قبل دقائق
خرج عيد من باب البيت بعد أن التقطت أذناه حركة مريبة في الخارج ..وبمجرد أن شاهد الرجل الذي لا يعتقد بأنه قد شاهده في القرية من قبل خمن الموضوع ..فتحركت عيناه لا إراديا يبحث عن هؤلاء الرجال الذين يمرون من أمام بيته بشكل دوري واحدا تلو الأخر أكثر من مرة في اليوم كما طلب منهم مصطفى الزيني لكنه لم يجد منهم أحد في هذا اليوم الحار من فترة ما بعد الظهيرة فاقترب من ذلك الرجل الغريب يسأله بريبة "نعم تفضل أية خدمة؟"
قال الرجل بلهجة مهددة رغم هدوئها "جئتك لأخبرك بأنه قد طفح الكيل فلا تلومن إلا نفسك بعد ذلك"
لاحظ عيد عربة نصف نقل تقف على بعد ولم يلمح فيها إلا السائق الذي يخرج ذراعه من النافذة وجرار يقف بجوار السيارة .. فقال بانفعال "اسمع أنا لا اقبل بهذا التهديد اذهب من هنا حالا وإلا سأتصل بمن سيأتون ليقبضوا عليك وعلى من معك"
ابتسم الرجل وقال بلهجة هادئة "سأذهب .. أردت فقط أن أخبرك بأنه هناك قرارا قد اتخذ في المجلس المحلي بإزالة هذا البيت لإنشائه على أرض زراعية (و أشار حوله قائلا) انظر حولك لا يوجد إلا بيتك .. والدولة تجرم البناء على الاراضي الزراعية .. القرار صدر بالفعل وسيهدم هذا البيت في القريب العاجل "
عقد عيد حاجبيه لثوان ثم هتف مستنكرا "عن أي تخريف تتحدث؟!!.. إن هذا البيت هنا منذ سنوات طويلة.. كان بالطوب اللبِن بناه جدي رحمه الله وقد هددته واقمته بالطوب الاحمر منذ خمسة عشرة سنة"
قال الرجل بسماجة "هذا ليس من اختصاصي ..الاوراق كلها قد تم ترتيبها لهدم البيت ..أنا فقط جئت لأخبرك ولأقول لك أنك تستطيع أن تتجنب قرار هدم البيت بتليين رأسك قليلا .."
كان عيد يتفتت من الغضب لكنه هذه المرة تماسك بقوة رغم شعوره الشديد بالخوف مما يهدد به ذلك الرجل حتى لا ينفعل على هذا الواقف أمامه في وجود صهره فلا يريد أية فضائح أمامه .. لهذا ضرب الرجل في صدره قائلا وهو يدفعه للخلف " اذهب من هنا وقل لمن يرسلك مصطفى الزيني بنفسه سيتدخل في هذا الامر"
قال الرجل باستهزاء "وماذا سيفعل مصطفى هذا !..عموما سنرحل ..ولكن قبل أن نرحل (ولمعت عيناه بتسلي ) نحب أن نترك لك ذكرى بسيطة "
أشار للجرار خلفه فسُمع صوت محركه ثم تحرك .. لتتسع عينا عيد ويهتف صارخا "ماذا ستفعل يا هذا؟!.. هل تعتقد بأنك ستفلت بفعلتك هذه! "
وتلفت حوله عله يجد من يمر من أهل البلدة ليؤازره لكنه لم يجد أحد تحت حرارة الشمس الشديدة بينما قال الرجل بابتسامة لزجة " ابني صغير ويلعب بالجرار فماذا افعل معه "
تطلع عيد مدققا في سائق الجرار ليجده مراهقا صغيرا في الوقت الذي خرج شامل يقول بعبوس متفحصا "ماذا يحدث يا عماه؟"
لم يعرف عيد بما يجيبه ..بينما توقف المراهق مترددا على بعد أمتار من صفوف الأواني الفخارية المتراصة فوق بعضها والتي كان يقصد ضربها بالجرار.
