الفصل الثالث بعد خمس ساعات ، في شقتهم بالعاصمة .
تركت سما البلكونة عائدة للصالون الرحب ، جلست على الأريكة تأرجح ساقيها ، عيناها مستقرتان على شاشة التلفزيون العريضة ، أطلقت تنهدا عميقا أصيلا ثم قالت بامتعاض :
- أشعر بالملل ، لا يوجد شيء لأفعله .
كان هذا بعد رحلة مرفهة في القطار و بعد ساعتين من التجول بين الملاهي و متاجر لعب الأطفال .
- فعلنا كل ما نقدر على فعله ، قالت بريهان بهدوء بينما تناظرها بتسلية و هي تدور و تبرطم كعكجوز غير راضية ، أخبريني الآن ما الذي يسعد سموك ؟
حينها فقط عاد شيء من الطفولة ليسكن نظرات ابنة أخيها و هي تقول لها بتملق :
- أعطني هاتفك أو لوحتك الرقمية لألعب .
- و لن تملي ؟
- حين أمل سأشاهد شيئا ما .
- و أنا أيضا أريد هاتفك " عمتو " .
رفعت بريهان يديها تشير إليهما بالاقتراب ، أجلستهما فوق حجرها ، غمرتهما بالأحضان و القبلات ثم همست بتشويق :
- ما رأيكما أن نلعب لعبة الوسائد ؟
- فيما بعد ، قررت سما بكل حزم ، تلك لعبة ما قبل النوم .
- نعم لعبة ما قبل النوم ، كررت الببغاء الأخرى .
- طبعا ، حضرتكما الأدرى
إزاء نظرة الغضب التي بدأت تحمر لهما الأعين الصغيرة ، رفعت بريهان كفيها تقول بصوت مهادن :
- ما رأي الأميرتين في حكاية جميلة للأطفال ؟
دارت عينا الكبرى في محجريهما و عادت للجلوس مكتفة ذراعيها على صدرها بينما حاولت الصغرى القيام بنفس الدورة ثلاث مرات بفشل ساحق فاكتفت بالجلوس بقوة بنفس تكتيف الذراعين .
" سلام قولا من رب رحيم " ، تمتمت بريهان بخفوت و عيناها تتنقلان بين الغيوم المتلبدة على الملامح الطفولية .
رفعت أمها الجالسة على مقعد منفرد عينيها عن كتاب الطبخ الذي كانت تتظاهر بتصفحه و أطلقت تنهيدة طويلة كموال يمهد لأغنية تعلم بريهان بحكم حفظها لوالدتها كيف ستكون لذلك بابتسامة ناعمة حولت عينيها لملامح أمها المتحفزة .
لم تفلت الأخيرة الفرصة فوضعت الكتاب على الطاولة المجاورة لها بقوة كأنها تخبطه ثم قالت هي تحول نظراتها بين ثلاتهن :
- أعطيهما هاتفك بريهان .
بعد لحظات قصيرة كانت الطفلتان قد تاهتا تماما عن عالم الدنيا ، تأملت السيدة جلنار النظرة المركزة المستغرقة داخل عينيهما ثم قربت مقعدها من طرف الأريكة حيث تجلس بريهان و بدأت تقول بخفوت :
- و الله يا ابنتي عندما أرى طولة بالك مع الأطفال سواء كانوا أبناء إخوتك أم التابعين للدار قلبي ينقهر عليك .
أليس الأولى بحنانك و صبرك طفل من رحمك ؟
استمرت بريهان تنظر نحوها دون كلام فأضافت أمها بسخط :
- و أنت بالذات لا تقولي النصيب ، النصيب يأتي إليك طوال الوقت لكنك ترفضين بعند و دون أسباب .
في هذه اللحظة و أنا أراك أمامي و أحس بقلبي كم تتوقين أن تكوني أما أريد أن أعرف حتى متى ستستمرين بالرفض ؟
- حتى أجد من يقنعني ماما ، تمتمت بكل هدوء و يدها تمتد لمداعبة شعر ابنة أخيها الصغرى .
- بيري حبيبتي ، غيرت أمها طريقتها و عادت تقول بصوت لانت نبراته ، شريف ابن خالك لا ينقصه شيء ، اتركي له فقط الفرصة و هو سيعرف كيف يقنعك .
- ماما ، سبق و أخبرتك : شريف لا .
