الفصل الرابع والعشرون
( 1 )
بعد قليل فتحت بسمة باب الغرفة ووقفت تشعر بعدم اتزان وكأنها قد ضربت بحجر .. لقد تماسكت أمام حماتها رغم المفاجأة ولم تعقب بل ظلت صامتة لدقائق تستوعب الخبر الصاعق ثم استدارت لتصعد معقودة اللسان .
وقفت تحدق في كامل المتكوم على جانبه فوق السرير وهي لا تزال مصدومة ..
كامل سبق له الزواج ؟!!
متى؟ ومن هي؟ وما الذي حدث ؟؟؟
تأججت الغيرة في صدرها وقفزت تساؤلات كثيرة إلى رأسها منها سؤال مرعب ..
ترى هل تلك القصيدة التي تركها في بيت الجد صالح تخص زوجته السابقة؟! ..
أخاف أن تُمطِر الدنيا ولستِ معي
فمنذ رحت عندي عقدة المطرِ
تذكرت تلك الكلمات من القصيدة التي كان يقرأها في ذلك الكتاب.. القصيدة التي حفظتها عن ظهر قلب .. والتي رغم تيقنها بأنها ليست المعنية بها إلا أن عدم معرفتها بصاحبتها الحقيقية أعطاها الفرصة لأن تحلم بأنها لها ..فشعرت بجرح عميق في القلب .
أمن الممكن أن تكون هي من يقصدها ؟!!
تطلعت فيه .. ورغم شعورها بالغيرة والغضب والألم إلا أن قدميها ساقتاها إليه ببطء .. فجلست بجواره تنظر إليه وهو مستلقٍ على جانبه مغمض العينين عاقدا ذراعيه أمام صدره وكأنه يشعر بالبرد .. فغلبت شفقة قلبها عليه ونحت مشاعرها الغاضبة جانبا لتمد يدها لتتحسس جبينه بينما كلمات القصيدة تتردد في رأسها وتنخر في قلبها.
أنا أحبك يا من تسكنين دمي
إن كنت في الصين أو كنت في القمر
فيك شيء من المجهول أدخله
وفيك شيء من التاريخ والقدر
أبعد كامل يدها عن جبينه بخشونة فعبست بغيظ لكنه حينما بحث خلفه دون أن يفتح عينيه عن البطانية الثقيلة وشدها على أكتافه عاد إليها شعورها بالشفقة عليه فأسرعت بوضع كمادة له على جبينه.
أبعد كامل الكمادة بعند صبياني دون أن يفتح عينيه فجزت على أسنانها وأعادت الكمادة مرة أخرى بتصميم ليستسلم لها بإعياء ويتدثر بالبطانية حول كتفيه العريضين.
بعد قليل ذهب في النوم بعد أن نزلت حرارته فتركته بسمة وذهبت إلى الخزانة تخرج منها صندوقا يخصها .. فتحته بالأرقام السرية واخرجت منه ذلك الكتاب الخاص بالشعر الذي لا تزال تحتفظ به وأعادت قراءة العبارة التي كان قد خطها بيده من قبل في أول صفحة.
إلى أولئك الذين نهجرهم اختيارا
فيحتلون قلوبنا اجبارا
سلام من أعماق الروح والقلب
سلام ليس بعده سلام
قرأتها والغيرة تأكلها أكلا .. شعور لم تمر به بهذه القوة من قبل.. فسقطت دمعة ساخنة على الحروف وهمست "يا رب لماذا عليّ أن أعيش نفس الألم مرتين وأنت وحدك تعرف بأن هذه المرة ليست كالسابقة أبدا .. القوة من عندك يا رب "
××××
"سأموت .. أشعر برغبة قوية في الذهاب لأولئك النسوة الهمج وسحلهن في الشارع.."
قالتها أم هاشم بغيظ وعصبية في وقفتها في ممر المستشفى عيناها حمراوان من البكاء وأضافت" ليتني بقيت ولم أتركهن .. أنا رحلت من الأساس لأني خفت أن أفسد الزيجة .. لكن ما دمن كن يبيتن النية لإفسادها كنت أنا أخذت بثأر نصرة واسراء على كل ما قلنه من استفزازات"
ازداد نحيب اسراء الواقفة بجوارها تنتظر خروج الطبيب من عند والدتها فأكملت أم هاشم مواسية وهي تربت على كتفها " لا تبكي يا حبيبتي .. ستكون بخير بإذن الله .. (وأضافت بانفعال وغيظ ) وإياك أن تبكي على شبيه الرجال هذا .. أهذا رجل ؟!!.. هذا...."