قال الرجل لشامل وقد حسبه من هيئته المدنية بأنه زبون "اذهب يا أستاذ وتعال في وقت أخر لدينا أمور خاصة نبحثها حاليا"
تقدم شامل يقف أمام الرجل قائلا بتحدي ولهجة متحفزة "أي أمور خاصة؟"
على الرغم من شعور الرجل بالتوتر من ملامح شامل وقوته البدنية الواضحة إلا أنه ظل معتقدا بأنه زبون يحاول المساعدة وسيبتعد بمجرد أن يشعر بأن الأمر جدي فقال لعيد متجاهلا شامل "تذكر بأني حذرتك "
شعر المراهق خلفه بأن (الدار أمان ) وأن الضوء أخضر فأعاد تشغيل الجرار متقدما بحماس المراهقين من الفخار المرصوص.. ليصيح عيد هادرا "ارجع يا ولد"
انتبه شامل لما يحدث فتحرك نحو الجرار بعد أن دفع الرجل بقوة ليزيحه عن طريقه .. لكن الرجل أمسك به يمنعه قائلا" لا تتدخل يا حضرة وامض إلى حال سبيلك"
هدر عيد في الرجل "بل أنت الذي سترحل من هنا"
دفع شامل الرجل بقوة وهو يقول " بل أنت من سترينا عرض أكتافك هيا"
ارتد الرجل للخلف حتى كاد أن يسقط لولا أنه قوي البنية في الوقت الذي خرجت ونس لترى ماذا يحدث .
عاد الرجل لينقض على شامل ممسكا بتلابيبه وهو يقول "قلت ابتعد يا هذا لا نحتاج لشهامتك فلا تتدخل "
برأسه ضرب شامل الرجل في جبهته وهو يقول بلهجة خطرة "سأتدخل يا حبيبي فأنا ابنه"
صرخ الرجل يمسك برأسه ووقف يتطلع في شامل بذهول في الوقت الذي اسرع عيد نحو الجرار يشير للفتى المراهق أن يتوقف ..
هم شامل باللحاق بعيد لكن صرخة ونس جعلته يستدير بسرعة مرعوبا فوجدها تشير لشيء ما خلفه في الوقت الذي انتهز سائق السيارة الفرصة والذي كان قد اقترب عندما ضرب شامل صاحبه فضرب شامل بغتة بعصا غليظة جاءت في كتف الأخير قبل أن يستدير بسرعة ويمسك بالعصا وهو يصيح "ادخلي يا ونس .. ادخل ونس يا عماه "
ترك عيد الجرار الذي بدأ في تكسير جزء من الفخار وأسرع لونس التي اندفعت تقترب وهي ترى شامل وقد هجم عليه الرجلان معا..
امسك عيد بابنته يحاول ادخالها وهو يصيح فيها "ادخلي يا ونس انت تعرضين نفسك للخطر"
اخذت تقاومه وترفض الدخول وهي ترى شامل يتصدى للرجلين معا .. السائق الذي لايزال لا يريد أن يتخلى عن عصاه الغليظة والثاني الذي كان يهدد عيد ..فظل عيد في صراع معها ليهدئها لكنها كانت مفزوعة بشدة وتصيح بانفعال بينما شامل يحاول ألا ينصت لما تلتقطه اذناه من نحيبها ..
ضرب شامل أحدهما برأسه مع صوت تكسير الفخار في الخلفية .. ليرتد الرجل وقد شعر بدوار شديد بينما ظل الأخر والذي يتمتع ببنية قوية ممسكا بالعصى بشكل افقي بينهما كل منهما يحاول دفع الأخر للخلف .. حتى دفعه شامل دفعة قوية أوقعته أرضا وحصل هو على العصى ليباغته الثاني من الخلف فاستدار له شامل يناروه بالعصا في يده وانضم إليه الأخر.