برقت عينا أمها و نظرت ثانية نحو حفيدتيها ثم قالت و هي تحافظ بصعوبة على انخفاض درجة صوتها :
- لكنك لم تبد أي أسباب ، أقنعيني على الأقل لماذا ترفضينه و هو يحبك كل هذا الحب ؟
أقنعيني حتى أقنعه و أقنع أخي معه .
أحنت بريهان رأسها فمال شعرها مع حركتها و انسدل يخفي نصف وجهها الفاتر التعابير .
هذا هو حالها كلما تأتي سيرة شريف ، ينتابها فتور غريب و تنكمش عواطفها كأنما لفحتها نسمة باردة .
رفعت وجهها تنظر إلى لمعان الترقب داخل عيني أمها ثم قالت بنبرات واضحة متمهلة حتى يصل المعنى هذه المرة دون التباس :
- ماما أنا لا أحب شريف ، أحترمه كرجل نعم ، أحمل له مشاعر جميلة كونه ابن خالي نعم لكني لا أحبه و لن أفعل ، أبعدت شعرها عن وجهها و أضافت ، و ليست مشكلتي معه تتمثل فقط في غياب الحب ، مشكلتي الأكبر معه أنه كلما اقترب أنا أبتعد ، هو يشعر بي جدا و بالمقابل أنا منعدمة الشعور به و هذا يجعل من المستحيل أن ينجح أي شيء بيننا .
وقفت السيدة جلنار ، أشارت لحفيدتيها بإفساح المجال لها قليلا ثم جلست شبه ملتصقة بابنتها ، تأملت جانب وجهها قليلا و تحسرت على فتنتها الباردة التي سيضيع أريجها فهي لا تسمح لرجل بالاقتراب حتى تفتح ورد أنوثتها له .
مدت يدها تلامس شعرها الغامق الكثيف الذي ورثته عن أبيها كما كثير من طباعه أهمها الحنان و العند ، برقة جلبته ذكراه همست :
- و أنت تريدين الشعور به حبيبتي ؟
حدقت بريهان أمامها لحظات طويلة ثم بالكاد افترت شفتاها و هي تتمتم :
- كلا بصراحة لا أريد و لا أعرف إن كان هو السبب أم أنا لكن في جميع الحالات شريف يستحق من تريده ، لا من تغصب نفسها عليه .
تنهدت أمها بعمق بينما تظاهرت هي بمتابعة ما تشاهده ابنتي أخيها حتى تنهي نقاشا لطالما كان ثقيلا على قلبها .
أختها الأكبر نرمين تلح عليها أيضا لتقبل بشريف ، تقول لها طوال الوقت أنها بعد الزواج ستندمج معه و السبب هو ما سيحصل في العلاقة الزوجية بينهما .
طبعا أختها لم تتكلم معها في تفاصيل لكنها أفهمتها أن الجانب الحميمي في الزواج يغير كيان أي امرأة مهما تظاهرت بالعكس و أنه أحيانا يكون أهم من الحب .
ربما يكون الأمر صحيحا فهي لم تجرب كي تحكم لكنها رغم ذلك لن تخوض تجربة الزواج بشريف لأنها فعلا تعجز عن الشعور به قلبا و جسدا .
هي شبه متأكدة أنها لو تزوجته هو أو سواه فسيعرف كيف يجعلها تستجيب بجسدها لكنها ترفض أن تدخل علاقة حيث للغريزة كلمتها العليا و يطوي القلب نفسه بما يحتويه في خضوع لشهوات جسد فان .
ستحتقر نفسها جدا إن فعلت ، خاصة بعد كل ما عاشته مع لؤي .
لذلك لن تتزوج حتى يتحرك احيتاجها الخاص و ليس فقط لتلبي حاجة الطرف المقابل .
- أعطيني الهاتف سما ، قالت فجأة بعد صمت طويل و هي تمد يدها بالتزامن مع وقوفها أمامهما .
بنفس الصمت الرافض المتحفز ارتفع الرأس الأول و تبعه الرأس الثاني ، نفس الوضعية ، نفس الزواية حتى نفس نوعية النظرة .
تعالت ضحكتها ثم قالت تهادنهما :
- لدي الحل الأفضل لقتل الملل .
