نظرت لإبنها الذي لم يرفع عينيه عنها منذ أن دخلا .. صحيح يأتي يلاطفها من وقت لآخر لكنها لا تشعر بالراحة وهو يولي جل انتباهه لزوجته ..
باتت تكتشف فيه جوانبا لم تلحظها من قبل .. لم تراه أبدا مهتما بفتاة .. ولم يمر بمرحلة مراهقة كالشباب من قبل.. ولم يبدي أي اهتمام أمامها بأي أنثى حتى حين حاولت في السنين الأخيرة إقناعه بالزواج من سماح لم تشعر به مهتما بالفكرة .. وحين قررت عدم الضغط عليه متحسرة على ضياع ابنة أخيها التي تراها تناسبه جدا وبدأت في عرض بعض الفتيات الأخريات عليه لم يبدي إهتماما .. حتى أنها خشيت أن تؤثر نشأته الملتزمة المستقيمة على علاقته بزوجته المستقبلية .
لكن ما تراه منذ أن قرر الزواج من إبنة إلهام والذي لم تفهم حتى الآن لمَ ظهر فجأة دون سابق إنذار .. فالفتاة يعرفها منذ أن ولدت ولم يظهر عليه أي اهتمام بها .. يشعرها أحيانا أن هناك أمرا غريبا .. وتستعيذ من الشيطان الرجيم حين تتذكر كلمات سلوى زوجة أخيها أن ربما قامت إلهام بسحر معين لتفك عنوسة إبنتها الكسيحة .. وتقاوم الاقتناع بتلك الفكرة رغم أن السحر مذكور في القرآن .
هذا الوله الذي في عينيه تجاه هذه الـ أروى يغيظها .. وبرودها ودلالها عليه يستفزها .. ربما لم تكن لتشعر بذلك لو لم يكن مهتما بها إلى هذا الحد المتطرف .. وكأنه لم يرى أنثى غيرها في حياته ..
زفرت عفاف وهي تهمس في سرها أن كل الدلائل تؤيد كلام سلوى .
إقترب منها يقول بلطف " أتعبناكي يا أمي لم نكن نريد أن نتعبك "
استدارت إليه تقول" ليس هناك تعب لقد طلبت وجبة سمك من المطعم وقمت أنا بعمل بعض الأرز بجانبه "
قبل يدها يقول" كنتِ طلبت الأرز مع السمك لترتاحي "..
ردت بتهكم " لو كانت زوجتك تستطيع الطهي لما اجهدت نفسي "
غامت عيناه بالحزن .. وربت على كتفها قائلا بلهجة محبطة لم يستطع إخفائها " هل تريدين أن اساعدك في شيء يا أم عمرو ؟".
شعرت بالندم أن إندفعت في حديثها فردت بسرعة " شكرا يا حبيبي .. سيكون الأكل جاهز بعد قليل"
على مائدة الطعام بعد قليل لاحظ عمرو أن أروى تلهو بالملعقة في طبقها كالعادة فقال هامسا بسخرية " كنا نتحدث أننا سنأكل مثل الناس الطبيعيين "
ردت بحنق هامس" أنا آكل يا عمرو "
قال هامسا " السمكة أمامك لم تمس (وعقد حاجبيه قليلا ثم أكمل ) لا تقولي لي أنك لا تأكلين السمك لقد أكلتيه في كوريا "
زمت شفتيها كالأطفال قليلا ثم تكلمت بهمس محرج " هذا النوع كثير الشوك وأمي كانت تنزعه لي "
انعقد لسانه للحظة ثم همس باستنكار " لا تعرفين كيف تنزعين الشوك !!! ( واخفي عينيه بكفه قليلا يتصنع الصدمة ثم أكمل ) تزوجت إمرأة لا تعرف كيف تنزع الشوك من السمك !!"
زمت شفتيها كالأطفال ثم ردت " لا يوجد لدي صبر لذلك وحين أنتهي من المهمة أشعر بالشبع ولا آكل "
رفع حاجبه ثم قال بصوت خافت وقد بدأ في فتح السمكة واستخراج الشوك منها" تتدللين أروى هانم وهذا سيثقل دينك عندي "
فنظرت إليه بنظرة ذات مغزى كأنها تنفخ في الجمرات فيتنحنح متحكما في ملامحه الوقورة ..
راقبته عفاف وهو يزيل الشوك من السمك لأروى فمصمصت شفتيها ثم قالت " لم تأكل يا مرمورة حتى الآن "
نظر إليها عمرو نظرة عتاب.. وإن كان أقل حرجا من ذي قبل بينما كتمت أروى ضحكتها فقال لوالدته " هيبتي أمامها يا أم عمرو .. كيف تدلليني أمام زوجتي "
فتدخلت أروى تقول ضاحكة " أنا أيضا سأناديك مرمورة " فحشر السمك في فمها بغيظ وهو يرميها بنظرة متوعدة .