أخيرا حضر شخص مهرولا قد لمح ما يحدث من إحدى الحقول القريبة وبمجرد أن اقترب سأل عيد عما يحدث وقبل أن يجيب عيد كان أحد المكلفين بالمرور على بيته من قبل مصطفى الزيني قد ظهر وأسرع بالاشتباك مع الرجلين ففهم شامل بأنه يحاول مساعدته وصاح فيه "الجرار أوقف الجرار"
اسرع الرجل بالتحرك نحو الجرار وقفز يمسك بالفتى المراهق ويجبره على إيقافه في الوقت الذي دفع شامل السائق على الأرض بقوة..
بمجرد أن شعر السائق بأنه لن يقدر على شامل وبأن الفتى الصغير وقع أسيرا .. خمن بأن صاحبه لن يترك ابنه ويهرب معه لذا أسرع هو بالفرار نحو السيارة نصف النقل وركبها هاربا .. في الوقت الذي انزل الرجل التابع لمصطفى الفتى من فوق الجرار يقبض عليه ..وقد لاحت علامات الرعب على وجه الأخير بينما ضرب شامل الرجل أمامه بقبضته فوقع على الأرض .
قفز شامل فوقه وامسك بتلابيبه وهو يوجه له لكمة أخرى وقد سيطر عليه الغضب وفقد أعصابه كليا .
كان الناس قد بدأوا في التجمع من الحقول القريبة بعد أن لاحظوا من بعيد ما يحدث في الوقت الذي أوقف كامل السيارة في عرض الطريق وخرج منها مسرعا نحو أخيه وقد قاده حدسه لأن يعود إليه فورا .
قبل قليل
أوقف كامل السيارة أمام بيت الوديدي وهو يرى بسمة تقف على البوابة في استقباله بجلباب باللون الأخضر الداكن ..
لقد طلب منها أن تخرج إليه حتى لا يضطر للدخول.. فمن ناحية يعلم أن الوقت وقت ظهيرة ووليد والحاج سليمان بالمزرعة.. ومن ناحية أخرى لا يعرف عما سيتحدثان إن دخل وجلس معها فهما يتكلمان بالكاد.. إما في اتصالات تليفونية سريعة ليسألها عن شيء يخص تجهيزات الزواج وترتيب الأمور الخاصة به أو يتحدثان على الواتساب آخر الليل حديثا مقتضبا يكون هو البادئ به ليسألها اسئلة سريعة غير مباشرة عن يومها فهي لم تخرج من البيت منذ ذلك اليوم إلا لتشتري بعض الاشياء التي تخص تجهيزات العرائس .. غير ذلك فالحال بينهما مضبوط على الوضع الصامت.. لا هي تتحدث ولا هو يجد مجالا لقول أي شيء..
يشعر بها متألمة حزينة ويشعر أن تلك التجربة التي مرت بها منذ اسبوعين تركت أثرا في نفسها سيحتاج وقتا طويلا لينمحي .
وهو .. ويا للغرابة .. قرر أن يصبر عليها !..
غريبة هي تلك الطاقة التي نملكها من الصبر على من نحبهم .. تمنحنا قوة ربما لهضم وتمرير الكثير مما قد نتلقاه منهم ..
أو ربما هو الأمل ..
الأمل في أن يتغير الأخر .
وغريب أن يتحلى هو بالذات بتلك الطاقة من الصبر .
من أمام البوابة تأملت بسمة طوله وعرض منكبيه وهيئته الملفتة بضخامتها رغم ذلك الوزن الكبير الذي فقده خلال السنين الماضية.. ورغما عنها فقدت السيطرة على قلبها المتمرد الذي قفز من صدرها ليستقبله بترحيب حار لم يظهر على ملامحها الباردة .. فأدركت لحظتها أي فخ قد أوقعت نفسها فيه بقبولها الزواج منه..
الزواج !
يا الله ! .. لا تزال لا تصدق بأنها قد فعلتها ثانية وبأنها قد أصبحت زوجة لكامل نخلة !.