"أم هاشم"
الصوت الرخيم الهادئ أصابها بصعقة كهرباء رغم ما كانت تشعر به من حزن شديد فرفعت أنظارها نحو جابر الواقف على بعد أمتار بجوار هلال وباقي أولاده ليبادرها جابر قائلا بهدوء حازم " يكفي هذا"
غلبها طبعها العصبي فهتفت والغيظ يكاد يفتك بها" سأموت يا جابر إن لم أشف غليلي من أولئك النسوة "
رمقها بنظرة جادة وهو يرفع سبابته أمام شفتيه قائلا بهمس حازم "اشششش .. هذا ليس وقته .. لنطمئن على أم كريم أولا "
بلعت لسانها وخرست تشيح بوجهها عنه بسرعة لتؤدب عينيها اللتين لا تحترمان الظرف الصعب فيتأملنه بتدقيق ومغازلة بينما كلمة (أششش) هذه تدغدغ أذنها كالوشوشة .
خرج الطبيب من غرفة نصرة .. فاستقبله الجميع بلهفة ليقول " حدث لها هبوط شديد في ضغط الدم .. قمنا بإسعافها والحمد لله "
سأله هلال بلوعة "هل ستخرج معنا يا دكتور؟"
رد الطبيب "ستبقى تحت الملاحظة حتى يستقر الضغط .. ومن الواضح أنها تعاني من صدمة عصبية .."
ضرب هلال قبضته في كفه يشعر بالقهر الشديد والألم فأضاف الطبيب قبل أن يغادر" لا أفضل إجهادها حاليا بالزيارة هي طلبت أن ترى ابنتها إسراء فقط "
اسرعت إسراء بالدخول إليها .. واقتربت منها ببطء تتطلع في وجهها الشاحب كالأموات .
عن أي طلاق يتحدثون وفجيعتها في أمها فاقت كل مصيبة؟؟ ..
هل سيصدقونها إن قالت أنها متألمة من أجل والدتها وصدمتها أكثر مما هي متألمة لما حدث لها؟! ..
هل سيستوعبون بأنها تشعر بالقهر من أجل ما اقترفوه في حق والدتها أكثر من تلك الصفعة وذلك اليمين الذي ألقي كماء النار في وجهها أمام الجميع؟! .
هل أخطأت في شيء ؟
أكان عليها أن ترى الإهانات الموجهة لأهلها وتبتلعها في صمت ؟!..
أكان عليها أن ترى أمها تُهان ويسكب على ووجهها الشربات ثم تضبط أعصابها وتصمت؟!! .
أكان عليها أن تعتذر لحماتها عما قالته لها دون أن تطالب برد اعتبار لأهلها أولا؟!!
أكان عليها أن تفعل ذلك حتى لا تصبح مطلقة بعد نصف ساعة من زواجها فتنقذ أمها من حسرة القلب و الانهيار؟!! .
نزلت على ركبتيها بجوار السرير بذلك الفستان الوردي المنحوس الذي لم تتح لها فرصة الاحتفال به .. فأحست نصرة بوجودها وفتحت عينيها بصعوبة تتطلع فيها من تحت جفنين ثقيلين وقلب مفجوع.
همست اسراء بلوعة وهي تدلك بحركة لا إرادية موضع قلب أمها وكأنها تعلم بأن العلة فيه " أمي"
بصعوبة أمسكت نصرة بكف ابنتها ورفعته إلى فمها ببطء وقبلت ظاهره مغمضة العينين تبكي بقهر .. فأسرعت اسراء بشد يد أمها إليها وقبّلتها ثم مالت على رأسها تقبلها عدة مرات .. قبل أن تدفن وجهها بين رقبتها وكتفها وتشاركها البكاء فلم تكن هناك كلمات مناسبة يمكن أن تقال .
في الخارج امتقع وجه هلال وهو يغلق الهاتف فتطلع فيه جابر بوجه شاحب ليقول الأول" طلقها رسميا يا جابر .. ابنتي أضحت مطلقة قبل أن تبدأ حياتها "
قال جابر بانفعال " أنا أدرك حجم مصابك يا هلال لكن بعد ما حدث لم يكن هناك أي فرصة للصلح أو الاعتذار من أجل تجنب الانفصال .. أنا شخصيا لم أكن لأرضاها لك أو لإسراء أبدا "
رغم كل شيء كان مصاب هلال في طلاق ابنته عظيما جعله يقول والدم يفور في رأسه" طلقها ابن ال**** .. حسبي الله ونعم الوكيل .. حسبي الله من فوق سبع سماوات ونعم الوكيل .. حسبي الله ونعم الوكيل"
××××
في المساء
قال جابر بانفعال من خلف عجلة القيادة وهو يقترب من الشارع الذي يسكن فيه عائدا من المستشفى " بصراحة إن ما يحدث هذا مهزلة بكل المقاييس .."