أخذت هاتفها ثم أمسكت بيديهما الصغيرتين بين يديها و بدأت تجرهما وراءها إلى المطبخ بينما تقول بحماس :
- سنقوم بصنع كيكة كبيرة ضخمة و سأسمح لكما بتزينينها و نقشها كما تشاءَان .
- ستكون هناك شموع ؟ قالت سما بعبوس .
- شموع و ألعاب نارية و قنابل و كل ما تريدينه سموك .
**
**
كان قد مضى عليهن حوالي ساعة حين دخلت والدتها المطبخ ملامحها تنطق قلقا قبل شفتيها و هي تقول :
- سنيّة عادت .
جعدت بريهان ما بين حاجبيها الرقيقين و متى كانت عودة سنيّة مشكلة ؟
- لماذا لم تناديها لتدخل معنا المطبخ ماما ؟
التفتت السيدة جلنار بقلق إلى ما وراء كتفيها ثم قالت بصوت تهاوى إلى درجة الهمس :
- من الأفضل أن تذهبي و تنظري إليها بنفسك .
نفضت بريهان يديها من بقايا الدقيق ، ألقت نظرة حنونة على الطفلتين و هما تتصارعان على وعاء الشكولاطة الذائبة من تأخذه كي تشوه به وجه الكعكة المسكينة أكثر .
- الشكولاطة مازالت ساخنة ماما انتبهي لهما حتى لا تلعقاها فيحترق لسان ..
- حاضر بيري ، قاطعتها أمها بشبه حدة ، فقط اذهبي و انظري إلى البنت .
توجهت بخطى سريعة نحو الصالون حيث من المفترض كانت تجلس سنيه كما أخبرتها أمها لكنها لم تكن هناك .
غريب ، هل غادرت بهذه السرعة .
المغادرة فجأة هو طبع في سنية و لكن ليس قبل أن تسلم عليها و الأهم ليس قبل أن تنام ليلة عندهم على الأقل .
ليلة تمثل فيها على نفسها أن لديها سقف يؤويها ، أنها مرغوبة ، مطلوبة و مدللة ، هذا ما كانت سنية تأتي لتبحث عنه لديهم قبل أن تعود في كل مرة للاختفاء و ترجع للعالم الوحيد الذي عرفته و حفظت قوانينه : الشارع .
كانت تتوجه مع تساؤلاتها نحو باب الشقة لتحاول اللحاق بها حين أوقفتها تلك الآهة المكسورة .
التفتت بسرعة لينعكس داخل عدستيها المتسعتين مشهد جسد الفتاة المتصلب بتشنج على الأرض بعد أن وقعت أثناء قدومها من جهة الحمام .
احتارت بريهان أين تستقر بنظراتها ، على ملامح الأخرى المشبعة بعذاب باك أم على تلك الشكوى الخرساء و التي هذه المرة لم تكتف بالسكن داخل خواء عينيها بل و تجلت في التواء شفتيها الصاخب الصارخ بكلمات لم تغادر حلقها .
- سنية ، همست تتألم لألمها ، ما الذي حصل لك حبيبتي ؟
- لا تلمسيها ، جمَّدت كلمات أمها و النبرة الصارمة التي نطقتها بها يدها في الهواء .
التفتت تتساءل و ذراعها تعود إلى جانب جسدها ببطء متردد .
- ألق نظرة على بشرتها .
و حينها فقط لاحظت بريهان تلك الحبوب الحمراء التي يلتهب بها جلد الفتاة .
- تصرفي معها بيري ، تمتمت والدتها و هي تشيح بوجهها ، لا أستطيع أن أستقبلها داخل بيتي و هي بهذا الشكل
ابنتي أخيك عندنا و هما أصلا مناعتهما ضعيفة و البنت ..
توقفت عن الكلام و هي ترفع يدها بحركة وضعت فيها كل ما لم تستطع قوله : القرف ، الاشمئزاز ، الرفض .
- تعالي معي سنية ، تمتمت بريهان و هي تتلافى نظرات الطفلة المراهقة ، كأنها تريد الاعتذار لها نيابة عن كل هذا العالم الذي وحده بوحوشه أوصلها إلى ما تردت إليه : كلبة شريدة يطردها الجميع .
- إلى أين ؟
- سأتصرف ماما .
- ستعيدينها إلى الملجأ ؟
- ليس قبل أن أعرضها على دكتور .
