليوم روكو... والدك لم يكن انسانا عاديا للاسف أنك لست مثله..."
" هل قطعت كل هذه المسافة كي ترثي لأبي؟؟"
" أنت تجهل ما يحدث ..." قالت متجاهلة سخريته.
" الكل على دراية كاملة بأنني رجل يحب الأرباح النظيفة... كانت ليانيس حياته، انسلخت عنه منذ سنوات عدة، كانت حياتك لتكون أفضل لو فعلت الشيء نفسه يوليا... اليوم أنت غارقة حتى عنقك..."
توقفت أمامه لتمنعه من التقدم، كانت تقف عكس الريح، لا تتوقف عن ابعاد خصلات شعرها عن وجهها:
"و لهذا تركتني؟ لم تتقبل أن أكون امرأة قوية... تناسبك هشاشة بريانا... تبدو بأنها توافق على كل ما تريده...عكسي أنا..."
" لا تقحميها في كلامنا..."
" هي جزء مما يحدث..." قاطعته دون ان ترمش:" عنادي لم يكن يستهويك روكو... و ياللغرابة... كان في الوقت نفسه يثير شهوتك الجنسية... لا أظنها ستعجبك مثلي... نحن نكمل بعضنا فقط لو تتنازل كي ترى بأنها لا تناسبك بالمرّة... نحن ننتمي لنفس الوساخة و القذارة روكو...هي لن تجعلك نظيفا..."
" ان استمريتِ فسأتهمك بالغيرة..." صمتت أمام لهجته الاذعة، لم يعد الأمر مسليا بحق الجحيم، تعرف كيف تضع السكين في الجروح الغائرة :" أخبريني ما تنتظرينه مني بالضبط؟؟ ... أعتقد في النهاية بأنني أملك الجواب لسؤالي... أنت متورطة مع عدة منظمات، قوتك تنهار ببطئ و يلزمك مرفأ أمان... ثم تذكرتي ابن يانيس الذي طالما وجد الحلول لكل المشاكل، ما تنسينه هو أنني أسعى الى حياة طبيعية... فكما لاحظتي أتأهب للزواج و أنوي تكوين أسرة... لن أدخل حرب بلا نهاية فقط لدعمك و أعرض من أحبهم للخطر..."
رآها تلتقط أنفاسا عميقة، تحاول التحكم في أعصابها:
" الزواج من امرأة عادية لن يغير من حيقيقتك... أنا أعرفك... قي تلك الحقبة التي جمعتنا... كنت المثال الحي ليانيس... كان اتفاقنا مذهلا، كملنا بعضنا البعض، انسحابك لن ينقذك صدقني... العالم يزداد قوة... الأنتربول على اعقابك هل تدري هذا على الأقل؟؟"
هز كتفيه بلا اهتمام:
" لا شيء يخفى عليّ... و قد غرسوا جاسوسهم في بيتي، لن يجدوا شيئا لأنه لا يوجد شيء... ماضي يانيس مات معه... لكن ان اتيت للحصول على نصيحة قد اقدمها لك... لن أدعمك بشيء أكثر يوليا لأن اتفاقياتنا الماضية انتهت بموت والدي...
كشرت على انيابها:
" تظن بأنني أحتاج لنصائحك؟؟ ان حدث لي شيء فسيتبخر كيليان ارشيبالد في العدم لأن الحصانة تسقط عليه ايضا... برئيك لما كان والدك على علاقة مثينة للغاية مع الروس؟؟؟ فعل كل ما بإستطاعته لحماية ابنه... "
رغما عنه شعر بالغيرة لهذا التصريح، فيما يخصه شخصيا فقد شحذ اهتمامه بكل الطرق، فعل كل ما بإستطاعته ليحصل على حبه و عطفه دون جدوى... كان يراه مثل آداة عليه شحنها جيدا لتأخد زمام الأمور بعده... لم يحبه يانيس كما أحب كيليان و لا يظن انه احب اليساندرو بنفس الطريقة.
" يمكن للروس ان يتخلصوا من كيليان ارشيبالد لأنه بالمقابل عقبة في طريقي... ذلك الرجل لا يهمني..."
بانت ابتسامة ساخرة على زاوية شفاهها المغرية، مظهرها الملائكي في هذه اللحظة متناقض مع روحها الشيطانية، يوليا كوكتيل سام من التناقضات:
" دم الايميليانو مقدس للغاية... أعرف بأنك ستطير لمساعدته ما ان يعلق في ورطة!"