عدل كامل من التيشيرت الاسود الصيفي فوق بنطال من الجينز باللون الزيتي وحذاء رياضي بلون البنطال .. واختلس نحوها نظرة سريعة ثم تحرك يفتح الباب الخلفي للسيارة يلتقط منه عددا من الاكياس بعد أن رفع شعره عن جبهته بمشط يده بلازمة عصبية غير متعمدة حينما يريد أن يداري توتره .. لكن بسمة دوما ما تخطئ في تفسيرها فاطلقت صوتا ساخرا خافتا من حنجرتها وغمغمت بتهكم "لن يكف أبدا عن الزهو بنفسه "
اقترب منها كامل يقول بحشرجة وعيناه تلتهمان تفاصيلها بتدقيق "كيف الحال؟"
لا تعرف لماذا اغتاظت من قصر كُمّيّ التيشيرت اللذان يبرزان عضلات ذراعيه و بحركة لا إرادية جالت عيناها في المكان تخشى عليه من الحسد فالعيون تراقب من الشرفات ومن أمام الأبواب ..
اعتقد كامل أنها ترغب في التباهي بوجوده بحركة عينيها تلك وهي تلتقط منه الأكياس وترد على سؤاله بالحمد لله .. وبرغم ضيقه لكنه كان متفهما ..
ويا ليته ..
يعرف بأنها كانت تشعر بالغيرة عليه من العيون ..
ويا ليتها ..
تعي بأن لسانها قد تحرك في سرها يبسمل من شر حاسد اذا حسد ..
ويا ليتهما ..
يعبران ذلك الحاجز غير المرئي من سوء الفهم بينهما !.
سألته بسمة "ما كل هذا؟"
رد بهدوء وهو يتطلع في تفاصيل وجهها بهي الحُسن رغم حزنه " بعض الأشياء اشريتها لك وفيها كيسا يخص والدتك .."
قالت بسمة بحرج شديد وشعور بالذنب أن تغرم كل هذا المبلغ بسببها "لم يكن هناك داعي"
قال بلهجة متحفزة "اتفقنا أن تسير الامور وكأنها حقيقية .. شامل وأمي كانا يشتريان الهدايا لونس فلم يكن منطقيا ألا اشتري أنا الآخر خاصة وأن أمي اشترت بعض الهدايا لك ولوالدتك أيضا"
لم تدري بسمة ماذا تقول فسألته "كم ثمنها إذن فأنا لا أريد أن تتغرم بسببي"
انقلبت مقلتيه يطالعها بنظرات غاضبة فابتلعت ريقها وخرست خاصة مع وقفتها القريبة في مجال عطره الرجولي الذي يشل دفاعاتها .
اندفعت الحاجة فاطمة تخرج رأسها من البوابة خلف بسمة وتقول بتهليل" أهلا يا ولدي .. أنت كامل أليس كذلك؟"
ابتسم لها كامل يقول بلطف" أجل يا حاجة كيف حالك؟"
شددت فاطمة على يده تمسك بها بكلتا يديها قائلة" بخير ما دمت قد رأيتك.. (حصاة في عين من يراك ولا يصلي على النبي)"
ذاب قلب كامل لطيبتها.. بينما اشفقت بسمة على والدتها و زاد ذلك من شعورها بالمرارة فنادت على إحدى المساعدات لتعطيها الاكياس في الوقت الذي قالت فاطمة" لا يصح أبدا ألا تدخل .. ألا يعجبك طعامي؟ .. إن لم يعجبك قل لي ماذا تحب واطبخه لك"
رد كامل بحرج شديد" أبدا.. أبدا الطعام كان ممتازا ..أنا فقط لدي اعمال مهمة عليّ أن أنجزها لأعود للعاصمة قبل حلول المساء (ونظر لبسمة لتنقذه وهو يقول ) لا يزال هناك أكياسا بالسيارة يا باسمة"
تدخلت بسمة تربت على ذراع أمها قائلة "اتركيه يا أمي مادام لديه عمل"
بإحباط قالت فاطمة" فليوفقك الله ..سأترككما سويا"
قالتها ودخلت تغمغم لنفسها بسعادة "يناديها (باسمة ).. (وتنهدت تطمئن نفسها) كامل إن شاء الله.. وسيُليِّن رأس ابنتي اليابس"
أخرج كامل المزيد من الأكياس من السيارة وسط نظرات بسمة المحرجة ..فتناولتها منه وهي تقول" لا تؤاخذ أمي قد تكون لحوحة قليلا لكنها طيبة القلب ولا تفعل ذلك إلا مع من تعزهم .."
