كانت الغيوم مازالت تتكوم في السماء بانتظار اطمئنان الغافلين لها، لتنفجر مرة واحدة ساكبة كل ما بها من أمطار، لتعود تتكوم مرة أخرى...
كانا صامتين طوال طريق العودة من العشاء، في بيت المفتي... هي بتردد لما تعتزم فعله و يدها تتحكم بالمقود باقتدار، و هو للأمانة لم يهضم بعد أن يجلس جوارها و هي تقود بينما هو يعد الأشجار!
فجأة انتبه إلى أن الأشجار لا تنتمي للطريق لبيتهم، لكنها أشجار شارع آخر... و بتدقيق بسيط قرر أنهم يتجهون إلى البحر... دون تردد فتح النافذة رغم البرد و سمح لهواء البحر برائحته الفاتنة أن تدفئ السيارة... ابتسمت مع الرائحة، ثم أوقفت السيارة، و كلاهما ينتظر السؤال او الجواب من الاخر...
أخيراً حسمت ترددها، و هي تفك حزام الأمان عن صدرها...
"لا أدري إن كنت سأنجح أم لا..."
حاول ألا يظهر أنه فهم، لتتابع بعد تنهيدة صغيرة تحسم ترددها..
"لكن التجربة هي الطريق المباشر لكي أعرف..."
و على ضوء برق سطع بتحذير قبل الرعد...
"ما رأيك أن أجلس مكانك، و أنت تقود..."
عقد حاجبيه، فتابعت بتوتر خوفاً من أن تفشل...
"كما تعلم، لقد قرأت في كثير من المواقع عن طرق لمحاربة دوار الحركة، إلى أن تواصلت مع أحد الاستشاريين في فرنسا... طبقت كل تعليماته، و الآن أشعر أنني نوعاً ما جاهزة لأن أجرب حلم كل فتاة..."
"حلم كل فتاة؟؟"
تساءل متجاوزاً كل ما قيل، و هو يعلم أنه أمر فاشل... لأنها خلال الأشهر الثلاث الفائتة حاولت أكثر من مرة أن تتحمل ان تجلس جوار السائق لكن الأمر كل مرة ينتهي بها و هي تتقيأ على الرصيف!
"نعم... كل فتاة تحلم بأن تدقق بحبيبها و هو يقود... مركز بكل ثقله في الطريق و هي تنحت ملامحه في ذهنها... هو حلم رومانسي... ثم يستدير و يبتسم لها... لا أستطيع أن أشطط بأحلامي أن أضع رأسي على كتفك... فقط أريد أن أتأملك!"
بسمة باهتة لونت شفتيه، و هو يميل ناحيتها في الشارع الفارغ تماماً في هذا الجو الممطر...
"حاضر يا دعد... طالما أنت تكافحين، فأنا سأكون معك... جيد؟؟"
ثم حملها بيسر لتستقر مكانه و استبدل الأماكن، مراعة لكي لا يخرج كلاهما للمطر، لكن تلك الحركة اشعلت كلاهما مرة واحدة...
و كما توقع... خلال ربع ساعة كان يساعدها لأن تستقر مرة أخرى في مقعد السائق، بعدما تجنبت لحسن الحظ التقيؤ في الطريق الممطر...
لحظات مرت و هي تعب الهواء النقي من النافذة بينما الاحباط يملأها...
"لا تقولي شيء!"
تحدث بسرعة و عيناها البائسة تلتقي بعينيه الحنون...
"أنا لا أريد ذلك الشرف... صدقيني بالبدء كنت لا أطيقه... لكنني الآن أجده أمراً عادي... لا تهتمي... و مادام الأمر مهما بالنسبة لك، فأنا معك كيفما كان... لكن لا تضغطي على نفسك... لكل شيء وقته الملائم له... ثقي أنك ستفعلين عندما تكونين قادرة!"
مسحت الدموع قبل أن تسيل من عينيها و هي تقول بقهر ذاتي...
"فقط لو كنت مثل كل النساء... فقط لو كنت قادرة على أن..."
لم تكمل و غصة تخنقها....
منذ أن تصالحا و هو يثبت أنه كما كانت تتمنى... نعم الزوج... نعم السند... نعم الرفيق... و طبعا الحبيب.