*
*
بعد دقائق ،
زفر نديم و هو يقطع مكالمته مع حماته ليلتفت إلى السكرتيرة و هي تدخل عليه باضطراب تلونت به خطواتها و ملامحها .
رمقها بنظرة جليدية أوقفتها عن التقدم لكن لم توقفها عن الكلام .
- دكتور هناك حالة مستعجلة .
- آنسة ... ، توقف محاولا تذكر اسمها لكن حروفه طارت و تبخرت من ذاكرته .
- صفاء ، تمتمت بتردد .
- آنسة صفاء كم مرة قلت لك أني لا أستقبل حالات مستعجلة ، أولا عيادتي لم يكتمل تجهيزها بعد ، ثانيا المستشفى على بعد مائتي متر .
- لكن دكتور ، الحالة .. أقصد الطفلة تتألم ، ربما نستطيع إعطاءها مسكنا على الأقل .
- أدخليها غرفة الكشف ، علا صوته ببرود و هو يصرفها بيده .
تناهى إلى سمعه صوت باب غرفة الكشف يفتح و يغلق ثم بعض همهمات غامضة ، زفر مرة أخرى ثم قام بتثاقل يتجه نحو الباب الفاصل .
و في مدخله وقف قليلا يستند على الإطار محاولا السيطرة على تلك الرجفة اللاإرادية التي تتملكه دائما و هو في أقل حالاته استعدادا لها .
ألقى تحية خافتة على الطفلة و مرافقتها ذات الوجه المألوف ثم أشار لها بيده اليسرى التي توقف ارتجافها إلى سرير الكشف .
الدقائق التي تلت اشترك ثلاثتهم خلالها صمتا تاما .
صمته كالعادة كان جافا خاويا ، أبيض و أسود خاليا من أي لون من ألوان العاطفة ، الطفلة تتألم بحق لكن قلبه صار عاجزا حتى عن الشفقة .
و في جميع الحالات ما الذي ستفعله هي بشفقته ؟ على الأرجح نفس ما فعله هو بشفقة الناس .
الشفقة هي عبء لكن العملية هي الحل ، فكر عابسا و هو يتنفس بعمق ليخفي تلك الرعشة التي عادت لتتلبس يده اليمنى .
أسند كفه المهتزة على حاجز السرير و واصل تفحص الجسد الضئيل بيد واحدة .
- أريني ظهرك الآن .
استدارت الطفلة ببطء و عاد لرفع يده اليسرى ليكمل تفحص ذلك الطفح الغريب الذي انتشر على كامل نصفها الأعلى . امتدت أصابعه تبعد خصلاتها القصيرة المبتلة ليفتش عن آثار ما يظنه فطرا في فروة رأسها و فعلا وجده لكنه وجد معه بعض الصئبان متعلقا في خيوط شعرها .
بنفور لم يحاول إخفاءه تراجعت يده بسرعة إلى الخلف ، نزع قفازه بعنف ثم استبدله بآخر قبل أن يستدير نحوهما و يبدأ أخيرا بأكثر شيء يكرهه ، الكلام مع الآخرين .
تجاهل الشابة و توجه بالحديث إلى الطفلة .
- لديها مشكلة في النطق و الفهم لذلك لو تسمح اسألني أنا .
دون أن يغير اتجاه نظراته تدفق سيل أسئلته مسرعا و مقتضبا .
- متى بدأ الطفح ؟ هل لديها حساسية من أي نوع من أنواع الأدوية ؟ أين يتمركز لديها الألم بالضبط و هل هناك أعراض أخرى مع الطفح قيئ ، إسهال ، ارتفاع في الحرارة ؟
الثواني التالية ظل جامدا مكانه و هو يستمع لأغرب حوار سمعه في حياته ، هو الذي ظن أن قدره علمه أن لا يستغرب أبدا ، أن لا يهتم و أن لا يشعر بأي شيء يجد نفسه مازال قادرا على الاستغراب و على الشعور بلمحة فضول .
كانت الطفلة تبدو كأنها تتكلم غير أن ما يصدر من فمها لم تكن كلمات ، كانت همهمة تعلو و تهبط مع بعض الحروف المتآكلة و رغم ذلك ، رغم ذلك كانت الفتاة تفهمها ، تسألها و تستمع إلى حشرجتها بتركيز ثم تجيبه عن أسئلته بهدوء.