رد يحيى الجالس بجواره مؤيدا" وأي مهزلة ..اسألني أنا أبو البنات كيف أن الأمر وصل لذبح وسلخ الأهل في تجهيز بناتهم .. ورغم رغبتك في التمرد على ما يحدث تخشى على بناتك من أن يعايرن من أهالي أزواجهن للأبد .. لم تكن عاداتنا في تجهيز البنات بهذا الشكل المبالغ فيه قبل عدة سنوات .. لا أعرف ماذا حدث!"
تكلم جابر وهو يركز في الطريق أمامه "الحقيقة أنا مذهول مما أراه وكأنها مباراة في المباهاة وإلا تكون وصمة عار في جبين الفتاة وأهلها .. أي جنون هذا !.. لابد أن يتحدث فيها أهل الدين .. إن مصطفى الزيني مستاء بشدة وحزن حزنا شديدا لما حدث ..وأخبرني بأنه سيطلب من شيخ المسجد الكبير أن تكون خطبة الجمعة القادم عن المغالاة في تجهيز الفتيات"
قال يحيى بلهجة حزينة "أتمنى أن يستجيب الناس وأن يتعظوا فما يحدث هذا لا يرضي الله أبدا "
ساد الصمت فتحركت أنظار جابر يتطلع في أم هاشم في المرآة الأمامية للسيارة .. والتي تستند برأسها في المقعد الخلفي على زجاج النافذة المجاورة لها شاردة في صمت حزين .. فتألم من أجلها .. خاصة حينما علم من والدته على الهاتف ما قيل لها في وجهها ..وما قيل عنها بعدما تركت بيت هلال.. فتملكته الحمية والرغبة الشديدة في الأخذ بثأرها .. وتساءل في نفسه فيم هي شاردة وتفكر .. هل هي مستاءة مما قيل لها؟.. أم مستاءة من أجل ما حدث لعائلة هلال ؟..
إنها تركيبة غريبة من العاطفة والقوة .. تلك هي الفكرة التي انطبعت بداخله اليوم وهو يراقبها خلال الاحداث ..وابتسم في نفسه وصورتها بعباءتها السوداء تقف حمراء العينين من البكاء تتوعد بغيظ وانفعال لأمر يخص شخص آخر غيرها .. ثم أخذ يستعيد تفاصيل شخصيتها خلال سنوات عمرها كطفلة ومراهقة قبل أن تتحفظ في علاقتها معه .
انعطف يدخل الشارع الذي يسكن أوله وهم بمواصلة القيادة حتى نهايته حيث يقع بيت يحيى لكن الأخير قال بإصرار وعتب "ما الذي تفعله يا جابر بالله عليك!"
رد جابر "سأوصلكما حتى باب البيت"
اعترض يحيى قائلا "حلفتك بالله لا تفعل.. صف سيارتك مكانها على أول الشارع وسنكمل الخطوتين الباقيتين على أرجلنا "
قال جابر بلهجة عاتبة وهو يوقف السيارة أمام بيته "لماذا حلفت يا أبا سامية !"
رد الأخير وهو يفتح الباب " أكثر الله من خيرك على توصيلنا معك "
فتحت أم هاشم الباب في صمت ونزلت ..فأقلق سكوتها جابرا ..خاصة حينما تحركت مبتعدة بخطوات بطيئة وهي تعقد ذراعيها أمام جذعها وتتطلع في الأرض بشرود.
كانت تشعر بأنها منهكة الروح .. ترغب في أن تبتعد عن جابر في هذه اللحظة بالذات .. لأنها .. في أشد الحاجة إليه .. وجوده في هذه اللحظة التي هي ضعيفة فيها وحزينة يخيفها من لحظة انفلات لسيطرتها على نفسها .. خافت أن تطلب اللجوء إليه .. أن تقوم بأفعال مجنونة جريئة فتتوسل منه احتواءً..
عليها أن تكون قوية السيطرة على نفسها حتى تنعم بالبقاء في محيطه دون انفلات منها قد يفضح أمرها عنده وقد يزعجه ويشعره بالثقل .. وهي لن تقبل أبدا أن تكون شخصا ثقيل التواجد حول أي شخص فما بال الغالي ..