مر تساؤل مفاجئ في رأس كامل جعله يتقبض ويجف حلقه .. هل كان هذا هو موقف أمها من طليق بسمة أيضا ؟
وهل كانت تحبه وتحتفي به وتدعو له أن يكفيه من شر العين هو الآخر؟!
إنه لا يحب هذا الشعور ..
وكبريائه لا يقبل بأن يكون في منافسة مع أحد ..
هذا يجرح كبرياءه بشدة ويفسد عليه أي شعور أخر ..
لاحظت بسمة انقلاب وجهه فسألته بقلق "هل حدث شيء؟"
رد بحشرجة وقد نجحت تلك القوة التي تعارضه في أن تفسد اللحظة التي كان يتلهف لها على مدى أسبوع من أن يراها وجها لوجه ويتأمل تفاصيلها المغرية بأريحية "لا شيء هل أنت تريدين شيئا؟.."
قبل أن تجيب لمح كامل بطارف عينيه وزة تتبختر أمام أحد البيوت التي تقع عند أول الشارع فعبست ملامحه لا إراديا وتقبض متحفزا .
تتبعت بسمة سبب انزعاجه قبل أن تتسع ابتسامتها وهي تعود بأنظارها لتتطلع فيه ..فتعلقت نظراته على ابتسامتها التي اشرقت على روحه بعد أيام من الجليد ..وقفز قلبه في صدره بانتعاش وكأنه قد تلقى جرعة الأكسجين الخاصة به .لكنه رفع حاجبا وسألها بتحفز " لماذا تضحكين؟"
عادت بسمة للملمة ابتسامتها وغمغمت وهي تكتف ذراعيها وكأنها تضع حاجزا بين قلبها ومالكه " تبدو مضحكا أن تكون بهذه الهيئة وتتوتر في حضور الوز "
هتف بصبيانية لذيذة كادت أن تضحكها " أنا أتوتر !.. لم يحدث أبدا.. أنا اشفق على وز هذه البلدة لأني سأكسر عنق كل ما سأراه في طريقي منهم "
كان أمام عينيها أوسم رجل رأته في حياتها .. وسيما إلى حد يستفزها .. فحاولت ألا تتباسط معه حتى لا تتعلق به أكثر ..
فتعلق القلب يجلب العشم ..وهذا العشم سيتضخم ويتحول إلى وهم ..
وهم بما نأمل بأن نتلقاه ممن تعلقت بهم قلوبنا ..
فإذا ما اصطدمنا بصخرة الواقع .. تكسر القلب وتهشم الخاطر .. وتحطم الكبرياء.
سألته بهدوء "هل ستعود فورا للعاصمة ؟"
قبل أن يجيبها كامل اتسعت عينا بسمة وهي تراه يمسك بكتفه فجأة بعبوس متألم فسألته باهتمام" كامل ما بك؟"
لم يرد .. بل اخرج هاتفه وحاول الاتصال بشامل لكن الأخير لم يجيبه فعاود الاتصال وهو ينسحب من أمامها قائلا "لابد أن أغادر ..أشعر بأن هناك ما يحدث مع شامل"
لم تفهم بسمة.. فظلت محدقة فيه وهو يركب السيارة ويحركها بسرعة بعد أن أشار لها بيده أن تدخل ولا تقف على البوابة..