حين فرغ من الطعام ودخل عمرو ليصلي حاولت أروى الانضمام إلى عفاف في المطبخ تجاذبها اطراف الحديث لكن الأخيرة كانت مصمتة تماما وترد باقتضاب .. فانسحبت مستسلمة نحو غرفة المعيشة مجددا .. لتلحق عفاف بإبنها وانتظرته يختم الصلاة ثم سألته في لهفة " هل ذهبتم للطبيبة النسائية ؟"
زفر عمرو وقال " أمي نحن لم نتعدى ثلاثة أشهر متزوجين وهذه المرة الثالثة التي تسأليني فيها عن هذا الموضوع "
ردت عفاف بعصبية " أنا أريد أن أطمئن على أنها تستطيع الإنجاب "
تغير وجه عمرو وقال بصرامة " أمي هل سنفتح هذه الحديث مجددا ؟!!"
غامت عيناها بالدموع وقالت " أنا مشتاقة لأن أحمل أبنك يا عمرو أنت تعرف أني أحب الأطفال وتمنيت أن يكون عندي الكثير منهم "
اشفق عليها .. وتحير هل يخبرها أنهما قد قرر تأجيل هذا الأمر أم لا .. فحاول تفادي قلقها قائلا " لقد ذهبنا بالفعل و الطبيبة أخبرتنا أن كل شيء طبيعي وعلى مايرام .. أتركي الأمر يا أمي كل شيء مقدر ومكتوب .. ونحن مازلنا عروسين .. ولا نريد أن نستعجل الانجاب "
قالت بمسكنة " أتمنى أن أحمل أولادك قبل أن أموت "
قبل رأسها ودعى لها بطول العمر حين جاءه اتصالا يخبره أنهم يبحثون عن بانة .. ليتنزل إليهم مسرعا ..
***
وقف أحمد متوترا أمام بوابة البيت يحاول الاتصال بها لا ترد ولم يستطيع التخمين أين ذهبت .. أتصل بآل غنيم فلم يراها أحد .. وهاتفها مرارا وتكرارا ..
يشعر أن عضلة قلبه ستتوقف .. ولم يدري ماذا يفعل .. إنها لم تأخذ معها سوى هاتفها بينما أمه تقف خلفه في صمت في الشارع تقبض على قلبها في قلق وعمرو والحاج يتحدثان .
سأله وائل بتوتر "هل تشاجرتما؟" .. فأومأ أحمد برأسه وهو يرفع الهاتف على أذنه يتصل بها مجددا .
ظهرت آية من خلف أمها تقول" لا أعتقد أنها قد غضبت مني حين قلت لها في لحظة غضب أنها سبب كل البلايا "
طحن أحمد ضروسه ونظرلها نظرة عتاب آلمتها .. رغم أنها مجرد نظرة لكنها تألمت أن أغضبته وتعجبت من ذلك الشعور فهتفت بغيظ " نحن لسنا في روضة أطفال يا أحمد .. كيف تجعلها جملة كهذه تترك المنزل .. أنا أرى أنها عاقلة بما يكفي لأن تدرك أنها جملة عارضة في لحظة إنفعال ".
تدخلت إلهام تقول وهي تضرب على صدرها بقلق "ربما أكون أنا السبب هذه المرة .. أين ذهبت إبنتي يا إبراهيم .. تركتها نائمة في شقتها .. أين ذهبت المسكينة "
اقترب برقوق يتهادى يديه في جيب بنطاله وقال " أنا رأيتها تخرج من البيت .. وسارت حتى آخر الشارع ثم أوقفت سيارة أجرة ( ثم مط شفتيه وأكمل ممتعضا ) حتى أنها لم تلق علي السلام وكأنها لم تقابلني يوما"
فسأله أحمد بلهفة "هل كانت تحمل أي شيء أو تتحدث مع أحد على الهاتف ؟"
فرد برقوق " لا.. فقط حقيبة يدها"
تحرك أحمد نحو سيارته منطلقا يبحث عنها .. فحاول عمرو اللحاق به حين لمح في الناحية المقابلة أروى تحرك كرسيها في الشارع فهرول إليها يقول بجزع " لما خرجت وكيف تنزلين الشارع يا أروى بدون مرافق "
ردت عليه بقلق " بالمصعد نزلت والحمد لله الجانب المنزلق الذي صببته بالأسمنت على السلمتين عند بوابة العمارة ممتاز جدا ساعدني على النزول .. هل علمتم أين بانة ؟"
جز على اسنانه وحدجها بنظرة خطرة فهتفت" هل ستترك كل شيء لتتشاجر معي الآن ؟!! أوصلني عند أمي واذهب مع أحمد "
طالعها بنظرة متوعدة ثم حملها ليصعد بها عند بيت عائلتها .. بينما ركن سيد سيارته بجانب المقهى ليخرج منها بسرعة.. لكنه لم يخرج منها وحده بل خرجت بسمة التي أصرت ألا يعيدها للبيت أولا وأن تذهب معه .. وهو لم يكن لديه طاقة للصبر خاصة مع رغبته في اللحاق بالمجموعة .