كان يستحق كل ما بذلته من جهد لأن تستقر على كتفه آخر الليل... عاملها المعاملة التي تحلم بها أي أنثى عاشقة... صحيح أنه قد يثور بسرعة لكنه يخمد بسرعة... يعتذر عندما يخطئ... يفاجئها بكوب شاي من اعداده و هي منهمكة في عملها... يصنع بيديه مائدة افطار خاصة بهما... يأخذ رأيها، و تشاوره في عملها... روحان منسجمان بكل المقاييس... و هي علمت من ذلك انه يحبها دون كلام...
لكنها دوماً تبحث عن نقيصة في سعادتها..
تخاف أن يبتعد عنها بسبب هذه العلة المقيتة...
تخاف أن يبحث عن غيرها إن تأخرت في الانجاب...
تخاف أن يبعد عنها لأي سبب مجنون...
أحياناً تحلم أن تحاول –و طبعا تفشل- أن تحب جو فقط لأجل أن يبقى لها...
تعلم أن تعلقها به مرضي... و تخاف كثيراً أن تظهر هذا التعلق المجنون بشكل علني، كي لا يتركها مشمئزاً من ضعفها أمامه، و هي تدري أنه يعشق قوتها، و ثقتها...
تلك المخاوف اللا منطقية تنسج دوماً فيها شعوراً بعدم استقرار... و أسوأ شيء أنها لا تستطيع ان تصارحه!
تنهدت دون كلام و هي تدير المقود متحركة للبيت...
***
البرد الذي ينتشر في كل مكان لم يؤثر بها... نافذتها مفتوحة و قطرات الماء تتسلل للغرفة، لكنها لم تهتم... جهاز التدفئة متوقف و هي تستمتع بالبرودة اللاذعة...
لم تهتم و حريق بها يمنعها من أن تشعر...
حبة... حبتان... ثلاث... لا يهم العدد... المهم أنها مخدرة عن واقعها...
شتمت شتيمة أجنبية قذرة و هي تفرك جبينها...
لو تستطيع أن تخطفه!
لو تستطيع أن تسرقه مرغماً ليقبلها كما هي...
تأملت الغطاء الأبيض لعلبة الحبوب... بسمة مقيتة ارتسمت على شفتيها و هي تتخيله مثلها مدمن عليها... ربما ترشو خادمه لكي يضيف تلك الجرعات في طعامه فيدمن دون أن يدرك... و بذلك ينتهي هذا الحاجز الكبير بينهما...
كانت بسمة خيالية، لأنها تعلم كم يهتم مهاب بصحته و يجري فحصوص شاملة كل شهرين أو ثلاث...
البسمة تمددت لضحكة، و هي تفكر بآخر مرة أجرت فيها فحص...
كان ذلك في حادث انتحارها الغبي الفاشل...
لم تتأثر مع تلك الذكرى و كأنها كل يوم تقوم بالانتحار المجنون... لم تتأثر و كأن الحبوب تخدر كل حواسها إلا الاشتياق...
سطع البرق بقوة فنهضت...
مالت بعنقها تتأمله من النافذة... تذكرت عندما كانت في الثانية عشر، و قد استغل زياد سفر أمها، باللعب بالماء معها... و بقوة صوبت خرطوم الماء ناحية أخيها الذي فر، ليصدم قابس كهرباء لا تفهم حتى الآن سبب وجوده...
المهم أنها نالت صدمة كهربائية كادت أن تقتلها...
جسدها طار لمتر و قد تيبست بالكامل...
و بعدما غادرها الطبيب و بقي زياد طوال الليل يحوم حولها مرعوب لأجلها مع علاء...
المهم أنها بعدما ناموا كلهم أغلقت عينيها ببسمة و هي تتذكر ذاك الألم الغريب...
ألم قوي لدرجة أنه فريد...
ألم لم تشعر إلا أنه سماوي... شيء كوني... كاصطدام النجوم و ابتلاع الثقوب السوداء للمجرات... لابد أنه تألمت بتلك الطريقة!
لا تدري لم ذكرها منظر البرق بتلك الحادثة...
لا، لم تعري سلكين و تمسكهم...
لكنها أحبت الشعور بوجود ذكرى غريبة عندها...
