رأس منكس لأسفل...
شعور بالخزي...
شعور بالقرف...
شعور مريع بالفشل...
حتى الإنتحار فشلت به!
جالسة على السرير و قد تاكد الطبيب أنها ليست مصابة بكسور أخرى، أو نزيف داخلي أو تهتكات...
فقط كسور خارجية،
جرح على طول جبينها احتاج للتقطيب...
سحجات مؤلمة كالحروق في أماكن متفرقة من جسدها...
صداع يذبحها...
حلقها ناشف و كأنه مكسو برمل...
الممرضة تنظر إليها بنظرات محتقرة، لم تفهم لها سبباً...
لكن ذلك وضح عندما دخل الطبيب...
ينظر إليها ببرود حقيقي...
يحاول أن لا يدخل احتقاره الشخصي لها، بكونه طبيب...
"بالضبط ما هو النوع الذي تتعاطيه؟!"
ظلت ساكنة و هي تحدق بالأسفل دون أن ترد... الآن فهمت كل شيء...
نفس عميق آلم حلقها، لتبدأ بالسعال، إلا أنه لم يتحرك لأجلها... لا هو و لا الممرضة...
فقط انتظر حتى سكنت، ثم أشار للمرضة، أن تمنحها رشفة ماء صغيرة...
أخيراً رفعت رأسها إليه... و لوهلة و على الرغم من الحادث و الجرح الذي يشوه جبينها، و شحوب ملامحها و الهالات التي تزين أسفل عينيها...
على الرغم من ذلك انبهر بالجمال الذي يتلائم مع المرض...
جمال مريض يلائم الموتى!
عيون زرقاء باردة تنظر إليه بلا حياة... بشرة شاحبة تتناقض مع سواد شعرها الذي أحاط بوجهها...
أخيرا هزت رأسها ليعود شعرها يستر ملامحها...
أخذ نفس عميق قبل أن يعود يسأل عن نوع التعاطي...
"هل هو (...........)"
لم تهتز، فعاد يكرر السؤال، إلى أن تشنجت مع ذكره لنوع معروف من الحبوب المسكنة، تحولت لمرادف إدمان الحبوب...
أغلق عينيه بحلم و هو يشير للمرضة أن تخرج...
ثم جلس على الكرسي قبالتها...
لا يدري لم تعاطف معها...
زوجها رحل، دون أن يتحدث و قد صدمه بالخبر...
منظرها و هي جالسة وحدها بضعف ولد داخله شعور بالمسؤولية...
"سيدة لين... لن أعطيك موعظة حول الإدمان و مضاره... لن أخبرك عن الخطر الذي كدت أن تذهبي ضحيته... لن أخبرك عن ما يمكن أن يحدث لك بأي وقت... "
عادت تنظر إليه بلا حياة...
هذه الفتاة فارغة... معصورة تماماً من الحياة... هي بحاجة لجرعة من الحياة...
محفز لتعيش...
"زوجك يهتم لأجلك... لا أدري ما الصراع الذي بينه و بين أخيك لتنفصلا... لكن لا تيأسي... "
لم تفهم ما قاله... لم تفهم و لم تتساءل...
ببساطة حياتها مع مهاب كانت في عالم مواز لعالمهم...
تتنقل عبر البعدين... هناك تكون العشيقة المنحطة...
و تعود لتكون الأخت المنكوبة!
"ربما هذا الحادث جسر ليعود الوصل بين الجميع... ربما أخوك حينما يعلم كم أنت متعلقة به سيبارك جمعكما مرة اخرى..."
مالت رأسها تنظر إليه بلا فهم أشد...
لكن فكرة مباركة زياد لارتباطها بمهاب بدت مضحكة...
ابتسامة ساخرة أحيت بعض من موت ملامحها... أغلق الرجل عينيه و هو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم...
المرأة زوجة صديقه... لذلك هي خط أحمر... حتى النظر إليها حرام!
لذلك ابتلع ريقه و هو يحول بصره عنها...
"سيأتي أخوك بعد لحظات... لقد اتصلنا به... و قد طلب مني مهاب ألا أخبره عن.... إدمانك... لذلك لن تحتاجي لتكوني في وجه المدفع... فقط فكري بما تفقديه مع هذه الحبوب!"
"افقده؟؟!!"
لأول مرة يخرج صوتها مبحوحاً بسخرية...
"أفقد ماذا أيها الطبيب؟؟ أفقد ماذا؟؟ " كان مشوشاً مع رتل من المرارة تكومت في صوتها... مرارة مع يأس و بؤس... مرارة من وصل للقاع مرة واحدة و لم يعد هنالك مجال لشيء آخر!