قال لها بلباقة " انتظريني في الخن .. أرشدها للمكان يا طأطأ "
ردت بسمة " سأسلم على خالتي إلهام أولا"
جز على أسنانه يشيح بوجهه بعيدا عنها وعن صغيرته التي تقف عند البوابة .. فهي أول من لمحه وقت أن اقترب بالسيارة .. تلك القزمة التي ترتدي بنطالا من الجينز وبلوزة طويلة باللون السكري حتى ركبتيها وحجابا بلون البنطال ..
راقبته بسمة يشيح بوجهه للناحية الاخرى ويتصل بهاتفه .. فلم تدري أعليها أن تحزن لأنها في حضرة غريمتها أم تفرح لأنه يحتفظ بكلمته لها بألا يجرحها ..
تفرح !! ..
يالعجب.. هل وصل بها الحال أن تفرح لأن زوجها أوفى بوعده لها بألا يجرح مشاعرها !!..
شعرت به مرتبكاً.. وشعرت بنفسها لأول مرة في حياتها ضئيلة لا تملأ الحيز المفروض عليها مِلئه ..
مالذي فعلته لتكون سيئة الحظ هكذا؟.. لقد أضحت بسمة اخرى منذ ان حضرت للعاصمة فتذكرت المثل القائل (من خرج من داره قل مقداره)
بسمة الوديدي ..بعد حياة (السفيرة عزيزة ) في بلدها .. تحولت للاشيئ منذ أن تزوجت سيد وحضرت إلى العاصمة ..
أكانت تعتمد على جمالها فقط طيلة حياتها وعندما لم يهتم سيد بهذا الجمال بل واكتشفت بغرامه لشابة تصغره بكثير ..
أدركت أن ما كانت ترتكز عليه كأهم ما يميزها كبسمة لم يعد له قيمة فأصبحت ( مجرد إنسان ) !!
أما آية فتحركت مسرعة للداخل بمجرد أن خرجت زوجته بصحبته .. لم تكن تهرب من المواجهة بل كانت تخشى من تهورها ..
تخشى أن تضعف ..
تخشى أن تخونها أعصابها فتجري عليه تتعلق برقبته تطلب عناقا يروي ذلك الشوق الذي يضنيها ..وتطمئن على صحته وهي تراه ضعيفا واهنا ..
وحين سمعت أمها تصر على أن تصعد بسمة للمنزل بدلا من أن تنتظره في الخن هربت إلى سطح البيت ..
ووقفت تراقبه من فوق يرفع الهاتف على أذنه فخمنت أنه يتصل بصبيانه في الحي يسألهم إن لمح أحدهم بانة ..
بعد قليل لمحته يرفع أنظاره نحو السطح وطالعها من ذلك البعد بنظرة طويلة .. فتورات بعيدا واختفت خشية أن تضعف ..
وقضت الساعات التي تلت فوق البيت الخشبي تتطلع للشارع الخلفي وتتصل بأحمد كل فترة لتعرف الجديد.
***
دلفت إلى الغرفة المتهالكة فوجدت أعمامها الثمانية يتحلقون حول سرير.. بينما عمتها تمسد على شخص مستلقي على السرير ..اقتربت لتجد والدها .. فجرت إليه في فرح تهتف " أبي أبي "
فتح عينيه التي اغرورقت بالدموع حين رآها فنهض يضمها وهو يبكي.. فبكت هي الأخرى فقال " اشتقت إليك ابنتي ..اشتقت إليك يا بانة كنت انتظرك "
ردت " وأنا كنت ابحث عنك يا أبي "
أخفت رأسها في صدر أبيها وبكت .. بكت كثيرا ليأتي صوت أحمد من خلفها يسحبها من برفق ويقول" هيا يا بانة لابد أن نعود "
فصرخت " لا أريد .. أريد أن أبقى مع أبي يا أحمد "
أطرق أحمد رأسه بحزن .. ثم أخرج من جيبه إسوارة ألبسها إياها ورحل ..
صرخت تجري وراؤه" أحمد .. أحمد .. أحمد "
" استيقظي يا أختاه استيقظي " فتحت عيناها تنادي باسمه ثم تنبهت أنها كانت تحلم ودموعها تغرق وجهها .