زم شفتيه، هذه اللعبة بدأت تتعبه، تبثها بنظرات جليدية :
" لا تظني كيليان سهل... انه أخطر مما تظنين، دعيني اخبرك أنه ورث ذهاء والده مئة بالمئة ولا يشبهه شكلا فقط، بحوزته اسوء أسراركم، حتى أسرار المافيا المكسيكية التي تقوم بضربك مع أوسوغارا... يانيس أمن مؤخرة ابنه المفضل جيدا... ان حذث له شيء فسينجرف الكل معه في فوهة البركان... الكل سينهار... يانيس لم يكن فحسب قائد عصابة اجرامية شاسعة، بل خلية مهمة ضمن قوى من المستحيل ان تصدقي أبعادها... أمامهم... كلكم مجرد بيادق يوليا... لدى لا تهدديني ... ان تورطت معي أو مع كيليان فستصبح مصائبك مع أوسوغارا هينة للغاية و بلا اي معنى... "
تعرف جيدا بأنه لا يدعي، بانه جاد للغاية، كل كلمة صادقة، استرخت كتفيها و استأنفت المشي، بعد عدة خطوات قالت بهدوء هذه المرّة عندما أدركت أن التهديد لن ينفعها:
" هناك مُنافِسة قوية تستعين بالعديد من المنضمات لينقلبوا ضدنا، والدي مريض جدا، انها ثاني محاولة اغتيال هذا الشهر... أوسوغارا تبحث في شؤونك لأنهم يعرفون بعلاقات الايميليانو بنا، يحاولون جس النبض، ان كنت ستظهر داعما منظماتنا..."
" من هذه المُنافسة؟؟" سأل بالرغم من أن له بعض الشكوك حول هويتها.
" خوانتيا... أرملة منافسنا القديم ريكاردو لا ايستيلا.. سبق و تعامل معه يانيس...هذا الأخير حرّم عليه السوق لخمس سنوات الى أن طالب ريكاردو مافيا الصين للتدخل بينهما و طلب العفو... "
توقف روكو عن المشي، أصبح الموضوع مهما فجأة، اترسلت يوليا بتفسير استلاء خوانتيا على السوق مؤخرا بأساليب قذرة، امرأة متعطشة للدم، متعطشة للسلطة، كل هذا لا يهمه بقدر اهتمامه بملاحظة واحدة:
" أسوغارا تتعامل مع خوانيتا؟؟"
" انهم يدا في يد.." أكدت له يوليا وهي تضم ذراعيها الى صدرها.
" و أنت من أعلم ذلك السياسي المنتخب عن شحنة أسوغارا كي يركزوا فجأة انتباههم علي؟؟"
رآها تقطب، هزت رأسها بالنفي:
" لما أفعل هذا بحق الجحيم..؟؟"
" كنت متأكدا بأنك وراء محاولة اشعال النار يوليا لإثارة انتباهي... لكن بدأت أرى بوضوح"
أخبره السياسي بأن أحدهم يريد الايقاع برأسه، و بما أنه وقف في وجه خوانيتا و حصل على حصانة للكونت أندريس و عائلته فقد فقدت المرأة عقلها و تريد التخلص من العقبة الوحيدة التي تحول بينها و بين انتقامها، فعل هذا حبا في داركو، زوجته كانت بين الحياة و الموت، هو لا يهجر مطلقا أصدقائه، و خوانيتا تجهل أي ثنين تريد ايقاضه، انها تستفز يوليا كي تحصل على تعاونه... فالامبراطورة الروسية ليست المقصودة انما هو.
" سوف اساعدك..."
رأها ترمش عدة مرات و تتلعثم بغير تصديق:
" مــ... مـــاذا؟؟"
" سوف أساعدك باستعادتك السيطرة على السوق و هزيمة خوانيتا و سحب مصداقيتها... "
بقيت يوليا تتطلع اليه بعينيها الخضراوين، تنتظر أن ينفجر في الضحك كي يكذب عرضه، الا انه صادق، ان لم يوقف هذه المرأة عند حدها فستشعل النار في حياة داركو، و لما لا حياته هو أيضا، عندما رأت بأنه لا يغير رأيه اتسعت ابتسامتها حتى أدنيها:
" بطريقة يانيس ايميليانو؟؟"
هز رأسه مؤكدا:
" بطريقته نعم... " عندما حاولت الاقتراب منه لتعانقه شاكره مد ذراعه أمامه ليمنعها:" مقابل وضع يدي في يدك يوليا أريدك أن ترحلي غدا باكرا الى أن تصلك أخباري التي لن تتأخر فلا تقلقي... خطيبتي لا تتحملك و أنا أكره رؤيتها منزعجة... "
ابتعدت عنه كما أمر محترمة المسافة بينهما:
" أنت متعلق بها اذن؟؟ قلبك يخونك. إنه الحب ، الأسوأ من بين جميع السموم.." دفعت شعرها الى الوراء مجددا :" بما أنك وافقت على التعاون معي فأفضل الرحيل الليلة... بريانا... امرأة محظوظة"
ادلف يديه في جيوب بنطاله مستطردا بصدق:
" أنت مخطئة يوليا... أنا المحظوظ بها..." |