وعندما وصل إلى بيت عيد أوقف سيارته في وسط الطريق وأسرع بالترجل منها وعينيه فقط على توأمه الذي قفز فوق رجل يمسك بتلابيبه ويقول هادرا "من أنت ؟.. وماذا كنت تريد منه ؟"
اسرع كامل بتخليص الرجل من يد شامل بحزم ورفعه عنه ليقف على قدميه ثم قبض على الرجل ليقف هو الأخر وبادره يقول باندهاش "أي مصيبة فعلت لتوصله لأن تفلت أعصابه بهذا الشكل ؟"
اندفع شامل من خلفه يقول " اتركني يا كامل لابد أن اعرف ماذا يريد "
قالها ونظر لحميه الذي كان يقف أمام الباب ليمنع ونس من التحرك ويداري خلف صمته وجمود ملامحه تأثرا بما يفعله شامل .. ويداري شعورا حقيقيا بالامتنان له .. فسأله شامل" ماذا يريد هذا الرجل يا عماه؟ أخبرني"
كان عيد متأثرا لدرجة لم يستطع معها الرد بل ظل يتطلع في شامل بصمت وشعور غريب يقرصه في عينيه فلم يكن له يوما أخا أو ابنا يسانده بهذه الحمائية ..بينما تكلم كامل وهو يضرب على خد الرجل الذي يمسك به مهددا "هيا اعترف .. فهذا الثور الذي أمامك لا ينفعل إلا نادرا وإذا ما انفعل فإننا لن نستطيع تهدئته بسهولة"
توقفت سيارة مصطفى الزيني وترجل منها الأخير يتطلع في المشهد كله..
بعض الفلاحين يراقبون بينما كامل وشامل يمسكون برجل يناظرهما بغل والرجل الذي يتبعه والذي اتصل به يخبره بما حدث يقبض على فتى مراهق ..
ألقى مصطفى السلام سريعا فتحرك عيد يستقبله ويسلم عليه قبل أن ينظر مصطفى للرجل الذي يناظر الجميع بغيظ وغل محاولا الإفلات من يد كامل الممسكة به .
سلم مصطفى على كامل وشامل وتطلع في الفخار المكسور والجرار الواقف بعرض الطريق ثم عاد للرجل يسأله بغضب شديد " كيف تجرؤ على التبجح بهذا الشكل في قريتنا ..من أنت ومن أرسلك ومن أي قرية أتيت؟ "
بعد قليل كان مصطفى يأمر أحد اتابعه بجر الرجل وابنه الى العمدة بعد أن رفض الرجل البوح بهوية من أرسله بينما وقف عيد بجواره يتابع شامل وهو يقف أمام ونس عابسا يمسك بكتفه ويقول بصوت خافت يوبخها بسبب اندفاعها السابق " لا تشعري بالأسف على كتفي فأنت السبب "
اتسعت عينا ونس تشير على نفسها باستنكار ما يعني " أنا!! "
رد شامل بجدية هادئة "أجل أنت السبب ..فلو لم تندفعي وتشتتي انتباهي لما تلقيت الضربة ..ووالدك حاول أن يبعدك أكثر من مرة "
ابتأست ملامحها وحاولت لمس كتفه المصابة شاعره بالشفقة عليه لكنه أبعد يدها عن كتفه بحزم لطيف وهو يناظرها بجدية .. جعلتها تخفض نظراتها ببؤس طفولي شاعرة بالذنب فأضاف شامل محذرا" إياك والتهور والاندفاع بهذه الطريقة مرة أخرى ..سواء كنت أنا من يتشاجر أو والدك .. اتفقنا من قبل ألا تضعي نفسك في موقف أقوى منك ..(ونقر بسبابته على جانب رأسها ) وأن تستخدمي ذكائك يا ونس لا قوتك .. هنا ذكائك يكمن في عدم التهور ( وأشار لكتفه ) وها هي النتيجة ..صرخة واحدة منك شتت انتباهي ..فما بالك لو كنتِ اقتربتِ واتخذك أحدهم وسيلة لإيذائي أو ايذاء والدك .. (وتخصر أمامها يقول بمشاكسة ) أهذا تسمينه ذكاءً!"