جنح تفكيرها مرة أخرى متجاوزاً الإلهاء المتعمد لمهاب...
أغلقت عيناها و الرذاذ المتسلل من نافذتها يضربها...
متى ستحن يا مهاب... متى ستقبلني كما أنا... اعتبرها عاهة مستديمة... اعتبرها مرض مزمن... اعتبرني أعاني من ألم عضوي أزلي لا يزول إلا بهذه الحبوب... لم لا ترتقي بتفكيرك و تعدل في ميزانك و تحترم الألم النفسي كما العضوي...
عادت ذاكرتها لذلك اليوم الذي كانت فيه كالصنم و لم تفعل إلا أن وضعت وشاحها على كتفيه...
سكونها هذا بدا لها و كأنها نالت جرعة من حبوبها...
ألم الرجلين الأعز على قلبها و هما يتناحران على شيء لا يعرفه كلاهما أراحها...
هل الألم بهذه الطريقة يريح؟؟
لا، لا يريح... و لم ترتح إلا بعدما اتصلت بحقارة بعلاء تسأله عن مهاب بعدما أغلق الأخير هاتفه...
البسمة تتسع..
علاء الذي جاوبها بهدوء شديد أنه أوصله لشقته و أوصاه ببعض المسكنات و.... فقط...
الرجل الثلجي عاد بكل قوته... يخبرها بالأمر و كأنه يمنحها آخر أخبار الطقس!
عادت رغباتها بمهاب كما كل مرة تلتف حول الملهيات و التشعبات في تفكيرها و من ثم تتصدر الحاجات كلها...
تذكرت تشبيها راق لها قديما...
يجب أن يصنعوا حبوب من الحبيب و توزع بكبسولات...
و هكذا ينتهي التوق بحبة أو اثنتان...
فكرة مجنونة او عبقرية، لكنه لا يهم...
تناولت الهاتف و طلبت رقمه... ظلت ثواني تنتظر أن يرد ، أو يفصل الاتصال... لكنه لم يحدث...
بتعود انتظرت انتهاء الرنين، ثم أرسلت رسالة...
(اشتقت لك... ألا تشتاق؟؟)
على الطرف الآخر بسمة مرة ارتسمت على شفتيه، و هو عكسها ينعم بدفء التدفئة في غرفته التابعة لبيت والده...
(و هل يهمك الأمر؟... أستغرب حقاً أن تشعري بشيء بعد تلك الجرعة!)
تلفتت حولها برعونة و كأنه سيطل عليها، ثم انتصبت بجلستها بخجل من تفكيرها...
(بل يهمني... جداً يهمني... مهاب... تعال إلى الشقة... و أعدك ألا تتركها بعد الآن!)
ابتلع ريقه بعجز و هو يمسح الصورة التي أرسلتها لنفسها و هي راقدة على الفراش في قميص نوم حريري سماوي...
شعر أولا بتصلب الحاجة و الرغبة في جسده... ثم اندلعت فيه حرارة غضب جعلته يطلب رقمها لينفجر عبر الأثير...
"أهكذا تظنين أنك تجذبيني... كلب تلقين له عظمة مجوفة ليلعقها و فقط... أهكذا تتصرف فتاة تحوي داخلها ذرة واحدة من الأخلاق... أتعلمين... توقفت منذ زمن بعيد بالأسف لأجلك... من آسف عليه هو أنا... أنا الأحمق الذي ظن للحظات أنك تستحقين... أن الكفاح لأجلك و معك يكون ذا جدوى!"
لم تهتم و لو لذرة واحدة لتأنيبه، و هي تهمس بإغراء احتقر نفسه لأنه تأثر به!
"لم لا ندع هذه الاهانات التي تعلم أنها لن تؤثر بي قط... فقط دعنا نكن كما كنا مهاب... أتذكر... أتذكر عندما اشتعلنا معا لأول مرة... أتذكر مهاب عندما تلفح صدرك كله بشعري ذات مرة... أتذكر عندما...."
"نعم لين أذكر... أذكره كله... كما أذكر عندما خدعتني لأجل قهر خطيبك... أذكر عندما خدعتني لتنتقمي من أخيك... أذكر عندما خدعتني لأجل أهوائك المجنونة... اللعنة لين أذكر... أذكره كله... و ألعن نفسي كل يوم لأنني أهين نفسي و اربطها بك!"