حتى يكون حضورها حوله خفيفا كخفة ريشة فوق كتفه .. أو كخيط في طرف ثوبه .
راقبها جابر تبتعد وازداد شعوره بالقلق والشفقة وشعور مجهول أخر في قلبه لم يستطع ترجمته فقال ليحيى الذي ألقى عليه تحية المساء مغادرا" حاج يحيى"
استدار إليه الأخير ليقول جابر" أنت تعلم بأن الوالدة قد اضطرت لإعلان أمر الخطبة على الملأ ..وبالتأكيد الأمر قد وصل للكل الآن فأنت تعلم بلدتنا .. ورغم أن أمي شعرت بالذنب لأنها تهورت بالإعلان قبل أن نعلن في وقت مناسب ..لكني بصراحة حينما علمت منها بتفاصيل ما حدث .. وجدت أن الله قد دبرها بأحسن تدبير لأن أهل طلال قد يحاولون استغلال أم هاشم لإخراج أنفسهم من أي تحفز ضدهم بإلقاء اللوم عليها بشكل يوحي بأنها السبب في افساد الخطبة "
قال يحيى بحمائية " لماذا .. لقد غادرت المكان قبل المشاجرة ؟!"
رد جابر بضيق شديد بعد ما سمعه من والدته ومن هنا وهناك طوال اليوم " النسوة تصرفن بجهل وبعضهن ربط ما حدث مع اسراء بأفكار خرافية عن كون أم هاشم ..."
صمت متألما وشعور داخلي بالحمائية والغضب الشديد يتعاظم في صدره فأكمل له يحيى بضيق" تقصد تشاءموا منها !!!"
قال جابر بلهجة آسفة" ووصفوها بأنها حاقدة على ابنة هلال وهذا هو السبب الذي جعل أمي تتحدث وتدافع عنها .. المهم ما أقصد أن أقوله أن ما قالته أمي في لحظة غضب أنقذ أم هاشم من أن تكون كبش الفداء لعائلة طلال ليلقوا عليها اللوم ويوهمون الناس بتلك الخرافات عن أمر التشاؤم منها أو أنها حسدت ابنة هلال "
غمغم يحيى باستياء" هذه البنت تحزنني على نصيبها .. حتى أنني كانت تأتيني أفكار أن أرسلها عند أهل جدتي في الجنوب حتى تعيش في محيط ممن يشبهونها فلا تشعر بأنها منبوذة .. لكني لست على تواصل مع أي منهم وقلبي لن يطاوعني للتخلي عنها وتركها لأناس لا تعرفهم رغم صلة القرابة "
قال جابر عابسا" عهد عليّ أمام الله أن أرد لها اعتبارها أمام أهل البلدة كلهم وأن أضعها بإذن الله في المكانة التي تستحقها "
ابتسم يحيى وقال ممتنا " أنت رجل وسيد الرجال يا جابر.. وشهادتي فيك مجروحة "
ابتسم جابر وقال" لهذا أرغب أن نسرع في اعلان خبر الخطبة حتى لا نعطي لأهل طلال الفرصة لاستخدام أم هاشم ككبش فداء كما أخبرتك .. يكفي فقط أن نعلنها دون احتفال احتراما للظروف المأسوية لدى أبي كريم ..فلو تسمح لي أن نجلس خلال اليومين القادمين لنحدد التفاصيل والمواعيد وأرجو ألا نطيل الأمر "
قال يحيى وهو يربت على ذراع جابر بمحبة "لا بأس يا جابر فلنحدد موعدا لنتفق على التفاصيل .. سأتركك الآن فلابد أنك متعب بعد هذا اليوم الطويل الشاق "
تحرك يحيى فأسرع جابر بالقول" حاج يحيى"
ناظره الأخير متسائلا فتنحنح جابر وقال ببعض الحرج "هل تسمح لي بالاتصال بأم هاشم حتى أطمئن عليها فقد بدت متعبة وحزينة ؟"
راقب جابر علامات التفكير والتردد على وجه يحيى قبل أن يقول الأخير " لا بأس "
فقال جابر مبتسما "إذن هلا منحتني رقم هاتفها؟"
××××
بعد ساعة
باسدال الصلاة جلست على السجادة بعد أن فرغت من صلاة العشاء واستندت برأسها على الحائط تشعر بالحزن.