"هل تعلم ماذا يعني الفقد دكتور؟؟... يعني أن تمتلك شيء... أي شيء... ثم تخسره... أنا هنا لا أفقد... لأنني لم أمتلك... لا تحدثني عن الفقد سيدي... لأنني لا أعرفه!"
ظل لثوان يحدق بها، ثم تفجر به شيء من الاحتقار لتفاهتها...
نهض ناحيتها بقوة وهو يمد اصبعه فجأة ناحية عينها و كأنه سيقتلعها...
بتلقائية تراجعت للوراء... حدقت به بعيون متسعة من الصدمة..
"إذن أنت تمتلكين شيء لتفقديه... تمتلكين عينين... تمتلكين بصر... تمتلكين سقف... تمتلكين بيت... تمتلكين لقمة للغد... تمتلكين كساء... تمتلكين الحرية لتمارسي شعائرك الدينية... تمتلكين أرضاً تسمى وطن... تمتلكين يد... يد ترفع للسماء و لسان قادر أن يقول يا رب... تمتلكين الكثير سيدتي... لكنك تافهة!"
لأول مرة تشتعل عينيها بالحياة مع الكلمة الصادمة، لكن الرجل أكمل و هو ينفجر مرة واحدة بلا مهنية...
"تافهة لم تري إلا سخافات محدودة فيك...
تافهة لكي تري خسارتك السخيفة... ماذا؟؟
خسرت ماذا؟؟
حبيب... مهنة وظيفة... ماذا خسرت... تحدثي... ألا ترين نشرة الأخبار... ألا ترين العالم... ألا ترين ما يحدث في كل بقاع الأرض...
أنظري لمن فقدن في لحظة واحدة كل شيء حتى حريتهن... ثم يرفعن تلك اليد للسماء و يشكرن الله على أنها موجودة لتشكو له...
أنظري لمن فقدت في لحظة واحدة كل شيء... ولد زوج أخ...عائلة... بيت وطن... و ربما تلك اليد... و بعد ذلك ترفع عينها للسماء و تشكر الله على هذه النعمة..."
ثم شوح بيده للحائط جوراها و كأنه سيخترق المكان...
"في الغرفة هذه، امرأة تكبرك بعدة أعوام... فقدت زوجها... ابنيها... بنتها... أبوها... أمها... أخوها... بل اخوتها جميعا... و بيتها راح... تركت كل ذلك و أرغمت على ترك بلدها... و بعد ذلك تسبح الله و تشكره... تتحدثين عن الفقد إذن امتلكي بعض الجرأة و اذهبي لتريها... ربما ساعتها ستتحدثين عن الفقد... هل تعلمين من كانت معها؟؟؟"
لا تدري أن دموعها كانت تسيل مع كلمات الطبيب...
لأول مرة تجد أن بها شيء حي، يتألم لغيرها... يرى غيرها خارج تلك القوقعة التي تحيا بها...
"كانت معها فتاة... في الثانية عشر... هي كل من تبقى لها... الفتاة مصابة في غيبوبة قد لا تستيقظ منها... و أمها صابرة تحمد الله على تلك النعمة... و الآن تحدثي عن الفقد... تحدثي عن القاع الذي أنت فيه..."
لا يدري لم هو منفجر بها...
ربما لأن الممرضات ما زلن يبكين على حال المرأة بينما هي صابرة تذكر الله، و تحمده على نعمه...
و هو... هو أغلق مكتبه على نفسه، و لأول مرة في حياته يدفن وجهه بين كفيه و ينفجر ببكاء عاجز...
عاجز لأقصى حد... حتى تكفله بعلاج المرأة و تواصله مع الجمعيات الخيرية ليؤمن لها مسكن، و يحاول أن يساعدها لتنال إقامة مؤقتة، حتى ذلك لم يخفف عجزه و لو بمقدار شعرة!
و حينما رأى هذه المدللة التي لا تعد شيء أمام تلك المرأة شعر بجنون لكي يفرغ كل شيء على رأسها...
يعلم أن لا أمل بها...
المدمنون نوعان...
نوع مترف كهذه الآفة، يعيش متمتعاً باختراقه لكل ما هو محرم باعتبار أن ثروته جواز سفر لذلك...
و نوع مطحون فاشل لا يملك إلا ثمن مخدره، و قد يبيع كل شيء حتى نفسه لأجل الجرعة...
و للمفارقة النوع الثاني قابل للشفاء، أكثر من النوع الأول!