احتد تنفسها لأول مرة و هي تتلقى اهاناته التي تشبعت بمرارة و احتقار ذاتي، آلمها...
"إذن ما الذي تريده مهاب... لا تستمتع و لا تمتع غيرك! ما الذي تريده مهاب... حبوبي أم أنت؟؟ أهذه هي الكفتان التي تساومني على ارتقاء احداهما... ألا ترى كم أنت متخبط زوجي العزيز... "
أغلق عينيه و هو يستصغر نفسه مرة أخرى لدرجة أنه يشعر كما لو كان قن من عبيد النساء!
"لين... إلى جهنم!"
و أغلق السماعة و هو يغلي...
يشعر بغليان يحرقه كحمم حارقة...
يا ربي لو كانت بين يديه...
فقط فلتتجرأ و تفعل ما أخبرته بتحدي أنها قد تفعله و تقتحم بيت أبوه بوثيقة زواجهما!
حمد الله أنه مسافر لأكثر من شهر... و إلا لقابل العروس المجنونة!
مرغما تأمل البرق و هو يشعر بالألم منها و لأجلها...
و من ضعفه و هوانه...
أغلق عينيه بحسم...
هذه هي القاضية لين...
هذه هي القاضية!
***
كعادته يقف أمام نافذة مكتبه العالية و المطر يضربها...
المطر الذي لم يتوقف منذ الامس...
الوقت يبدو و كأنه المغيب لكنها كانت الظهيرة...
تفكيره جنح لشيء آخر...
اليوم سيقابل العروس التي اختارتها أمه له...
ابتسامة ساخرة رآها أمامه على الزجاج و هو يتذكر الجنون الذي بدأ يسليه و هو يفقد أمه عقلها بشروطه...
فلا الطويلة أعجبته و لا القصيرة و لا متوسطة الطول...
و لا ناعمة الشعر و لا خشنته و لا البين بين...
و لا الشقراء أو الصهباء أو حتى بنية الشعر أو سوداءه...
و بكل تأكيد كل درجات ألوان العيون لم ترق له...
لكنه و لأول مرة يرى أمه مثابرة لا تتوقف...
تعمل بجد و هي تخرج قائمة خلف الأخرى...
و هو يتسلى بالرفض و التمنع!
ضحكة عالية برزت في صمت الغرفة و كلمة تمنع تشعره بأنه عذراء خجول...
اعتدل بهدوء و طرقات الباب الثابتة من سكرتيرته التي بدأت تفهم مهامها تسللت لعقله...
"سيد علاء... السيد زيـ............."
"علاء لم لا تطرد هذه الحمقاء... كم مرة قلت لك أنا لا تنفع للعمل معك!!"
ابيض وجه الفتاة و كأنها تلقت الطرد من العمل، إلا أنها أسرعت للخارج مع نظرة علاء التي تعلمت أنها تطردها من المكتب – لا العمل- دون كلام!
"زياد..." تحرك ناحيته بترحاب واضح... " مر وقت طويل!"
نعم مر وقت طويل و هو يتجنبه بعد الخلاف الذي حدث بينه و بين مهاب...
وقتها اعتزل الكل في شاليه هادئ يمتلكه...
جلس مع نفسه و قرر أن يحدد أولوياته...
أولوياته دوماً هي زياد...
وازن كفتي ميزان...
غضب زياد الغير معروف أبعاده، أو خيانته له بإخفائه كل فضائح أخته...
يحاول أن يوازن الكفتين دون جدوى...
لذلك قرر بهدوء أن يترك كل شيء... ستجن لين... لن تصبر أكثر... كرهها لزياد لن يجعلها تقف عند هذا الحد...
و هو يريد أن يكون موجوداً ليسند زياد عندما تطعنه...
سيكون درعه و ربما... سيفه!
"زياد... مر وقت طويل!"
انبته لسخرية زياد الواضحة منه، و هو يكرر نفس كلماته...
ثم تحرك بخفة ليجلس على احد الكراسي بعدما خلع سترته الجلد البنية المتلائمة مع سرواله الجينز البني الداكن...