تكلمت المرأة التي أمامها " هل أنت بخير ؟ .. لقد كنت تبكين أثناء غفوتك وتنادين على أحدهم "
تنبهت بانة وتطلعت حولها تتساءل هل نامت في المسجد؟؟!!.
نظرت للشبابيك فلم تجد نور النهار فسألت المرأة بجزع " كم الساعة؟"
ردت المرأة "الثامنة والثلث "
جحظت عيناها .. لقد نامت حوالي 5 ساعات فاسرعت تخرج هاتفها من حقيبتها التي كانت تتوسدها أثناء النوم وارتعبت من عدد الاتصالات الفائتة التي لم ترد عليها وبالطبع النصيب الأكبر كان من أحمد ..
ازدادت ضربات قلبها في عنف .. ولم تعلم ماذا تفعل .. أحمد لن يتوانى عن قتلها هذه المرة .
من بين الاتصالات وجدت أن الحاج سماحة اتصل بها عدة مرات هو الآخر فاتصلت به أولا..
كان الحاج وقفا في الشارع منذ العصر وحوله الشباب الأربعة ومنهم أحمد الذي عاد لنقطة الصفر دون أن يجد شيئا .. في حالة عصبية سيئة أقلقت الجميع عليه .
حين رن هاتفه ووجد اسمها تجمد الدم في عروقه لا يعلم كيف ستكون المكالمة.. خاصة بعد أن أنتحى أحمد به جانبا منذ قليل وأطلعه على سبب الشجار بينهما.. فطلب منه ألا يخبر إلهام حتى لا تشعر بالقلق .
نظر إليهم فشحب وجه أحمد وأمسك بذراع وائل وتعلقت أنظار الجميع بالحاج وقد علموا هوية المتصل .
رد الحاج متصنعا الهدوء " السلام عليكم أين أنت يا بانة "
تكلمت بانة بارتباك " أبي لا تقلقوا أنا في مسجد ( .... ) شعرت بحاجتي الماسة لزيارته وغفوت لا أدري كيف ولم أستيقظ الا الآن .. حتى الهاتف كان على الوضع الصامت .. هل أحمد بخير أنا أخشى الاتصال به ."
اشار لهم الحاج بيده يطمئنهم ثم قال "انتظري مكانك وسنأتي لنأخذك حالا "
أغلق الخط ..وقبل أن يسأله أحمد عن مكانها متلهفا قال للشباب" أرى أن أذهب أنا وأحد الشباب لإحضارها .. وينتظرنا أحمد هنا "
هدر أحمد باعتراض " بل أنا من سيعيدها يا أبي أرجوك أخبرني أين هي .. لن أتحمل الانتظار "
شعر الحاج بحالة إبنه واشفق عليه " حسنا سآتي معك وإياك والتهور الفتاة غفت في المسجد ولم تشعر بشيء ".
بعد حوالي نصف ساعة كان أحمد يقف بسيارته في منتصف الشارع أمام أحد اضخم مساجد العاصمة ليترجل في عجلة ويتجه نحو بانة التي كانت تقف على الرصيف ..
رأته يخرج من السيارة مندفعا تاركها في وسط الشارع فعلمت أنه ليس في وعيه وتوقعت رد فعل قوي لحماقتها .. فوقفت منكمشة يضرب قلبها في صدرها بقوة.. لينقض عليها يقبض على ذراعها في عنف .. فلم تتكلم وهي تسمعه يقول من بين أسنانه بهيئة مخيفة لم تراه عليها من قبل " يبدو أن كلامي لم يعد له أهمية عندك وأنك تعتبرين نفسك لست متزوجة "
همست في توسل " أحمد أرجوك .. سأشرح لك .. أنت تؤلم ذراعي "
تدخل الحاج سماحة بسرعة يخلصها من يد إبنه ويحيط ذراعه حول كتفيها وقد استشعر الرعب البادي عليها .. فهدر أحمد في الشارع وقد جن جنونه " أتركني يا أبي .. أتركي ولا تتدخل أرجوك .. إنها لا توليني أي اعتبار في حياتها "
شدها الحاج من يده ليخلصها من عصبيته وأجلسها في السيارة في المقعد المجاور للسائق ثم استدار يجلس هو أمام المقود وقال وهو يحرك السيارة بينما أحمد لا يفهم ماذا يحدث " سنتحدث في كل ما تقوله لاحقا حين تهدأ .. أتبعنا بسيارة أجرة أو سيرا على الاقدام "
ثم تحرك بسرعة واحمد ينادي عليه باستنكار .. استدارت بانة تشاهد صورة أحمد الذي يصارع ذباب وجهه تبتعد وقالت من بين دموعها " أبي أخشى أن يتسبب في مشكلة "
رد وهو يركز على الطريق " إبعادك عن ناظريه الأن حتى يهدأ هو أفضل حل "
يتبع