لذلك هز كتفيه بلا مبالاة، و قد شعر أنه تعدى حدوده... لكن ذلك لم يمنعه أن يتحدث بعمليه و كأن الرجل الذي انفجر قبل ثوان هو شخص آخر...
"لقد طلب زوجك أن نتستر على وجوده كي لا نزيد المشاكل ينه و بين أخيك... و أيضاً أن نتستر على تعاطيك... نحن مستشفى خاص لذلك يمكن أن نتغاضى عن ذلك...
أخوك على الباب يريد أن يدخل ليطمئن عليك..."
و أمام دموع اعتبرها لا شيء خرج...
***
لأول مرة يحتضنها... حضن قوي لا يتلاءم مع اصابتها...
يغلق عينيه و هو يستمد الأمان منها ليرتاح من خوفه عليها...
قلقه كله انسكب في هذا الحضن القوي...
و هي مازالت تبكي على صدره...
شعر بدموعها، فخفف من احتضانه لها... يده تربت على شعرها، و هو يصدر أصوات مطمئنة هادئة...
كلماته بدت كنغمة أو تهويدة خاصة لتشعر لأول مرة بحياتها بالأمان...
حاول أن يبتعد عنها، لكنها تشبثت به بجنون...
كلمات الطبيب وصلت للنقطة الوحيدة الحية بها...
كل تلك الإصابات لم تؤلمها...
كل ما حدث لها و ما شعرت به من ذل لم يؤلمها كما فعلت تلك الكلمات...
تطعن باستمرار تلك النقطة... تلوي السكين مرة بعد مرة، و كأنها تحفر في روحها هذا الألم...
يا إلهي...
أرحني يا إلهي!
و زياد شعر بانهيارها الغريب...
كانت منهارة تماماً بطريقة لم يلمسها بها من قبل...
حاول أن يتركها لينادي الطبيب و قلق تولد داخله من حالتها،
لكنها لم تسمح له بالابتعاد...
زياد الكبير...
زياد الكثير...
أرجوك، لا تتركني انت الآخر...
لذلك رفع عينين رطبتين لدعد المتجمدة من هذا المنظر...
كانت تريد أن تغادر...
أقسمت على قدميها، ان تتحرك لكنها عصت كل أوامرها...
حنان زياد النادر كان مذهل...
رهيب...
شعرت بحسد لا معنى له و هي تراه يحتضن الفتاة بتلك الطريقة...
ثم انتبهت لعينيه المستنجدة تقابل عينيها التي تسكب دمعا دون إرادة...
و بهدوء نادت الممرضة لكي توقف هذا الانهيار...
***
كانت تتوقع أن ينساها تماماً، لكنه اتصل بها آخر الليل بعدما استطاع أن يقنعها أن تغادر مع تأخر الوقت...
"شكرا دعد..."
تحدث بهدوء مرهق... لم تتركه إلا عندما جاء علاء ليقف معه... لم تكن لتترك لوحده مهما طلب أو قال...
ظلت صامتة و هي تنتظره أنت يكمل، لكنه ظل صامتاً...
"لا شكر على واجب..."
ردت بهدوء بشكل رسمي... هو سابح بين عالمين...
عالم يشعر بأهميتها في حياته، و عالم يكره خداعها له... كذبها عليه...
لا يستطيع أن يثق بها قط...
لكنه يريدها بكل ما فيه من حاجات...
لا يغفر، لكنه يتعايش!
بين تلك النارين، ظل صامتاً، قبل أن يسند رأسه على الحائط الصلب خلفه و هو جالس على كرسي الاستراحة الغير مريح...
"كيف حال لين؟؟"
دخل صوتها الناعم إلى المعمعة التي تسيطر عليه... زفر الهواء الذي بصدره بقوة قبل أن يجيب...
"كما تعلمين اصاباتها... المشكلة بحالتها النفسية... لا أدري، لكنني أشعر بشيء غير مريح... أنا أخوها و يجب أن أعرف كل شيء!"
لم تدري بم تجيب، و قد تفاجئت تماماً بحال الفتاة... لم تتوقع أبداً من لين هذا الانهيار... ربما كانت لتبتسم بسخرية من الحادث و المرض!
"لا أظن ذلك زياد..." حاولت بث الطمأنينة في حروفها...
"أنت فقط قلق و متوتر لأجلها... إن شاء الله ستكون بخير... كما أخبرتك هي شابة و جسدها قادر على الشفاء أسرع... فقط تحتاج للراحة و الاهتمام..."
"تتحدثين كما لو عندك خبرة!"
أغلقت عينيها و هي تأخذ نفساً عميقاً...