"قلت لنفسي أن الرجل متضايق لفض الارتباط بينه و بين أختي، لكنني لم اتخيل أن تنسني..." رفع يده بإشارة قف لعلاء الذي أردا أن يبرر، ليكمل هو بجدية...
"لقد اتفقنا منذ البداية أيها المحامي النبيه، أن رفضها أو قبولها، لن يغير في علاقتنا شيء... أليس هذا اتفاقنا و أنت تؤكد لي أن ما بيننا ثمين لا يعوض... لكن عقودك سيدي المحامي بحاجة لمحامي آخر ليوثقها!"
ابتسم ابتسامة مريرة و هو يتحرك ناحيته... يا ربي كم هو محروق من أن أنه يكذب... يكذب أكثر و هو يعذب نفسه بالبحث عن طلاقهما ليجد أنه لا طلاق، بل طلقة وثقت في المحكمة ثم ردها على ذمته!
و هو الآن يشعر أنه كائن رخوي مقزز كعلقة لا فائدة منه!
"لا... ليست هذه هي القضية... امممممم أنت تعلم أنني سأحصل قريبا على ما أريد من أبي..."
تحدث بهدوء، ليرد زياد بمشاكسة و هو يضع ساقا فوق الأخرى...
"و لأجل ذلك تعتزل صديقك!"
أغلق عينيه بحلم و هو يكره نفسه للأريحية التي يعامله بها زياد...
"أعني أنني كنت فقط مشغول... ثم أنت لم تمر علي من قبل!"
تحدث باتهام جعل يد زياد تمتد باسترخاء على ظهر الكرسي...
كان رائق المزاج مرتاح في زواجه... زوجة محبة... ميول متقاربة مشتركة... ذكية لماحة صاحبة حس فكاهي... مرحة صبور تجيد التعامل مع مزاجه المتقلب... و أكثر مع أخته الغير طبيعية...
و أيضا تبعثره كله بطريقة لا ممكنة كل ليلة... و معظم الصباح و بعض الظهيرة و العصر... و المغرب أيضاً!
إذن يحق له أن يكون رائق مرتاح يشعر بهناء متخم، بينما صاحبه على صفيح...
لذلك و بمحبة أخوية بحتة تحدث...
"هل تعلم ما تحتاجه علاء؟؟"
عقد حاجبيه ينتظر التفسير الألمعي...
"تحتاج زوجة!"
حدق فيه للحظات و هو مخروس...
زياد؟؟
زياد الصانع يريد أن يزوجه!
أما زياد فكتم بسمته و هو يعتدل في جلسته موسعاً المسافة بين ساقيه ليرتكز بمرفقيه على ركبتيه...
"ماذا؟؟ هل صدمتك... أنت بحاجة للاستقرار و الراحة... أنت بحاجة لأن تجد امرأة تفهمك دون كثير من الكلام!"
"هل أنت زياد صاحبي؟!"
تساءل أخيراً و هو يقترب ليتحسس بشرته و كأن الصاعقة ضربته... صحيح أنه واضح لكل أعمى أن الرجل سعيد مستقر راضي كبقرة في محراث...
لكن أن ينصحه!!
"أنا صاحبك.." قال و هو يزيح رأسه عن مجال يده..
"و أنا بكامل وعيي... هل تعلم تجربة واحدة سيئة لا تعني نهاية الكون... يجب أن يكون لدينا أمل أكثر في الله".
غمغم بتلقائية...
"و نعم بالله".
ثم أخذ نفساً عميقاً و هو يقول بهدوء...
"أنا لن اعتكف بكهف زياد... و لن أتنازل عن فكرة الزواج... فقط غيرت الطرق".
عقد حاجبيه بلا فهم، ليرد عليه علاء...
"لقد وكلت أمي بأن تهتم بالموضوع".
لحظة الصدمة مرت، ليهز بعدها رأسه عدة مرات صعوداً و نزولاً بتفهم ساخر...
"أنت تركت السيدة زهوة أن تهتم بهذا الأمر!!!"
ثم ابتسم أعرض ابتسامة ممكنة لدرجة أن شفتيه التصقت بأذنيه، و هو يقفز بحيوية مصافحاً صديقه بتهنئة بكلتا يديه، ليخضه كله...