لم يلبث أن عاد جموده ليطغى إليه و يهزم استغرابه اللحظي .
فليذهب كل شيء إلى الجحيم ، لم يعد يبالي .
انتظر حوارهما المعوق حتى انتهى ثم أشار بيده إلى غرفة مكتبه ، تركهما تسبقانه و في طريقه وراءهما نزع قفازاته و رماها في سلة المهملات بضجر .
وقف وراء مكتبه ، مزق ورقة من دفتر الكشف ثم بدأ يخط تلك الرموز الغريبة التي كان من الممكن أن تكون حروفا مفهومة لكنها اختارت أن تكون لغة غامضة ترمز لطبقتهم السامية .
هذا ما كانت بريهان تفكر فيه و هي تستمع لنبرات صوته الروبوتية .
- بما أنها لم تدخل عيادة دكتور أبدا من قبل كما أخبرتني و لم تتناول أية أدوية لذلك يتبقى لدينا احتمال أنها مصابة بفطريات وبائية أو فطريات طارئة .
أستبعد الفطريات الوبائية لأنه لا توجد الأعراض العادية المصاحبة لها .
حسب رأيي الأولي ، الاحتمال الأرجح أن الطفلة تناولت طعاما فاسدا خاصة و هي تعاني من ذلك الالتهاب في فم معدتها .
- هل تناولت شيئا لا يصلح للأكل حبيبتي ؟ قاطع الصوت الناعم انسياب كلماته و أفكاره فارتفعت عيناه بنظرة مستهجنة .
لكن الشابة هدف تلك النظرة لم يكن هو هدف مبالاتها .
بدل ذلك كانت نظراتها مثقلة هما و اهتماما و هي تميل بجسدها نحو الطفلة الجالسة مقابلة لها يفصل بينهما و بينه مكتبه الخشبي الأبيض اللون .
دون أن تلتفت له سمع صوتها الناعم يرتفع مجددا بعد بضع همهمات غامضة أخرى من الطفلة .
- تناولت علبة زبادي منتفخة وجدتها على مقعد انتظار في محطة الحافلات .
- اممم ، تمتم بآلية و هو يواصل كتابة آخر سطر في الوصفة الطبية .
- تفضلي ، مد يده إليها بها دون رفع عينيه .
- و مبلغ الكشف دكتور ؟
راقبته يلقي نظرة شاملة على تفاصيل الطفلة ثم انتقل باهتمامه إلى الشاشة .
- لا بأس .
- و لكن ..
- قلت لا بأس ، قاطعها بجفاف و هو يستند بكفه أكثر على سطح المكتب و يشير لها بيده الأخرى نحو باب الخروج .
فتحت بريهان شفتيها لتنطق كلمة ما تعيد له بها شيئا من الذوق الذي يبدو أنه تاه منه في مرحلة ما لكن تأوها آخر من سنية أوقفها .
قامت ببطء متعمد و سارت ببطء أكبر و انحنت في الأثناء على سنية تسوي لها ياقة قميصها و ترتب لها خصلات شعرها بكل تمهل .
و لم تنس أن تغلق الباب بصفقة لتعبر له عن رأيها المستصغر له و لأمثاله .
ظل لحظات يحدق في الباب الموصد و هو يعرف أنه اكتسب كارها آخر لشخصه لكن ما الذي قد يهمه في ازدياد عدد قطيع الكارهين واحد مادام هو أولهم و أشدهم كرها و بغضا .
ببطء جلس وراء مكتبه ، ضغط زر السماعة الداخلية ثم قال ببرود :
- كم حالة لديك الآن ؟
- أربعة دكتور .
- لا تستقبلي مزيدا من الحالات .
- حا...
لكنها قطعت بقية الكلمة و هي تسمع الصوت المميز لإنهاء المكالمة .
رمتها بريهان بنظرة متعاطفة و هي تتمتم في سرها بينما تحضن كف سنية و تسحبها خارجا معها .
- سامحك الله يا ماما ، لم تجدي غير هذا السمج كي تدليني عليه .
سمج خرب القلب و الروح .
توقفت تربت بلطف على رأس سنية ثم أضافت رغما عنها :
- لكن على الأقل صاحي الضمير .
ترى ما الذي فعلته به الدنيا ؟ همست بها دواخلها و هي تواصل المضي في طريقها .
***************
التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 08-08-20 الساعة 10:41 PM |