رن هاتفها فبحثت عنه ببطء وكادت أن تتجاهله لكنها تحاملت على نفسها ومدت يدها لتلتقطه من فوق السرير لتجد رقما غير مسجل فردت بصوت مجهد" السلام عليكم"
ابتسامة تلقائية زينت شفتيه دون أن يدرك وهو يقول "وعليكم السلام ورحمة الله كيف حالك يا أم هاشم؟"
صوته ولكنته المميزة التقطها قلبها قبل عقلها فبلعت ريقها ليبادر بالقول" أنا جابر "
لو كانت في ظروف نفسية أفضل من هذه اللحظة لقامت ورقصت .. أو صرخت .. أو زغردت .. أو ربما ضربت رأسها في الوسادة عدة مرات حتى تكتم فرحتها .. لكنها ردت بحشرجة وقلبها يضرب بعنف "أنا بخير الحمد لله"
قال وهو يشعر بتوتر لذيذ يسري في أعصابه لم يحدث له من قبل " صليت العشاء واسرعت بالاتصال بك قبل أن يتأخر الوقت .. أريد أن أطمئن عليك بعد ما حدث اليوم"
بعفوية نطقت" سلمت من كل شر يا رب"
ربت الدعاء على قلبه فغمغم "ولك بالمثل (ثم أضاف) كلنا قد حزنا من أجل ابنة هلال ..والحقيقة أنا الأخر لا أعرف كيف أواسي صديقي.. فالأمر لا يصدق .. واسراء لا تستحق ما حدث "
لم يكن ينوي بأن يتحدث معها عما يشعر به بل كانت نيته أن يواسيها هي لكنه وجد نفسه يشاركها مشاعره فعاد ليقول "المهم لا أريدك أن تتأثري بما قالته النسوة لك"
لم تستطع أم هاشم التماسك .. كان ما تشعر به أقوى من تحملها .. كانت ضعيفة بشدة وقد سقطت عنها قشرتها الصلبة التي تداري خلفها رهافتها .. كانت ضعيفة فكان سؤاله عنها وصوته الرخيم الذي يأتيها فيعانق روحها يشجعانها على أن تبكي .. على أن تتوسل تعاطفا أو مؤازرة لم تطلبها من مخلوق من قبل .. لكنه الغالي الذي يرخص له كل غالي ويذل له كل عزيز .
لم تستطع أم هاشم التماسك وانفجرت في بكاء مكتوم آلم قلب جابر .. فقال بسرعة" لا تشغلي بالك بما قالوه اليوم عنك إنهم جهلة و..."
قاطعته بعدما أفاقتها كرامتها بألا تكون مثيرة للشفقة فاستعادت رباطة جأشها من جديد وهي تقول" أنا لا أبكي بسبب ما قالوه .. فهذا ليس جديدا .. أنا مشفقة على إسراء ونصرة (وأكملت بلهجة باكية ) لماذا الناس بهذه القسوة يا جابر ؟ لماذا لا يراعون المشاعر ؟.. لمَ نظرتهم مادية بحتة بهذه الطريقة المقرفة ؟!!"
تأثر بأنها في هذه الحالة من أجل شخص أخر .. وازداد احترامه لها واشفاق قلبه عليها من أن تحمل هموم غيرها فقال بلطف " لا تحملي هم الأخرين يا أم هاشم .. لكل منا ابتلاءاته .. أعلم بأن ما حدث أحزننا جميعا لكني لا أريدك أن تحزني بهذا الشكل "
غمغمت وهي تمسح بقايا الدموع" حاضر .. لا تشغل بالك بي "
قال بلهجة جادة " أنا طلبت من الحاج يحيى أن نجلس خلال اليومين القادمين لنتفق على تفاصيل وتوقيت الزفاف فلا أجد سببا لأن نستمر في إخفاء الأمر بعدما أعلنته أمي"
قالت بلهجة جادة لا تناسب عروس وكأنها تتفق على موعد عمل " لا بأس يا جابر أنا معك في أي شيء افعل ما يناسبك"
شعر بالحيرة من ردة فعلها لكنه قال "على بركة الله سأتركك الآن ولنتحدث فيما بعد "
تمنت أن تطلب منه ألا يذهب بهذه السرعة لكنها غمغمت بحشرجة "في حفظ الله"
قال جابر "تصبحين على خير "
غمغمت بعد أن أغلق الخط "وأنت من أهل الخير"
قالتها وهي تقرب الهاتف من فمها وتقبله بقبلة بطيئة بينما وضع جابر الهاتف بجواره يفكر في رد فعلها العملي ودار سؤال محير في ذهنه ..
لماذا لم يشعر بها سعيدة ؟..
هل قبلت به لأنه زيجة جيدة بالنسبة لها دون أي نوع من الراحة لشخصه !
××××
يتبع