"مبروك صديقي... ألف مبروك... للأمانة أنا جداً جداً جداً مبتهج... و من شدة ابتهاجي سألقي بنفسي من النافذة!"
مرغما ابتسم بسخرية و قد نال عدواها من صاحبه، لينفجر زياد و هو يتراجع عنه بقوة مرة واحدة
"أجننت أنت لتجعل امك تخطب لك؟... ماذا ابنة زوجها الرابع أو الخامس..."
على الرغم من كراهيته لكل أفعال أمه، إلا أن نبرته تحولت لمحذرة قاسية...
"زياد... لا تنسى أنك تتحدث عن امي!"
لوح بكامل ذراعه في الهواء...
"و لأن كلانا يعرف من هي أمك، أخبرك بما تنتظره... "
مسح علاء على وجهه بيأس، و هو يحاول أن يستعيد الهدوء لحروفه...
"أنت تتحدث و كأنها جرتني من يدي للمحكمة... أنا فقط غير متفرغ و أريدها أن تجد لي زوجة ملائمة... هذه طريقة أفضل من السعي خلف الفتيات و البحث عنهن... هذا هو الهدف... و نقطة آخر السطر!"
شد على نواجده بضيق و هو يشعر بمسؤولية لما آل إليه حال صاحبه... فلو أنه أوفقه منذ البداية و منعه عن خطوبة لين لما تحول لهذا الرجل البائس!
"علاء... أرجوك تروى... فقط لا تستعجل في قرارك!"
أغلق عينيه بهدوء و هو يتجه مرة أخرى ناحية النافذة التي مازال المطر يضرب زجاجها...
"لقد دخلت الثلاثين زياد و أنا مازلت أعزب... ببساطة أظن أن ساعتي البيولوجية استفاقت على رنين استعدادي التام لأن أكون زوجاً... الأمر لا علاقة له بك أو بأختك... الأمر هو أنني أشعر أنه يجب علي فعل ذلك!"
محامي منافق كذاب أشر!
نعم هو كذلك، و إلا لم تذكرت ساعته البيولوجيه تلك الحاجة عندما لوح والده بجزرته العفنة!
تنهد زياد الغافل عن متاهات عقل صاحبه...
"كما تشاء علاء... فقط تذكر ذاك المثل الذي يتحدث عن التروي و الندم... تروى صاحبي... هذا أفضل لك..."
بسمة باردة ارتسمت على شفتيه و هو يعلم أن التروي و التظاهر و الكذب و الخداع هما ما يراه كل يوم في مرآته... المرآة الصارمة التي استفاقت متأخرة تعرض صورته بوضوح مزعج!
***
تنفست الصعداء و هي تتخلص من مراقبته لها أخيراً...
ابتسمت و هي تقود بحرص...
ستذهب للسوبرماركت القريب لكي تتبضع مكونات العشاء...
قلبها يخبرها أن حاتم سينهي عمله و قد يشاركم عشاء الليلة أو غداء الغد...
دفعت العربة و ذكرى أول لقاء مع حاتم ترتسم أمامها عندما كانت تفرغ مكونات عربتها في حقيبة السيارة...
الفارق أن عربتها شبه فارغة و جسدها تضاعف حجه بشكل يجعل الكل يفسح الطريق امامها... ابتسمت للسماء الرمادية بغيومها المتكومة، و كأن المطر قد أخذ فترة راحة من الهطول...
عادت تدير عينيها حولها و كأنها تأمل برؤيا زوجها يبرز من الفراغ، لكنها هذه المرة اصطدمت بعيون خضر حارقة...
شعر فاتح واضح أنه مصبوغ، لكنه يتلاءم مع شقرة حواجبها و رموشها...
امرأة تكبرها بعدة أعوام تقف أمام سيارتها و تحدق بها بكراهية لا ممكنة...
الملامح ليست غريبة...
الدرجة الرائعة من الخضار في عينيها و التي ورثها مهاب تبدو واضحة...
و على الرغم من تعبها و تهالكها شدت قامتها المتعبة، تنتظر حركات المرأة المتأنية ناحيتها و قد أدركت أن اليوم لن ينتهي على خير!
***
نهاية الفصل |