احمرت وجنتاها من الحرج وشعرت بالضيق من توبيخه لها .. ورغم شعور شامل بالشفقة عليها ..لكنه تماسك حتى تتعلم الدرس ..
بكل مكر جادلته ونس بالإشارة عليه بإصبعها ثم رفع قبضتيها بمستوى ذراعيها بما يعني بأنه قوي .. ثم أسرعت بضم أصابع كفها تلفهم بحركة دائرية حول وجهه وكأنها ترش عليه ملحا لتقيه من الحسد وتقصد أن تقول (ما شاء الله ).
حافظ شامل على ملامحه حتى لا يضحك ورد بجدية " ربما أكون قويا لكني بالتأكيد لي نقطة ضعف وأنت نقطة ضعفي يا ونس .. كان من الممكن ببساطة أن أنفعل لدرجة تجعلني أقتل الرجل إن تعرض لك بأي سوء .. ما رأيك ؟"
أفحمها شامل برده فشبكت يديها خلف ظهرها ووقفت أمامه تتأرجح يمينا ويسارا ولسانها يلعب في باطن خدها من الداخل ..
على الرغم من شعور عيد بعدم الراحة من أن توبخ فلذة كبده لكن اعجبه أن يكون شامل حازما معها .. واعجبه أنه يتعامل مع تحايلها ومكرها بحزم هادئ .. لحظتها شعر بالاطمئنان ..
وشعر بالرضا .
أخرجه مصطفى الزيني من شروده حينما سمعه يهدر في الهاتف " لا أفهم كيف أن هناك قرارا بالإزالة لبيت بُني منذ أعوام كثيرة واعيد تجديده منذ خمس عشر سنة بحجة أنه قد بني على أرض زراعية! .. كل أهل البلد يعرفون بأن البيت مبني منذ مدة طويلة ويشهدون بذلك يا أستاذ ناجي ..... حسنا سأترك لك الأمر من فضلك اهتم به .... وعموما سواء هذا أو ذلك تلك المعلومة التي وصلتنا كانت بالتأكيد ستمر على عمدة قريتنا قبل التنفيذ وكان سيخبركم بنفس الكلام ..... أريد أن أعرف من أين جاءت هذه الفكرة من الأساس ومن المحرض عليها ! .... حسنا يا أستاذ ناجي سأنتظر منك ردا ولا تؤاخذني على انفعالي .. السلام عليكم "
أغلق مصطفى الخط عابس الوجه ثم ربت على كتف عيد يقول مطمئنا" لا تقلق بشأن ذلك القرار .. فبالتأكيد هناك خطأ ما .. والعمدة لن يسمح بشيء كهذا .. وهذا الرجل وابنه سيذهبان إلى العمدة وسنضغط عليهما للبوح باسم الشخص الذي أرسلهما .. أما أنت فانتهي من ضيوفك ثم مر عليّ لأخبرك بما حدث "
غمغم عيد بامتنان وهو يتحرك خلف مصطفى الذي توجه إلى سيارته بعد أن ركب فيها الرجل وابنه بالقوة والإجبار من كامل وبمساعدة تابع مصطفى" رفع الله قدرك وعظم أجرك يا أبا حمزة"
غمغم مصطفى وهو يركب السيارة "وإياكم يا عم عيد.. إن شاء الله سنعرف مَن خلفه.. أو على الأقل سنوصل رسالة لمن خلف كل هذا بأنك لست وحدك .. السلام عليكم"
غمغم عيد براحة "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"
واستدار ينظر للجرار الذي ركبه تابع مصطفى الزيني ليتحفظ عليه ثم نظر للفخار المكسور وغمغم "الحمد لله على كل شيء قدر الله وما شاء فعل"
×××× يتبع