"حينما يحدث شيء سيء زياد تشعر به في كل حواسك... كل جزء يشعر بك يعلم أن الخسارة أكيدة... فقط عقلك الواعي ينكر لأنه بهذه الطريقة يحميك من الصدمة... "
مطت شفتيها تقاوم الدموع التي تكومت في حلقها... حاولت أن تكمل بصوت طبيعي إلا أن صوتها كان مخنوقاً...
"لا أظن أن هذا حالك... أنت رأيت اختك و هي بخير... أتمنى أن تستغلا كلاكما هذه الفرصة في الحياة... الفرص قليلة بل شبه معدومة في هذه الدنيا!"
"أنت تتحدثين عن ما حدث لوالدك و أخوك..."
هزت رأسها و دمعها يتسرب دون إرادة منها... كانت المستشفى من قائمة مخاوفها الكثيرة... لكنها استطاعت أن تنتصر على مخاوفها تلك...
"الأمر لا يخصني... إنه يخصك أنت... حاول أن تحل مشاكلك مع أختك زياد... الحياة قصيرة... جداً قصيرة... و لا ندري متى سيخطف الموت أحبائنا منها..."
لم يرد عليها ليخبرها أنه مستعد أن يتنازل عن باقي عمره ليجد بسمة واحدة حقيقية تزين شفتي اخته...
لم يخبرها أن الحياة انتهت منذ مدة طويلة و الحياة هي من اختطفت ما بينهما هو و أخته...
لم يقدر أن يخبرها... لأنه بذلك يشعل ناراً فوق نار حروقه...
"ليتني كنت معك!"
جمدت مرة واحدة مع هذه الكلمة العفوية... لكنها فجأة تمنت ذلك...
"كنت صغيرة وقتها... أظنك لن تميزني على الاطلاق!"
"انت أكثر من واضحة دعد... متأكد أنك كنت واضحة جداً وقتها..."
لا تدري لم توترت مع كلماته و كأنها اشتمت فيها تلميحاً ما، لذلك صمتت و هي تستمع لتنفسه الثابت و كأنه ينتظر منها شيئاً ما... ردا ما...
لكن الصمت طال و كلاهما يستمع لتنفس الآخر، ليتنهد هو بقلة حيلة قبل أن يسألها بشكل مفاجئ...
"لم تجيبي عليّ."
ابتلعت ريقها بتوتر و هي تتربع على فراشها هناك... خافت أن تظن أن قصده هو عرضه عليها... صوتها بدا حذراً قلقاً و كأنها تخشى أن تصدق ذلك...
"على ماذا؟؟"
"على طلب زواجي منك."
خرجت كلماته هادئة بسيطة مباشرة و كأنه لا يسألها عن أهم قرار في حياته... و هي ظلت صامتة لوقت طويل...
"زياد... "أخيراً تحدثت مع تنهيدة متعبة... "أنت في وضع لا يمنحك الحكم الصحيح... أنت متعب و منهك مما حدث لأختـ......"
"بل أنا في اصفى حالاتي ذهنيا..." قاطعها بسرعة ليسمع صوت نفسها المتوتر... لحظات قصيرة جعلته يضيف...
"دعد أنا أريدك معي... جواري... دعد أنا..."
أغلق عينيه و قد شعر أنه يريد أن يغفر... رؤية لين بهذه الحالة منحته طاقة تسامح مذهلة... و كأنه أدرك كم هي الحياة قصيرة... و كأنه أدرك أن فرصة ثانية ليست شيء مستحيل...
تائه في عوالم مجنونة متناقضة داخله أكمل من قلبه...
"أنا أحتاجك... أريدك معي... بجواري... سند و سكن لي... فهل تقبلين؟؟!"
خفق قلبها بقوة مع الكلمات التي خرجت من قلبه لتصل لقلبها...
شعرت بقلبها يسيطر على كل قراراتها... حبها جن مع تلك الكلمات التي أنعشت كل أحاسيسها...
لا تقدر ان تطلب منه أن يسلك مسلك الأصول و يخطبها من أهلها...
لو رأى أمها فسيعلم كل شيء...
سيعرفها و سيربط كل شيء بشكل خاطئ...
و سيفسره بشكل شيء...
بل قمة بالسوء...
لذلك ستحتفظ بسرهما ليوم ما... ليوم تدرك أنه قد يغفر لو علم... ليوم يدرك أنه يحبها و حبه قادر أن يحول غضبه لغفران...
وقتها ربما ستكشف سرها!
لذلك و بيقين و قناعة كاملة، خرج صوتها...
"نعم... أقبل."
***
نهاية الفصل |